ملخص المقال
الإمام البخاري إمام أهل الحديث في زمانه نشأ في حجر أمه، وألهمه الله حفظ الحديث حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا.
يُعدُّ شيخ الإسلام البخاري إمام الحفاظ وأكبرهم، وأبرز الفقهاء وأقدرهم، هو من أهم علماء الحديث وعلوم الرجال والجرح والتعديل والعلل عند أهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي، فيما يصنف كتابه صحيح البخاري الذي جمع فيه الأحاديث النبوية واحداً من أعظم مصادر الأثر النبوي الشريف، فمن هو الإمام البخاري؟ وكيف وصل لهذه المكانة العالية؟
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، أبو عبد الله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه. وُلِد في شوال سنةَ أربع وتسعين ومائة، في مدينة بخارى التي نسب إليها وهي إحدى مدن أوزبكستان الحالية، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ يتيمًا في حجر أمه التي أحسنت تربيته وكان لها دور في شحذ همته وحبه للعلم، وسافر البخاري إلى مكة المكرمة في سن الـــ 16 بصحبة أمه وأخيه لأداء فريضة الحج، وتخلف عنهما للاستزادة من المعارف حيث بقي هناك لستة أعوام وبدأ جمع الأحاديث، وبعدها سافر بين البلدان لهذا الهدف، من بغداد إلى الكوفة ودمشق ومصر وخراسان وغيرها، وكان يحفظ ويجتهد في طلب المزيد والتدوين، فألهمه الله حفظ الحديث، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا.
وكان البخاري قد أصيب في صغره بمرض في عينيه حتى كاد يفقد بصره ولكنه تعالج منه، وعادت إليه عافيته، وكان رأساً في العلم، ورأساً في الورع والعبادة.
شيوخ الإمام البخاري
التقى البخاري بعدد كبير من الشيوخ والعلماء، حتى بلغوا أكثر من ألف رجل، وذلك في رحلاته الكثيرة وتطوافه الواسع في الأقاليم، قال البخاري: "كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث".
وقد اهتمّ العلماء بذكر شيوخ البخاري فسمّاهم بعض العلماء ورتّبهم على الأقطار كالذهبي في سير أعلام النبلاء، ورتّبهم بعضهم حسب الطبقة كالحافظ ابن حجر في هدي الساري، ورتّبهم بعضهم حسب عدد الروايات، ورتّبهم بعضهم على حروف المعجم. قال الإمام النووي: "هذا الباب واسع جدًا لا يمكن استقصاؤه، فأنبه على جماعة من كل إقليم وبلد، ليستدل بذلك على اتساع رحلته، وكثرة روايته، وعظم عنايته".
أما شيوخه الذين أكثر عنهم جداً في الصحيح، ولهم عنده أكثر من مائة رواية: عبد الله بن يوسف التنيسي، وقد فاقت رواياته عنه الثلاثمائة رواية، علي بن عبد الله المديني فاقت مروياته المائتين، أبو اليمان الحكم بن نافع، موسى بن إسماعيل التبوذكي، عبد الله بن محمد المسندي، أبو نعيم الفضل بن دكين، محمد بن بشار المعروف ببندار، قتيبة بن سعيد، سلمان بن حرب، أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، محمد بن المثنى.
أما المتوسطون الذين لهم دون المائة رواية وأكثر من خمسين: عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، عبد الله بن الزبير الحميدي، إبراهيم بن موسى، إبراهيم بن المنذر، محمد بن يوسف الفريابي، محمد بن كثير، حفص بن عمر.
ومن أهم شيوخه الذين بلغوا رتبة الإمامة في العلم والدين: الإمام أحمد بن حنبل وإن لم يرو عنه في الصحيح، وإسحاق بن راهويه روى عنه نحو الثلاثين رواية، وأحمد بن صالح المصري، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وغيرهم.
ولعل أعظمهم تأثيراً في نفس الإمام البخاري وشخصيته، وأجلهم مرتبة عنده هو الإمام علي بن المديني رحمه الله، حيث قال البخاري فيه: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني".
تلامذة الإمام البخاري
روى عنه خلائق وأمم، وقد روى الخطيب البغدادي عن الفِرَبْرِيِّ أنه قال: "سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفًا، لم يبقَ منهم أحد غيري". وقد روى عنه حماد بن شاكر، وإبراهيم بن معقل، وطاهر بن مخلد، وآخر من حدَّث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي، وقد تُوفِّي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ووثَّقه الأمير أبو نصر بن ماكولا. وممن روى عن البخاريِّ مسلمٌ في غير الصحيح، وكان مسلم تتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم، وقد دخل بغداد ثماني مرات، وفي كلٍّ منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد، ويلومه على الإقامة بخراسان.
منهج البخاري في كتابة الحديث
كان منهج البخاري في كتابة الحديث صارماً، يستقصي من الرواة والأسانيد، وأصبح علمًا في هذا الباب في حسن التصانيف والتدقيق، وتعدُّ قصة تأليفه لكتابه "الجامع الصحيح" الذي يعد أول كتاب صنف في الحديث الصحيح المجرد، دليلاً عظيمًا على الهمة والذكاء والإخلاص، وقد استغرق هذا العمل ستة عشر عاماً في رحلات شاقة بين البلدان.
ولم يتعجل إخراج الكتاب إذ بذل فيه الكثير من المراجعة والتنقيح والاستقصاء حتى خرج بالصورة النهائية له ليضم 7275 حديثًا اختارها البخاري من بين 600 ألف حديث كانت قد وصلته، حيث عمل على تدقيق الروايات ووضع شروطاً لقبول رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرا لمن يروي عنه، وأن يكون قد سمع الحديث منه، إلى جانب: الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
ولا يوجد كتاب لدى المسلمين، نال الحظوة والسمعة والشهرة عند جمهور الفقهاء والشيوخ كصحيح البخاري، ونال بنفس القدر والقسط من التبجيل والتكريم والتعظيم، فهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم.
والبخاري في صحيحه لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل هو يروي عن شيوخ ثقات، في أعلى درجات الحفظ والضبط والأمانة عن مثلهم إلى أن يصل إلى الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقل عدد بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الرواة. وقد عقد الإمام ابن حجر في مقدمته لشرح "صحيح البخاري" فصلاً خاصًا أورد فيه الأحاديث التي انتقدها الإمام الحافظ الدار قطني وغيره من النقاد على صحيح البخاري حديثًا حديثًا على سياق الكتاب، وأجاب عنها، وبلغ عدد هذه الأحاديث مئة وعشرة أحاديث، وقال: "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها واردٌ من جهة أخرى"، وذكر عن الإمام أبي عمر بن الصلاح: "أن المواضع المتنازع في صحتها لم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب".
وجل انتقادات الدار قطني فنيّة غامضة على غير أهل الاختصاص في الحديث النبوي، وتنقسم إلى ستة أقسام، كما بين ابن حجر، وهي:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة في زيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها.
الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة.
الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحاً، ومنه ما لا يؤثر.
السادس: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح.
ثم قال المؤلف قبل الشروع في استعراض الأحاديث المئة وعشرة واحداً واحداً: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها وحققتها، وقسمتها، وفصّلتها. لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر".
وختم الحافظ ابن حجر هذا الفصل بقوله: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطّلعون على خفايا الطرق، وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف". "فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عَظُم مقدار هذا المُصنَّف (يعني: صحيح البخاري) في نفسه، وجلّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواءً: من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية".
مؤلفات البخاري
وقد صنَّف البخاري ما يزيد على عشرين مصنفًا، منها:
- الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بـ(الجامع الصحيح).
- الأدب المفرد. وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة.
- التاريخ الكبير. وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد طبع في الهند سنة (1362هـ/ 1943م).
- التاريخ الصغير. وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ/ 870م)، وطبع الكتاب أولَ مرة بالهند سنة (1325هـ/ 1907م).
- خلق أفعال العباد. وطبع بالهند سنة (1306هـ/ 1888م).
- رفع اليدين في الصلاة. وطبع في الهند أولَ مرة سنة (1256هـ/ 1840م)، مع ترجمة له بالأوردية.
- الكُنى. وطبع بالهند سنة (1360هـ/ 1941م).
وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعدُ، مثل: التاريخ الأوسط، والتفسير الكبير.
صحيح البخاري
لقد كان البخاري محلَّ قبولِ وثناء عامة الأئمة عبر التاريخ، ولا يوجد كتاب لدى المسلمين، نال الحظوة والسمعة والشهرة عند جمهور الفقهاء والشيوخ كصحيح البخاري، ونال بنفس القدر والقسط من التبجيل والتكريم والتعظيم، فهو أصح كتاب بعد القرآن (فيما يخص نصوص الشرع)، وقد انعقد إجماع الأمة على أن التراجم التي وضعها البخاري تدل عن فهم عميق ونظر دقيق في معاني النصوص، فهو محل اتفاق بين عامة العلماء عبر القرون بعد أن أصبح البخاري محل قَبول منهم على كثرة دراسته والكتابة عنه أو عن جانب منه، وقد أقر بهذا أئمة كالإمام أحمد بن حنبل، والحافظ النسائي وحكى الاتفاق عليه أئمة كابن الصلاح والنووي والطوفي وآخرين. وقد رَوَى عن البخاري عددٌ كبير من تلامذته كمسلم وأبي زُرعة الرازي، والترمذي وابن خزيمة وخلق كثير.
وقد بذل فيه البخاري جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع (الجامع الصحيح)".
وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثًا، اختارها من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
وكان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين. وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.
وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وقد أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.
هذه هي مكانة صحيح البخاري لدى علماء الأمة الإسلامية وشيوخها وفقهائها، وهذا غيض من فيض ما قيل في هذا الإمام العلم، وقال ابن تيمية: "جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحًا على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرَّجها وكان الصواب فيها مع من نازعه، ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة أهل الحديث، تلقوها بالقبول، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علمًا قطعيًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها".
ملامح شخصية الإمام البخاري
تميَّز الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات هي التي صنعت الإمام البخاري.
1- الإقبال على العلم. قام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة، فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
2- الجِدُّ في تحصيل العلم. وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يُطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة.
3- قوة الحفظ. وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة.
4- أمير المؤمنين في الحديث. دخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركَّبوا أسانيد، وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرءوها على البخاري، فردَّ كل حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يجدوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنع في بغداد.
من كرم البخاري وسماحته
كان لا يفارقه كيسه، وكان يتصدق بالكثير، فيأخذ بيده صاحبَ الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد.
ومضات من كلمات البخاري
قال البخاري رحمه الله: "لا أعلم شيئًا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة".
وقال: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين".
وقال: "ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه".
ثناء العلماء على الإمام البخاري
قد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه؛ قال الإمام أحمد: "ما أخرجت خراسان مثله".
وقال علي بن المديني: "لم ير البخاري مثل نفسه".
وقال إسحاق بن راهويه: "لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير: "ما رأينا مثله".
وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: "هو فقيه هذه الأمة". وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومنهم من فضَّله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال قتيبة بن سعيد: "رحل إليَّ من شرق الأرض وغربها خلق، فما رحل إليَّ مثل محمد بن إسماعيل البخاري".
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: "محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبًا". وقال إسحاق بن راهويه: "هو أبصر مني". وقال أبو حاتم الرازي: "محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق".
وقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري.
وقال الترمذي: لم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال ابن حجر: جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث. وقال أيضاً: والبخاري في كلامه على الرجال توقٍّ زائد وتحرٍّ بليغ.
وقال قتيبة بن سعيد: "جالست الفقهاء والعباد والزهاد؛ فما رأيت -منذ عقلت- مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة".
قال الإمام مسلم بن الحجاج: "دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله".
قال الذهبي: والمعتدلُ (أي في الجرح) فيهم: أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زُرْعَة.
قال أحمد بن حنبل: "ما أخرجتْ خراسان مثلَ محمد بن إسماعيل البخاري".
وأفاض الحافظ الخطيب البغدادي في بيان مكانة البخاري في حواضر الإسلام: البصريين والحجازيين والكوفيين والبغداديين وأهل الريّ وخراسان.
وقال الإمامان النووي والطوفي: "تلقيب البخاري ومسلم بإمامَي المحدّثين هو باعتبار ما كانا عليه من الورع والزهد والجد والاجتهاد في تخريج الصحيح حتى ائتم بهما في التصحيح كلُّ من بعدهما".
وقال الحافظ الترمذي: "لم أر أحداً بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل".
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: "كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم".
محنة الإمام البخاري
بدأت محنة البخاري عندما توجه إلى مدينة نيسابور؛ وهي من المدن الكبيرة في خراسان؛ فلما وصل إليها خرج إليه أهلها عن بكرة أبيهم، وخرج الولاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يصل المدينة، وبالغوا في إكرامه بصورة لم تكن لأحد قبله أو بعده.
ومن روعة الاستقبال، وعظيم التقدير والاحترام الذي وجده البخاري بنيسابور قرر المقام فيها لفترة، واتخذ فيها دارًا، وأخذ علماء نيسابور في حض طلبة العلم على السماع من البخاري، وكان رأس علماء نيسابور وقتها الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا، ليس في نيسابور وحدها، بل في خراسان كلها، الناس يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذهلي ممن حضَّ الناس على الجلوس للبخاري، وحضور مجالسه ودروسه، والذهلي نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاري، حتى إنه كان يمشي خلف البخاري في الجنائز يسأله عن الأسماء والكني والعلل.
ومع استقرار البخاري في نيسابور أخذت مجالس التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاري، حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذهلي نفسه، وعندها دَبَّ الحسد في قلبه، حتى وصل الأمر به لأن يخوض في حق البخاري، ويتكلم فيه، ويرميه بتهمة لفظية هو بريء منها، وهي قوله: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة.
وبعد هذه الحادثة أخذ الذهلي في التشنيع على البخاري، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاري قولة اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية، ومن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذهلي في التشنيع والهجوم على البخاري، ونادى عليه في الناس، ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كل من يحضر مجلسه إلا يجلس للبخاري؛ فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتها الإمام الكبير مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذهلي، وهذا الأمر جعل الذهلي يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلو والغيرة المذمومة؛ إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: لا يساكنني هذا الرجل: (يعني البخاري) في البلد، وأخذ الجهال والسفهاء يتعرضون للبخاري في الطريق: يؤذونه بالقول والفعل؛ مما اضطر معه البخاري في النهاية إلى أن يخرج من البلد.
وبالفعل خرج البخاري من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان ليواصل رحلته العلمية، فإذا بالذهلي يواصل هجومه الشرس على البخاري، حتى بعد خروجه من نيسابور: حيث أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسان يحذرهم من البخاري، وأنه يتبنى قول اللفظية، وقد آتت هذه الحملة أكلها؛ فكلما توجه البخاري إلى بلد في خراسان؛ وجد الناس ثائرين عليه، وكُتُبُ الذهلي في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتوغر الصدور، وتحرك الشكوك، وتسيء الظنون.
قال الذهبي في السير: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين.
وقال: نعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله، وهو يفرق ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب، لذلك كان البخاري، ينفي في كل موطن هذه التهمة عن نفسه، ويتبرأ منهما.
وفاة الإمام البخاري:
وعلى الرغم من مكانة البخاري وعِظَم قدره في الحديث فإن ذلك لم يشفع له عند والي بخارى؛ فأساء إليه، ونفاه إلى "خرتنك"؛ فظل بها صابرًا على البلاء، بعيدًا عن وطنه، حتى لقي الله في ليلة عيد الفطر سنةَ ستٍّ وخمسين ومائتين، وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء، وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر، ودفن بإحدى قرى سمرقند، وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به، وحينما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أيامًا، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره، وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته[1].
[1] ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي: مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، 1416هـ=1995م، 1/ 156، الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز: تذكرة الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ=1998م، 2/428، الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ=1985م، 12 /467، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي: البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1418هـ=1997م، 14/527، النووي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف بن مري: تهذيب الأسماء واللغات، تحقيق: شركة العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1/ 71.
التعليقات
إرسال تعليقك