الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
التعريب في بلاد المغرب له تاريخ وعوامل أهمها تسامح الفاتحين مع أهل المغرب، وأسباب أخرى أدت إلى انتشار اللغة العربية في المغرب، فما تلك العوامل؟ وما موقف
كان طموح المسلمين يدفع بهم إلى جعل البحر الأبيض المتوسِّط بحيرةً عربيَّةً تُمكِّنهم من الاستيلاء على الأندلس ودخول القسطنطينيَّة بعد إكمال ما سُمِّي بالإطار البحري، لكنَّهم إذا كُتِب لهم اجتياز جبل الفتح ودخول الأندلس على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد، فإنَّهم وجدوا مقاومةً عنيفةً في الوصول إلى القسطنطينيَّة، إلا أنَّهم استطاعوا تأسيس مدنٍ مزدهرةٍ لامعةٍ؛ كفاس، وقرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، التي أتاحت للعرب المهاجرين إليها أن يبنوا بها حضارةً لايزال بريقها يملأ العين والقلب والفكر جميعًا.
تسامح الفاتحين من عوامل انتشار الإسلام
والظاهر أنَّ الذي مهَّد الطريق أمام الفتوحات العربية حتى في بلاد المشرق وجعل الروم والفرس معًا يُرحِّبون بمقدم الجيوش الإسلامية؛ هو معاملة المسلمين للأهالي في الأراضي التي وطئتها أقدامهم بتسامحٍ كامل؛ إذ تركوا للناس حريَّة العبادة واستغلال أراضيهم، ولم يتهافتوا عليها كما فعل الأوربِّيُّون في البلدان التي ابتلاها الله بالاستعمار.
وإذا جاز لنا أن تقول اعتمادًا على ما جاء في كتب التاريخ: إنَّ اليهود لم يكونوا يتورَّعون من استعمال القوَّة والبطش -شأنهم في فلسطين السليبة ولبنان الحبيبة- لإخضاع أعدائهم على اعتناق اليهوديَّة أو الخضوع لسياستهم الهوجاء، وإذا كانت الدول الأوربيَّة تستعمل هي الأخرى كلَّ وسائل القهر والقمع؛ لحمل جيرانها على الخضوع لإيديولوجية معيَّنة، أو لتطبيق تعاليم السَّيِّد المسيح على صيغةٍ معلومة، مستخدمين في ذلك كلِّه جميع الوسائل المؤدِّية إلى إزهاق الأرواح وإراقة دماء الأبرياء، كما يشهد على ذلك تاريخ أوربَّا خلال القرون الوسطى وبعدها، فإنَّ الإسلام لم يعمد في يومٍ من الأيَّام إلى استخدام القوَّة والقهر ليحمل الشعوب الأخرى على اعتناق ملَّة الإسلام.
ولهذا أحسَّ الناس في كلِّ مكان أنَّ حركة الفتح كانت حركةً تحريريَّةً جاءت لإنقاذ جماعاتٍ بشريَّةٍ كانت تعيش تحت العسف والظلم والعذاب والاضطهاد. نعم، إنَّ الإسلام ترك الناس أحرارًا يتصرَّفون بحسب مشيئتهم على أساس أداء الجزية لمن أراد أن يبقى على ملَّته الأولى، فإذا دخل الإسلام سقطت عنه وكان له بعد ذلك ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن ثَمَّ يُمكن القول: إنَّ هذا التسامح وهذه الأعراف الإنسانية التي لم تعرفها أوربَّا خلال عهودٍ طويلة، نادى بها الإسلام وراح يعمل بها منذ فجر حركة الفتح كأنَّه يُنير الطريق أمام شعوب العالم لتتعلَّم كيفيَّة معاملة الإنسان للإنسان على أساس التسامح الشامل في كلِّ ما يتَّخذه المرء من أعمال.
عوامل انتشار العربية في بلاد المغرب
بقي .. كيف استطاعت العربيَّة أن تنتشر، وما هي العوامل التي مكَّنتها من هذا الانتشار الباهر في كلِّ أنحاء البلاد، ماذا كانت اللغات التي وجدتها العربيَّة في طريقها وهل صمدت في وجهها أم وجدت اللغة العربية أمامها طريقًا معبَّدًا أمكنها بفضله أن تستقرَّ وتحلَّ محلَّ تلك اللغات التي كان السكان يستعملونها؟
كلُّ هذه الأسئلة يتولَّى المؤلِّف الإجابة عنها بعد التعليل والتحليل بطريقةٍ علميَّةٍ تقنع وتفيد، وفي حديثه عن سكَّان بلاد المغرب يقول صاحب كتاب ["المجتمعات الإسلامية في القرن الأول" تأليف الدكتور شكري فيصل]: إنَّهم كانوا يُؤلِّفون طبقات ثلاثًا، هي: طبقة الروم البيزنطيِّين، وسكَّان المدن، ثم البربر، فالأوَّلون كانوا يتحدَّثون اللغة اليونانيَّة، لغة الإدارة والسياسة والمحاكم التي كانت تستعملها كذلك الطبقة المثقَّفة أو الطبقات العليا في المجتمع الإفريقي؟ وكان إلى جانب اليونانيَّة لغةً أخرى كان يتحدَّث بها سكان المدن على الأخص؟ وهذه اللغة كانت مشحونةً بلغات الأقوام والحكومات التي تعاقبت على هذه الثقافة الساحليَّة من البلاد؛ إذ كانت مزيجًا من اليونانيَّة واللاتينيَّة والفينيقيَّة خاصَّةً التي لم تمحَ معالمها الثقافيَّة واللغويَّة؛ بل ظلَّت تعيش في أعماق الضمير اللغوي في هذا المجتمع المغربي، في مفرداته وأصواته وفي نغماته ونبراته وبالجملة في جوه اللغوي العام، وأخيرًا كانت هناك اللغة أو بالأحرى اللهجات البربريَّة التي كان يستعملها سكَّان البلاد الأوَّلون في المناطق الداخليَّة وفي النواحي الجبليَّة على الخصوص.
اللغة اليونانية
والواقع أنَّ حظَّ هذه اللغات الثلاث لم يكن واحدًا، ولا كان نصيبها من الثروة الفكريَّة مشتركًا؛ فاللغة اليونانيَّة الرسميَّة لغةٌ علميَّةٌ تدعمها حضارةٌ ضخمةٌ يموج بها زادٌ فكريٌّ عميق، فهي لغة الفلسفة والأدب والفن؛ أي هي لغة العلم، وهي كذلك لغة الدين.
ونحن نعتقد أنَّه ليس هناك من أمَّةٍ استطاعت في الماضي أو الحاضر أن تُخلِّد مجدها في التاريخ بين الأمم والشعوب المتحضِّرة إلَّا كان ذلك عن طريق لغةٍ علميَّةٍ راقية، هي التي تتولَّى الحفاظ على تراثها الأصيل وتعاليم دينها الصحيح، ثم إنَّ اللغة التي كانت مستعملة في المدن الإفريقيَّة كانت لغةً مثقلةً بما تركت فيها اللغات الماضية، مشحونةً بآثارها وانطباعاتها، إلَّا أنَّها كانت تفي بحاجة الناس اليوميَّة.
اللغة البربرية
أمَّا اللغة البربرية فقد كانت -وماتزال- لغةً فقيرةً من الوجهة العلميَّة لا تستطيع التعبير إلَّا عن حياة البربر اليوميَّة الضيِّقة، واصطدمت العربيَّة بمجرَّد وصولها المغرب بهذه الأصناف الثلاثة من اللغات، وكانت مقاومتها أو مقاومة تلك اللغات مختلفة متباينة متشابكة؛ كانت اللغة اليونانيَّة لغة العلم ولغة الإدارة والدواوين، وكانت اللغة العربية لغة الدين -أيضًا- ولغة الفاتحين الغالبين، فاعتمدها الناس في أقرب ما يُمكن من الوقت كلغة الإدارة والحكم تقليدًا للفاتحين، ومِنْ ثَمَّ لم تتمكَّن اللغة اليونانيَّة من الصمود طويلًا على ألسنة الناس؛ حيث هاجر أصحابها فيمن هاجر إلى إسبانيا وصقلية والولايات البزنطية الأخرى بعدما تمَّت الغلبة لحسَّان بن النعمان، وصفَّى موسى بن نصير الموقف الحربي! يُضاف إلى ما تقدَّم أنَّ اليونانيَّة كاللاتينيَّة قبلها؛ كانت لغةً أجنبيَّةً دخيلةً على المجتمع الإفريقي، طارئة، ليست لها الجذور العميقة التي قد تمدُّها بالحياة وتُسعفها بالمقاومة.
ولذلك استطاعت العربيَّة أن تُطاردها خاصَّةً بعد القرارات التي اتَّخذها عبد الملك بن مروان فيما يتعلَّق بضرورة إحلال اللغة العربيَّة مكان اللغات الأخرى في كلِّ أرضٍ وطئتها أقدام الفاتحين المسلمين، ومعلومٌ أنَّ عبد الملك هو الذي كان أمر بنقل الدواوين إلى العربيَّة في الشام والعراق ومصر؛ حتى يقطع بذلك دابر اللغات الأجنبيَّة هناك، وتحل محلَّها العربيَّة لغة الفاتحين والقرآن الكريم، ولم يخشَ بعمله هذا أيَّ اضطرابٍ في أجهزة الدولة، ولا انخفاض في المستوى الثقافي كما يدَّعيه اليوم فقهاؤنا في ميدان التعريب! ومن الواضح أنَّ هذه الأوامر شملت -أيضًا- شمال إفريقيا منذ أن كان للمسلمين فيها مع حسَّان بن النعمان نظام إداري عربي وحياة حكوميَّة عربيَّة منظَّمة.
لغة سكان المدن الإفريقيَّة
أمَّا لغة سكَّان المدن الإفريقيَّة التي قلنا عنها: إنَّها كانت مزيجًا من لغة أقوام وشعوب تعاقبت على هذه البلاد، فقد مُكَّن للعربيَّة فيها أن تستقرَّ شيئًا فشيئًا وتنتشر قليلًا قليلًا؛ بما كان من هجران العرب إليها واستقرارهم في هذه المدن بالذَّات، وبما كان من انتشار الإسلام فيها وما يتبع ذلك بالطبع من استعمال اللغة العربيَّة تبعًا لقانون الاختلاط والتقليد، يُضاف إلى هذا أنَّ لغة التَّخاطب التي كانت شائعةً في المدن المذكورة قبل وصول الفاتحين كانت مثقَّلة بآثار اللغة الفينيقيَّة، اللغة السامية التي لها تشابهٌ كبيرٌ بينها وبين اللغة العربيَّة، وهو ما مهَّد السبيل لانتشار العربيَّة اعتمادًا على المفردات والآثار اللغويَّة الفينيقيَّة عامَّة، التي كانت إذ ذاك رائجةً في تلك المجتمعات المدنيَّة، ثم إنَّ لغة هؤلاء السكَّان لم تكن في الواقع إلَّا لغة طبقةٍ بورجوازيةٍ كانت حريصةً على أن تُرضي الفاتحين؛ لأنَّهم أصحاب القوَّة والحول، ولا حاجة بها أن تسأل من قد يكونون، ولا حاجة لها بمقاومتهم ما دامت الحاجة هي التي تُحرِّكها وتُنير سبيلها، فإذا كانت اللغة العربيَّة قد أصبحت لغة الحكم والسياسة والإدارة والدين، فإنَّ اعتناق هذه الطبقة البورجوازيَّة للدين الإسلامي والإقبال على تعلُّم لغة الفاتحين واستخدامها يوميًّا يُصبحان بالطبع أمرًا مرغوبًا فيه، لا مندوحةً منه.
المقاومة بين اللغة البربرية واللغة العربية
أمَّا فيما يتعلَّق باللغة البربريَّة، فالمقاومة كانت شريدةً بينها وبين اللغة العربيَّة، لا في السهول فقط بل في الحبال التي اعتصم بها السكَّان لدى قدوم المسلمين الأوَّلين؛ فبالنسبة إلى السهول كثيرًا ما كانت العربية تجول جولتها وتكتب المعركة باعتبارها لغة الدين القويم ولغة الكتاب المقدَّس، يُعينها على ذلك الفوز أن ليس وراء تلك اللهجات البربريَّة من ماضٍ ثقافيٍّ بعيدٍ ينفحها بالحياة أو يمدُّها بالقوَّة، وهكذا استطاعت اللغة العربيَّة ببيان سحرها أن تغزو هذه المناطق الواسعة من البلاد، وإذا الناس يغادرون اللغات التي كانوا يتكلَّمون بها ويحلُّون اللغة العربيَّة -من أنفسهم- محلًّا أصيلًا، والشيء الذي لاشَكَّ فيه أنَّ انتشار الإسلام كان يفتح الطريق للعربيَّة وكأنَّه يجرُّها إليه؛ إذ كانت لغة الدين، وقد أقبل الناس على هذا الدين الجديد في كثيرٍ من الحماس نتيجة بساطته وتلاؤم الحياة العربية والحياة الاجتماعية البربرية في المغرب، وهكذا تُوشِك أن تكون الأسباب التي ساعدت على انتشار الإسلام هي التي ساعدت كذلك على انتشار العربيَّة وتعريب المجتمع الإفريقي.
ولا يخطرنَّ على بال أحدٍ أنَّه بالإمكان أن تحلَّ مكان العربيَّة أيُّ لغةٍ أخرى من اللغات في بلدان المغرب العربي، لا لغة أجنبيَّة كيفما كان بريقها ومهما تكن شهرتها، ولا لهجة من اللهجات مهما تكثَّفت الجهود للدعاية لها، وذلك لحجَّةٍ واحدةٍ هي أنَّنا مسلمون، والإسلام جاءنا باللغة العربيَّة التي هي لغتنا الأصيلة طبقًا لِمَا جاء في كتاب الله العزيز الذي يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، وفي سورة الأحقاف: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12]، وفي سورة الشعراء، يؤكِّد سبحانه وتعالى على عروبة هذا الكتاب وهذا اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم فيقول وهو أصدق من بقائل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وفي سورة الزمر، الآية 28، يقول تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]. فكيف يحلُّ لبعضهم -والحالة هذه- التفكير في الاستعاضة عن اللغة العربية بلغةٍ أجنبيةٍ يدعون أنَّها واضحة المعالم، قريبةٌ من الأفهام، اعتمادًا على استئناسهم بها ردحًا من الزمان، أو بلهجةٍ من اللهجات البربريَّة التي لم تتعدَّ التعبير عن الحياة اليوميَّة البسيطة إلى شيءٍ وراءها من الثقافة والفكر؟
يشهد بذلك كبار العلماء ونخبةٌ من المستشرقين الذين لا يُمكن اتِّهامهم بالعطف على الإسلام والمسلمين أو الدِّفاع عن اللغة العربيَّة؛ فقد جاء في هذا الموضوع على لسان أحدهم ما مؤدَّاه: "إلى أبعد ما يُمكن العودة إليه عبر المنافي السحيق نُلاحظ أنَّ بلاد البربر لم تكن لها لغة حضارةٍ غير لغة الفاتحين الذين بسطوا نفوذهم عليها! وهكذا استعمل الكتَّاب البرابر على التوالي اللغة الفينيقيَّة أساسًا، ثم اللغة اللاتينيَّة التي كان يُتقنها القدِّيس أوغستان (Saint Augustin) وأبولي (Apulée) وترتوليان (Tertullien) وغيرهم، وبعدها اللغة العربيَّة"![1]. وغنيٌّ عن القول: إنَّ كلًّا من هذه اللغات الثلاث لغة دينٍ ولغة علم، لذلك صحَّ الاعتماد عليها، ومن أجل ذلك -أيضًا- استطاعت مجموعةٌ من الكتَّاب والمفكِّرين المرموقين أن تُخلِّد ذكرها. ثم جاء على لسان المستشرق المعروف جورج مارس في كتاب له ما يُؤكِّد ما تقدَّم؛ حيث يقول: "لم تكن اللغة البربريَّة قط شيئًا مذكورًا عبر التاريخ، ولم ينجب المتكلِّمون بها ما يستحقُّ الذكر من علمٍ وفن"![2]. إنَّما الذي ساعد الطبقة النيِّرة من البربر على الإنتاج الفكري هو الدين واللغة العلميَّة معًا، ولا يُمكننا أن نُفسِّر أسباب تفوُّق بعض الأعلام البارزين من البربر كالذين سبقت الإشارة إليهم فيما يتعلَّق بالعلم والثقافة، إلَّا بكونهم أقبلوا على المسيحيَّة في القديم باعتبارها ديانة سماويَّة تدعو إلى العدل والمساواة، كما أنَّهم تمكَّنوا من اللغة اللاتينيَّة، واللغة اللاتينية كما نعلم لغة علمٍ وأصالة، فلمَّا انتشر الإسلام في المغرب أقبل عليه البربر إقبالًا صحيحًا آمنين بما جاء به سيِّد المرسلين! كما أقبلوا على العربيَّة يتحدَّثون بها ويكتبونها ويُعلِّمونها لأبنائهم وذويهم، ومِنْ ثَمَّ كان منهم أعلامٌ وفطاحل من العلماء برزوا في كلِّ ميدانٍ من ميادين المعرفة والفنِّ[3].
التعريب اللغوي والتعريب الجنسي
ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ هذا التعريب اللغوي أعقبه تعريبٌ جنسيٌّ يتمثَّل في تلك القبائل العربية التي كانت ترد مختارةً مهاجرةً بنفسها من المشرق إلى المغرب، كما يتمثَّل في تلك الجماعات من الأسرى والرقيق التي كان الولاة يُرسلونها إلى المشرق؛ فقد رُوِي أنَّ موسى بن نصير حين غزا المغرب بعث ابنه مروان في إحدى الجهات غازيًا ومجاهدًا، فأصاب من السبي مائة ألف، وبعث ابن أخيه في جيشٍ آخر، فأصاب -أيضًا- مائة ألفٍ من الأسرى، وغنيٌّ عن التوضيح أنَّه مهما يكن نصيب هذه الأعداد من الغلو والمبالغة، إلَّا أنَّه باستطاعتنا أن نُثبت في هذا المقام أنَّ هذا العدد من الرقيق كان شبيهًا بالهجرة الجماعيَّة من المغرب إلى المشرق؛ حيث كانت تُعرَّب هذه الجموع تعريبًا كُلِّيًّا عن طريق إسلامها.
فكأنَّما تعاون على تحقيق عمليَّة تعريب المغرب عمليَّتان اثنتان: عمليَّة هجرةٍ حرَّةٍ من المشرق إلى المغرب، وعمليَّة مضطرَّة من المغرب إلى المشرق، وكان لاختلاط الدم العربي بالدم البربري عبر التزاوج والأنساب والامتزاج الكلي بين مختلف العناصر المتساكنة في عرض بلدان المغرب العربي، ما أمدَّ الدم العربي بدفعةٍ جديدةٍ حارَّة من النشاط والقوَّة هي التي حملت العرب الأشاوس عبر جبل طارق إلى الأندلس وجنوب فرنسا، ومكَّنتهم من أن يجعلوا من البحر الأبيض المتوسِّط بحيرة عربيَّة تخدم السلام وتُكرِّس جهود الساكنين حولها لخدمة الحضارة الإنسانيَّة عبر العصور.
الاستعمار الغربي واللغة العربية
فلمَّا توجَّهت قوَّة الشرِّ والتسلُّط الأوربيَّة على البلدان المستضعفة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شعرت بلدان المغرب العربي أنَّ الخطر يُهدِّد شعوبها في كيانها ومستقبلها، وخاصة في لسانها المعبر عن ذلك الكيان. وبالفعل ما إن وطئت قدم الدول الأوربِّيَّة أرض هذه الشعوب حتى توجَّهت لمقاومة رمزها المتمثِّل في لسانها المعبِّر عن ذلك الكيان، وإحلال لغتها الأجنبيَّة مكان اللغة الأصليَّة لأهل البلاد، غايتها من ذلك العمل -بادىء ذي بدء- على هدم كيان الدولة التي أُصيبت بداء الاستعمار ابتداءً من تقويض لغتها: ذلك أنَّ كلَّ دولةٍ مستعمرةٍ متسلِّطةٍ تسعى إلى إشعار الدولة التي أُصيبت بالاحتلال أنَّها في حاجةٍ إلى الدولة المستعمرة التي لم تحل بأراضيها إلَّا لترفع من مستواها من وجهةٍ إنسانيَّةٍ بحتة، في حين أنَّ وجود أيِّ استعمارٍ في بلادٍ متخلفةٍ إنَّما هو من أجل استنزاف خيراتها ومواردها التي هو في حاجةٍ إليها.
إنَّ الاستعمار عملية استغلال قبل كلِّ شيء وبعد كلِّ شيء، وللوصول إلى هذه الأهداف كان من اللازم على الاستعمار أن يتقنَّع بقناع الغيرة والإيثار لمصلحة المستضعفين، ويضع برنامجًا مدروسًا يبدأ بمحاولة تركيز لغته مكان لغة المواطنين، حتى إذا تمَّ له ما أراد انتقل إلى مرحلةٍ أخرى مفادها إحلال المواطنين في قلب الحضارة الأوربيَّة التي جاءهم بها في انتظار اجتذابهم شيئًا فشيئًا، وتعويض دينهم بدين المسيحيَّة، وبذلك تتمُّ الغلبة للصليب على الهلال، تلك هي المرحلة القصوى التي كان يهدف إليها المستعمرون كافَّةً لا فرق بين ساكنٍ ومتحرك.
فأنت ترى أنَّ الأمر خطر، وأشده خطرًا عندي موقف أولائك الذين أصبحوا يدعون إلى التشبُّث باللغة الأجنبيَّة حتى بعدما أحرزت بلداننا على استقلالها بعد كفاحٍ طويلٍ مرير، وموقفهم غير معقول؛ إذ برفضهم التحرير اللغوي فكأنَّهم لا يُوافقون على استقلال بلادهم السياسي[4].
_____________
المصدر: مجلة دعوة الحق المغربية، العدد (237)، يونيو 1984م.
[1] راجع دائرة المعارف الفرنسية، 1/1220.
[2] انظر: "بلاد البربر الإسلامية والشرق في العهد الوسيط"، طبعة أوبيي بباريس، سنة 1946م، ص41.
[3] المصدر نفسه.
[4] انظر مجلة "المناهل"، عدد 25، مارس 1983م، وكذلك "دراسات عربية" ص32، العدد 9، يوليو 1981م.
التعليقات
إرسال تعليقك