د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
إننا مشغولون بالصراع على الدنيا وليس عندنا وقت كثير نُنفقه في الصراع على الصف الأول في الصلاة! فهل يحتاج الصف الأول منا إلى صراع؟
ما أكثر صراعات الدنيا!
على المال نتصارع..
على الأرض نتصارع..
على المنصب نتصارع..
على النساء نتصارع..
على متاع الدنيا..
وزينتها..
وزخرفها..
نتصارع ونتصارع ونتصارع!
بل قد نتصارع على إمامة مُصَلِّينَ!
أو على قيادة جيش في أرض الجهاد!
لكننا لم نتصارع قطُّ..
وقد لا نتصارع أبدًا..
على الصف الأول في صلاة مفروضة!!
تتثاقل خطواتنا..
نزهد زهدًا حقيقيًّا..
بل قد نأتي مبكِّرين فنبحث عن حائط نرمي بأجسادنا الكالَّة عليه!
أو نجلس في وسط المسجد غير مكترثين!
ولو علمنا ما في الصف الأول من أجر..
لاشتاقت نفوسنا إليه..
ولطال صراعنا عليه!
ولكننا وياللحسرة!
لا نعلم..
بل لعلنا لا نُريد أن نعلم!!
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا..»[1].
لقد عَظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جدًّا من أجر المصلِّين في الصف الأول، حتى إنه ذكر أن الناس لو يعلمون قدر هذا الأجر لأتوا كلهم مسرعين متسابقين، يُريدون أن يحجزوا لهم مكانًا في هذا الصفِّ المتميز، وقد ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد سبعًا وعشرين مرَّة، لكنه لم يذكر لنا أجر الصفِّ الأول؛ وذلك تعظيمًا له وتضخيمًا لقيمته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أن يتسابق الناس للوصول إلى الصف الأول إلى الدرجة التي لا يقبل فيها الناس إلَّا بالاستهام -أي بالقرعة- لفضِّ الاشتباك المتوقَّع حدوثه!
لكن ذلك «الصراع» لم يحدث قطُّ!!
لم يستجب الناس إلى تحفيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى ترغيبه!
إننا مشغولون «بالصراع» على الدنيا -يا للأسف- وليس عندنا وقت كثير نُنفقه في «الصراع» على الصف الأول في الصلاة!
إنها مشكلة إيمانية عميقة..
ولقد كرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحفيزه في مواقف كثيرة، فتجده يقول -مثلًا- في موقف آخر: «لَوْ تَعْلَمُونَ -أَوْ يَعْلَمُونَ- مَا فِي الصَّفِّ المُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً»[2]. وفي موقف ثالث يذكر العرباض بن سارية رضي الله عنه «أن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي[3] عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ ثَلَاثًا وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً»[4].
وفي رواية: «أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلصَّفِّ الأَوَّلِ ثَلَاثًا وَلِلثَّانِي مَرَّةً»[5]. ولم يذكر في هذه الروايات الصف الثالث أو الرابع أو ما بعد ذلك؛ فالذي سبق فاز بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، واستغفاره له، والذي تأخَّر فاتته هذه الفرصة الثمينة!
بل وصل الأمر إلى أنه كان يُخَوِّف المسلم الذي لا يحرص على الصف الأول بالنار! فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ فِي النَّارِ»[6]!
وواقع الأمر أن الذي يُصَلِّي في الصف الأول يخشع أكثر، وليس هذا فقط للبركة التي يعطيها الله عز وجل لأهل الصف الأول؛ ولكن لأن هذه الطائفة المقرَّبة تشاهد الإمام وتُتابعه، ولا تنشغل بما أمامها من الصفوف، فوق شعورها السعيد بالسبق والتقدُّم والفوز بالأجر الجزيل.
وقارن بين خشوعك في يومٍ فُزْتَ فيه بالصلاة في الصف الأول، أو في الصفوف الأولى، وبين خشوعك وأنت في الصفوف المؤخَّرة، ولي تجربة شخصية جميلة في هذا المجال، فقد كنتُ أجد هذا الفارق وأنا أُصَلِّي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوَّرة! فكنتُ ألاحظ أن خشوعي أعلى بكثير في الصفوف المتقدِّمة عن خشوعي في الصفوف المتأخِّرة، مع أن أعداد الصفوف كبيرة للغاية، وقد لا يُلاحظ أحدٌ الفارق بين الصف العشرين والثلاثين! لكن صدِّقوني.. هناك فارق ملموس ومحسوس! ويُؤَيِّد ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قال فيه: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا»[7]. فهؤلاء الموصوفون بالخيرية لا شَكَّ أنَّ خشوعهم أعلى، وذلك مع الأخذ في الاعتبار أن صفوف النساء -إذا كُنَّ يُصلين مع الرجال دون حاجز- تبدأ من الصفِّ الأخير ثم تتوالى في اتجاه الإمام[8]، وهذا أستر للنساء اللاتي أتين مبكرات، وبالتالي يكون هذا أدعى -كذلك- لخشوعهنَّ!
ماذا نفعل كي نحظى بمكان في هذا الصف الأول الخاشع؟!
يلزمنا في غالب الأحوال أن نأتي مبكِّرين..
ولكننا في زمان قد يأتي فيه المصلِّي متأخِّرًا جدًّا، ومع ذلك يجد أنه في الصف الأول! وذلك لقلَّة المصلين! ولم يَفُتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوضع المنكر، فحضَّ على التبكير إلى المسجد بصرف النظر عن عدد المصلين؛ فقال -فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه-: «... وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ..»[9]. والتهجير هو التبكير للصلاة[10]، وهنا يتَّضح لنا بُعْدٌ جديدٌ في مسألة القدوم المبكِّر إلى المسجد، فليست القضية فقط أن تدرك مكانًا بالصف الأول، إنما يُقْصَد التبكير لذاته! وسرُّ ذلك أن الذي يأتي المسجد أبكر يعيش في جوِّ الصلاة أكثر؛ ومن ثَمَّ يُصبح على الخشوع أقدر؛ لذلك كان أجره أعظم وأجلَّ؛ ولعلَّ هذا الأجر المتفاوت بين المُبكِّرين والمُتأخِّرين يَبْرُز بوضوح في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأجر المصلِّينَ في صلاة الجمعة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً[11]، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»[12]!
لقد تفاوت الأجر تفاوتًا هائلًا بين المصلِّين لمجرَّد القدوم المبكِّر! فهذا الذي جاء مبكِّرًا جدًّا كأنما تصدَّق بناقة! وهي صدقة هائلة في كل الأعراف والأزمنة، ثم الذي جاء بعده كأنما تصدَّق ببقرة، وهي صدقة كبيرة كذلك، والذي بعدهم كأنما تصدَّق بكبش أقرن، وهي صدقة وإن كانت أقلَّ من السابقين فإنها ما زالت كبيرة، خاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف الكبش بأنه أقرن، وهذا تعظيمًا لقيمته.. ثم يتناقص الأجر بشدَّة للذي يأتي بعد ذلك فيكون كمَنْ تصدَّق بدجاجة! ثم في النهاية يتهاوى الأجر حتى يصل إلى بيضة! والذي جاء بعد ذلك ضاع منه الأجر كله!
إنها مدرسة نبوية راقية تدفع كلَّ طلَّابها إلى التسابق إلى الخير، لتُرَسِّخ عندهم مفهومًا جليلًا؛ وهو أن المسلم له حال مع أمور الآخرة، ومع الأمور التعبدية، يختلف عن حاله مع أمور المال والمتاع، وغيرها من أمور الدنيا، وهو ما لخَّصه الرسول صلى الله عليه وسلم في إبداع عظيم، فقال في الحديث الشريف: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الآخِرَةِ»[13].
وماذا نفعل إذا جئنا المسجد مبكِّرين قبل الصلاة المفروضة؟
إنني أعتبر هذه الفترة السابقة لصلاة الجماعة بمثابة عملية الإحماء التي يقوم بها الرياضيون قبل الأداء الرسمي لرياضتهم! فيدخل المصلِّي صلاة الفريضة وقد تجهَّز نفسيًّا بشكلٍ يجعله إلى الخشوع أقرب، وكلما طالت هذه الفترة كان أثرها آكد وأوثق، ويمكن القيام فيها بأعمال عديدة..
من أهم هذه الأعمال صلاة تحية المسجد.. وذلك لحديث عن أبي قتادة السَّلَمِيِّ رضي الله عنه أنَّه قال: دخلتُ المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ بين ظَهْرَانَيِ الناس، قال: فجلستُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟» قال: فقلتُ: يا رسول الله؛ رأيتُكَ جالسًا والناس جلوسٌ. قال: «فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»[14]. وهما ركعتان مهمتان إلى الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما حتى مَنْ دخل المسجد أثناء خطبة الجمعة، وذلك كما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يوم الجمعة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: «يَا سُلَيْكُ؛ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». ثمَّ قال: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»[15].
ومن هذه الأعمال -أيضًا- صلاة النافلة القبلية، وكل الصلوات لها نوافل قبلية، وبعد الصلاة المفروضة يُصَلِّي النافلة البعدية لو كان للصلاة سُنَّة بعدية.. يمكن مراجعة تفصيل ذلك في مقال هدي النبي في نوافل الصلوات الخمس.
ويمكن أن يقضي المصلِّي وقته قبل الصلاة المفروضة في عمل جليل وخطير وهو قضاء الفوائت!
حيث يرى بعض العلماء أنه يمكن قضاء صلاة فائتة مع كل صلاة مفروضة حالية، بمعنى أن يُصَلِّيَ المرء قبل صلاة الظهر -مثلًا- إحدى صلوات الظهر الفائتة، وكذلك قبل العصر، وهكذا، بل إنهم يرون أنه لو شقَّ على الإنسان أن يُصَلِّيَ الفائتة والنوافل القبلية فإنه من الأفضل له أن يُصَلِّيَ الفائتة ولا يُصَلِّي النافلة القبلية؛ لأن الفائتة بمثابة الدَّيْن الذي عليه لله عز وجل، والأَوْلى أن يقوم المرء بسداد الدَّيْن قبل التطوع[16].
وللمصلِّي أن «يجلس» في مصلَّاه منشغلًا بأعمال كثيرة عظيمة، ويأتي على رأس هذه الأعمال قراءة القرآن، وينبغي حينها أن تتدبَّر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -عَنْ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه- قَالَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ»[17]. فانظر كيف جمَّل القرآن طعمك ورائحتك وحياتك! بل انظر كيف يترك القرآن أثرًا طيبًا حتى على المنافقين! وليعلم كل واحد من المسلمين أن عليه ألَّا يهجر القرآن، حتى لا يكون من الطائفة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم على وجه الذَّمِّ في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: 30]، ومن العلماء مَنْ يرى أن الذي يختم القرآن في أكثر من أربعين يومًا يُعتبر من الهاجرين له[18]! ولذلك يُفضَّل لنا أن نقضي وقت الانتظار في قراءة القرآن؛ حتى نتمكَّن من الانتهاء من ستة أرباع من القرآن يوميًّا على الأقلِّ، فنخرج بذلك من هذه الطائفة المذمومة.
ويمكن للمصلِّي أن ينشغل كذلك في فترة انتظاره للصلاة بذِكْرِ الله عز وجل، وأجره عظيم كذلك، وأنواعه كثيرة من حمد وتكبير وتسبيح وتهليل واستغفار.. وغير ذلك، وكل نوع من هذه الأذكار له أجره الخاص، وللذِّكْر بشكل عامٍّ أجر كبير، ويكفي أن نذكر حديثًا واحدًا في فضله، مثل الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[19]. وإذا تخيَّل المرء أن الله تبارك وتعالى يذكره في نفسه سبحانه إذا ذكر العبدُ اللهَ عز وجل، فكيف يمكن له أن يكُفَّ عن الذكر؟!
ويمكن كذلك أن تُفَرِّغ بعض الوقت للدعاء، وهذا موطن مهمٌّ من مواطن الدعاء فما أروعه! فهو بعد صلاة نافلة، وقبل صلاة فريضة، وفي بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى؛ فالزمان شريف، والمكان شريف؛ ولذلك فالدعاء في هذا الوقت مستجاب، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ فَادْعُوا»[20].
ويُفَضَّل في كل ما سبق -أي في القرآن والذكر والدعاء- أن نستقبل القبلة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا، وَإِنَّ سَيِّدَ المَجَالِسِ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ»[21].
إذا تدبَّرْنَا في هذه الأعمال المجيدة في حال قدومنا مبكِّرين إلى المسجد فَهِمْنَا التحفيز النبوي الواضح على التهجير -أي التبكير- إلى الصلاة، بل إن لنا إذا جئنا مبكِّرين جائزة عجيبة! فإن الله سبحانه وتعالى يُسَخِّر لنا ملائكة تدعو لنا! فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ[22]؛ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»[23]! وهل يظنُّ أحدٌ أن هذا الدعاء لا يُستجاب؟! إن هذا لا يكون! فالله سبحانه وتعالى الذي أرسلهم وكلَّفهم بالدعاء لنا ما أرسلهم إلَّا ليستجيب لدعائهم.. وليستشعر كل واحد منَّا جاء مبكِّرًا إلى الصلاة أنه لا يجلس وحيدًا! بل تجلس حوله الملائكة الكرام في حالة خشوع لله سبحانه وتعالى، يدعون له باستمرار ودون توقف: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»!
بل إنه إضافةً إلى دعاء الملائكة فإن وقت الانتظار هذا يُحسَب في الأجر كأنه صلاة! فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَأَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ»[24]. فهذا الجزاء الكريم سيمحو أيَّ ندمٍ يُخَالط عقل الإنسان على قدومه مبكِّرًا، وتركه لبعض أعمال الدنيا، التي قد يُزَيِّن له الشيطان علوَّ قيمتها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، (590) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول... (437).
[2] مسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول... (439)، واللفظ له، وابن ماجه (998)، وأبو يعلى (6475)، والبيهقي: السنن الكبرى، (4973).
[3] يصلي على الصف الأول: أي يدعو لهم بالرحمة ويستغفر لهم. انظر: حاشية السندي على سنن النسائي 2/93.
[4] النسائي: كتاب الإمامة والجماعة، ذكر فضل الصف الأول على الثاني، (891)، وأحمد (17197)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. والبيهقي: السنن الكبرى، (4975)، وابن حبان (2158)، والطبراني: المعجم الكبير، (15347)، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 4/45.
[5] الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصف الأول (224)، وابن ماجه (996)، وأحمد (17188)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. والدارمي (1265)، والحاكم (776)، وقال: حديث صحيح الإسناد. وقال الذهبي: صحيح على شرطهما. والطبراني: المعجم الكبير، (15348)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، 1/118 (490).
[6] أبو داود: كتاب الصلاة، باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول (679)، واللفظ له، وابن حبان (2156)، والبيهقي: السنن الكبرى، (4979)، وابن خزيمة (1559)، وقال النووي: رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. انظر: خلاصة الأحكام، 2/711، وقال الألباني: حديث صحيح، دون قوله: «فِي النَّارِ». انظر: صحيح أبي داود، 3/258.
[7] مسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول... (440) عن أبي هريرة، والترمذي (224)، وأبو داود (678)، والنسائي (894)، وابن ماجه (1000)، وأحمد (7356)، والدارمي (1268)، وابن حبان (2179).
[8] قال النووي: أما صفوف النساء فالمراد بالحديث: صفوف النساء اللواتي يُصلين مع الرجال، وأما إذا صلَّين متميزات لا مع الرجال فهنَّ كالرجال خير صفوفهن أولها وشرُّها آخرها، والمراد بِشَرِّ الصفوف في الرجال والنساء أقلّها ثوابًا وفضلًا، وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه، وإنما فضّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبُعْدِهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم، وتعلُّق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم، ونحو ذلك، وذمّ أول صفوفهن لعكس ذلك. النووي: المنهاج، 4/160.
[9] البخاري: كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، (590)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول... (437).
[10] ابن حجر: فتح الباري، 2/97، والنووي: المنهاج، 4/158.
[11] البدنة: قال جمهور أهل اللغة وجماعة من الفقهاء: يقع على الواحدة من الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لعظم بدنها. وخصها جماعة بالإبل، والمراد هنا الإبل بالاتفاق؛ لتصريح الأحاديث بذلك. النووي: المنهاج، 6/136.
[12] البخاري: كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، (841)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، (850).
[13] أبو داود: كتاب الأدب، باب في الرفق، (4810) عن سعد بن أبي وقاص، والحاكم (213)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والبيهقي: السنن الكبرى، (20592)، وشعب الإيمان، (8411)، وأبو يعلى (792)، وقال حسين سليم أسد: رجاله ثقات. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (1734).
[14] البخاري: أبواب المساجد، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، (433)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما... (714)، واللفظ له.
[15] البخاري: أبواب التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، (1113)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، (875)، واللفظ له.
[16] الموسوعة الفقهية الكويتية (34/35): يرى الحنفية أنه يسقط الترتيب بكثرة الفوائت الحقيقية أو الحكمية؛ لأن اشتراط الترتيب إذ ذاك ربما يُفضي إلى تفويت الوقتية، وهو حرام. البناية 2/629، ومراقي الفلاح ص241، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص241. قال الجزيري: ولا يجوز تأخير القضاء (أي قضاء الفائتة) إلا لعذر... ومما ينافي القضاء فورًا الاشتغال بصلاة النوافل على تفصيل في المذاهب. عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة، 1/446. الحنفية قالوا: الاشتغال بصلاة النوافل لا ينافي القضاء فورًا، وإنما الأولى أن يشتغل بقضاء الفوائت ويترك النوافل إلا السنن الرواتب، وصلاة الضحى، وصلاة التسبيح، وتحية المسجد، والأربع قبل الظهر، والست بعد المغرب. المالكية قالوا: يحرم على من عليه فوائت أن يصلي شيئًا من النوافل إلَّا فجر يومه والشفع والوتر إلا السنة كصلاة العيد، فإذا صلى نافلة غير هذه كالتراويح كان مأجورًا من جهة كون الصلاة في نفسها طاعة، وآثمًا من جهة تأخير القضاء؛ ورخصوا في يسير النوافل كتحية المسجد، والسنن الرواتب. الشافعية قالوا: يحرم على مَنْ عليه فوائت يجب عليه قضاؤها فورًا -وقد تقدم ما يجب فيه الفور- أن يشتغل بصلاة التطوع مطلقًا، سواء كانت راتبة أو غيرها حتى تبرأ ذمته من الفوائت. الحنابلة قالوا: يحرم على مَنْ عليه فوائت أن يصلي النفل المطلق، فلو صلاه لا ينعقد؛ وأما النفل المقيد كالسنن الرواتب والوتر، فيجوز له أن يصليه في هذه الحالة، ولكن الأولى له تركه إن كانت الفوائت كبيرة؛ ويستثنى من ذلك سنة الفجر؛ فإنه يُطْلَبُ قضاؤها ولو كثرت الفوائت لتأكُّدها وحثِّ الشارع عليها.
[17] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فخر به، (4772)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، (797)، واللفظ له.
[18] قال ابن قدامة: ويكره أن يؤخر ختمه أكثر من أربعين يومًا؛ لأن عبد الله بن عمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم: في كم يختم القرآن؟ قال: «فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا». ثم قال: «فِي شَهْرٍ». ثم قال: «فِي عِشْرِينَ». ثم قال: «فِي خَمْسَ عَشْرَةَ». ثم قال: «فِي عَشْرٍ». ثم قال: «فِي سَبْعٍ». لم ينزل من سبع، أخرجه أبو داود، وقال أحمد: أكثر ما سمعتُ أن يختم القرآن في أربعين، ولأن تأخيره أكثر من هذا يُفضي إلى نسيانه والتهاون به، وهذا إذا لم يكن عذر، فأما مع العذر فذلك واسع. انظر: ابن قدامة: الشرح الكبير، 1/758. وانظر: ابن مفلح: الفروع وتصحيح الفروع 2/382.
[19] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 28]، (6970)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، (2675).
[20] الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة (212)، وقال: حديث أنس حديث حسن صحيح. وأبو داود (521)، والنسائي (9895)، وأحمد (13693)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وابن حبان (1696)، وأبو يعلى (3679)، والبيهقي: السنن الكبرى، (1794)، وصححه الألباني، انظر: صحيح أبي داود، 3/14.
[21] الطبراني: المعجم الأوسط، (2354)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. انظر: مجمع الزوائد، 8/114، وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (2645).
[22] أحدث الرجل: وقع منه ما ينقض طهارته. وقيل: المراد بالحدث هنا أعم من ذلك؛ أي ما لم يُحْدِث سوءًا. ويُؤَيِّده رواية مسلم: «مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ». وفي أخرى للبخاري: «مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ». انظر: ابن حجر: فتح الباري، 1/538.
[23] البخاري: أبواب المساجد، باب الحدث في المسجد، (434)، واللفظ له، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، (649).
[24] البخاري: كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، (2013)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، (649)، واللفظ له.
◄◄ هذا المقال من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني
يمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك