د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل يدخل فريق من أهل الجنة النار بعد دخول الجنة؟
هل يمكن أن يدخل أحدٌ من أهل الجنة إلى داخل النار لسبب ما بعد دخوله الجنة؟
ما يعرفه معظمنا أن الدخول الوحيد للمؤمنين الصالحين إلى جهنم هو الورود المقصود في الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71، 72]. وهذا الورود هو المرور على الصراط المضروب فوق جهنم.
روى مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قال: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ، يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا[1]» قَالَتْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَقَالَ النَّبِيُّ : قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].
وروى الترمذي عَنْ السُّدِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ مُرَّةَ الهَمْدَانِيَّ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَحَدَّثَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، حَدَّثَهُمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ البَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ»[2].
لكن أعجب الأمور حقيقة هو دخول أهل الجنة إلى النار بعد نجاتهم من الصراط، وهذا الدخول هو دخول لأداء مهمة نبيلة سعيدة لا للتعذيب، فإن المؤمنين عبروا الصراط فلا شقاء عليهم بعد ذلك أبدًا.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: "مَدْحَضَةٌ[3]مَزِلَّةٌ[4]، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ، وَحَسَكَةٌ[5] مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ[6]، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، المـُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ[7] فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40][8].
تعليقات:
أولًا: حرص المؤمن على إخوانه من أروع الصفات.
ثانيًا: عندنا في الدنيا الفرصة للنجاة من مثل هذه المواقف، وكل حسنة نعملها ترفع من فرصة مرورنا على الصراط دون خدش أو سقوط في النار، وكل سيئة نتجنبها تساعدنا كذلك.
ثالثًا: دخول النار للمؤمنين للإتيان بإخوانهم لا يؤذيهم، فالله جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وهو قادر على جعلها كذلك على المؤمنين، ونحن في الدنيا عندنا لباس يمنع وصول الحريق للجسم، فلا يبعد ذلك عن هذا الموقف أيضًا.
رابعًا: أعجب ما في الأمر أن هؤلاء المكدوسين في النار كانوا كما وصفهم المؤمنون الناجون: "يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا"
ووجودهم في النار يعني أن سيئاتهم زادت على حسناتهم، ومن أشهر أسباب ذلك:
1- روى الترمذي عن معاذ بن جبل أن النبي قال: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"[9].
2- روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[10].
[1] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم (2496).
[2] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب20 ومن سورة مريم (3159)
[3] ملساء
[4] تنزلق فيها الأقدام
[5] شوك حديد
[6] معوجة
[7] مدفوع من ظهره
[8] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة } (7001).
[9] الترمذي: كتاب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح.
[10] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك