ولكن من أين يبدأ ظهوره؟ الجزيرة التي حُبِس فيها الدجال موجودة في المشرق بالنسبة للمدينة، وفي حديث تميم الداري: أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ (ما زائدة أو موصولة بمعنى الذي، وليست نافية)، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ. غالبًا في بحر العرب شمال المحيط الهندي. يخرج من الجزيرة.
روى الترمذي وهو صحيح عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ[2]، يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المـُطْرَقَةُ"[3][4]، وبهذا الوصف يكون ظهوره الأول في تركمنستان على الأغلب.
روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ[5]، سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ[6]»[7].
وعند أحمد وهو صحيح عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، ".. يَكُونُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَاجٌ[8]، وَسَيْفٌ مُحَلًّى.."[9].
وروى مسلم عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ".. إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً[10] بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا»[11].
وفي بعض المصادر بسند منقطع أنه يطرق الكوفة أولًا: مصنف ابن أبي شيبة عن أبي صادق قال: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود[12]: "إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوَّلَ أَهْلِ أَبْيَاتٍ يَقْرَعُهُمُ الدَّجَّالُ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ". الكوفة تعتبر الآن جزءً من مدينة النجف العراقية[13].
[1] البخاري: أبواب فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة (1782).
[2] أرض خراسان التاريخية تشمل شرق إيران، وشمال غرب أفغانستان، وتركمنستان
[3] الترمذي: كتاب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء من أين يخرج الدجال (2237)، وقال الألباني: صحيح.
[4] المجانُّ: جمع مِجَنٍّ، وهو الترس، والمـُطرَقة أي المكسوة بجلد على حجمها، والمقصود وجوههم عريضة، وهي صفة الأتراك الأوزبك في هذه المنطقة.
[5] أصبهان هي أصفهان، وهي وسط إيران (جنوب طهران 300 كم)
[6] الطيالسة: جمع طَيْلَسَان، وهو غِطاء للرأس، يلبسه اليهود عند صلاتهم، يُشبه الشِّمَاغ في شَكله، ويشبهه في طريقة ارتدائه، إِلَّا أن طَيْلَسَانِ اليهود أبيض مذيَّلٌ بخَطَّيْنِ أزرقيْن.
[7] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في بقية من أحاديث الدجال (2944).
[8] سَاج: طيلسان
[9] أحمد (14144)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أنه منقطع فإن زيد - وهو ابن أسلم العدوي مولى عمر بن الخطاب - لم يسمع من جابر.
[10] الخلة: الطريق
[11] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (2937).
[12] أبو صادق لم يدرك عبد الله بن مسعود
[13] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
1- أعور العين اليمنى: (العور هو العيب، وكلتا عيني الدجال معيبة)
a. مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، (ممسوح العين)
b. لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ
c. (طافئة) لا يرى بها أي ذهب نورها.
2- أعور العين اليسرى: (بارزة، وهي عكس الممسوحة)
a. طافية: ناتئة، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ
b. إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ، كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ (مضيء)
c. كَأَنَّهَا زُجَاجَةٌ خَضْرَاءُ
d. عليها ظفرة غليظة
3- الرأس: كَأَنَّ رَأسَهُ أَصَلَةٌ: الحيَّة العظيمة الضخمة القصيرة، والأصلة رأسها كبير، وجسمها قصير، ومع ذلك فالعرب تُشَبِّه الرأس الصغير الكثير الحركة برأس الحية، وليس هذا من ذاك؛ لأن الأصلة رأسها كبير.
4- شعْر الرأس:
a. كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ.
b. جُفَالُ الشَّعَرِ (أي كثيره)
c. وَإِنَّ رَأْسَهُ مِنْ بَعْدِهِ حُبُكٌ حُبُكٌ حُبُكٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (شَعْرُ رأسِه مُتَكَسِّرٌ من الجُعُودَة)،
d. قطط: شديد جعودة الشعر (مثل شعر الأفارقة).
5- اللون: أَقْمَرَ هِجَانًا (الأقمر: شديد البياض، والهجان: خالص البياض)، أزهر (أبيض)، أحمر (لا تعارض مع البياض، فإن شديد البياض يكون مشوبًا بحمرة)
6- الجسم: فَيْلَمَانِيًّا (فَيْلَم) وفي رواية بَيْلَمَانِيًّا، (ضخم الجثَّة)، وفي رواية: جسيمًا.
7- الطول: قصير، (أراه كلاعبي السومو اليابانيين) وقد يظهر بهذا الاختلاف عن شكله الذي وصفه تميم الداري بأنه أعظم إنسان، فقد يكون قصيرًا، وبدينًا جدًّا، أو تكون العظمة التي وصفها تميم هي الهيبة، أو يُغَيِّر الله من شكله عند الخروج إلى هذه الهيئة القصيرة.
8- أفحج: إِذَا مَشَى بَاعَدَ بَيْن رِجْلَيْهِ
9- وسيلة الانتقال: وَلَا يُسَخَّرُ لَهُ مِنَ الْمَطَايَا إِلَّا الْحِمَارُ. وَلَهُ حِمَارٌ يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.
10- الوصف الإجمالي: فَهُوَ رِجْسٌ عَلَى رِجْسٍ (كل شيء مستقذر)
11- عقيم: «هُوَ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ».
12- القول: يقول أنا ربكم: وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ
13- أهم الصفات: وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كُفْرٌ (أو كافر)، ثُمَّ تَهَجَّاهَا: كـ ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ، أُمِّيٌّ وَكَاتِبٌ، وفي رواية قَارِئٌ وَغَيْرُ قَارِئٍ.
أهم صفتين:
في البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلاَ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ»[1][2].
[1] مسلم: كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (6712).
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
أصل التسمية والاشتقاق مختلف:
أولًا: المسيح ابن مريم:
أكثر من 50 قول!، قَالَ الْوَاحِدِيّ: ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (مَشِيَّحْ) فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ، وَغَيَّرَتْ لَفْظَه، كَمَا قَالُوا: مُوسَى وَأَصْله (مُوشِيه) بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا عَرَّبُوهُ غَيَّرُوهُ، فَعَلَى هَذَا لَا اِشْتِقَاق لَهُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أنَّهُ مُشْتَقّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيق.
وَقِيلَ: لِمَسْحِ زَكَرِيَّا إِيَّاهُ. وَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْض، أَيْ: قَطْعِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ حِينَ وُلِدَ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَسَحَهُ، أَيْ: خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ. وَالله أَعْلَم.
ثانيًا: المسيح الدجال:
يقول ابن الأثير: "سمي الدجال مسيحًا، لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح، لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح عيسى ابن مريم، فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمي به، لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله.
والدجال: الكذاب، وسمي دجالًا - كما يقول ابن حجر- لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه، والإناء بالذهب إذا طلاه، وقال ابن دريد: سمي الدجال، لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض، وقيل: بل قيل ذلك، لأنه يغطي الأرض.
والبعض يسمِّي المسيح الدجال بالمسيخ، وقد ورد بهذا اللفظ في عدة روايات صحيحة، ولكن الأشهر والأكثر المسيح، وقال بعض العلماء إن هذا تصحيف، وعمومًا فالأصوب أن نسميه المسيح، ونقيِّده بالدجال، فلا نطلق عليه المسيح بدون الدجال. ولا غرابة من تشابه الاسمين، بل هو مقصود.
تشابه الاسمين:
الاثنان ضدَّان: مسيح الهدى ومسيح الضلالة: في أحمد بسند حسن عن أبي هريرة: "وَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ.."[1]، جاء الاسم متشابهًا لتشابه فتنة كلٍّ منهما، مع اختلافهما في القدر؛ فكلًّا منهما فُتِن الناس فيه كإله، والله يثبت قدرته على خلق المتضادات، كما خلق الليل والنهار، وأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والجنة والنار، ولننظر إلى هذه التشابهات:
1- فتنة الألوهية: ألَّه الناس عيسى بن مريم، ورفعوه فوق درجة العبودية: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116].
1- إحياء الموتى:
2- حتى عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم المسيحَ بنَ مريم في رؤيا يطوف بالكعبة رأى معه المسيح الدجال؛ ففي البخاري ومسلم قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا جَعْدًا قَطَطًا، أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ"[2].
3- كلاهما أبيض بحمرة، ولكن واحد كأحسن ما يُرَى من الرجال، والآخر رجس على رجس.
4- كلاهما جعد الرأس، ولكن أحدهما (عيسى) جميل الجعودة يتكسَّر شعره على منكبيه، والآخر شديد الجعودة (قطط) كأن رأسه أغصان شجرة.
5- نقرأ على الدجال فواتح الكهف وفيها الإشارة إلى المسيح ابن مريم: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4، 5].
6- والذي يقتل الدجال هو المسيح ابن مريم
هكذا جعل اللهُ قتلَ المسيح الدجال الذي ادَّعى الألوهية على يد المسيح ابن مريم البريء من ادِّعاء الألوهية، لتنتهي الفتنتان معًا في وقت واحد، وسبحان المحكم لكونه[3]!
[1] أحمد (7892)، قال شعيب الأرناءوط: حسن وهذا إسناد ضعيف، قال الألباني: أخرجه أحمد في المسند من طريقين من المسعودي به، قلت: ورجاله ثقات؛ غير أن المسعودي كان قد اختلط.
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال (169).
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
روى مسلم عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ نَافِعٌ يَقُولُ: ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَحَدَّثُونَ أَنَّهُ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَاللهِ قَالَ: قُلْتُ: كَذَبْتَنِي، وَاللهِ لَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُكُمْ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَكُمْ مَالًا وَوَلَدًا، فَكَذَلِكَ هُوَ زَعَمُوا الْيَوْمَ، قَالَ: فَتَحَدَّثْنَا ثُمَّ فَارَقْتُهُ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ لَقْيَةً أُخْرَى وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: قُلْتُ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ هَذِهِ، قَالَ: فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ[1]، قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِي أَنِّي ضَرَبْتُهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعِيَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ مَا شَعَرْتُ، قَالَ: وَجَاءَ[2] حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ[3] فَحَدَّثَهَا، فَقَالَتْ: مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى النَّاسِ غَضَبٌ يَغْضَبُهُ»[4].
وقد عاش ابن صياد بعد ذلك في المدينة، واختفى يوم الحرة، فقد جاء في أبي داود بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ»[5]. وليس صحيحًا أنه مات قبل ذلك وصلَّى عليه المسلمون، ووردت بعض الأخبار، ولكنها غير صحيحة أنه شوهد في أصبهان، وهي البلد التي سيذهب إليها الدجال ليصطحب اليهود منها عند خروجه، والله أعلم.
فريق من الصحابة كان متأكِّدًا أن ابن صياد هو الدجال:
جاء في مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ الدَّجَّالُ، فَقُلْتُ: أَتَحْلِفُ بِاللهِ؟ قَالَ: «إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ ﷺ»[6].
وعند أبي داود وهو صحيح عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ، مَا أَشُكُّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ صَيَّادٍ»[7]، وورد عن أبي ذرٍّ كذلك أنه كان يجزم بأن ابن صياد هو الدجال، ولكن السند ضعيف.
ما يخالف كونه الدجال الأكبر:
1- وُلِد له، ويصفه الرسول ﷺ بأنه عقيم.
2- موضوع دخول مكة والمدينة، وإن كان مردودًا عليه بأن هذا المنع من الدخول سيكون في زمن فتنته لا قبل ذلك.
3- كان الدجال في قصة تميم الداري لا يعلم شيئًا عن ظهور النبي ﷺ، وقصة تميم بعد قصة ابن صياد.
4- الدجال مقيَّد، ولا يُسْمَح له بالحركة إلا عندما يأذن الله له آخر الزمان.
5- يدَّعي ابن صائد أنه رسول الله لا الألوهية: في مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ»[8].
لا يمنع هذا أنه دجال بمعنى كذاب، وأنه يتعامل مع الشياطين، وأنه يعرف مكان الدجال عن طريق شياطينه، وأنه وُجِد في المدينة لإثارة المسألة، وحثِّ الصحابة على البحث عن الدجال والاهتمام بأمره، والإبقاء على اللبس في قصته[9].
[1] عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ، فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلَأَ السِّكَّةَ، فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَائِدٍ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا؟»
[2] ابن صياد.
[3] حفصة.
[4] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2932).
[5] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في خبر ابن الصائد (4332)، والشيخ الألباني: صحيح الإسناد.
[6] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2929).
[7] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في خبر ابن الصائد (4330)، وقال الألباني: صحيح الإسناد موقوف.
[8] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (157).
[9] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
موقف مع أبي سعيد الخدري:
روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا، أَوْ عُمَّارًا، وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَفَعَلَ، قَالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ[1]، فَقَالَ: اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبَنُ حَارٌّ، مَا بِي إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ -أَوْ قَالَ آخُذَ عَنْ يَدِهِ- فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ، ثُمَّ أَخْتَنِقَ مِمَّا يَقُولُ لِي النَّاسُ، يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ كَافِرٌ» وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ»، وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ» وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا، وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ، وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ، وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ، سَائِرَ الْيَوْمِ[2].
وفي رواية: "فَلَبَسَنِي"[3]، وفي رواية عند مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ[4][5].
[1] قدح
[2] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2927).
[3] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2927).
[4] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2927).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى لاستخبار أمر ابن صياد:
جاء في البخاري ومسلم عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ[6] أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ -يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ- فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ -وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ- هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ»[7].
[1] حصن
[2] وفي رواية لمسلم أيضًا: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ».
[3] وعند أبي داود عن ابن عمر بسند صحيح ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئَةً»، وَخَبَّأَ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]
(كالكهان يصيبون شيئًا، ويخطئون في أشياء)
[4] لم يقتله مع ادعائه النبوة لأنه معاهد، أو لأنه لم يبلغ الحلم، أو لأنه لم يصرِّح بادِّعاء النبوة إنما استفهم فقط.
[5] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام، (1289)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2930).
[6] يخدع
[7] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1289)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (2931)، ولمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
كان الليث بن سعد موازيًا للإمام مالك في المدينة، بل رفعه البعض فوقه. قال الشافعي: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ». بينما رفع يحيى بن معين مالكًا فوقه.
تعلَّم الليث بن سعد في مصر على أيدي التابعين وأتباعهم، وسمع أيضًا من بعض كبار التابعين خارجها: «قال اللَّيْثَ: سَمِعْتُ بِمَكَّةَ في رحلة الحج سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَمائَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِيْنَ سَنَةً. وسافر بغداد، وأيضًا دمشق.
يقول شرحبيل بن جميل: أدركت الناس أيام هشام الخليفة، وكان الليث بن سعد حدثَ السن، وكان بمصر عبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة، وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه عن حداثة سنه.
في المجمل أدرك الليث بن سعد أكثر من خمسين تابعيًا، ومائة وخمسين من تابعي التابعين، ومن أشهر التابعين الذين سمع منهم الزهري، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد بن أبي سعيد المقبري وأبو الزبير المكي ويزيد بن أبي حبيب وهشام بن عروة وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري.
قال ابن حجر العسقلاني: "إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد"، وقد روى عن الليث الكثير؛ منهم عبد الله بن لهيعة وهشيم بن بشير أستاذ أحمد بن حنبل الأول، وعبد الله بن وهب تلميذ مالك، وعبد الله بن المبارك وأشهب بن عبد العزيز تلميذ مالك أيضًا، وعبد الله بن عبد الحكم رأس المالكية في مصر، ويحيى بن يحيى الليثي، وقتيبة بن سعيد.
كان يحيى بن بكير، وهو من رواة الأحاديث الثقات، ومن تلامذة الليث، وهو جاره، وهو أثبت الناس في الليث، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد. يقول في حقِّه: «ما رأيت أحدا أكمل من الليث»، وقال أيضًا: «كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة».
كان الليث من رواة الحديث الكبار، وبعض رواياته تعتبر من أعلى الروايات سندًا مثل: الليث عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة بنت أبي بكر، والليث عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس، والليث عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر، والليث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
يقول أحمد: ليس في المصريين أصح حديثًا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث[2] يقاربه، ومن الناحية الفقهية كان الليث يعتمد في فتواه على الأثر من كتاب وسُنَّة وإجماع، وبذا فهو من مدرسة الحديث لا الرأي، وكان يخالف مالك في قضايا كثيرة، تبعًا لاختلاف أصول الفقه، لأن عمل أهل المدينة مقدَّم عند مالك، بينما لا يعتبره الليث من الأصول، ويعتمد على فتاوى الصحابة في الأمصار، وبينه ومالك رسائل في هذا الشأن.
وقد كان الليث يقسِّم مجلسه اليومي إلى أربعة أقسام: قسم لاستشارات الوالي، وقسم لأهل الحديث، وقسم للمسائل الفقهية، وقسم لعموم الناس في أسئلتهم الحياتية، وكان كثيرًا منها لطلب المال منه فقد كان اليث غنيًّا يملك الأراضي الكثيرة، ومنها ضيعة كاملة قرب رشيد، ومع ذلك كان زاهدًا يأكل الخبز والزيت، ويطعم الفقراء وعموم الناس الموائد الفاخرة، والحلويات، وكان واسع الكرم، حتى كان ينفق دخل السنة كله في وجوه الخير، وكان يشتري الأراضي من بيت المال ويوقفها لأعمال البر، وأوقافه هي أحد الأساسات الكبرى لديوان الأوقاف بمصر، وكان يصل مالك بأموال كثيرة.
كانت علاقة اليث بالحكام طيبة، ويشبه في ذلك مالك، وكانت له مكانة كبيرة جعلت الولاة والقضاة يرجعون إِلى رأيه، ومشُورته، وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية وتولَّى للدولة، ويشبه في ذلك الشافعي، وهذا بعكس أبي حنيفة وأحمد.
تولّى اليث قضاء مصر في ولاية حوثرة بن سهيل في خلافة مروان بن محمد، وتولَّى للعباسيين ديوان العطاء في زمن صالح بن علي العباسي، وتولى الجزيرة في زمن أبي جعفر المنصور، وكذا الديوان في زمن المهدي، ومع ذلك استعفى من ولاية مصر كلها أيام أبي جعفر المنصور بحجَّة أنه من الموالي، وقد لا يناسب ذلك مقام الإمارة، ومع ذلك فقد تلطَّف معه المنصور بعكس ما حدث مع أبي حنيفة، وقد روى شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه قوله: «قال لي المنصور حين أردت أن أودعه: قد سرني ما رأيت من سداد عقلك، فأبقى الله في الرعية أمثالك»، وقد يكون هذا لشعوره بأن الليث يرفض لسبب طبيعي لا اعتراضًا على حكم المنصور كما كان يقول أبو حنيفة، وقال يعقوب بن داود وزير الخليفة العباسي المهدي إن المهدي أوصاه حين قدم الليث العراق بأن يلزمه، قائلاً: «ثَبَتَ عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه».
لم ينتشر علم الليث بن سعد لأمرين: الأمر الأول لم يكن له تلاميذ معيَّنون يهتمون بنقل ميراثه العلمي، وهذا عكس ما رأيناه مع الفقهاء الأربعة الآخرين، وبخاصة الثلاثة الأوائل منهم. وقد اكتشف ذلك الشافعي بعد أقل من 30 سنة بعد موت الليث، والأمر الثاني لم يكتب الليث بن سعد كتبًا كبيرة، ولم ينقل عنه إلا النادر من الأحاديث.
توفي الليث بن سعد في مصر في يوم الجمعة 15 شعبان سنة 175 هـ، وكانت جنازته عظيمة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي والي هارون الرشيد على مصر، ودفن في مقابر الصدفيين في القرافة الصغرى بحي الخليفة جنوب القاهرة، وقبره مشهور، ولابن حجر العسقلاني كتاب في سيرة الليث بن سعد سمّاه الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية[3].
[1] خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي: تابعي شهد فتح مصر
[2] عمرو بن الحارث: تابعي وشيخ الليث.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
وضع أساس مدينة مراكش أبو بكر بن عمر اللمتوني عام 454ه= 1062م، وأتمها يوسف بن تاشفين وجعلها عاصمة المرابطين، وقد عمَّرها المرابطون وجعلوها حاضرة المغرب ونقلوا إليها العمران الأندلسي وأضافوا عليه، كما بنى علي بن يوسف بن تاشفين مباني المدينة بالحجر الرملي الأحمر فعُرِفَت بالمدينة الحمراء، ونمت مُراكش بسرعة، وترسَّخت مكانتها كمركز ثقافي وديني وتجاري، اتخذها الموحدون عاصمةً لهم أيضًا. وأنجزوا بها عدة معالم تاريخية تجاوزتها فاس في عهد المرينيين، إلى أن استعادت تفوقها في ظل السعديين، في عهد العلويين انتقلت العاصمة إلى مكناس، ففاس، ثم أخيرًا الرباط منذ 1912، ومع ذلك ظلَّت مراكش محتفظة برونقها ومكانتها إلى الآن.
واللقطة الحضارية التي نطَّلع عليها اليوم هي مستشفى كبير وحضاري، وهو أول مستشفى في تاريخ المغرب، ومن العجيب أن يكون أول مستشفى على هذه الصورة، ويبدو أن مؤسِّسه قد نقل خبرة الأندلس كلها إليه فخرج هكذا، ومؤسِّس المستشفى هو السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، وقد حكم من 580-595هـ/1184-1199م، وكان ذكيًّا شجاعًا مقدامًا محبًّا للعلوم كثير الجهاد، هو أقوى أمير في تاريخ الموحدين، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذَّهبي، وبلغت الدولة في عهده أكبر اتِّساع لها، وكان كثير الصدقة، وواسع الجود، وعلى الرغم من اهتمامه بالجهاد، وحروبه ضد الإسبان في الأندلس، وجهوده في توحيد شمال وغرب إفريقيا، إلا أن إسهاماته الحضارية ملموسة، ومنها المستشفى الذي بين أيدينا.
الطبُّ كان موجودًا بالمغرب قبل هذا التاريخ، ولكن اعتاد أهل المغرب على زيارة الأطباء للمرضى في بيوتهم، وكانت الإضافة الحضارية الكبرى في عهد يعقوب الموحدي هي تأسيس مستشفى متكامل على غير نسق سابق بالمنطقة برمَّتها، والمكان بين مسجد الكتبية وجامع المنصور الموحدي (القصبة) والمسافة بينهما 1.5 كم.
أفضل وصف للمستشفى نحصل عليه من كتاب "المعجِب في تلخيص أخبار المغرب"، تأليف المؤرخ المغربي عبد الواحد التميمي المراكشي، لأنه عاش في عصر الموحدين، ويصف "البيمارستان" بقوله: "ما أظن أن في الدنيا مثلَه"؛ وهذا الكلام لا يقوله مبالغة، فقد تعلَّم بفاس والأندلس، ورحل إلى مصر سنة 613هـ، وحج سنة 620، وتجوّل في بعض بلدان المشرق وأملى كتابه «المعجِب في تلخيص أخبار المغرب» إجابة لطلب وزير من خاصة الخليفة العباسي الناصر لدين الله، سنة 621ه، تَخيّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد.
عمل في هذا "البيمارستان" عددٌ من الأطباء الأكفاء، من بينهم أبو إسحاق إبراهيم الداني، طبيب المنصور الخاص، ومن المحتمل أن يكون ابن رشد الحفيد ممن عمل فيه أيضًا، وتميَّز المستشفى بكثرة التخصُّصات حتى شمل مركزًا لمرضى الأمراض العقلية، وجلب إليه الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لصناعة الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثيابَ ليل ونهار للنوم، وثياب شتاء وصيف، وحرص على البعد الجمالي ليكون مريحًا للمرضى:
أيضًا أتقن البناؤون فيه من النُّقوش البديعة والزخارف المحكمة، وأمر أن يُغْرَس فيه من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع بِرك في وسطه، وفيه أنواع من "الفُرُش النفيسة كالصُّوف والكَتّان والحرير وغير ذلك، حتى زاد على الوصف، وأتى فوق النَّعْت، وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم.
من أروع مظاهر الحضارة في المستشفى إذا نَقِهَ المريض، وكان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريْثَما يَسْتَقِلُّ، ولم يَقْصِرْه على الفقراء دون الأغنياء، بل كان كل من مرض بمَرّاكُش من غريب يحمل إليه ويعالج، وكان الأمير يعقوب الموحدي في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القَوَمة عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج؛ لم يزل مستمرًّا على هذا إلى أن مات رحمه الله[1].
[1] لمشاهدة الحلق على اليوتيوب اضغط هنا
أنشأ تونس الفاتح الكبير عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه (1 ق. هـ-63هـ=621-683م)، وهو صحابي بالمولد، وهو أخو عمرو بن العاص لأمه، أو ابن خالته. «فوجهه عمرو إلى إفريقية سنة 42هـ واليًا، فافتتح كثيرًا من تخوم السودان وعلا ذكره فولاه معاوية إفريقية استقلالًا سنة 50هـ، فأوغل في بلاد إفريقية وبنى القيروان.
الهدف من البناء:
هدف دعوي: أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم كما حدث مع بعض القبائل والمدن التي فتحها.
هدف عسكري: بالإضافة إلى كونها معسكرًا للجند ومخزنًا للسلاح والغنائم، ومركز الانطلاق إلى فتوح بقية البلاد.
أما عن اختيار موقع القيروان: كان معاوية بن حديج الوالي السابق قد اختار (قيروانًا) يستقر به بجيشه، ولكنه لم يعجب عقبة بن نافع، فركب والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم، وكان الموقع استراتيجيًّا، وهو يوجد على مسيرة يوم من البحر الذي كان البيزنطيون يسيطرون على عبابه، ويبعد بمثل ذلك عن الجبال، حيث كانت تعتصم القبائل المناوئة للإسلام، وبجانب ذلك فهي في منبسط من الأرض يسمح باستنفار الفرسان دون صعوبة، كما راعى في اختياره قربها من السبخة حتى يوفّر ما تحتاجه الإبل من المراعي.
نداء عقبة بن نافع للحيوانات والدواب:
روى خليفة بن خياط بسنده: «لما افْتتح عقبَة بْن نَافِع أفريقية وقف عَلَى القيروان فَقَالَ: "يَا أهل الْوَادي إِنَّا حالُّون إِن شَاءَ اللَّه فاظعَنوا" ثَلَاث مَرَّات، قَالَ: فَمَا رَأينَا حجرا وَلَا شَجرا إِلَّا يخرج من تَحْتَهُ دَابَّة حَتَّى يهبطن بطن الْوَادي، ثمَّ قَالَ انزلوا بِسم اللَّه»[1]، ويقول ابن الأثير: «.. وكان مستجاب الدعوة، ثم نادى: أيتها الحيات والسباع إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه. فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فرآه قبيل كثير من البربر فأسلموا.."، ونقل ابن عبد الحكم قول الليث: حدثني زياد بن العجلان، أنَّ أهل إفريقية أقاموا بعد ذلك أربعين سنة، ولو التمست حيَّة أو عقرب بألف دينار ما وجدت».
اختيار اسم مدينة القيروان:
لمراعاة الغرض الحقيقي من المدينة؛ فهي يرجع أصلها إلى «کاروان» الفارسية، والتي تعني الرَّتْل العسكري أو القافلة، وقطع عقبة الأشجار وأمر ببناء المدينة، فبنيت، فبنى المسجد الجامع، وبنى بجواره دار الإمارة، ثم ترك عقبة فراغًا حول المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض خارج الدائرة إلى خطط القبائل، وبنى الناس مساكنهم، وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع[2]، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا وانجفل البربر من نواحي إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور دينهم وتم أمرها سنة خمس وخمسين وسكنها الناس.
الدعاء بعد بناء المدينة:
جمع عقبة بن نافع بعد انتهائه من بناء مدينة القيروان وجوه أصحابه وأهل العسكر فدار بهم حول مدينة القيروان، ودعا: "اللهم املأها علمًا وفقهًا، وأعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزًّا لدينك وذلاًّ لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام"، وكانت القيروان تلعب دورين هامَّين في آنٍ واحد، هما: الجهاد والدعوة[3].
[1] تاريخ خليفة بن خياط (ص: 210)
[2] (الباع حول 2 متر، وهو المسافة بين طرفي اليدين لو بسطتا). يعني 7200 متر.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
تعود تسمية القرويين إلى مدينة القيروان التي قدمت منها فاطمة الفهرية، وقد يكون لعدوة القرويين التي بُنِيَ فيها، لن أتطرَّق إلى بناء المسجد ومعماره وتوسعته وزخارفه، فليست هذه الأمور هي التي أعطت للمسجد أهميته الكبرى، إنما الذي أعطاه القيمة العالمية هو دوره العلمي كجامعة، حيث انتقل من مرحلة الجامع إلى مرحلة الجامعية في العهد المرابطي أو المريني؛ حيث اتخذ العديد من كبار العلماء المسجد مقرا لدروسهم. ويُعدُّ العصر المريني هو العصر الذهبي للمسجد؛ حيث بنيت العديد من المدارس حوله وعزز الجامع بالكراسي العلمية والمكتبات.
ومن المشهور أن جامعة القرويين هي أقدم جامعة في العالم كله، والمقصود بالجامعة هو المكان الذي يدرس فيه الطلاب علومًا مختلفة بعيدة عن بعضها البعض كنوع من الدراسات المتخصِّصة الأعلى من الدراسات العامة التي يدرسها كلُّ الطلاب في المدارس.
إذا نظرنا إلى تاريخ تأسيس الجامع، وهو 245هـ (859 م)، تكون جامعة القرويين هي الأولى في العالم. نعم كانت المساجد الإسلامية التي أنشأت قبل القرويين، كالمسجد النبوي، وعمرو بن العاص، والأموي، وعقبة بن نافع، كلها قبل القرويين، لكنها كانت تدرس علومًا شرعية فقط، ودون تخصُّص ظاهر، ولذلك اعتُبرت القرويين الأولى في هذا المجال.
هذا ما أخذت به موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية:
The oldest existing, and continually operating educational institution in the world is the University of Karueein, founded in 859 in Fez, Morocco. The University of Bologna, Italy, was founded in 1088 and is the oldest one in Europe.
ومع ذلك يعترض البعض على هذه المعلومة التاريخية بأن مسجد الزيتونة، ومن ثم جامعة الزيتونة، مثلًا في تونس أسِّس قبل القرويين بمدَّة (79 ه/ 698 م)، أي قبله بنحو 166سنة، وإذا أخذنا اعتبار أن مسجد القرويين تحول إلى جامعة في عهد المرابطين، يعني في أواخر القرن الخامس الهجري، فإن الجامع الأزهر في مصر يكون قبله كذلك في كونه جامعة، فقد تأسَّس في عام 359 ه (970 م)، أي قبل تحوُّل القرويين إلى جامعة بأكثر من قرن، ومع ذلك يمكن أن نأخذ من المعلومات التي رجعت إليها موسوعة جينيس تفسيرًا لذلك، وهي وصفها لجامعة القرويين بأنها: (continually operating)، أي مستمرة للعمل دون انقطاع، وهذا ما لم يحدث مع الزيتونة أو الأزهر، حيث توقَّفت بهما الدراسة عقودًا كثيرة نتيجة اضطرابات سياسية.
أيضًا يُذكَر أن جامعة القرويين هي أول جامعة في العالم تعطي إجازة في الطب، وقد منحت هذه الإجازة للطبيب عبد الله بن صالح الكتامي في عام 603 ه (1207 م)، وسُلمت بحضور القاضي الموثق عبد الله طاهر إلى جانب الأطباء ضياء الدين المالقي الملقب بأبي البيطار، وأبو العباس بن مفرج المعروف بالنبطي، وأبو عمر الملقب بالإشبيلي.
حفلت جامعة القرويِّين منذ نشأتها بتدريس معظم العلوم الشرعيَّة والحياتيَّة؛ مثل علوم القرآن، والسنة، والعقيدة، والفقه، والفلسفة، والرياضيَّات، والفلك، واللغات، وغيرها، وقد انتسب إليها من العلماء المشهورين الذين درسوا أو درَّسوا فيها، مثل: الفيلسوف «ابن رشد»، والجغرافي «محمد الإدريسي»، والفيلسوف اليهودي «موسى بن ميمون»، والمؤرخ «ابن خلدون»، والصيدلاني عالم النبات «الكتاني»، والرحالة الجغرافي «ليون الإفريقي»، وبابا الفاتيكان «سلفستر الثاني»، والفقيه «البناني»، وغيرهم.
أُدمجت في نظام الجامعات الحكومية الحديثة في المغرب في عام 1382هـ= 1963م، وشملت خمس كليات: كلية الشريعة الإسلامية في فاس، كلية الدراسات العربية في مراكش، وكلية أصول الدين في تطوان، وكلية الشريعة بأيت ملول، وكلية العلوم الشرعية بالسمارة.
يحضر جامعة القرويين طلاب من جميع أنحاء المغرب وأفريقيا الغربية الإسلامية، ويُطلب من الطلاب المرشحين للدراسة في جامعة القرويين حفظ القرآن كاملاً، فضلاً عن العديد من النصوص الإسلامية حول القواعد النحوية والفقه المالكي، مع التمكن من اللغة العربية.
في 2015 أُلحقت 5 كليات كانت تابعة لجامعة القرويين، بالجامعات التابعة لها، وصار تابعًا لها عدة معاهد أخرى مثل معهد محمد السادس للقراءات، معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، معهد الفكر والحضارة الإسلامية بالدار البيضاء، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، المدرسة القرآنية[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
وقد أُختلف في أصل اشتقاق اسمها، فقيل: إنها كلمة أمازيغية تعني عيون الخيل (منطقة عيون تردها الخيول)، وقيل: كلمة عربية فصيحة أصلها (سن قيط) أي طرف جبل (قيط) المجاور للمدينة، ورأي ثالث قال: إنها كلمة عربية تعني الشنقيط وهو نوع من الأواني الخزفية كان متداولًا في المنطقة، ويُقال أيضًا أن شنقيط كانت موضعًا للرباط الذي انشأه الفقيه عبد الله بن ياسين في التاريخ عام 451 هجرية، وكان نواة لدولة المرابطين.
نافذة اليوم نفتحها على مسجد شنقيط، وهو مسجد بسيط للغاية، ولكن خرج منه عمالقة في العلم، ويرجع بناء المسجد إلى عام 660هـ، أو بعد ذلك، وقد تأسَّس على يد الجدَّين الجامعين لقبيلتي الإقلال: محمد قلي ويحيى جد إدو علي، ورجلين آخرين هما: أعمر وإديجر، ويضم المسجد بهوًا للصلاة وأربعة ممرَّات وفناء مكشوف، ويتميز المسجد ببنائه القائم على الحجارة المقطوعة والمئذنة المربعة الشكل علاوة على خلوِّه من الزينة تماشيًا مع المذهب المالكي، ويعبر المسجد عن معمار صحراوي ينطق بالبساطة حيث يعتلي منبره بواسطة 3 درجات خشبية، وكانت جذوع النخيل مادة السقف الأصلية، ومازال محتفظًا بهيئة المساجد القديمة؛ فهو غير مفروش للصلاة، ويؤدي المصلون صلواتهم على الرمال الناعمة، وبه مكتبات حجرية.
اللقطة الحضارية المهمة في ذلك هي ذات شقين عجيبين:
الشِّقُّ الأول: تفوُّق في العلم الشرعي:
اكتسبت شنقيط أهمية خاصة، غالبًا في القرن العاشر الهجري، وهي الأهمية العلمية التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم الإسلامي، لتثبت أن طالب العلم الحقيقي لا تقف أمامه موانع، فكل العوائق العلمية كانت موجودة بهذه المدينة، ومع ذلك نشطت حتى تميَّزت:
1- ليست من الحواضر الكبرى حتى يقصدها العلماء، بل هي في عمق الصحراء
2- كانت لغتها في الأصل أمازيغية، وليست لغة القرآن والسُّنَّة
3- بعيدة عن مدن الإسلام التاريخية
4- فقيرة في الموارد فلا يتمكَّن أهلها من شراء الكتب، خاصة في زمن غياب المطابع
5- طبيعة البداوة التي تتناقض كثيرًا مع فكرة العلم.
للتعليم في موريتانيا نمط متميز حتى في مسمى المؤسسة التعليمية، فهي تعرف عندهم باسم المحضرة، وهي مؤسسة دراسية تقليدية، جامعة لشتات المعارف، وهي تلقينيَّة فرديَّة التعليم طوعيَّة الممارسة، حيث يختار الطالب ما يحب أن يتلقاه، ويجلس إلى من يشاء من معلمين، ويبدأ بها بعد حفظ كتاب الله عز وجل أو بعضه وتتنوع فيها المواد العلمية.
وتترتب معارف المحضرة وفق ما يلي:
الدرجة الأولى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة، وأنسابهم.
الدرجة الثانية: اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب، وأيامهم.
الدرجة الثالثة: المنطق، والتاريخ، والجغرافية، والحساب، والفلك، والهندسة.
قد يستغرق طالب العلم يومه كله في التدريس، لأن الشيخ عندهم، لا يلزم الطلبة أن يشتركوا في درس واحد، من فن من الفنون، فتراه مثلًا يدرس لعشرة من التلامذة الألفية، فبعضهم يقرأ من أولها، وبعضهم يقرأ من وسطها، وبعضهم يقرأ من آخرها، ويلقى لكل درسه من موضعه الذي يليق به، وهكذا في الفقه وغيرهما من العلوم.
وقد أخرجت هذه المدينة علماء أفذاذ:
عبد الله بن إبراهيم الشّنقيطي (1235هـ=1820م): فقيه مالكي، وله: ألفية في أصول الفقه "مراقي السعود"، و"نور الأقاح" منظومة في علم البيان، و"طلعة الأنوار" في مصطلح الحديث. وشروحات وافية لهذه المنظومات.
غالي بن المختار (1243هـ=1827م): من الأدباء وعلماء السيرة النبويّة، وله مؤلفات في ذلك، بالإضافة إلى كتاب في "علم الصرف"
خديجة بنت العاقل الشنقيطية: من العالمات بالمنطق، وهي أخت العلامة الفقيه أحمد ولد العاقل الشنقيطي (ت1244هـ)، ومن أشهر مؤلفاتها شرح على سلم الأخضري.
أحمد بن الأمين الشنقيطي (1331هـ=1913م): وهو عالم بالأدب، ومن كتبه: (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط والمعلقات العشر وأخبار قائليها.
محمد حبيب الله الشنقيطي (1363هـ=1944م): عالم بالحديث، من كتبه: زاد المسلم، فيما اتفق عليه البخاري ومسلم 6 مجلدات، وإيقاظ الأعلام في رسم المصحف، ودليل السالك إلى موطأ مالك منظومة، وإضاءة الحالك شرحها، وغيرها.
محمد الأمين بن المختار الشنقيطي (1393هـ=1974م): له مؤلفات عديدة في الأصول والفقه والعقيدة والمنطق والرحلات والتفسير وأهمها وأشهرها: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن".
الشِّقُّ الثاني: التفوُق في اللغة العربية:
وهذا ملمح رائع وعجيب؛ إذ تأثَّر أهل شنقيط الأمازيغ بقبيلة بني حسان العربية، وتنازلوا طواعية عن لغتهم الأم، وتعلَّموا العربية، وبرعوا فيها، وصارت لغتهم الوحيدة، وتفوَّقوا فيها حتى عرفوا الشعر وأتقنوه، وعُرِفت بلادهم ببلاد المليون شاعر!
هذا ليس أمرًا عاديًّا، ولقد واجهت مصاعب كبيرة في إقناع الباكستان والهنود مثلًا في تعلُّم اللغة العربية[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
نافذة اليوم نفتحها على ملمحين من ملامح الحضارة في مدينة طرابلس، وهي ملامح ليست معمارية أو علمية، إنما هي في الجانب الأعلى والأهم، وهو الجانب الأخلاقي والقيمي، ونلحظ فيه أمرين مطردين لمن وصف طرابلس في التاريخ الإسلامي؛ وهما النظافة والمروءة، قد تغيب العلاقة المباشرة بين الأمرين، لكنهما ملاحظان بشكل لافت في روايات المؤرخين، مما يجعلنا نشير إلى أن بعض الشعوب تتميَّز بخصائص معينة أكثر من غيرها، وكان لأهل طرابلس هذا التميُّز.
وقد تحدث عنها ابن حوقل طويلًا في كتابه صورة الأرض ومدح أهلها، فيقول: «وهي مدينة بيضاء من الصخر الأبيض على ساحل البحر، خصبة حصينة كبيرة.. صالحة الأسواق.. بها من الفواكه الطيّبة اللذيذة الجيّدة القليلة الشبه بالمغرب وغيره كالخوخ الفرسك والكمّثرى اللذين لا شبه لهما بمكان.. إلى مراكب تحطّ ليلا ونهارا وترد بالتجارة على مرّ الأوقات والساعات صباحا ومساء من بلد الروم وأرض المغرب بضروب الأمتعة والمطاعم، وأهلها قوم مرموقون من بين من جاورهم بنظافة الأعراض والثياب والأحوال، متميّزون بالتجمّل في اللباس وحسن الصور والقصد في المعاش، إلى مروءات ظاهرة وعشرة حسنة ورحمة مستفاضة ونيّات جميلة ورباطات كثيرة، ومحبّة للغريب أثيرة ذائعة، ولهم في الخير مذهب من طريق العصبيّة لا يدانيهم أهل بلد؛ إذا وردت المراكب ميناءهم عرضت لهم دائما الريح البحريّة، فيشتدّ الموج لانكشافه ويصعب الإرساء، فيبادر أهل البلد بقواربهم ومراسيهم وحبالهم متطوّعين، فيقيَّد المركب ويرسى به في أسرع وقت، بغير كلفة لأحد، ولا غرامة حبّة، ولا جزاءً بمثقال»[1]. بهذا كانت طرابلس من المدن القليلة التي ظفرت بهذا الإطراء من ابن حوقل.
ويقول ياقوت الحموي (626هـ): «.. ومبنى جامعها أحسن مبنى، وبها أسواق حافلة جامعة.. وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون أعمرها وأشهرها مسجد الشعاب، ومرساها مأمون من أكثر الرياح، وهي كثيرة الثمار والخيرات..»[2].
ويؤكد المؤرخ عبد الواحد المراكشي على نجدة أهلها ومعاونتهم للأيوبيين في مصر على مواجهة الصليبيين بتحذيرهم من الهجمات القادمة عليهم: «وما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب، خمس وأربعون مرحلة؛ وكان فيما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب حصون متقاربة جدًّا، فإذا ظهر في البحر عدو نوَّر كلُّ حصن للحصن الذي يليه، واتصل التنوير؛ فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية، أو من الإسكندرية إلى طرابلس، في ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل؛ فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم»[3].
ويقول العلامة الأديب المغربي المولد التونسي الحياة التيجاني في رحلته: «ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يعشي الأبصار، فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء وخرج جميع أهلها مظهرين الاستبشار رافعين أصواتهم بالدعاء».
ويقول: «ورأيتُ شوارعها فلم أر أكثر منها نظافة، ولا أحسن اتساعًا واستقامةً، ذلك أن أكثرها يخترق المدينة طولا وعرضا من أولها إلى آخرها على هيئة شطرنجية، فالماشي يمشي بها مشي الرخ خلالها».
ويقول ابن عبد المنعم الحميري (900هـ): «.. وبها أسواق حافلة وحمامات كثيرة، وفي شرقيها بساتين كثيرة فيها فواكه كثيرة وخيرات جمة، وأهلها تجار يسافرون برًّا وبحرًا، وهم أحسن الناس معاملة بضدّ أهل سرت»[4].
بل كتب القائد العسكري الإسباني بيدرو نافارو إلى نائب الملك فرديناند قائلاً: أيها السيد هذه المدينة طرابلس أعظم كثيراً مما كنت أظن.. وبالرغم من أن جميع الذين وصفوها قد أجادوا الوصف فإنني أرى أنهم لم يجتازوا نصف الحقيقة.. وبين جميع المدن التي شاهدت في الدنيا لم أجد مدينة تضاهيها سواء في تحصيناتها أو في نظافتها..".
فرسان القديس يوحنا في مالطة إلى عام 1551 حين حرَّرها العثمانيون، جزى الله أهل طرابلس خيرًا أن أعطوا هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين لكل من خالطهم وعاشرهم، ولو كان من أعدائهم[5].
[1] صورة الأرض (1/ 69))
[2] معجم البلدان (4/ 25)
[3] المعجب في تلخيص أخبار المغرب (ص: 250)
[4] الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: 389)
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
]]>
تعتبر صقلية المعبر الحضاري الثاني الكبير الذي انتقلت به الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، والمعبر الأول الذي يسبقها هو الأندلس، أما الملمح الحضاري الذي نتكلَّم عنه اليوم هو كتاتيب باليرمو، والكتَّاب هو بمثابة المدرسة الابتدائية اليوم، وقد سبق وذكرناه في مقال سابق عند حديثنا عن كتاتيب المسجد الأموي بدمشق، واليوم نتحدث عن هذه الكتاتيب أيضًا، ولكن في مدينة إسلامية أوروبية، ولن يختلف تطوُّرها كثيرًا عن كتاتيب الشرق، وهذا يدلُّ على ثبات المنظومة الحضارية الإسلامية، وأن الإسلام هو الذي قاد إلى مثل هذه التغييرات الحضارية.
نأخذ لقطتنا من تعليقات سجَّلها الجغرافي والرحالة الإسلامي الشهير ابن حوقل، وقد سجَّلها عن طريق المشاهدة لا السماع، وهذا في كتابه: التعليق والتنقيح لكتاب المسالك والممالك للإصطخري (صورة الأرض)، وكانت هذه الملاحظات في عام 363 هجرية، ومن من هذا الوصف نأخذ بعض الملامح الحضارية في هذه الكتاتيب:
أولًا: لاحظ ابن حوقل كثرة المساجد والكتاتيب في باليرمو، فكان في المدينة مائتا مسجد، وكان بها ثلاثمائة مُعَلِّم. مع العلم أن المدينة ليست ضخمة، فهي ليست القاهرة، أو دمشق، أو بغداد، أو مراكش، أو قرطبة، فمائتا مسجد بها رقم كبير، وكان مما قاله: "ولقد كنت واقفاً ذات يوم بها في جوار دار أبي محمد القفصي الفقيه الوثائقي فرأيت من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصري". هذه المساجد كانت صغيرة، وكثرتها تسمح للمسلمين بصلاة الجماعة دون سير مسافة كبيرة، ثم يكون هناك مسجد جامع كبير لصلاة الجمعة. أما اللافت حقيقةً فهو وجود هذا العدد من الكتاتيب في هذه المدينة الصغيرة نسبيًّا، مما يدلُّ على مدى احتفال المسلمين بالعملية التعليمية.
ثانيًا: كان المعلِّمون معفيين من دخول الجيش، وهذا لدورهم الريادي في تربية النشأ الذي هو عماد الأمة، فعلى عظم قدر الجهاد في سبيل الله، وخاصة في هذه المناطق المتاخمة للأعداء، والتي تعتبر كالثغور الدائمة، إلا أن المعلِّمين كانوا متفرِّغين للتعليم.
ثالثًا: نظرة الشعب للمعلمين: يقول ابن حوقل: "كانوا يرون أنهم أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء"[1].
رابعًا: كان هؤلاء المعلِّمين هم الذين يقودون الحركة الفكرية في المدينة، وهم الذين يبدون آراءهم في السلطان والحكومة. يقول ابن حوقل عن المعلمين: "حتى إنهم المتكلمون على السلطان في سيره واختياراته، والإطلاق بالقبائح من ألسنتهم بمعايبه، وإضافة محاسنه إلى مقابحه".
خامسًا: لم تكن الكتاتيب تأخذ مالًا كثيرًا من المتعلمين، ولم يستغل المعلمون حاجة الناس إلى التعليم فيبالغون في الأسعار، ويفهم من كلام ابن حوقل أن حرفة التعليم لم تكن تدر خيرًا كثيرًا على أصحابها، حتى كان فيهم من لا يصيب من طلابه على كثرتهم أكثر من عشرة دنانير في السنة.
سادسًا: كان لشرف مهنة التعليم يمارسها عدد كبير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة.
سابعًا: كان الكتَّاب مؤسَّسة متكاملة، وقد ذكر ابن حوقل أن بعض الكتاتيب لم يكن بها معلم واحد، بل يدرس فيه خمسة معلمين، لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب.
ثامنًا: ذكر ابن حوقل أن صبيان المكتب كانوا كثيرين، يصل أحيانًا إلى ثمانين طالبًا في الحلقة.. ومن بلدان مختلفة[2]، ومع ذلك فهذا عدد قليل نسبيًّا إذا قارناه بالمدن الإسلامية الكبرى الأخرى في الحضارة الإسلامية.
وكتاتيب باليرمو صورة حضارية راقية متعددة الجوانب، وهي إحدى الصور المهمة التي أثَّرت في تاريخ إيطاليا بوجه خاص، وأوروبا بشكل عام، وجميل أن نختم هذه الحلقة بكلمات المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جابريللي، على الرغم من أنه متحامل على المسلمين في كثير من الأحيان، إلا أنه قال: "تظلُّ الفترة العربية بالفعل أعلى قمة وصلت إليها الجزيرة الكبيرة الواقعة في البحر المتوسط، سواء من حيث استثمار مواردها، أو الحياة المادية المتعلقة به"[3].
[1] ابن حوقل 1/ 127.
[2] ابن بشكوال، الصلة رقم 351.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
هذه هي مدينة صنعاء عاصمة اليمن، ومدينة صنعاء من المدن المهمة منذ قديم، بل اهتم بها رسول الله، وذكرها في أحاديثه، وبشَّر بوصول الإسلام إليها؛ فقال في حديث البخاري عن خباب: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ". واستخدمها لتقدير عرض حوضه يوم القيامة؛ فقال في حديث البخاري ومسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ..»، وغير ذلك.
الملمح الحضاري المهم الذي نفتح عليه النافذة اليوم هو ملمح مجالس العلم في صنعاء، وأهل اليمن ككثير من المسلمين في الأقطار المختلفة يتميَّزون بحب العلم وطلبه، ولكن مدحهم النبي بخصائص كان لها أكبر الأثر في خصوصية التفوق العلمي عندهم. روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ..»، وفي لفظ: "الْفِقْهُ يَمَانٍ". فعندهم رقة القلب التي تدفع للتأثر بما يُتَعلَّم، وعندهم عمق الإيمان الذي يدفع إلى اليقين بما يعلمون، وعندهم الحكمة التي تدفع إلى فهم ما بين السطور، وفقه المعاني.
هذه الخصائص دفعتهم على الرحلة في طلب العلم والدين: روى البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ، قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»». جاءوا للتفقه في الدين، وليس لمجرد الإسلام، ولم يسألوا عن أشياء عادية، وكان ردُّ الرسول عليهم عميقًا، ومناسبًا لعمق تفكيرهم.
والملمح الحضاري الذي نلتقطه اليوم هو أنه كما رحل أهل اليمن لطلب العلم، رحل الناس بعد ذلك إلى اليمن لطلب علمهم وفقههم، ونأخذ مثالًا على ذلك رحلة طلبة العلم، بل العلماء، لطلب العلم في صنعاء على يد العالم الجليل عبد الرزَّاق الصنعاني.
والرحلة في طلب العلم ملمح أصيل من ملامح الحضارة الإسلامية. روى مسلم: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «.. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ..». لذا اشتهر علماء الإسلام بالرحلة في طلب العلم، وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ تَرَى لَهُ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَيَكْتُبُ عَنْهُ أَوْ تَرَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعِلْمُ فَيَسْمَعُ مِنْهُمْ؟، قَالَ: يَرْحَلُ يَكْتُبُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِينَ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ يُشَامُّ النَّاسَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ". قال أحمد بن حنبل هذا الكلام وطبَّقه، ورحل إلى صنعاء العلم ليتعلَّم على يد عبد الرزَّاق الصنعاني.
وعبد الرزَّاق الصنعاني هو أبو بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الصنعانيُّ الحِمْيَرِيُّ اليمنيُّ. وُلِد سنة 126هـ، وتُوُفِّي سنةَ 211 هـ، وكان عمره 85 سنة. وحدَّث عن ابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس، ومالك بن أنس، ووالده همام، وخلق سواهم، وقال ابن حبان في وصف أبيه همام بن نافع: والد عبد الرزاق بن همام، من خيار أهل اليمن وعبادهم، حجَّ ستين حجة، وكان طاهر العبادة، من مؤلفاته: الجامع الكبير والسنن، وتفسير القرآن والمُصنَّف وهو في أحد عشر جزءًا.
وقد رحل إلى صنعاء الكثير من العلماء ليتعلَّموا على يد عبد الرزَّاق الصنعاني: قال الطيب بامخرمة في قلادة النحر: «الحافظ العلامة المرتحل إليه من الآفاق». و«قال أبو سعد ابن السمعاني: قيل ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله r مثل ما رحلوا إليه»، وممن ارتحل إليه: أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى، ومحمد بن رافع.. وغيرهم الكثير. وأراد البخاري الرحلة إلى اليمن ليسمع منه فلم يُقدَّر له ذلك، فسمع علمه من تلميذه يحيى بن جعفر البيكندي.
وقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَا كَانَ فِي قَرْيَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِئْرٌ، فَكُنَّا نَذهَبُ نُبَكِّرُ عَلَى مِيْلَيْنِ نَتَوَضَّأُ، وَنَحمِلُ مَعَنَا المَاءَ. وقَالَ أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ: لَمَّا قَدِمَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، رَأَيْتُ بِهِ شُحُوباً بِمَكَّةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَيْهِ النَّصَبُ وَالتَّعَبُ، فَكَلَّمْتُه، فَقَالَ: هَيِّنٌ فِيْمَا اسْتَفَدنَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وقد اتُّهم عبد الرزاق بأن فيه بعض التشيع، وأنه يفضل عليًّا على الشيخين، قال ابن عدي في (الكامل): "نسبوه إلى التشيع، ولكن اعتقاده وكلامه يخالف هذا الزعم". وقال أحمد بن صالح المصري: "قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحدًا أحسن حديثًا[1] من عبد الرزاق؟ قال: لا"[2].
[1] أحسن حديثًا: أي في اتقان رواية الحديث.
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
ولكن واقع الأمر غير ذلك:
أولًا: لابد أن يُنْسَب الفضل لأهل الفضل، وقد صرَّح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان على استعداد أن يهب أسرى بدر للمطعم بن عدي لو كان حيًّا، نظرًا لمروءته مع المسلمين على الرغم من كونه كافرًا.
ثانيًا: من الشفافية عدم تجاهل جهود الجميع، ولو تجاهلناهم وتجاهلونا حدثت ثغرة كبيرة في البحث العلمي.
ثالثًا: واقع الأمر أن جهود هؤلاء هي ثمرة للحضارة الإسلامية ككل، ولولا تكامل الحضارة الإسلامية ما استطاع هؤلاء أن يحقّقوا هذه النتائج، ونحن نعترف بذلك عندما نرى مسلمًا ينبغ في الغرب، فلولا المنظومة العلمية التي حوله ما نبغ فيما تخصَّص فيه.
وبين أيدينا مثال صريح على ذلك، وهي نافذة اليوم، ونفتحها على مرصد فلكي متطور عظيم في مدينة مراغة الإيرانية، وقد أسَّسه الطوسي، وهو من عباقرة الفلك المعدودين، وكان إسماعيليًّا، ثم تحوَّل إلى الاثنا عشرية، وكان متعاونًا مع التتار، لكن كل هذا لا يلغي جهده البارز في بناء هذا المرصد.
تقع مدينة مراغة الإيرانية شمال غرب إيران، قريبًا من حدود العراق وتركيا في الغرب وأذربيجان وأرمينيا في الشمال، على بعد 130 كم جنوب تبريز. وبها آثار كثيرة أهمها المرصد الفلكي الذي نعنيه.
مؤسِّس هذا المرصد هو نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ (597-672هـ/1201-1274م) كان رأسًا في العلوم العقلية، علاَّمة بالأرصاد والرياضيات. ولد بطوس (قرب نيسابور).
أعجبني جدًّا تعليق ابن كثير عليه في ترجمته بالبداية والنهاية إذ قال: "حَصَّلَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ جَيِّدًا، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَشَرَحَ " الْإِشَارَاتِ " لِابْنِ سِينَا، وَوَزَرَ لِأَصْحَابِ قِلَاعِ الْأَلَمُوتِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِهُولَاكُو، وَكَانَ مَعَهُ فِي وَاقِعَةِ بَغْدَادَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى هُولَاكُو بِأَنْ يَقْتُلَ الْخَلِيفَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ مِنْ فَاضِلٍ وَلَا عَاقِلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ. وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَنَى الرَّصَدَ بِمَرَاغَةَ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضَلَاءِ، وَبَنَى لَهُ فِيهِ قُبَّةً عَظِيمَةً، وَجَعَلَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ (662ه)، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَأَصْلُ اشْتِغَالِهِ عَلَى الْمُعِينِ سَالِمِ بْنِ بَدْرَانَ الْمِصْرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ الْمُتَشَيِّعِ، فَنَزَعَ فِيهِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُ، حَتَّى فَسَدَ اعْتِقَادُهُ»[1].
يمدح ابن كثير هنا علمه العقلي والحياتي، وفي الوقت نفسه يشير إلى فساد اعتقاده. ومثله قال الصفدي: «صَاحب عُلُوم الرياضي والرصد، كَانَ رَأْسا فِي علم الْأَوَائِل لَا سِيمَا فِي الأرصاد والمجّسطي فَأَنَّهُ فاق الْكِبَار.. وَكَانَ ذَا حُرْمَة وافرة ومنزلة عالية عِنْد هولاكو وَكَانَ يطيعه فِيمَا يُشِير بِهِ عَلَيْهِ وَالْأَمْوَال فِي تصريفه فابتنى بِمَدِينَة مراغة قبّة ورصدًا عَظِيمًا وَاتخذ فِي ذَلِك خزانَة عَظِيمَة فسيحة الأرجاء وملأها من الْكتب الَّتِي نهبت من بَغْدَاد وَالشَّام والجزيرة حَتَّى تجمّع فِيهَا زِيَادَة على أَربع مائَة ألف مُجَلد.. وَكَانَ حسن الصُّورَة سَمحا كَرِيمًا جوادا حَلِيمًا حسن الْعشْرَة غزير الْفَضَائِل جليل الْقدر داهية»[2].
مرصد مراغة
أُنشأ سنة 657هـ/1259م من أموال الأوقاف، واستمر بناؤه أربع سنوات
كان يتكون من منظومة أبنية على مساحة 6 آلاف متر
للمرصد مظاهر حضارية لافتة:
1- ضم المرصد مكتبةً علمية متخصصة احتوت نحو أربعين ألف كتاب (تأصيل علمي)
2- حُشد له أفضل ما عرفه العصر من آلات القياس الفلكية،
3- طوَّر الآلات المعاصرة وابتكر آلات جديدة،
4- ضمَّ أيضًا مسبكة لصنع آلات القياس النحاسية. (كفاية ذاتية من الآلات)
5- كانت هناك رؤية واضحة زمنية لخطة العمل: كانت خطة العمل المبدئية للأرصاد 30 عامًا، لكنها اختصرت إلى 12 عامًا هي دورة المشتري.
6- قدَّم المرصد الزيج الإلخاني: والزيج كلمة فارسية يقصد بها قانون حركة الكواكب والنجوم، وهو عبارة عن معلومات عن حركة الكواكب يجمعها العلماء في جداول منظمة، وفيها تسجيل لمنازل القمر، وحركة الشمس، وغير ذلك من الظواهر الفلكية.
7- تمازج حضاري رائع: أداره نصير الدين الطوسي إلى جانب عدد كبير من علماء الفلك ومصمِّمي الآلات الفلكية، وقد التقى فيه علماء من الأندلس ومصر وآسيا الصغرى، كما كان به علماء من الصين يقدمون معارفهم في الطرق الصينية لحساب الأعياد.
8- تتلمذ فيه أكثر من مائة طالب لدراسة الفلك (توريث العلم)
9- من الرائع في المرصد أيضًا أنه لم يهمل دراسات الأولين من اليونانيين والهنود، إنما جمعها، وعلَّق عليها، وأيَّد بعضها، وعارض الأخرى، واستطاع تكوين مدرسة مستقلة مفهومة يمكن لبقية العلماء السير على خطاها وفق منهج علمي رصين ثابت.
10- لم يهتز المرصد أمام الأسماء الكبرى، فانتقدوا بطليموس بشدة، وكذلك أرسطو، حتى اعتبر علماء الفلك في التاريخ أن ما فعله علماء مراغة هو ثورة علمية حقيقية قبل الثورة العلمية في أوروبا بقرنين من الزمن.
11- أهم إنجازات المرصد أنه ابتعد عن الفرضيات النظرية، واعتمد الرصد والتجربة، وعبَّر عن الظواهر الفلكية بمعادلات رياضية، وقدَّم أول دليل تجريبي على دوران الأرض حول محورها.
ظل المرصد يعمل نحو خمسين عامًا، وارتبط تاريخه بعلماء كبار منهم: محيي الدين المغربي، وقطب الدين شيرازي[3].
[1] البداية والنهاية ط هجر (17/ 514).
[2] الوافي بالوفيات (1/ 147) [وحكى عنه قصص مع هولاكو في دلالة على نباهته وحجته].
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
هذه الأهمية الاستراتيجية جعلتها محطة مهمة عند الحضارات المختلفة، فكانت من أهم الموانئ عند البيزنطيين، وفتحها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة 17هـ= 638م، وظلَّت تحت حكم الدول الإسلامية المختلفة حتى سقطت تحت الحكم الصليبي عام 503هـ= 1109م، ولأهميتها صارت بها إمارة مستقلَّة، ويتبعها عدد كبير من مدن الساحل الشامي، وقد ظلَّت محتلة 185 سنة هجرية حيث تحرَّرت على يد المنصور قلاوون المملوكي عام 689 هجرية= 1289م.
نافذة اليوم نفتحها على معلم حضاري مهم في المدينة، بل هو أهمُّ ملامحها الحضارية، وهو المسجد المنصوري الكبير، ومؤسس هذا المسجد هو الأَشْرَف صلاح الدين خليل ابن قَلاوُون (حكم من 689-693هـ=1290-1294م)، وهو من كبار المجاهدين، وكتب الله على يديه الاستخلاص الكامل للأراضي الإسلامية من الصليبيين، فحرَّر عكا، وصور، وصيدا، وبيروت، وقلعة الروم، وبيسان، وجميع الساحل، وتوغل في الداخل.
في نهاية حملته لتحرير الساحل الشامي عام 693هـ دخل مدينة طرابلس التي كان أبوه المنصور قلاوون قد حرَّرها منذ 4 سنوات (عام 689هـ)، وسأل عن مكان الخيمة التي عسكر فيها أبوه عند فتح المدينة، وفي مكانها أنشأ المسجد الكبير، وكان بالمكان أيضًا أنقاض كنيسة هدمت أثناء قصف المماليك للمدينة.
في هذا المسجد نلمس عدة ملامح حضارية مهمة:
أولًا: هذا المسجد الذي أُنشأ لتخليد ذكرى النصر على الصليبيين هو تجسيد لرحلة طويلة من الجهاد أنفق فيها كثير من الأبطال أوقاتهم، وأموالهم، بل وحياتهم، لكي نصل إلى هذه النقطة. البعض يقولون نجح المنصور قلاوون، والأشرف خليل، فيما فشل فيه صلاح الدين ونور الدين، ولكني أقول إنه بناء ضخم أضاف فيه كل واحد من هؤلاء حجرًا حتى تكامل، ولولا جهود عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين، وصلاح الدين، والأمراء والجنود، ما وصل المنصور قلاوون أو ابنه لما وصلوا إليه. رؤية هذا الملمح الحضاري الكبير توضِّح قيمة العمل الجماعي المتراكم عبر السنين.
ثانيًا: جميل أن نرى المسلمين عندما يريدون تخليد ذكرى يقومون ببناء مسجد. هو يشبه من وجه ما يفعله الناس من بناء نصب تذكاري، ولكن شتَّان بين تأسيس عمود من الحجارة مهما كان فخمًا، وتأسيس بيت لله شكرًا له على تحقيق النصر. هذا متكرِّر في الحضارة الإسلامية، وهو دليل على إسلامية الحرب، وكونها كانت في سبيل الله.
ثالثًا: من الملامح الحضارية المهمة في المسجد أن المؤسس سمَّاه على اسم أبيه فاتح المدينة، ولم يُسمِّه على اسمه هو، وفي هذا تواضع جمٌّ، وفيه برٌّ بالوالد، وفيه نسب الفضل لأهله، وهي معان حضارية راقية ينبغي أن تُتَذكَّر. أيضًا يضاف إلى هذا، وفي المعنى نفسه، نجد السلطان الشهير الناصر محمد بن قلاوون لاحقًا يزيد في مساحة المسجد عام 715 هـ بدلًا من إنشاء مسجد خاص به، وهو استكمال لمسيرة التواضع للوالد، ولو مرَّ على موته عقود.
رابعًا: الملمح الحضاري الفني في البناء: هذا هو الجامع الأكبر في طرابلس. تبلغ مساحته 3000 متر مربع، ومساحة حَرَمه 1630 مترًا مربعًا. ويتميز بتصاميمه المعمارية التي تمزج بين الفنون الإسلامية والرومانية، وبه نوافذ ذات قناطر رخامية منحوتة ومزينة بأجمل النقوش. وتتزين جدرانه بالمنحوتات والنقوش والآيات القرآنية المكتوبة بالخط النسخي المملوكي، وعلى الجدران زخارف الفسيفساء الجميلة، والآيات القرآنية المكتوبة بأجمل الخطوط العربية التي تتزين بها القبة الداخلية، وبمحرابه المصنوع بأجمل فنون النحت الصخري.
خامسًا: الملمح الأخير الذي نلفت الانتباه إليه هو تعظيم المسلمين لآثار النبي، فالمسجد يحتوي على غرفة أنشئت عام 1890 بها شعرتان للنبي محفوظتان في علبة من الذهب الخالص، وهاتان الشعرتان تلقيان الترحيب والإجلال في مواعيد معينة في السنة؛ في صبح ليلة القدر، وفي الجمعة الأخيرة من رمضان، وقد أهدى السلطان عبد الحميد الثاني هاتين الشعرتين لأهل طرابلس جزاءً لهم على دعمه في السلطنة.
هناك العديد من شعرات النبي موجودة في متاحف ومساجد في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي؛ في لبنان، وسوريا، ومصر، وتركيا، وليبيا، وفلسطين، وغيرها.
جميل أن نرى هذا التوقير لآثار النبي من السلطان عبد الحميد، ومن سلاطين الدولة العثمانية بشكل عام، ومن أهل طرابلس، ومن المسلمين عمومًا، وهذا التوقير كنا نراه من الصحابة لبعض آثار النبي.
وأصل معظم هذه الشعرات على الأغلب ما حدث في حجة الوداع؛ فقد روى مسلم عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ، وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ».
قال النووي: "وفيه التبرك بآثار الصالحين، وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره، وتبركهم بشعره الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد رجل سبق إليه".
وعند مسلم أن الرسول آثر أبا طلحة الأنصاري بنصف شعره؛ فقد روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا وَالْحَجَّامُ جَالِسٌ، وَقَالَ: بِيَدِهِ عَنْ رَأْسِهِ، فَحَلَقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ"، ثُمَّ قَالَ: «احْلِقِ الشِّقَّ الْآخَرَ» فَقَالَ: «أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ».
وعند الحاكم، والطبراني، وأبي يعلى، عن جَعْفَر بن عبد الله أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَقَالَ: اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوها، فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَوَجَدُوهَا فَإِذَا هِي قَلَنْسُوَةٌ خَلَقَةٌ، فَقَالَ خَالِدٌ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ r فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ، فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ».
وجعفر بن عبد الله من نبلاء التابعين قد لا يكون سمع من خالد، فالرواية قد تكون منقطعة، ولكنه سمع من عدد من الصحابة؛ منهم أنس بن مالك، وعقبة بن عامر[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
ليس الملمح الحضاري هو الناحية المعمارية للمبنى، وإن كانت أميركا تحوي العديد من المساجد الأنيقة ذات الملامح المعمارية الفنية البارزة، وتحوي العديد من الصروح الإسلامية الكبيرة ذات الأهداف المتعددة، لكن الملمح الحضاري في هذا المسجد هو أنه أول مسجد بني كمسجد لا يزال قائمًا كمسجد في أميركا كلها.
هذا هو المسجد الأم (The Mother Mosque of America) في مدينة سيدار رابيدز بولاية أيوا. وقد بُنِي في عام 1934 م، ويعتبر بذلك أقدم مساجد المسلمين بأميركا. يسبقه بعض المباني لكنها لا تحسب لأسباب:
1- مسجد Powers Street Mosque: وقد تحوَّل إلى مبنى لأغراض اجتماعية.
2- مسجد Highland Park Mosque: أسِّس 1921م في ديترويت، لكنه بيع في 1926م.
3- مسجد Ross, North Dakota: لم يعد المسجد موجودًا، ومع ذلك فقد بني في مكانه عام 2005 مسجد صغير كتكريم وذكرى له.
4- مسجد الصادق في شيكاغو أسِّس عام 1929، للقاديانيين الأحمدية، وهي طائفة تدَّعي الإسلام، وهم ليسوا كذلك، إنما يتبعون ميرزا غلام، وهو من مدَّعي النبوة.
المسجد الأم في سيدار رابيدز بناه بعض المهاجرين إلى أميركا، وكانوا على الأغلب من سوريا ولبنان، وقد دأبوا على استئجار مكان لصلاة الجمعة مع أنهم قليلون (عشرات).
اشترى المسلمون مكانًا، وبدأوا بأنفسهم عملية البناء في عام 1929، ومروا بصعوبات كبيرة لكون المبنى أُسِّس في وقت الأزمة المالية الكبرى التي كانت تمر بأميركا كلها: الكساد الكبير (Great depression 1929-1939)، وانتهوا في 15 فبراير عام 1934م.
ظلَّ هذا المسجد هو الوحيد للمسلمين في المدينة إلى عام 1971 حين بنى المسلمون المركز الإسلامي (the Islamic Center of Cedar Rapids)، وبعد ذلك تمَّ بيع المسجد الأم في الثمانينيات.
روعة وحضارة هذا المسجد في أمور:
الأول: كان له فضل السبق على غيره. المسلمون الذين قرَّروا بناءه أخذوا قرارًا لا يعلمون على وجه الحقيقة ردَّ فعل المجتمع والدولة عليه. هل هناك خطورة أمنية؟ هل هناك كراهية عنصرية؟ هل هناك تبعات مادية أو قانونية؟ لكن كان الحفاظ على الدين دافعًا لهم لتجاوز كل هذه الأسئلة وبناء المسجد.
الثاني: كان هذا المسجد قدوة لغيره. المسلمون الذين أخذوا هذا القرار في عام 1934 كانوا سببًا في تحميس المسلمين في شتى المدن الأميركية للقيام بالشيء نفسه. الآن يوجد بأميركا 2769 مسجد في إحصائية عام 2020. (في سيدار رابيدز 6 مساجد)
الثالث: قام المسلمون في سيدار رابيدز بعمل عظيم في عام 1991، وهو إعادة شراء المسجد القديم مرة أخرى، مع العلم أنه صغير لا يصلح لإقامة الصلوات، ولكن كبعد تاريخي، وعمق استراتيجي. هنا كانت النواة الأولى. كلما تعمَّقت جذورك كان من الصعب استئصالك. هذا عمل يحافظ على الهوية، وستأتي الأجيال المسلمة اللاحقة ليأخذوا العبرة والقوة من هذا البناء، وسيأتي الأمريكان ليعلموا أن المسلمين صاروا جزءًا من النسيج الطبيعي للدولة.
الرابع: فوجئت أن المسلمين في سيدار رابيدز هم كذلك أول من بنى مقابر خاصة بالمسلمين في أميركا، وهذا في عام 1948. (تركيز المسلمين هناك على تعميق الجذور في البلد). وهذا يخدم العمق الذي يبتغيه المسلمون في أميركا في هذه المرحلة.
مرَّ المسلمون بمراحل في أميركا:
· في البداية جاءوا مكرهين كعبيد من أفريقيا
· وبعدها في أواخر القرن 19 وأوائل 20 جاءوا كعمال بسطاء بغية عيش أفضل.
· في الخمسينيات والستينات بدأت وفود الطلبة الباحثين عن درجات علمية أفضل.
· ازدادت الجالية حجمًا، وظهر الجيل الثاني والثالث، ولم يعد هناك مكان لاستخدام لفظ الجالية، بل صار المسلمون أمريكيين كغيرهم من أهل أميركا، وبالتالي لهم كلُّ الحقوق المتاحة في البلد، وهذا يحتاج -قبل قناعات الحكومة والشعب الأميركي- قناعة لدى المسلمين أنفسهم بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، وهذا الجزء لا يذوب، بل يحافظ على هويته ودينه، ويتعايش بشكل طبيعي سلمي راقي مع الأطياف الأخرى للشعب.
الآن، بسبب صغر هذا المسجد فإن غالب المسلمين في سيدار رابيدز يصلون في المساجد الأخرى بالمدينة، ومع ذلك بقي المسجد الأم كمكان تاريخي ينشر المعلومات عن الإسلام، وهو مسجَّل الآن في قائمة الأماكن التاريخية القومية (National Register of Historic Places) وموصوف بأنه قطعة أساسية من تاريخ أميركا الديني، وهو يعبِّر عن التعايش وقبول الإسلام والمسلمين في أميركا (essential piece of American religious history, which symbolizes tolerance and acceptance of Islam and Muslims in the United States).
أيها المسلمون في أميركا: زوروا هذا المسجد، وخذوا منه العبرة والدعم، وشدُّوا على أيدي المسلمين في المركز الإسلامي لسيدار رابيدز، واشكروا آباءهم وأجدادهم الذين أعطونا هذه اللقطة الحضارية الرائعة[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
دخل الإسلام إلى مرو في عهد عثمان بن عفان، وبقيت عاصمة لإقليم خراسان في عهد الخلافة الأموية، واكتسبت مرو أهميتها أكثر عندما أعلن أبو مسلم الخراساني بدء العهد العباسي في مرو، فأعاد تأسيسها واستخدمها كقاعدة ضد الأمويين، ثم انتقلت مرو على مر العقود من زعامة دولة إلى دولة، فكانت من أعظم مدن السلاجقة، ومركز السلطان سنجر، حتى وصلت إلى الدولة الخوارزمية، وقد تعرضت لنكبة لم يعرف التاريخ مثلها على أيدي التتار؛ فقد قتلوا كل أهلها بعد حصارها 4 أيام عام 617هـ= 1220م، وتسليم أهلها المدينة صلحًا بعد وعد ابن جنكيز خان لهم بالحماية.. وكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل!، وانتهت المدينة تمامًا، بعد هذا الغزو الهمجي.
وقد كانت مرو مدينة حضارية بطبعها، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية فيها قبل الغزو التتري انتشار المكتبات العامة المفتوحة للجمهور، وهذا ابتكار إسلامي صرف، فقد كانت المكتبات الموجودة في الحضارات السابقة؛ كاليونانية، والرومانية، والفارسية، والهندية، حكرًا على القصور، والكنائس، والمعابد، ولا يمكن للعامة الوصول إليها، فجاء المسلمون، فنشروا المكتبات بشكل غير مسبوق، وتنافس الأمراء والأثرياء في عمل المكتبات العامة، وأوقفوا له الأوقاف الكبيرة، وما نراه في مرو هو مجرد مثال للحواضر الإسلامية الراقية، وما نقوله هنا ينطبق على بغداد، والبصرة، والكوفة، ودمشق، وحلب، وطرابلس، والقاهرة، وفاس، والمدينة، وبخارى، وسمرقند، وغزنة، وقرطبة، وغرناطة، ومراكش، وغيرها.
وقد زار ياقوت الحموي[2] مدينة مرو قبيل الغزو التتري بشهور في أثناء رحلاته، فما استطاع أن يتركها بسبب مكتباتها العامرة، فقال واصفًا لها: وأقمت بها ثلاثة أعوام (613-616هـ) فلم أجد بها عيبًا إلا ما يعتري أهلها من العِرْقِ المديني[3] فإنهم منه في شدة عظيمة قل من ينجو منه في كل عام، ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها إلى الممات لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا مثلها كثرةً وجودةً.
أما الخزائن فمنها خزانتان في الجامع، إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق وكان فقاعيًا (صانع جعة) للسلطان سنجر وكان في أول أمره يبيع الفاكهة والريحان بسوق مرو ثم صار شرابيا له وكان ذا مكانة منه، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية لا أدري إلى من تنسب.
خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعد محمد بن منصور في مدرسته ومات المستوفي هذا في سنة 494 وكان حنفي المذهب من أعيان وأثرياء الدولة الخوارزمية، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحاق في مدرسته، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية، وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرستها، والضميرية في خانكاه هناك، وخزانتان للسمعانيين، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثر بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبُّها كلَّ بلد، وألهاني عن الأهل والولد، وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيرِه مما جمعته فهو من تلك الخزائن[4].
يُذْكَر أن التتار أحرقوا كلَّ مكتبات مرو، وفتحوا سدود الأنهار ليدمِّروا المدينة، فاختفت المدينة تمامًا، وعندما زار ابن بطوطة المنطقة بعد ذلك بقرن قالوا له: كانت هنا مدينة اسمها مرو! والمدينة الموجودة الآن هي من تأسيس الروس عام 1884م كقاعدة عسكرية ما لبثت أن تطوَّرت إلى مدينة حاليًا، ونذكر هذا ليعرف الجميع الفرق بين حضارة كانت تهدف إلى سعادة الإنسانية وثقافتها، وبين قوة غاشمة لا تهدف إلا لمصالحها المادية غير عابئة بآلام البشر[5].
[1] أدرك زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأسلم لكنه لم يرَه. ابن عبد البر: الاستيعاب، 1/144، 145.
[2] ياقوت الحموي: من أصل رومي، وقيل وُلِد في اليونان، واسمه ياقوت بن عبد الله، وهو منسوب إلى عسكر الحموي وهو تاجر من بغداد اشترى ياقوت وعامله معاملة الابن، ويبدو أنه أعتقه، لوجود حرية كبيرة في حركة ياقوت في البلاد، وهو مؤرخ ثقة من أئمة الجغرافيين، وهو صاحب كتابي معجم البلدان، وإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء)، وهو من علماء القرن السابع الهجري (574-626/1178-1229)
[3] (دودة طفيلية تكون في مياه الشرب، وكانت تُرَى بالمدينة، ومصر، ووسط آسيا)
[4] ياقوت الحموي: معجم البلدان (5/ 114)
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
من هذه المدن مدينة صُحَار، وهي تطل على بحر عمان مدخل المحيط الهندي، ومدخل الخليج العربي، وهي مركز محافظة شمال الباطنة، وتبعد عن العاصمة مسقط 234 كم شمالا، وهي العاصمة القديمة لعمان، ومن المدن التي سبقت الميلاد بأكثر من ألف عام.
يقول المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (380هـ): «صحار قصبة عمان، ليس على بحر الصين اليوم بلد أجلَّ منه، عامرٌ، آهلٌ، حسنٌ، طيّبٌ، نَزِهٌ، ذو يسارٍ وتجارٍ، وفواكهٍ وخيرات.. والجامع على البحر له منارة حسنة طويلة.. وهم في سعة من كلّ شيء.. دهليز الصين، وخزانة الشرق والعراق».
يقول الحموي في معجم البلدان (626هـ): «مدينة طيبة الهواء والخيرات والفواكه، مبنية بالآجر والساج (نوع من الأخشاب الثمينة)، كبيرة ليس في تلك النواحي مثلها، وقيل: سمّيت بصحار بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام.
ويقول الإصطخري في المسالك والممالك (346هـ): «هي أعمر مدينة بعمان، وأكثرها مالًا، ولا تكاد تعرف على شاطئ بحر فارس بجميع بلاد الاسلام مدينة أكثر عمارة ومالًا من صحار».
ويقول العزيزي في المسالك والممالك (380هـ): «وعمان مدينة جليلة بها مرسى السفن من السند والهند والصين والزنج، والقصبة اسمها صحار وليس على بحر فارس مدينة أجلّ منها».
ويقول الإدريسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (560ه): «ويقصدها في كل سنة من تجار البلاد ما لا يحصى عددهم وإليها يجلب جميع بضائع اليمن ويتجهز منها بأنواع التجارات وأحوال أهلها واسعة ومتاجرهم مربحة».
أما اللقطة الحضارية هي سوق صحار، والسوق ما زال موجودًا إلى الآن، وكانت له آثار ضخمة على التجارة العالمية، ومع ذلك فاللقطة الحضارية ليست خاصة بالعمليات التجارية به، ولكن بالدعوة الإسلامية التي كان هذا السوق سببًا فيها.
وسائل نشر الدعوة:
أولًا: من خلال مزاولة التجارة العادية، وعن طريق تعاملاتهم مع أهل تلك الأماكن، ومن خلال التحلّي بالقيم الفاضلة خاصة الأمانة. ويقول المستشرق الإنجليزي د. جون ويليكنسون (John Wilkinson): ارتبط هذا الميناء بالعديد من الموانئ في العالم منها موانئ الصين وجنوب آسيا وموانئ ساحل إفريقيا الشرقية وموانئ شبه الجزيرة العربية المطلة على المحيط الهندي وموانئ الهند ومكران وموانئ الخليج العربي.
ثانيًا: استغلال رجال الدين للسوق للدعوة؛ مثلما فعل محمد بن محبوب الرحيلي الصحاري (ت260هـ) الذي نشر الإسلام في أوساط تجار الشرق ومنهم تجار الملايو، وقد أسلم الكثير منهم، وقام الشيخ بتلقينهم الشهادتين، وتعليمهم فرائض الإسلام، وأطلق عليهم أسماء عربية إسلامية".
ثالثًا: بناء المراكز الدعوية في شرق آسيا: ومثاله ما رأيناه في ملقا بشبه جزيرة الملايو، حيث بنى الداعية والتاجر العماني عبد العزيز الملكاوي (نسبة إلى ملقا) العماني جامعًا ومركزًا للدعوة الإسلامية، وكان قد استقر بها عام 1414م، وفي الملايو إلى يومنا هذا يوجد المسجد العماني ويقع في ملقا بماليزيا حاليا، وله أثر كبير في نشر الإسلام في مناطق شاسعة. وقد ظهرت مراكز إسلامية على سواحل جوجرات ومليبار وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام.
رابعًا: الوصول إلى أماكن سياسية واقتصادية كبيرة في الشرق:
الشيخ أبو عبيدة بن القاسم البهلوي (ق 2ه): وصل إلى مكانة مرموقة عند الإمبراطور الصيني من أسرة تانج (618- 907م)، وتشير بعض الوثائق إلى أنه كان مندوبًا رسميًّا عن صُحار.
الشيخ عبد الله الصُحاري: (ق 5ه) منحه الإمبراطور الصيني لقب «جنرال الأخلاق الطيبة».وكتب الأديب الصيني سوزاي (من عهد أسرة سون)، أن الشيخ عبد الله قضى في مدينة (قوانتشوا) عشرات السنين، وكانت له ممتلكات وافرة بلغت قيمتها عدة ملايين مين، وهو ما يتجاوز الدخل السنوي للأسرة الحاكمة! والآن هذه المناطق هي أكثر مناطق العالم كثافة للمسلمين!
هذا السلوك العماني الراقي جعلني أفهم بشكل أوسع وأعمق حديث رسول الله r الذي رواه الترمذي، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم، بسند حسن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ r، قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ»[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا