تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان |
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان
المؤلف / الملك محمد صديق حسن خان
دار النشر / دار الكتب العلمية - بيروت- لبنان - 1405-1985
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي كان ولم يكن معه شيء من الأكوان فخلق الأرض والسموات واستوى على العرش وخلق الإنسان وعلمه البيان ثم حكم على الكل بالفناء وقال في الكتاب ) كل من عليها فان ( وسينقلهم إلى البرزخ ومنه إلى دار الجزاء التي نطق بها الحديث وأثبتها القرآن والصلاة والسلام على مصطفاه محمد عبده ورسوله الذي بعثه إلى الخلق أجمعين وختم به الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وبعد
فاعلم أن التاريخ عبارة عن يوم ينسب إليه ما يأتي بعده ويقال أيضا التاريخ عبارة عن مدة معلومة تعد من أول زمن مفروض لتعرف بها الأوقات المحدودة ولا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية والأمور الدينية ولكل أمة من أمم البشر تاريخ تحتاج إليه في معاملاتها وفي معرفة أزمنتها تنفرد به دون غيرها من بقية الأمم وأول الأوائل القديمة وأشهرها هو كون مبدأ البشر ولأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته وسياقة التاريخ منه خلاف لا يجوز مثله في التواريخ وكل ما تتعلق معرفته ببدء الخلق وأحوال القرون السالفة فإنه مختلط بتزويرات وأساطير لبعد العهد وعجز المعتنى به عن حفظه
وقد قال الله سبحانه وتعالى ) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله (
وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذه الآية ويقول كذب النسابون وعن عمرو بن ميمون مثله
وعن أبي مجلز قال قال رجل لعلي بن أبي طالب أنا أنسب الناس قال إنك لا تنسب الناس قال بلى قال علي أرأيت قوله ) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ( قال أنا أنسب ذلك الكثير قال أرأيت قوله ) والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ( فسكت
وعن عروة ابن الزبير قال ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد ابن عدنان
وعن ابن عباس قال ما بين عدنان واسماعيل ثلاثون لا يعرفون
وقال أهل التفسير في هذه الآية عدم العلم من غير الله أما أن يكون راجعا إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم أي هذه الأمور لا يعلمها إلا الله ولا يعلمها غيره أو يكون راجعا إلى ذواتهم أي إنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله تعالى ولم يبلغنا خبرهم أصلا ولا مانع من حمل الآية على الكل فالأولى أن لا يقبل من ذلك إلا ما يشهد به كتاب أنزل من عند الله يعتمد على صحته لم يرد فيه نسخ ولا طرقة تبديل أو خبر ينقله الثقاة
وإذا نظرنا في التاريخ وجدنا فيه بين الأمم خلافا كثيرا وسأتلو عليك من ذلك ما لا أظنك تجده مجموعا في كتاب
والتاريخ كلمة فارسية أصلها ماه روز ثم عربت قال محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف البلخي في كتاب مفاتيح العلوم وهو
كتاب جليل القدر وهذا اشتقاق بعيد لولا أن الرواية جاءت به
وقال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج تاريخ كل شيء آخره وهو في الوقت غايته يقال فلان تاريخ قومه أي إليه ينتهي شرفهم ويقال ورخت الكتاب توريخا وأرخته تاريخا اللغة الأولى لتميم والثانية لقيس
ولكل أهل ملة تاريخ فكانت الأمم تؤرخ أولا بتاريخ الخليقة وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه السلام ثم أرخت بالطوفان وأرهت ببخت نصر وأرخت بفليبس وأرخت بالإسكندر ثم باغشطش ثم بالظينس ثم بدقلطيانوس وبه تؤرخ القبط ثم لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة ثم تاريخ يزدجرد فهذه تواريخ الأمم المشهورة وللناس تواريخ أخرى قد انقطع ذكرها
فأما تاريخ الخليقة
ويقال له ابتداء كون النسل وبعضهم يقول بدء التحرك فإن لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته وسياقة التاريخ منه خلافا كثيرا قال المجوس والفرس عمر العالم اثنا عشر ألف عام على عدد بروج الفلك وشهور السنة وزعموا أن زرادشت صاحب شريعتهم قال أن الماضي من الدنيا إلى وقت ظهوره ثلاثة آلاف سنة مكبة سة الأرباع وبين ظهور زرادشت وأول تاريخ الإسكندر ثلاثة آلاف ومائتا سنة وثمان وخمسون سنة
وإذا حسبنا من أول يوم كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأول وجمعنا مدة كل من ملك بعده فإن الملك ملصق فيهم غير منقطع عنهم كان العدد منه إلى الإسكندر ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربعا وخمسين سنة فإذا لم يتفق التفصيل مع الجملة قال قوم الثلاثة الآلاف الماضية إنما هي من خلق كيومرت فإنه مضى قبله ألف سنة والفلك فيها واقف غير متحرك والطبائع غير مستحيلة والأمهات غير متمازجة والكون والفساد غير
موجود فيها والأرض غير عامرة فلما تحرك الفلك حدث الإنسان الأول في معدل النهار وتولد الحيوان وتوالد وتناسل الإنس فكثروا وامتزجت أجزاء العناصر للكون والفساد فعمرت الدنيا وانتظم العلم
وقال اليهود الماضي من آدم إلى الإسكندر ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان وأربعون سنة
وقال النصارى المدة بينهما خمسة آلاف ومائة وثمانون سنة وزعموا أن اليهود نقصوها ليقع خروج عيسى بن مريم عليه السلام في الألف الرابع وسط السبعة الآلاف التي هي مقدار العالم عندهم حتى تخالف ذلك الوقت الذي سبقت البشارة من الأنبياء الذين كانوا بعد موسى ابن عمران عليه السلام بولادة المسيح عيسى وإذا جمع ما في التوراة التي بيد اليهود من المدة التي بين آدم عليه السلام وبين الطوفان كانت ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة وعند النصارى في إنجيلهم ألفان ومائتا سنة واثنتان وأربعون سنة
وتزعم اليهود أن توراتهم بعيدة عن التخاليط وتزعم النصارى أن توراة السبعين التي هي بأيديهم لم يقع فيها تحريف ولا تبديل وتقول اليهود فيها خلاف ذلك وتقول السامرية بأن توراتهم هي الحق وما عداها باطل وليس في اختلافهم ما يزيل الشك بل يقوي الجالبة له وهذا الإختلاف بعينه بين النصارى أيضا في الإنجيل وذلك أن له عند النصارى أربع نسخ مجموعة في مصحف واحد أحدها إنجيل متى والثاني لمارقوس والثالث للوقا والرابع ليوحنا
قد ألف كل من هؤلاء الأربعة إنجيلا على حسب دعوته في بلاده
وهي مختلفة إختلافا كثيرا حتى في صفات المسيح عليه السلام وأيام دعوته ووقت الصلب بزعمهم وفي نسبه أيضا وهذا الإختلاف لا يحتمل مثله ومع هذا فعند كل من أصحاب مرقيون وأصحاب ابن ويصان إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل ولأصحاب ماني إنجيل على حدة يخالف ما عليه النصارى من أوله إلى آخره ويزعمون أنه هو الصحيح وما عداه باطل ولهم
أيضا إنجيل يسمى إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس والنصارى وغيرهم ينكرونه
وإذا كان الأمر من الإختلاف بين أهل الكتاب كما قد رأيت
ولم يكن للقياس والرأي مدخل في تمييز حق ذلك من باطله امتنع الوقوف على حقيقة ذلك من قبلهم ولم يعول على شيء من أقوالهم فيه
وأما غير أهل الكتاب فإنهم أيضا مختلفون في ذلك
قال أشوس بين خلق آدم وبين ليلة الجمعة أول الطوفان ألفا سنة ومئتا سنة و ست وعشرون سنة وثلاثة وعشرون يوما وأربع ساعات
وقال ماشاه واسمه منشا بن أثرى منجم المنصور والمأمون في كتاب القرانات أول قران وقع بين زحل والمشتري في بدء التحرك يعني ابتداء النسل من آدم كان على مضي خمسمائة وتسع سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما مضت من ألف المريخ فوقع القرآن في برج الثور من المثلثة الأرضية على سبع درج واثنتين وأربعين دقيقة وكان انتقال القمر من برج الميزان والمثلثة الهوائية إلى برج العقرب والمثلثة المائية بعد ذلك بألفي سنة وأربعمائة سنة وإثنتي عشرة سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوما ووقع الطوفان في الشهر الخامس من السنة الأولى من القرآن الثاني من قرانات هذه المثلثة المائية وكان بين وقت القران الأول الكائن في بدء التحرك وبين الشهر الذي كان فيه الطوفان ألفان وأربعمائة وثلاث وعشرون سنة وستة أشهر واثنا عشر يوما قال وفي كل سبعة آلاف سنة وسنتين وعشرة أشهر وستة أيام يرجع القران إلى موضعه من برج الثور الذي كان في بدء التحرك وهذا القول أعزك الله هو الذي اشتهر حتى ظن كثير من أهل الملل أن مدة بقاء الدنيا سبعة آلاف سنة فلا تغتر به وتنبه إلى اصله تجده أوهن من بيت العنكبوت فاطرحه
وقيل كان بين آدم وبين الطوفان ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وقيل كانت بينهما مدة ألفين ومائتين وست وخمسين سنة وقيل ألفان وثمانون سنة
وأما تاريخ الطوفان
فإنه يتلو تاريخ الخليقة وفيه من الإختلاف ما لا يطمع في حقيقته من أجل الإختلاف فيما بين آدم وبينه وفيما بينه وبين تاريخ الإسكندر
فإن اليهود عندهم أن بين الطوفان وبين الإسكندر ألفا وسبعمائة واثنتين وتسعين سنة وعند النصارى بينهما ألفا سنة وتسعمائة وثمان وثلاثون سنة والفرس وسائر المجوس والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب ولم يعم العمران كله ولا غرث إلا بعض الناس ولم يتجاوز عقبة حلوان ولا بلغ إلى ممالك المشرق ولم يعم العمران ممالك المشرق
قالوا ووقع في زمان طهمورت أن أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه ولما بلغ طهمورت الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة فوجد ذلك بأصفهان فأمر بتجليد العلوم ودفنها فيها في أسلم المواضع ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلاثمائة من سني الهجرة في حي من مدينة أصفهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعدالا عدة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسي وتسمى التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي
وأما المنجمون فإنهم صححوا هذه السنين من القران الأول من قرانات العلويين زحل والمشتري التي أثبت علماء أهل بابل والكلدانين مثلها إذ كان الطوفان ظهوره من ناحيتهم فإن السفينة استقرت على الجودي وهو غير بعيد من تلك النواحي
قالوا وكان هذا القران قبل الطوفان بمائتين وعشر ين سنة ومائة وثمانية أيوام واعتنوا بأمرها وصححوا ما بعدها فوجدوا ما بين الطوفان وبين أول ملك بخت نصر الأول الفي سنة وستمائة وأربع سنين وبين
بخت نصر هذا وبين الإسكندر أربعمائة وست وثلاثون سنة وعلى ذلك بني أبو معشر أوساط الكواكب في زيجه وقال كان الطوفان عند اجتماع الكواكب في آخر برج الحوت وأول برج الحمل وكان بين وقت الطوفان وبين تاريخ الإسكندر قدر ألفي سنة وسبعمائة وتسعين سنة مكبوسة وسبعة أشهر وستة وعشرين يوما وبينه وبين يوم الخميس أول المحرم من السنة الأولى من سني الهجرة النبوية ألف ألف يوم وثلاثمائة ألف يوم وتسعة وخمسون ألف يوم وتسعمائة يوم وثلاثة وسبعون يوما يكون من السنين الفارسية المصرية ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة وخمس وعشرون سنة وثلاثمائة يوم وثمانية وأربعون يوما
ومنهم من يرى أن الطوفان كان يوم الجمعة وعند أبي معشر أنه كان يوم الخميس ولما تقرر عنده الجملة المذكورة وخرجت له المدة التي تسمى أدوار الكواكب وهي بزعمهم ثلاثمائة ألف وستون ألف سنة شمسية وأولها مقدم على وقت الطوفان بمائة ألف وثمانين ألف سنة شمسية حكم بأن الطوفان كان في مائة ألف وثمانين ألف سنة وسيكون فيما بعد كذلك ومثل هذا لا يقبل إلا بحجة أو من معصوم
وأما تاريخ بخت نصر
فإنه على سني القبط وعليه يعمل في استخراج مواضع الكواكب من كتاب المجسطي ثم أدوار قالليس وأول أدواره في سنة ثماني عشرة وأربعمائة لبخت نصر وكل دور منها ست وسبعون سنة شمسية
وكان قالليس من جملة أصحاب التعاليم وبخت نصر هذا ليس هو الذي خرب بيت المقدس وإنما هو آخر كان قبل بخت نصر مخرب بيت المقدس بمائة وثلاث وأربعين سنة وهو إسم فارسي أصله بخت برسي ومعناه كثير البكاء والأنين ويقال له بالعبرانية نصار وقيل تفسيره عطارد وهو ينطق وذلك لتجنبه عن الحكمة وتغريب أهلها ثم عرب فقيل بخت نصر
وأما تاريخ فيلبش
فإنه على سني القبط وكثيرا ما يستعمل هذا التاريخ من موت الإسكندر البناء المقدوني وكلا الأمرين سواء فإن القائم بعد إلبناء هو فيلبش فسواء كان من موت الأول أو من قيام الآخر فإن الحالة المؤرخة هي كالفصل المشترك بينهما
وفيلبش هذا هو أبو الإسكندر المقدوني ويعرف هذا التاريخ بتاريخ الإسكندرانين وعليه بنى تاون الإسكندراني في تاريخه المعروف بالقانون والله أعلم
وأما تاريخ الإسكندر
فإنه على سني الروم وعليه يعمل أكثر الأمم إلى وقتنا هذا من أهل الشام وأهل بلاد الروم وأهل المغرب والأندلس والإفرنج واليهود
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتي تاريخ الإسكندر اليوناني الذي يلقبه بعضهم بذي القرنين على سني الروم وعليه عمل أكثر الأمم لما خرج من بلاد يونان وهو ابن ست وعشرين سنة لقتال دارا ملك الفرس
ولما ورد بيت المقدس أمر اليهود بترك تاريخ داود وموسى عليهما السلام والتحول إلى تاريخه فأجابوه وانتقلوا إلى تاريخه واستعملوه فيما يحتاجون إليه بعد أن عملوه من السنة السادسة والعشرين لميلاده وهو أول وقت تحركه ليتموا ألف سنة من لدن موسى عليه السلام وبقوا معتصمين بهذا التاريخ ومستعملين له وعليه عمل اليونانيين وكانوا قبله يؤرخون بخروج يونان بن نورس عن بابل إلى المغرب
وأول تاريخ الإسكندر يوم الإثنين أول تشرين الأول وموافقه اليوم الرابع من بابه ومبادي الأيام عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها إلى أن يصبح الصباح وتطلع الشمس فقد كمل بليلة ومبادي الشهور
ترجع إلى عدد واحد له نظم يجري عليه دائما شهور سنتهم اثنا عشر شهرا يخالف بعضها بعضا في العدد وهذه أسماؤها وعدد أيام كل شهر منها تشرين الأول أحد وثلاثون يوما تشرين الثاني ثلاثون يوما كانون الأول أحد وثلاثون يوما كانون الثاني أحد وثلاثون يوما شباط ثمانية وعشرون يوما وربع آذار أحد وثلاثون يوما نيسان ثلاثون يوما أيار أحد وثلاثون يوما حزيران ثلاثون يوما تموز أحد وثلاثون يوما آب أحد وثلاثون يوما أيلول ثلاثون يوما وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما وربع يوم وذلك أنهم جعلوا شباط كل ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما وربع يوم وجعلوه في السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما فيكون عدد أيام سنتهم ثلاثمائة وخمسة وستين يوما ويجعلون السنة الرابعة ثلاثمائة وستة وستين يوما و يسمونها السنة الكبيسة وإنما زادوا الربع في كل سنة ليقرب عدد أيام سنتهم من عدد أيام السنة الشمسية حتى تبقى أمورهم على نظام واحد فتكون شهور البرد وشهور الحر وأوان الزرع ولقاح الشجر وجني الثمر في وقت معلوم من السنة لا يتغير وقت شيء من ذلك البتة
وكان ابتداء الكبيس في السنة الثالثة من ملك الإسكندر وبين يوم الإثنين أول يوم من تاريخ الإسكندر هذا وبين يوم الخميس أول شهر المحرم من السنة التي هاجر نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مكة إلى المدينة تسعمائة سنة وثلاث وثلاثون سنة ومائة وخمسة يوما وبينه وبين يوم الجمعة أول يوم من الطوفان ألفا سنة وسبعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة ومائة وثلاثة وتسعون يوما وبين ابتداء ملك بخت نصر وبين أول تاريخ الإسكندر أربعمائة وخمس وثلاثون سنة شمسية ومائتا يوم وثمانية وثلاثون يوما
قال أبو بكر أحمد بن علي في كتاب الفلاحة النبطية أن شهورهم هذه كل واحد منها اسم رجل فاضل عالم
قف التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في
كتابه فقال ) ويسألونك عن ذي القرنين ( الآيات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب وأن اسمه الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد بن دلدار فخشد بن سام بن نوح عليه السلام وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب العاربة ويقال لهم أيضا العرب العرباء
وكان ذو القرنين تبعا متوجا ولما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله واجتمع بالخضر وقد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبش هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو عربية وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن وذاك رومي يوناني
قال أبو جعفر الطبري وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة أهل الكتاب الأول وقبل موسى بن عمران عليه السلام
وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه السلام
وقال آخرون إن ذا القرنين هذا هو أفريدون
وقال عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين إجتمع بالخضر في بيت المقدس وسار معه مشارق الأرض ومغاربها وأوتي من كل شيء سببا كما أخبر الله تعالى وبنى السد على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق
وأما الإسكندر فإنه يوناني ويعرف بالمجدوني ويقال المقدوني
وسئل ابن عباس عن ذي القرنين ممن كان فقال من حمير قيل له فالإسكندر قال كان روميا حكيما بنى على البحر في أفريقية منارا وأخذ أرض رومة وأتى بحر الغرب وأكثر من عمل المصانع والمدن
وسئل كعب الأحبار عنه فقال الصحيح عندنا من أخبارنا وأسلافنا
أنه من حمير والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن اسحاق ابن إبراهيم ورجال الإسكندر أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس وأرسطا طاليس
وقال الرازي في التفسير ومما يعترض به على من قال إن الإسكندر هو ذو القرنين أن معلم الإسكندر كان أرسطا طاليس بأمره يأتمر وبنهيه ينتهي
واعتقاد أرسطا طاليس مشهور وذو القرنين نبي فكيف يقتدي بنبي بأمر كافر في هذا أشكال
وقال الجاحظ في كتاب الحيوان أن ذا القرنين كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رجلا ينادي رجلا يا ذا القرنين قال أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة وكان علي إذا ذكره قال ذلك الملك الأمرط انتهى
قلت وفي ذي القرنين أقاويل كثيرة ذكرتها في فتح البيان في مقاصد القرآن تفسير لي في أربعة مجلدات
وأما تاريخ أغشطش
فإنه لا يعرف اليوم أحد يستعمله وأغشطش هذا هو أول القياصرة ومعنى قيصر بالرومية شق عنه فإن أغشطش هذا لما حملت به أمه ماتت في المخاض فشق بطنها حتى أخرج منه فقبل قيصر به يلقب من بعده من ملوك الروم ويزعم النصارى أن المسيح عليه السلام ولد لأربعين سنة من ملكه وفي هذا القول نظر فإنه لا يصح عند سياقة السنين والتواريخ بل يجيء تعديل ولادته عليه السلام في السنة السابعة عشرة من ملكه
وأما تاريخ الظينس
فإن بطليموس صحح الكواكب الثابتة في كتابه المعروف بالمجسطي لأول ملكه على الروم وسنو هذا التاريخ رومية
ذكر السنة الشمسية والقمرية
هي عبارة عن عود الشمس في فلك البروج إذا تحركت على خلاف حركة الكل إلى أي نقطة فرضت إبتداء حركتها وذلك أنها تستو في الأزمنة الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء وتحوز طبائعها الأربع وتنتهي إلى حيث بدأت
وفي هذه المدة يستوفي في القمر اثنتي عشرة وأقل من نصف عودة ويستهل اثنتي عشرة عودة مرة فجعلت المدة التي فيها عودات القمر الإثنتا عشرة في فلك البروج سنة للقمر على جهة الإصلاح وأسقط الكسر الذي هو أحد عشر يوما بالتقريب فصارت السنة على قسمين سنة شمسية وسنة قمرية لوجميع من على وجه الأرض من الأمم أخذوا تواريخ سنيهم من مسير الشمس والقمر فالآخذون بسير الشمس خمس أمم اليونانيون والسريانيون والقبط والروم والفرس والآخذون بسير القمر خمس أمم هم العرب اليهود والنصارى والمسلمون والهند فأهل قسطنطينية والإسكندرية وسائر الروم والسريانيون والكلدانيون وأهل مصر ومن يعمل برأي المعتضد أخذوا بالسنة الشمسية التي هي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب وصيروا السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وألحقوا الأرباع بها في كل أربع سنين يوما حتى أنجبرت السنة وسموا تلك السنة كبيسة لإنكباس الأرباع فيها
وأما قبط مصر القدماء فإنهم كانوا يتركون الأرباع حتى يجتمع منها أيام سنة تامة وذلك في كل ألف وأربعمائة وستين سنة ثم يكسبونها سنة
واحدة وينفقون حينئذ في أول تلك السنة مع أهل الإسكندرية وقسطنطينية
وأما الفرس فإنهم جعلوا السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما من غير كبس حتى اجتمع لهم من ربع اليوم في مائة وعشرين سنة أيام شهر تام ومن خمس الساعة الذي يتبع ربع اليوم عندهم يوم واحد فألحقوا الشهر التام بها في كل مائة وست عشرة سنة واقتضى أثرهم في هذا أهل خوارزم القدماء والصغد ومن دان بدين فارس
وكانت الملوك البيشدادية منهم وهم الذين ملكوا الدنيا بحذافيرها يعملون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما كل شهر منها ثلاثون يوما سواء وكانوا يكبسون السنة كل ست سنين بشهر ويسمونها كبيسة وكل مائة وعشرين سنة بشهر أحدهما بسبب خمسة الأيام والثاني بسبب ربع اليوم وكانوا يعظمون تلك السنة ويسمونها المباركة
وأما قدماء القبط وأهل فارس في الإسلام وأهل خوارزم والصغد فتركوا الكسور أعني الربع وما يتبعه أصلا
وأما العبرانيون وجميع بني إسرائيل والصابئون والحرانيون فإنهم أخذوا السنة من مسير الشمس وشهورها من مسير القمر لتكون أعيادهم وصيامهم على حساب قمري وتكون مع ذلك حافظة لأوقاتها من السنة فكبسوا كل تسع عشرة سنة قمرية بستة أشهر ووافقهم النصارى في صومهم وبعض أعيادهم لأن مدار أمرهم على نسخ اليهود وخالفوهم في الشهور إلى مذهب الروم والسريانيين
وكانت العرب في جهالتها تنظر إلى فضل ما بين سنتهم وسنة القمر وهو عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمس ساعة فيلحقون ذلك بها شهرا كلما تم منها ما يستوفي أيام شهر ولكنهم كانوا يعملون على أنه عشرة أيام وعشرون ساعة وكان يتولى ذلك النسأة من بني كنانة المعرفون بالقلامس واحدهم قلمس وهو البحر الغزير وهو أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع وأول من فعل ذلك منهم حذيفة بن عبد فقيم وآخر من فعله أبو ثمامة
واخذ العرب الكبس من اليهود قبل مجيء دين الإسلام بنحو مائتي سنة وكانوا يكبسون في كل أربع وعشرين سنة تسعة أشهر حتى تبقى أشهر السنة ثابتة مع الأزمنة على حالة واحدة لا تتأخر عن أوقاتها ولا ولا تتقدم إلى أن حج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنزل الله تعالى ) إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ( فخطب {صلى الله عليه وسلم} إن الزمان قد استدار كهيأة يوم خلق الله السموات والأرض فبطل النسى ء وزالت شهور العرب عما كانت عليه وصارت أسماؤها غير دالة على معانيها
وأما أهل الهند فإنهم يستعملون رؤية الأهلة في شهورهم ويكبسون كل تسعمائة سنة وسبعين يوما بشهر قمري ويجعلون ابتداء تاريخهم اتفاق اجتماع في أول دقيقة من برج ما وأكثر طلبهم لهذا الإجتماع أن يتفق في إحدى نقطي الاعتدالين ويسمون السنة الكبيسة بذمات فهذه آراء الخليقة في السنة
ذكر الأيام
اليوم عبارة عن عود الشمس بدوران الكل إلى دائرة قد فرضت وقد اختلف فيه فجعله العرب من غروب الشمس إلى غروبها من الغد ومن أجل أن شهور العرب مبينة على مسير القمر وأوائلها مقيدة برؤية الهلال والهلال يرى لدن غروب الشمس صارت الليلة عندهم قبل النهار
وعند الفرس والروم اليوم بليلة من طلوع الشمس بارزة من أفق المشرق إلى وقت طلوعها من الغد فصار النهار عندهم قبل الليل واحتجوا على قولهم بأن النور وجود والظلمة عدم والحركة تغلب على السكون لأنها وجود لا عدم ولا حياة ولا موت والسماء أفضل من الأرض والعامل الشاب أصح والماء الجاري لا يقبل عفونة كالراكد واحتج
الآخرون بأن الظلمة أقدم من النور والنور طار عليها فالإقدام يبدأ به وغلبوا السكون على الحركة بإضافة الراحة والدعة إليه وقالوا الحركة إنما هي الحاجة والضرورة والتعب نتيجة الحركة والسكون إذا دام في استقصاآت مدة لم يولد فسادا فإذا دامت الحركة في الإستقصاآت واستحكمت أفسدت وذلك كالزلازل والعواصف والأمواج وشبهها
وعند أصحاب التنجيم أن اليوم بليلة من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في الغد وذلك من وقت الظهر إلى وقت العصر وبنوا على ذلك حساب أزياجهم وبعضهم ابتدأ باليوم من نصف الليل وهو صاحب زيج شهربار أز انساه وهذا هو حد اليوم على الإطلاق إذا اشترط الليلة في التركيب فأما على التفصيل فاليوم بانفراده والنهار بمعنى واحد وهو من طلوع جرم الشمس إلى غروب جرمها والليل خلاف ذلك وعكسه وحد بعضهم أول النهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشمس لقوله تعالى ) وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ( وقال هذان الحدان هما طرفا النهار
وعورض بأن الآية إنما فيها بيان طرفي الصوم لا تعريف أول النهار وبأن الشفق من جهة المغرب نظير الفجر من جهة المشرق وهما متساويان في العلة فلو كان طلوع الفجر أول النهار لكان غروب الشفق آخره وقد التزم ذلك بعض الشيعة فنقول تاريخ القبط يعرف عند نصارى مصر الآن بتاريخ الشهداء ويسميه بعضهم تاريخ دقلطيانوس وهو أحد ملوك الروم المعروفه بالقياصرة ملك في منتصف سنة خمس وتسعين وخمسمائة من سني الإسكندر وكانت أيامه شنعة قتل فيها من أصناف الأمم وهدم من بيوت العبادات ما لا يدخل تحت حصر وكان بين يوم الجمعة أول يوم من تاريخ دقلطيانوس وبين يوم الخميس أول يوم من سنة الهجرة النبوية ثلاثمائة وثمان وثلاثون سنة قمرية وتسعة وثلاثون يوما وجعلوا شهور السنة القبطية اثني عشر شهرا كل شهر
منها عددة ثلاثون يوما سواء فإذا تمت الأشهر الإثنا عشر أتبعوها بخمسة أيام زيادة على عدد أيامها وسمو هذه الخمسة أبو عمنا وتعرف اليوم بأيام النسى ء فيكون الحال في النسى ء على ذلك وثلاث سنين متواليات فإذا كان في السنة الرابعة جعلوا النسيء ثلاث سنين متواليات كل سنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما والرابعة يصير عددها ثلاثمائة وستة وستين يوما ويرجع حكم سنتهم إلى حكم سنة اليونانين بأن تصير سنتهم الوسطى ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم إلا أن الكبس يختلف فإذا كان كبس القبط في سنة كان كبس اليونانين في السنة الداخلة وأسماء شهور القبط توت بابه هتور كيهك طوبه امشير برمهات برموده بشنش بودنة ابيب مسرى فهذه اثنا عشر شهرا كل شهر منها عدده ثلاثون يوما وإذا كانت عدة شهر مسرى وهو الشهر الثاني عشر زادوا أيام النسى ء بعد ذلك وعملوا النوروز أول يوم من شهر توت
ذكر أسابيع الأيام
أعلم أن القدماء من الفرس والصغد وقبط مصر الأول لم يكونوا يستعملون الأسابيع من الأيام في الشهور وأول من استعملها أهل الجانب الغربي من الأرض لا سيما أهل الشام وما حواليه من أجل ظهور الأنبياء عليهم السلام فيما هنالك وأخبارهم عن الأسبوع الأول وبدء العالم فيه وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام من الأسبوع الأول وبدء العالم فيه وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام من الأسبوع ثم انتشر ذلك منهم في سائر الأمم واستعمله العرب العاربة بسبب تجاور ديارهم وديار أهل الشام فإنهم كانوا قبل تحولهم إلى اليمن ببابل وعندهم أخبار نوح عليه السلام
ثم بعث الله تعالى إليهم هودا ثم صالحا عليهما السلام وانزل فيهم إبراهيم خليل الرحمن وابنه اسماعيل عليهما السلام فتعرب اسماعيل وكانت القبط الأول تستعمل أسماء الأيام الثلاثين من كل شهر فتجعل لكل يوم منها اسما كما هو العمل في تاريخ الفرس
ومازالت القبط على هذا إلى أن ملك مصر اغشطش بن بوحس فأراد أن يحملهم على كبس السنين ليوافقوا الروم أبدا فيها فوجدوا الباقي حينئذ إلى تمام السنة الكبيسة الكبرى خمس سنين فانتظر حتى مضى من ملكه خمس سنين ثم حملهم على كبس الشهور في كل أربع سنين بيوم كما تفعل الروم فترك القبط من حينئذ استعمال أسماء الأيام الثلاثين لاحتياجهم في يوم الكبس إلى إسم يخصه
وانقرض بعد ذلك مستعملوا أسماء الأيام الثلاثين من أهل مصر والعارفون بها ولم يبق لها ذكر يعرف في العالم بين الناس بل دثرت كما دثر غيرها من أسماء الرسوم القديمة والعادات الأول ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ( وكانت أسماء شهور القبط في الزمن القديم توت بودني أنور سواق طوبى ماكير فامينوت برموتي ماجون ياوني افيعي أبقيا وكل شهر منها ثلاثون يوما ولكل يوم اسم يخصه ثم أحدث بعض رؤساء القبط بعد استعمالهم الكبس الأسماء التي هي اليوم متداولة بين الناس بمصر إلا أن من الناس من يسمى كيهك كياك ويقول في برهمات برمهوت وفي بشنس بشاش وفي مسرى ماسوري ومن الناس من يسمي الخمسة الأيام الزائدة أيام النسى ء ومنهم من يسميها أبو عمنا ومعنى ذلك الشهر الصغير وهي كما تقدم تلحق في آخر مسرى وفيه يزداد اليوم الكبيس فيكون ستة أيام حينئذ ويسمون السنة الكبيسة النقط ومعناه العلامة من خرافات القبط أن شهورهم هي شهور سني نوح وشيث وآدم منذ ابتداء العالم وإنها لم تزل على ذلك إلى أن خرج موسى ببني اسرائيل من مصر فعملوا أول سنتهم خامس عشر نيسان كما أمروا به في التوراة إلى أن نقل الإسكندر رأس سنتهم إلى أول تشرين
وكذلك المصريون نقل بعض ملوكهم أول سنتهم إلى أول يوم من ملكه فصار أول توت عندهم يتقدم أول يوم خلق فيه العالم بمائتين وثمانية أيام أولها يوم الثلاثاء وآخرها يوم السبت
وكان توت أوله في ذلك الوقت يوم الأحد وهو أول يوم خلق الله فيه العالم الذي يقال له الآن تاسع عشري برمهات وذلك أن أول من ملك على الأرض بعد الطوفان نمرود بن كنعان بن حازم بن نوح فعمر بابل وهو أبو الكلدانيين وملك بنو مصر أيم بن حام بن نوح عليه السلام متش فبنى منف بمصر على النيل وسماها باسم جده مصر أيم وهو ثاني ملك ملك على الأرض وهذان الملكان استعملا تاريخ جدهما نوح عليه السلام واستن بسنتهم من جاء بعدهم حتى تغيرت كما تقدم
قال المقريزي في الخطط في ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية إني قد استخرجت حساب السنين الشمسية والسنين القمرية من القرآن الكريم بعدما عرضته على أصحاب التفسير فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي وهو أن الله تعالى قال في سورة الكهف ) ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( فلم أجد أحدا من المفسرين عرف معنى قوله ) وازدادوا تسعا ( وإنما خاطب الله عز وجل نبيه {صلى الله عليه وسلم} بكلام العرب وما تعرفه من الحساب فمعنى هذا التسع أن الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم ومن كان لا يعرف السنين القمرية فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمرية زيادة التسع كانت سنين شمسية صحيحة
تاريخ العرب
فإنه لم يزل في الجاهلية والإسلام يعمل بشهور الأهلة وعدة شهور السنة عندهم اثنا عشر شهرا إلا أنهم اختلفوا في أسمائها فكانت العرب العاربة تسميها ناتق و نقيل وطليق و أسخ و أنخ و حلك و كسح و زاهر و نوط و حرف و يغش فناتق هو المحرم ونقيل هو صفر وهكذا ما بعده على سرد الشهور وكانت ثمود تسميها موجب وموجر و مورد
و ملزم و مصدر وهوبر و هوبل و موها و ودمير و دابر و حيقل و مسيل فموجب هو المحرم وموجر صفر إلا أنهم كانوا يبدأون بالشهور من ديمر وهو شهر رمضان فيكون أول شهور السنة عندهم
ثم كانت العرب تسميها بأسماء أخرى وهى موتمر و ناجر و خوان و صوان و حنم و زبا و الأصم و عادل و وبابق و واغل و هواع و برك
ومعنى المؤتمر أنه يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها
وناجر من النجر وهو شدة الحر
وخوان فعال من الخيانة
وصوان بكسر الصاد وضمها فعال من الصيانة
والزبا الداهية العظيمة المتكاثفة سمي بذلك لكثرة القتال فيه ومنهم من يقول بعد صوان الزبا وبعد الزبا بائدة وبعد بائدة الأصم ثم واغل وباطل وعادل ورنة وبرك فالبائد من القتال إذ كان فيه يبيد كثير من الناس وجرى المثل فقيل العجب كل العجب بين جمادى ورجب وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ النار والغارات قبل رجب فإنه شهر الحرام ويقولون له الأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت سلاح
والواغل الداخل على شرب ولم يدعوه وذلك لأنه يهجم على شهر رمضان وكان يكثر في شهر رمضان شربهم الخمر لأن الذي يتلوه هي شهور الحج
وباطل هو مكيال الخمر سمي به لإفراطهم فيه في الشرب وكثرة استعمالهم لذلك المكيال
وأما العادل فهو من العدل لأنه من أشهر الحج وكانوا يشتغلون فيه عن الباطل
وأما الزبا فلأن الأنعام كانت تزب فيه لقرب النحر
وأما برك فهو لبروك الإبل إذا حضرت المنحر
وقد روي أنهم كانوا يسمون المحرم مؤتمر وصفر ناجر وربيع الأول نصار وربيع الآخر خوان وجمادى الأول حمتن وجمادي الأخرى الرنة ورجب الأصم وهو شهر مضر وكانت العرب تصومه في الجاهلية وكانت تمتاز فيه وتمير أهلها وكان يأمن بغضهم بغضا فيه ويخرجون إلى الأسفار ولا يخافون وشعبان عادل ورمضان ناتق وشوال واغل وذو القعدة هواع وذو الحجة برك ويقال فيه أيضا أبروك وكانوا يسمونه المأمون
ثم سمت العرب أشهرها بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجة واشتقوا أسماءها من أمور اتفق وقوعها عند تسميتها فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال وصفر كانت تصفر فيه بيوتهم لخروجهم إلى الغزو وشهرا ربيع كأنا زمن الربيع وشهرا جمادى كانا يجمد فيهما الماء لشدة البرد ورجب الوسط وشعبان يشعب فيه القتال ورمضان من الرمضاء لأنه كان يأتي فيه القيظ وشوال تشيل فيه الإبل أذنابها وذو القعدة لقعودهم في دورهم وذو الحجة لأنه شهر الحج وأنت إذا تأملت اشتقاق أسماء شهور الجاهلية أولا ثم اشتقاقها ثانيا تبين ذلك أن بين التسميتين زمانا طويلا فإن صفر في أحدهما هو صميم الحروب وفي الآخر رمضان ولا يمكن ذلك في وقت واحد أو وقتين متقاربين
وكانت العرب أولا تستعمل هذه الشهور على نحو ما يستعمله أهل الإسلام إما بطريق آلهي أو لأن العرب لم يكن لها دراية بمراعاة حساب الحركات النيرين فاحتاجت إلى استعمال مبادئ الشهور لرؤية الأهلة وجعلت زمان الشهر بحسب ما يقع بين كل هلالين فربما كان بعض الشهور تاما أعني ثلاثين يوما وربما كان ناقصا أعني تسعة
وعشرين يوما وربما كانت أشهرا متوالية تامة أكثرها أربعة وهذا نادر وربما كانت أشهرا متوالية ناقصة أكثرها ثلاثة وكان يقع حج العرب في أزمنة السنة كلها وهو أبدا عاشر ذي الحجة من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
فإذا انقضى موسم الحج تفرقت العر ب طالبة أماكنها وأقام أهل مكة بها فلم يزالوا على ذلك دهرا طويلا إلى أن غيروا دين إبراهيم وإسماعيل فأحبوا أن يتوسعوا في معيشتهم ويجعلوا حجهم في وقت إدراك شغلهم من الأدم والجلود والثمار ونحوها وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الأزمنة وأخصبها فتعلموا كبس الشهور من اليهود الذين نزلوا يثرب من عهد شمويل نبي بني إسرائيل وعلموا النسئ قبل الهجرة بنحو مائتي سنة وكان الذي يلي النسئ يقال له القلمس يعني الشريف
وقد اختلف في أول من أنسأ الشهور منهم فقيل القلمس هو عدي بن زيد وقيل القلمس هو سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة وأنه قال أرى شهور الأهلة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وأرى شهور العجم ثلاثمائة وخمسة وستين يوما فبيننا وبينهم أحد عشر يوما ففي كل ثلاث سنين ثلاثة وثلاثين يوما وفي كل ثلاث سنين شهر وكان إذا جاءت ثلاث سنين قدم الحج في ذي القعدة فإذا جاءت ثلاث سنين أخر في المحرم
وكانت العرب إذا حجت قلدت الإبل النعل وألبستها الجلال وأشعرتها فلا يتعرض لها أحد إلا خثعم
وكان النسئ في بني كنانة ثم في بني ثعلبة بن مالك بن كنانة
وكان الذي يلي ذلك منهم أبو ثمامة المالكي ثم من بني فقيم وبنو فقيم هم النسأة وهو منسئ الشهور وكان يقوم على باب الكعبة فيقول إن آلهتكم العزى قد أنسأت صفر الأول وكان يحله عاما ويحرمه عاما وكان أتباعهم على ذلك غطفان وهوازن وسليم وتميم وآخر النسأة
جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم وقيل القلمس هو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة ابن الحارث بن مالك بن كنانة ثم توارث ذلك منه بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فأحل لهم من الشهور وحرم فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم وكان إذا أراد أن ينسئ منها شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفرا فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة فإذا أرادوا الهدي اجتمعوا إليه فقال اللهم إني لا أجاب ولا أعاب في أمري والأمر لما قضيت اللهم إني قد أحللت دماء المحلين من طيء وخثعم فاقتلوهم حيث ثقفتموهم أي ظفرتم بهم اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأول وأنسأت الآخر من العام المقبل وإنما أحل دم طيء وخثعم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الشهر الحرام من بين جميع العرب وقيل أول من أنسأ سرير بن ثعلبة وانقرض فأنسأ من بعده ابن أخيه القلمس واسمه عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث ابن كنانة ثم صار النسيء في ولده وكان آخرهم أبو ثمامة جنادة وقيل عوف بن أمية بن قلع عن أبيه أمية بن قلع عن جده قلع بن عباد عن جد أبيه عباد بن حذيفة عن جد جده حذيفة بن عبد بن فقيم وكان يقال لحذيفة القلمس وهو أول من أنسأ الشهور على العرب فأحل منها ما أحل وحرم ما حرم ثم كان بعد عوف المذكور ولده أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمدا يقال أنه أنسأ أربعين سنة ولهم يقول عمير بن قيس جذل الطعان يفتخر
وأي الناس لم يسبق بوتر
وأي الناس لم يعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
وقال آخر
أتزعم أني من فقيم بن مالك
لعمري لقد غيرت ما كنت أعلم
لهم ناسئ يمشون تحت لوائه
يحل إذا شاء الشهور ويحرم
وقيل كانت العرب تكبس في كل أربع وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر فكانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جارية على سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتها ولا تتقدم وكان النسيء الأول للمحرم فسمي صفر باسمه وشهر ربيع الأول باسم صفر
ثم والوا بين أسماء الشهور فكان النسيء الثاني بصفر فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضا وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر وعاد إلى المحرم فأعادوا فعلهم الأول وكانوا يعدون أدوار النسيء ويحدون بها الأزمنة فيقولون قد دارت السنون من لدن زمان كذا إلى زمان كذا وكذا دورة فإن ظهر لهم مع ذلك تقدم شهر عن فصل من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس بقية فضل ما بينها وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا
وكان يظهر لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي {صلى الله عليه وسلم} وكانت نوبة النسئ بلغت شعبان فسمي محرما وشهر رمضان صفر
وقيل إن الناسئ الأول نسأ المحرم وجعله كبسا وأخر المحرم إلى صفر وصفر إلى ربيع الأول وكذا بقية الشهور فوقع لهم في تلك السنة عاشر المحرم وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهرا ونقل الحج بعد كل ثلاث سنين شهرا فمضى على ذلك مائتان وعشر سنين وكان انقضاؤها سنة حجة الوداع وكان وقوع الحج في السنة التاسعة من الهجرة عاشر ذي القعدة وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالناسئ ثم حج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في السنة العاشرة حجة الوداع لوقوع الحج فيها عاشر ذي الحجة كما كان في عهد إبراهيم وإسماعيل ولذلك قال {صلى الله عليه وسلم} في حجته هذه إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض يعني رجوع الحج والشهور إلى الوضع وأنزل الله تعالى إبطال النسيء بقوله تعالى ) إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا (
يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم ) فبطل ما أحدثته الجاهلية من النسى ء واستمر وقوع الحج والصوم برؤية الأهلة ولله الحمد
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
وكانت العرب لها تواريخ معروفة عندها قد بادت فما كانت تؤرخ به أن كنانة أرخت من موت كعب بن لؤي حتى كان عام الفيل فأرخوا به وهو عام مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان بين كعب بن لؤي والفيل خمسمائة وعشرون سنة وكان بين الفيل وبين الفجار أربعون سنة ثم عدوا من الفجار إلى وفاة هشام بن المغيرة فكان ست سنين ثم عدوا من وفاة هشام بن المغيرة إلى بنيان الكعبة فكان تسع سنين ثم كان بين بنائها وبين هجرة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمس عشر سنة ثم وقع
التاريخ من الهجرة النبوية
فعن سعيد بن المسيب قال جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ فقال علي بن أبي طالب من يوم هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وترك أرض الشرك ففعله عمر وعن سهل بن سعد الساعدي قال أخطأ الناس في العدد ما عدوا من مبعثه ولا من وفاته إنما عدوا من مقدمه المدينة
وعن عمر ابن عباس قال كان التاريخ من السنة التي قدم فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وقال قرة بن خالد عن محمد كان عند عمر بن الخطاب عامل جاء من اليمن فقال لعمر أما تؤرخون تكتبون في سنة كذا وكذا من شهر كذا وكذا فأراد عمر والناس أن بكتبوا من مبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قالوا من عند وفاته ثم أرادوا أن يكون ذلك من الهجرة ثم قالوا من أي شهر أرادوا أن يكون من رمضان ثم بدا لهم فقالوا من المحرم
وقال ميمون بن مهران رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صك محله شعبان فقال أي شعبان هو أشعبان الذي نحن فيه أو الآتي ثم جمع وجوه الصحابة فقال إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك فقالوا يجب أن يعرف ذلك من رسوم الفرس فعندها استحضر عمر الهرمزان وسأله عن ذلك فقال إن لنا حسابا نسميه ماه روز معناه حساب الشهور والأيام فعربوا الكلمة وقالوا مؤرخ ثم جعلوه اسم التاريخ واستعملوه ثم طلبوا وقتا يجعلونه أولا لتاريخ دولة الإسلام فاتفقوا على أن يكون المبدأ من سنة الهجرة وكانت الهجرة النبوية من مكة إلى
المدينة وقد تصرم من شهور السنة وأيامها المحرم وصفر وأيام من ربيع الأول فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوما وجعلوا التاريخ من أول محرم هذه السنة ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إلى آخر عمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان عشر سنين وشهرين وأما إذا حسب عمره المقدس من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش {صلى الله عليه وسلم} بعدها تسع سنين وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما وكان بين مولده {صلى الله عليه وسلم} وبين مولد المسيح عليه السلام خمس مائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام
ابتداء تاريخ الهجرة
يوم الخميس أول شهر الله المحرم وبينه وبين الطوفان ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما وبينه وبين تاريخ الإسكندر المقدوني الرومي بن فيلبس تسعمائة وإحدى وستون سنة قمرية وأربعة وخمسون يوما تكون من السنين الشمسية تسعمائة واثنتان وثلاثون سنة ومائتان وتسعة وثمانون يوما منها تسعة أشهر وتسعة عشر يوما وبينه وبين تاريخ القبط ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وتسعة وثلاثون يوما
وقال ابن ما شاء الله إن انتقال الممر من الثلاثة الهوائية التي هي برج الجوزاء دولتها إلى برج السرطان ومثلثة المائية التي كانت دولة الإسلام فيها عند تمام سنة آلاف وثلاثمائة وخمس وأربعين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما من وقت القران الأول الواقع في بدء التحرك يعني خلق آدم عليه السلام وغن القرآن من هذه المثلثة وقع في أربع درج ودقيقة واحدة من برج العقرب وهو قران الملة الإسلامية
قال وفي السنة الثانية من هذا القرآن ولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان بين دخول الشمس برج الحمل في هذه السنة وبين أول يوم من سنة الهجرة سنون فارسية عدتها إحدى وخمسون سنة وثلاثة أشهر وثمانية أيام وست عشرة ساعة فكان من وقت الطوفان إلى وقت قران الملة
ثلاثة الآف وتسعمائة واثنتا عشرة سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوما
وزعمت اليهود أن من آدم عليه السلام إلى سنة الهجرة أربعة آلاف واثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر وزعمت النصارى أن بينهما خمسة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة وثلاثة أشهر وزعمت المجوس أعني الفرس أن بينهما أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما
وقد عرفت أن شهور تاريخ الهجرة القمرية وأيام كل سنة منها عدتها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس يوم وجميع الأحكام الشرعية مبنية على رؤية الهلال عند جميع فرق الإسلام ما عدا الشيعة فإن الأحكام مبنية عندهم على عمل شهور السنة بالحساب على ما ذكر المقريزي في ذكر القاهرة وخلفائها
ثم لما احتاج منجمو الإسلام إلى استخراج ما لابد منه من معرفة الاهلة وسمت القبلة وغير ذلك بنوا أزياجهم على التاريخ العربي وجعلوا شهور السنة العربية شهرا كاملا وشهرا ناقصا وابتدأوا بالمحرم اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم فجعلوا المحرم ثلاثين يوما وصفر تسعة وعشرين يوما وربيع الأول ثلاثين يوما وربيع الآخر تسعة وعشرين يوما وجمادي الأولى وثلاثين يوما وجمادى الآخرة تسعة وعشرين يوما ورجب وثلاثين يوما وشعبان تسعة وعشرين يوما ورمضان ثلاثين يوما وشوال تسعة وعشرين يوما وذا القعدة ثلاثين يوما وذا الحجة تسعة وعشرين يوما وزادوا من أجل كسر اليوم الذي هو خمس وسدس يوما في ذي الحجة إذا صار هذا الكسر أكثر من نصف يوم فيكون شهر ذي الحجة في تلك السنة ثلاثين يوما ويسمون تلك السنة كبيسة ويصير عددها ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما ويجتمع في كل ثلاثين من الكبس أحد عشر يوما والله أعلم وسيأتي الكلام على تاريخ الهجرة أوسع من هذا إن شاء الله تعالى
تاريخ الفرس
ويعرف أيضا بتاريخ يزدجر فإنه من ابتداء تملك يزدجر بن شهريار بن كسرى ابرويز أرخ به الفرس من أحل أن يزدجر قام في المملكة بعدما تبدد ملك فارس واستولى عليها النساء والمتغلبون وهو أيضا آخر ملوك فارس وبقتله تمزق ملكهم وأول هذا التاريخ يوم الثلاثاء وبينه وبين تاريخ الهجرة تسع سنين وثلاثمائة وثمانية وثلاثون يوما وأيام سنة هذا التاريخ تنقص عن السنة الشمسية ربع يوم فيكون في كل مائة وعشرين سنة شهر واحد ولهم في كبس السنة آراء ليس هذا موضع إيرادها وعلى هذا التاريخ يعتمد في زماننا أهل العراق وبلاد العجم وهذه أسماء شهورهم فروردين ماردي بهشت خرداد تير شهريور مهرابان آذر دي بهمن اسفندار جعلوا كل شهر منها ثلاثين يوما وزادوا خمسة أيام في آخر اسفندار وسموها خمسة مسترقة ولهم لكل يوم من أيام هذا الشهر اسم معلوم
تاريخ الهند
ويقال له في لسانهم سنبت واساكا فهذه أسماء شهورهم جيت بيساكهه جيهه اساره ساون بهادون كوار كأنك اكهن بوس مماكهه بهاكن وينسب هذا التاريخ إلى بكر ماجيت وهو كبيرهم من بين ملوك الهند ومداره على السنين شمسية كفعل غيرهم من العجم
تاريخ البرطانية
وهم النصارى ملوك الهند اليوم فهو على سني الروم كما تقدم وهذه أسماء شهورهم الإثنى عشر على لغتهم جنيوري فبروري مارج ابريل ماي جون جولاي اكست سبتمر اكتوبر نوفمبر ديسمبر فالأربعة الأشهر
منها وهي ابريل وجون وسبتمبر ونوفمبر ثلاثون يوما والسبعة شهور الباقية ما خلا فبروري إحدى وثلاثون يوما أما فبروري فهو ثمانية وعشرون يوما ويجعلونه في السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما ويسمونها الكبيسة ومبدأ هذا التاريخ من ولادة المسيح بن مريم عليهما السلام والله أعلم ولله عاقبة الأمور
ذكر ابتداء الدول والأمم
والكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر
أعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أموره وعلم ما يحدث لهم من حياة و موت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة البشر مجبولة عليه ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة
ولقد نجد في المدن صنفا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فيقفون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لنم يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة
وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم وطرق الحصى والحبوب ويسمونه الحاسب ونظرا في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية
وأكثر ما بعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكل أمة من الأمم يوجد
لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وعدد الملوك فيها والتعرض لأسمائهم ويسمى مثل ذلك الحدثان
وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك وقد اخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة كما وقع لشق في تأويل رؤيا ربيعة ابن نصر من ملوك اليمن اخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثم رجوعها إليهم ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يقرن ويقال من غمرة وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل وهم يزعمون تارة انه ولي وتارة أنه كاهن
وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبيا لأن عندهم قبل الهجرة بكثير والله أعلم
وقد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإن أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبروهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه
وأما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا ومدتها على العموم وفيما يرجع إلى الدولة وإعمارها على الخصوص
وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثارا منقولة عن الصحابة وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما وربما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة ووقع لجعفر وأمثاله أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله اعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية
وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال {صلى الله عليه وسلم} أن فيكم محدثين فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة
وأما بعد صدر الملة وحين علق الناس على العلوم والإصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك والدول وسائر الأمور العامة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصة من الطوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها وقد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الآثار والنجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون اصل ذلك ولا مستنده
فاعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي وهو راس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارة ن العجلي وكتبه وسماه التحفر باسم الجلد الذي كتب منه لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الإسم علما على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن في وما بطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق
وهذا الكتاب لم تتصل روايته ولا عرف عينه وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرمات
وقد صح عنه انه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول
وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصر وعصاه فخرج وقتل بالجوزان كما هو معروف وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علما
ودينا وآثارا من النبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد
وفي أخبار دولة العبيديين كثيرا منه وانظر إلى ما حكاه ابن الدقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبد الله المهدي مع ابنه محمد الحبيب وما حدثاه به وكيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبث الدعوة فيه على علم لقنه أن دعوته تتم هناك وأن عبد الله لما بنى المهدية بعد استفحال وولتهم بإفريقية
قال بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار وأراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالمهدية وكان يسأل عن منتهى موقفه حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينه جده عبيد الله فأيقن بالظفر وبرز من البلد فهزمه واتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به وقتله ومثل هذه الأخبار عندهم كثيرة
وأما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية أما في الأمور العامة مثل الملك والدول فمن القرانات وخصوصا بين العلويين وذلك ان العلويين زحل والمشتري يقرنان في كل عشرين سنة مرة ثم يعود القران إلى برج آخر في تلك المثلثة من التلبيث اليمن ثم بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروحه الثلاثة في ستين ينة ثم رابعة فيستوي في المثلثة بإثنتي عشرة مرة وربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن وينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القرآن الذي قبله في المثلثة وهذا القرآن الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط
فالكبير هو اجتماع العلويين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستين سنة مرة واحدة
والوسط هو إقتران العلويين في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى
والصغير هو اقتران العلويين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجة أو دقائقة مثال ذلك وقع القران في أول دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من القوس وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد وهذه كلها نارية وهذا كلها قران صغير ثم يعود إلى أول الحمل بعد سنتين سنة ويسمي دور القرآن وبعد مائتين وأربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها وهذا قران وسط ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة وستين سنة وهو الكبير والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها
ويقع أثناء هذه القرانات قران التحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع وبرج السرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المريخ فتعظم دلالة هذا القرن في الفتن والحروب وسفك الدماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة والنحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه
قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك ورجوع المريخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملة الإسلامية لأنه كان دليلها فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدين ونقص ت أحوالهم وربما انهدم بعض بيوت العبادة
وقد يقال أنه كان عند قتل علي رضي الله عنه ومروان من بني أمية والمتوكل من بني العباس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الأحكام
قال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا إنتهت إلى السابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزهرة ووقع القران مع ذلك ببرج
العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبي ويكون قوة ملكه ومدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدة ذلك ستمائة وعشر سنين وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة ووقوع القسمة أول الحمل وصاحب الجد المشتري وسيأتي قول شادان البلخي وغيره في انتهاء مدة تلك الملة
قال جراس سأل هرمز افريد الحكيم عن مدة اردشير وولده وملوك الساسانية فقال دليل ملكه المشتري وكان في شرفه فيعطى أطول السنين وأجودها أربعمائة وسبعا وعشرين سنة ثم تزيد الزهرة وتكون في شرفها وهي دليل فيملكون لأن طالع القران الميزان وصاحبه الزهرة
وكانت عند القران في شرفها فدل أنهم يملكون ألف سنة وستين سنة
قال جراس وانتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث وستين وثمانمائة ليزدرجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملة سنة ثلاث وخمسين
قال والذي في الحوت هو أول الإنتقال والذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملة قال وتحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة ولم يستوف الكلام على ذلك
وأما مستند المنجمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة وجهاتها من العمران والقائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديائهم وعوائهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات وقد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالا عليه فمن هذا يوجد الكلام في الدول
وقد كان يعقوب بن اسحاق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع
في القرانات الكائنة في الملة كتابا سماه الشيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس وأنها نهاية وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة وأن بانقراضها يكون انقراض الملة ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولا رأينا من وقف عليه ولعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء
وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير والظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل ومطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه وكذب ما بعده وكان في دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون وكتب في الحدثان وانظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة
قال بعث إلى الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام ابيه فجئتهما جوف الليل فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان وإذا مدة المهدي فيه عشر سنين فقلت هذا الكتاب لا يخفى على المهدي وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه قالا فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الرقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فوالله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي
ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوما ومنثورا ورجزا ما شاء الله أن يكتبوه بأيدي الناس متفرقة كثير منها وتسمى الملاحم وبعضها في حدثان الملة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء وهي المتداولة بين الناس وتحسب
العامة أنها من الحدثان العام فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونة لأن الرجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود وملكهم لعدوة الأندلس ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضا قصيدة تسمى التبعية أولها
( طربت وما ذاك مني طرب وقد يطرب الغائب المغتضب )
قريبا من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيرا من دولة الموحدين وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره والظاهر أنها مصنوعة
ومن الملاحم بالمغرب أيضا ملعبة من الشعر الزجل منسوبة لبعض اليهود وذكر فيها أحكام القرانات لعصرا العلويين والتحسين وغيرهما وذكر منيته قتيلا بفاس وكان كذلك فيما زعموه وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين ومنها قصيدة ابن الابار في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين ومنها ملعبة الهواثي على لغة العامة في عروض البلد والغالب عليها الوضع لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو المحرف فيه من ينتحلها من الخاصة ومها ملحمة ابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلا الله لتخلله أوفاق عددية ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامة ورؤوس مقطعة وتماثيل من حيوانات غريبة وفي آخرها قصيدة على روي اللام والغالب أنها كلها غير صحيحة لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها
وهناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سينا وابن عقب وليس في شيء منهما دليل على الصحة لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات
وملحمة أخرى من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي وكلها ألغاز بالحروف والغالب أنها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثيرا ومعروف الانتحال وعند أهل الهند قصيدة فارسية وملحمة عجمية منسوبة إلى الشاه نعمة الله الولي الهندي فيها
حدثان دولة التيمورية التي كانت بالهند والظاهر أنها مصنوعة ولم يصح شيء مما ذكر فيها إلا بتأويل بعيد وتكلف طويل لا يلتفت إلى مثلها
وحكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم ويحصل على ما يريد منهم من الدنيا وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم مما وقع ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال
قال ابن خلدون ولقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف ويومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع الناس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر وشغل العامة بفك رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق وهو المستعان
ذكر ما قيل في مدة أيام الدنيا ماضيها وباقيها
اعلم أن الناس اختلفوا قديما وحديثا في هذه المسألة فقال قوم من القدماء الأول بالأكوار والأدوار وهم الدهرية وهؤلاء هم القائلون بعود العوالم كلها على ما كانت عليه بعد ألوف من السنين معدودة وهم في ذلك غالطون من جهة طول أدوار النجوم وذلك أنهم وجدوا قوما من الهند والفرس قد عملوا أدوارا للنجوم ليصححوا بها في كل وقت مواضع الكواكب فظنوا أن العدد المشترك لجميعها هو عدد سني العالم أو أيام العالم وإنه كلما مضى ذلك العدد عادت الأشياء إلى حالها الأول وقد وقع في هذا الظن ناس كثير مثل أبي معشر وغيره وتبع هؤلاء خلق وأنت تقف على فساد هذا الظن إن كنت تخبر من العدد شيئا ما وذلك أنك إذا طلبت عددا مشتركا بعده أعداد معلومة فإنك تقدر أن تضع لكل زيج أياما معلومة كالذي وضعه الهند والفرس فهؤلاء حيث جهلوا صورة الحال في هذه الأدوار ظنوا أنها عدد أيام العالم فتفطن ترشد
وعند هؤلاء أن الدور هو أخذ الكواكب من نقطة وهي سائرة حتى تعود إلى تلك النقطة وإن الكور هو استئناف الكواكب في أدوارها سيرا آخر إلى أن تعود إلى مواضعها مرة بعد أخرى
وزعم أهل هذه المقالة أن الأدوار منحصرة في أنواع خمسة
الأول أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها
الثاني أدوار مراكز أفلاك التدوير في أفلاكها الحاملة
الثالث أدوار أفلاكها الحالة في تلك البروج
الرابع أدوار الكواكب الثابتة في تلك البروج
الخامس أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة وهذه الأدوار المذكورة منها ما يكون في كل زمان طويل مرة واحدة ومنها ما يكون في كل ومانه قصير مرة واحدة فأقصر هذه الأدوار أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة فإنه يدور في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة وباقي الأدوار يكون في أزمنة أخر أطول من هذا لا حاجة لنا في هذه المسألة إلى ذكرها
قالوا وأدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج تكون في كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرة واحدة وحينئذ تنتقل أوجات الكواكب وجوزهراتها إلى مواضع حضيضاتها ونوبهراتها وبالعكس فيوجب ذلك عندهم عود العالم كلها إلى ما كانت عليه من الأحوال في الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع بحيث لا يتخالف ذرة واحدة وهم مع ذلك مختلفون في كمية ما مضى من أيام العالم وما بقي
فقال البراهمة من الهند في ذلك قولا غريبا وهو ما حكاه عنهم الأستاذ أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتي في كتاب القانون المسعودي إنهم يسمون الطبيعة باسم ملك يقال له إبراهيم ويزعمون أنه محدث محصور الموت بين مبدأ وانتهاء عمره كعمرها مائة سنة برهموية كل سنة ثلاثمائة وستون يوما زمان النهار بقدر مدة دوران الأفلاك والكواكب لإثارة الكون والفساد
وهذه المدة بقدر ما بين كل اجتماعين للكواكب السبعة في أول برج الحمل بأوجاتها وجزهراتها ومقدارها أربعة آلاف ألف ألف سنة وثلاثمائة ألف ألف سنة وعشرون ألف ألف سنة شمسية وهو زمان اثني عشر ألف دورة للكواكب الثابتة على أن زمان الدورة الواحدة ثلاثمائة ألف وستون ألف سنة شمسية
واسم هذا النهار بلغتهم الكلية وزمان الليل عندهم كزمان النهار وفي الليل تسكن المتحركات وتستريح الطبيعة من إثارة الكون والفساد
ثم يثور في مبدأ اليوم الثاني بالحركة والتكون فيكون زمان اليوم بليلته من سني الناس ثمانية آلاف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة فإذا ضربنا لك في ثلاثمائة وستين تبلغ سنو أيام البرهموية ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة وعشرة آلاف ألف ألف سنة وأربعمائة ألف ألف سنة شمسية فإذا ضربنا هذا في مائة يبلغ عمر الملك الطبيعي البرهموي من سنى الناس ثلاثمائة ألف بألف ألف ألف سنة واحد عشر ألف ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة شمسية فإذا تمت هذه السنون بطل العالم عن الحركة والتكوين ما شاء الله ثم يستأنف من جديد على الوضع المذكور
وقسموا زمان النهار المذكور إلى تسع وعشرين قطعة سموا كل أربع عشرة قطعة منها نوبا وسموا الخمس عشرة قطعة الباقية فصولا وجعلوا كل نوبة محصورة بين فصلين وكل فصل محصورا بين نوبتين وقدموا زمان الفصل على النوبة إلى تمام المدة وزمان الفصل هو خمسا الدور والدور جزء من ألف جزء من المدة فإذا قسمنا المدة على ألف يحصل زمان الدور أربعة آلاف ألف سنة وثلاثمائة ألف سنة وعشرين ألف سنة وخمسا أعني زمان الفصل ألف ألف سنة وسبعمائة ألف سنة وثمانية عشرون ألف سنة وزمان النوبة عندهم أحد وسبعون دورا مقدارها من السنين ثلاثمائة ألف ألف سنة وستة آلاف سنة وسبعمائة ألف سنة وعشرون ألف سنة
وقد قسموا الدور أيضا بأربع قطع أولها أعظمها وهي مدة الفصل المذكور
وثانيها ثلاثة أرباع الفصل ومدتها ألف ألف سنة ومائتا ألف سنة وستة وتسعون ألف سنة
وثالثها نصف الفصل ومدته ثمانمائة ألف سنة وأربعة وستون ألف سنة
ورابعها ربع الفصل وهو عشر الدور المذكور ومدته أربعمائة ألف سنة واثنان وثلاثون ألف سنة
ولكل واحد من هذه القطع الأربع إسم يعرف به فاسم القطعة الرابعة عندهم كلكال لأنهم يزعمون أنهم في زمانها وأن الذي مضى من عمر الملك الطبيعي على زعم حكيمهم الأعظم المسمى عندهم برهمكوت ثمان سنين وخمسة أشهر وأربعة أيام
ونحن الآن في نهار اليوم الخامس من الشهر السادس من السنة التاسعة ومضى من النهار الخامس ست نوب وسبعة فصول وسبعة وعشرون دورا من النوبة السابعة وثلاث قطع من الدور المذكور أعني تسعة أعشاره ومضى من القطعة الرابعة أعني من أول كلكال إلى هلاك شككال عظيم ملوكهم الواقع في آخر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للإسكندر ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وسبعون سنة
وقال إنما عرفنا هذا الزمان من علم إلهي وقع إلينا من عظماء أنبيائنا المتألهين رواياتهم جيلا بعد جيل على ممر الدهور والأزمان وزعموا أن مبدأ كل دور أو فصل أو قطعة أو نوبة تتجدد أزمنة العوالم وتنتقل من حال إلى حال وأن الماضي من أول كلكال إلى شككال ثلاثة آلاف ومائة وتسع وسبعون سنة والماضي من النهار المذكور إلى آخر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للإسكندر ألف ألف سنة وتسعمائة ألف ألف سنة واثنان وسبعون ألف ألف سنة وتسعمائة ألف سنة واثنان وسبعون ألف ألف سنة وتسعمائة ألف سنة وسبعة وأربعون ألف سنة ومائة سنة وسبع وسبعون سنة فيكون الماضي من عمر الملك الطبيعي إلى آخر هذه السنة ستة وعشرين ألف ألف ألف ألف سنة وثلاثمائة ألف ألف ألف سنة وخمسة عشر ألف ألف ألف سنة وسبعمائة ألف ألف سنة واثنين وثلاثين ألف ألف سنة وتسعمائة ألف سنة وسبعة وأربعين ألف سنة ومائة سنة وتسعا وسبعين سنة
فإذا زدنا عليها الباقي من تاريخ الإسكندر بعد نقصان السنين المذكورة منه تحصل الماضي من عمر الملك بالوقت المفروض والله أعلم بحقيقة ذلك
قال الخطا والأيغر في ذلك قولا أعجب من قول الهند وأغرب على ما نقلته من زيج أدوار الأنوار وقد لخص هذا القول من كتب
أهل الصين وذلك أنهم جعلوا مبادي سنيهم مبنية على ثلاثة أدوار الأول يعرف بالعشري مدة عشر سنين لكل سنة منها إسم يعرف به والثاني يعرف بالدور الإثني عشري وهو أشهرها خصوصا في بلاد الترك يسمون سنيه بأسماء حيوانات بلغتي الخطأ والأيغر والثالث مركب من الدورين جميعا ومدته ستون سنة وبه يؤرخون سني العالم وأيامه ويقوم عندهم مقام أيام الإسبوع عند العرب وغيرها واسم كل سنة منها مركب من إسميها في الدورين جميعا وكذلك كل يوم من أيام السنة ولهذا الدور ثلاثة أسماء وهي شانكون وجونكون وخاون ويصير بحسبها مرة أعظم ومرة أوسط ومرة أصغر فيقال جور شانكون الاعظم ودور جانكون الأوسط ودور خاون الأصغر وبهذه الأدوار يعتبرون سني العالم وأيامه وجملتها مائة وثمانون سنة
ثم تدور الأدوار الثلاثة عليها مرة أخرى واتفق وقوعها مبدأ الدور الأعظم في الشهر الأول من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ليزدجرد واسمها بلغتهم كادر وبلغة العرب سنة الغار
وكان دخول أول فرودين هذه السنة من سني العرب يوم الخميس وهو بلغتهم سن جن
ومن هذا اليوم وعلى هذا التاريخ تترتب مبادي سنيهم وأيامهم في الماضي والمستقبل وشهورهم إثنا عشر شهرا لكل شهر منها إسم بلغة الخطا وبلغة الأيغر لا حاجة بنا هنا إلى ذكرها ويقسمون اليوم الأول بليلته اثني عشر قسم كل قسم منها يقال له جاغ وكل جاغ ثمانية أقسام كل قسما منها يقال له كه ويقسمون اليوم بليلته أيضا عشرة آلاف فنك وكل فنك منها مائة مياو فيصيب كل جاغ ثمانممائة وثلاثة وثلاثين ثلاث فنكا وثلاث فنك وكل كه مائة وأربعة أفناك وسدس فنك وينسبون كل جاغ إلى صورة من الصور الإثنتي عشرة ومبدأ اليوم بليلته عندهم من نصف الليل وفي منتصف جاغ كسكو
يتغير أول النهار وآخره بحسب الطول والقصر من قبل أن كل جاغ ساعتان مستويتان
وفي منتصف النهار ينتصف جاغ يوند وهم يكبسون في كل ثلاث سنين قمرية شهرا واحدا يسمونه سيون ليحفظوا بالكبس مبادي سني الشمس في زمان واحد من سنة أخرى ويكبسون أحد عشر شهرا في كل ثلاثين سنة قمرية ولا يقع عندهم شهر الكبس في موضع واحد بعينه من السنة بل يقع في كل موضع منها وكل شهر عدة أيامه أما ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما ولا يمكن عندهم أكثر من ثلاثة أشهر متواليه تامة ولا أكثر من شهرين ناقصين ومبادي شهورهم يوم الإجتماع إن وقع إجتماع النيرين نهارا فإن وقع الإجتماع ليلا كان أول الشهر في اليوم الذي بعد الإجتماع
وزمان السنة الشمسية بحسب أرصادهم ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وألفان وأربعمائة وستة وثلاثون فنكا والسنة أربعة وعشرون قسما كل قسم منها خمسة عشر يوما وألفان ومائة وأربعة وثمانون فنكا وهمسة أسداس فنك ولكل قسم من هذه الأقسام إسم وكل ستة أقسام منها فصل من فصول السنة فإسم أول قسم من فصولها الحن وأوله أبدا حيث تكون الشمس في ست عشرة درجة من برج الدلو وهكذا أوائل كل فصل إنما تكون في حدود أواسط البروج الثابتة
وكان بعد مدخل الحن من أول الدور الستيني في السنة المذكورة أحد عشر فنكا وسبعة آلاف وستمائة وستين فنكا وإسم مدخله بي خايني وكان بعد دخول السنة الفارسية المذكورة بنحو عشرين يوما ويبعد مدخله عن أول الدور في كل سنة بقدر فصل سنة الشمس على سنة الدور وهو خمسة أيام وأربعة وعشرون فنكا فإن زادت الأيام على ستين يوما كان الباقي بعد الحن في تلك السنة عن أول الدور الستيني ويتفاضل البعد بينهما في كل سنة بقدر فضل سنة الشمس على سنة القمر التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثلاثة آلاف وستمائة واثنان وسبعون فنكا ومقدار الفضل بينهما عشرة أيام وثمانية آلاف
وسبعمائة وأربعة وعشرون فنكا وخمسة آلاف وثمانمائة وستة أفناك نقص منها هذا العدد واحتسب بالباقي فإذا عرفت هذا من حسابهم فاسعلم أن عمر العالم عندهم ثلاثمائة ألف ون وستون ألف ون كل ون عشرة آلاف سنة مضى من ذلك إلى أول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ليزدجرد وهي دور شانكون الأعظم ثمانية آلاف ون وثمانمائة ون وثلاثة وستون ونا وتسعة آلاف وسبعمائة و أربعون سنة فتكون المدة العظمى على هذا ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف ألف سنة بهذه الصورة 360000000000 والماضي منها إلى السنة المذكورة ثمانية وثمانون ألف ألف سنة وستمائة ألف سنة وتسعة وثلاثون ألف سنة سبعمائة سنة وأربعون سنة بهذه الصورة 8863974 ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله
وإنما ذكرت طرفا من حساب سني البراهمة وطرفا من حساب سني الخطا والأيغر المستخرج من حساب الصين ليعلم أن ذلك لم يضعه حكماؤهم عبثا ولأمر ما جدع قصير أنفه
وكم من جاهل بالتعليم إذا سمع أقوالهم في مدة سني العالم يبادر إلى تكذيبهم من غير علم بدليلهم عليه وطريق الحق أن يتوقف فيما لا يعلمه حتى يتبين أحد طرفيه فيرجحه على الآخر ) والله يعلم وأنتم لا تعلمون (
وقال أصحاب السند بوالهند ومعناه دهر الدهران الكواكب وأوجاتها وجوزهراتها تجتمع كلها في أول برج الحمل عند كل أربعة آلاف ألف ألف سنة وثلاثمائة ألف ألف سنة وعشرين ألف ألف سنة شمسية وهذه مدة سني العالم
قالوا وإذا جمعت برأس الحمل فسدت المكونات الثلاث التي يحويها عالم الكون والفساد المعبر عنه بالحياة الدنيا وهذه المكونات هي المعدن
والنبات والحيوان فإذا فسدت بقي العالم السفلي خرابا دهرا طويلا إلى أن تتفرق الكواكب والأوجات والجوزهرات في بروج الفلك فإذا تفرقت فيها بدأ الكون بعد الفساد فعادت أحوال العالم السفلي إلى الأمر الأول وهذا يكون عودا بعد بدء إلى غير نهاية
قالوا ولكل واحد من الكواكب والأوجات والجوزهات عدة أدوار في هذه المدة يدل على كل دور منها على شيء من المكونات كما هو مذكور في كتبهم مما لا حاجة بنا هنا إلى ذكره وهذا القول منتزع من قول البراهمة الذين تقدم ذكرهم
وقال أصحاب الهازروان من قدماء الهند إن لكل ثلاثمائة ألف مائة ألف وثمانون ألف سنة شمسية يهلك العالم بأسره ويبقى مثل هذه المدة ثم يعود بعينه ويعقبه البدل وهكذا أبدا يكون الحال لا إلى نهاية
قالوا ومضى من أيام العالم المذكورة إلى طوفان نوح عليه السلام مائة ألف وثمانون ألف سنة شمسية ومضى من الطوفان إلى سنة الهجرة المحمدية على صاحبها الصلاة والتحية ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاث وعشرون سنة وأربعة أشهر وأيام وبقي من سني العالم حتى يبتدى ء ويفنى مائة ألف وبضع وسبعون ألف سنة شمسية أولها تاريخ الهجرة الذي يؤرخ به أهل الإسلام
وقال أصحاب الأزجهير مدة العالم التي تجتمع فيها الكواكب برأس الحمل هي وأوجاتها وجوزهراتها جزء من ألف جزء من مدة السند هند وهذا أيضا منتزع من قول البراهمة
وقال أبو معشر وابن نوبخت إن بعض الفرس يرى أن عمر الدنيا إثنا عشر ألف سنة بعدة البروج لكل برج ألف سنة فكان ابتداء أمر الدنيا في أول ألف الحمل لأن الحمل والثور والجوزاء تسمى أشرف الشرف وينسب إلى الحمل الفصل وفيها تكون الشمس في شرفها وعلوها وطول نهارها ولذلك الدنيا كانت إلى ثلاثة آلاف سنة علوية روحانية طاهرة ولأن السرطان والأسد والسنبلة منتقصة فإن الشمس تنحط من علوها في أول دقيقة من السرطان
وكان قدر الدنيا وأبناؤها منحطا في ثلاثة آلاف الثانية ولأن الميزان أهبط الهبوط وبئر الآبار وضد البرج الذي فيه شرف الشمس دل على أنه أصاب الدنيا فاكتسب أهلها المعصية والميزان والعقرب والقوس إذا نزلتها الشمس لم تزدد إلا انحطاطا والأيام إلا نقصانا فلذلك دلت على البلايا والضيق والشدة والشر وحيث تبلغ الآلاف إلى أول الجدي الذي فيه أول ارتفاع الشمس وأشرافها على شرفها وفيه تزداد الأيام طولا والدلو والحوت اللذان تزداد الشمس فيهما صعودا حتى تصل لشرفهما فيدل على ظهور الخير وضعف الشر وثبات الدين والعقل والعمل بالحق والعدل ومعرفة فضل العلم والأدب في تلك الثلاثة آلاف سنة وما يكون في ذلك فعلى قدر صاحب الألف والمائة والعشرة وعلى حسب اتفاق الكواكب في أول سرطان صاحب الألف فلا يزال ذلك في زيادة حتى يعود أمر الدنيا في آخرها إلى مثل ما كان عليه ابتداؤها وهي في ألف الحمل
وكلما تقارب آخر كل ألف من هذه الألوف اشتد الزمان وكثرت البلايا لأن أواخر البرج في حدود النحوس وكذلك في آخر المئين والعشرات فعلى هذا الإنقضاء للدنيا إذا كان الزمان يعود إلى الحمل كما بدأ أول مرة وزعموا أن ابتداء الخلق بالتحرك كان والشمس في ابتداء المصير فدار الفلك وجرت المياه وهبت الرياح واتقدت النيران وتحرك سائر الخلائق بما هم عليه من خير وشر والطالع تلك الساعة تسع عشرة درجة من برج السرطان وفيه المشتري
وفي البيت الرابع هو بيت العافية وهو برج الميزان زحل وكان الذنب في القوس والمريخ في الجدي والزهرة وعطارد في الحوت ووسط السماء برج الحمل وفي أول دقيقة منه الشمس
وكان القمر في الثور وفي بيت السعادة وكان الرأس في برج الجوزاء وبيت الشقاء وفي تلك الدقيقة من الساعة كان استقبال أمر الدنيا فكان خيرها وشرها وانحطاطها وارتفاعها وسائر ما فيها على قدر مجاري البروج والنجوم وولاية أصحاب الألوف وغير ذلك من أحوالها
ولأن المشتري كان في السرطان في شرفه وزحل في الميزان في شرفه والمريخ والشمس والقمر في أشرافها دلت على كائنة جليلة فكان نشوء العالم وبرز زحل فتولى الآلف هو والميزان وكان المشتري في الطالع مقبولا وكذلك جميع الكواكب كانت مقبولة فدل على نماء العالم وحسن نشوئه
وكان زحل هو المستولي والعالي في الفلك والبرج طويل الطالع فطالت أعمار تلك الألف وقويت أبدانهم وكثرت مياههم وكون الميزان تحت الأرض دل على خفاء أول حدوث العالم وعلى أن أهل ذلك الزمان ينظرون في عمارة الأرضين وتشيد البنيان
ثم ولى الألف الثاني العقرب والمريخ وكان في الطالع المريخ فدل على القتل في ذلك الألف وسفك الدماء والسبي والظلم والجور والخوف والهم والحزان والفساد وجور الملوك
وولى الألف الثالث القوس وشاركه عطارد والزهرة بطلوعهما وكان الذنب في القوس فدل المشتري على النجدة في تلك الألف والشدة والجلد والبأس والرياسة والعدل وتقسيم الملوك الدنيا وسفك الدماء بسبب ذلك
ودلت الزهرة على ظهور بيوت العبادة وعلى الأنبياء
ودل عطارد على ظهور العقل والأدب والكلام وكون البرج مجسرا دل على انقلاب الخير والشر في تلك الألف مرات وعلى ظهور ألوان من آيات الحق والعدل والجور
ثم ولى الألف الرابع الجدي وكان فيه المريخ فدل على ما كان في تلك الألف من إهراق الدماء ودلت الشمس على ظهور الخير والعلم ومعرفة الله تعالى وعبادته وطاعته وطاعة أنبيائه والرغبة في الدين مع الشجاعة والجلد وكون البرج منقلبا هو والبرج الذي فيه الشمس دل على انقلاب ذلك في آخرها وظهور الشر والتفرق والقسم والقتل وسفك الدماء والغضب في أصناف كثيرة وتحول
ذلك وتلونه وكون الجدي منحطا دل على أنه يظهر في آخر تلك الألف الحسن الشبيه بصفة زحل والمريخ وانقطاع العظماء والحكماء وبوارهم وارتفاع السفلة وخراب العامر وعمارة الخراب وكثرة تلون الأشياء
وولى ألف الخامس الدلو بطلوع القمر وكان القمر في الثور فدل الدلو لبرودته وعسره على سقوط العظماء وعطلة أمرهم وارتفاع السفلة والعبيد ومحمدة البخلاء وظهور الجيش الأسود والسواد وعلى كثرة التفتيش والتفكر وظهور الكلام في الأديان ومحبة الخصومات وكون القمر في شرفه يدل على قهر الملوك وظهور ولاة الحق ونفاذ الخير وظهور بيوت العبادة والكف عن الدماء والراحة والسعادة في العامة وثبات ما يكون من العدل والخير وطول المدة فيه وكون البرج مائيا يدل على كثرة الأمطار والغرق وآفة من البرد يهلك فيها الكثير
ويلي الآلف السادس برج الحوت بطلوع المشتري والرأس فيدل على المحمدة في الناس عامة وعلى الصلاح والخير والسرور وذهاب الشر وحسن العيش ولكل واحد من الكواكب ولاية ألف سنة فصار عطارد خاتما في برج السنبلة
وزعم ابن نوبخت أن من يوم سارت الشمس إلى تمام خمس وعشرين من ملك أنو شيروان ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبع وستون سنة وذلك في ألف الجدي وتدبير الشمس ومنه إلى اليوم الأول من الهجرة سبع وثمانون سنة شمسية وستة وعشرون يوما ومن الهجرة سبع وثمانون سنة شمسية وستة وعشرون يوما ومن الهجرة إلى قيام يزدجرد تسع سنين وثلاثمائة وسبعة وثلاثون يوما فذلك الجميع إلى أن قام يزدجرد ثلاثة آلاف وتسعمائة وست وستون سنة
وقال أبو معشر وزعم قوم من الفرس أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعدة الكواكب السبعة وزعم أبو معشر أن عمر الدنيا ثلاثمائة ألف سنة وستون ألف سنة وأن الطوفان كان في النصف من ذلك على رأس مائة ألف وثمانين ألف سنة
وقال قوم عمر الدنيا تسعة آلاف سنة لكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة ألف سنة وللرأس ألف سنة وللذنب ألف سنة وشرها ألف الذنب وأن العمار طالت في تدبير آلاف الثلاثة العلوية وقصرت في آلاف الكواكب السفلية
وقال قوم عمر الدنيا تسعة عشر ألف سنة بعدد البروج الإثني عشر لكل برج ألف سنة وبعدد الكواكب السبعة السيارة لكل كوكب ألف سنة
وقال قوم عمر الدنيا أحد وعشرون ألف سنة بزيادة ألف للرأس وألف للذنب
وقال قوم عمر الدنيا ثمانية وسبعون ألف سنة في تدبير برج الحمل اثنا عشر ألف سنة وفي تدبير برج الثور أحد عشر ألف سنة وفي تدبير الجوزاء عشرة آلاف سنة فكانت الأعمار في هذا الربع أطول والزمان أجد ثم تدبير الربع الثاني مدة أربعة وعشرين ألف سنة فتكون الأعمار دون ما كانت في الربع الأول وتدبير الربع الثالث خمسة عشر ألف سنة وتدبير الربع الرابع ستة آلاف سنة
وقال قوم كانت المدة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانين سنة وأربعة أشهر وخمسة عشر يوما ومن الطوفان إلى إبراهيم عليه السلام تسعمائة واثنتين وأربعين سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما فذلك ثلاثة آلاف ومائتان وثلاث وعشرون سنة
وقال قوم من اليهود عمر الدنيا سبعون ألف سنة منحصرة في ألف جيل ولقفوا ذلك من قول موسى عليه السلام في صلاته أن الجيل سبعون سنة من قوله في الزبور إن إبراهيم عليه السلام قطع معه الله تعالى عهد بقاء البشر ألف جيل فجاء من ذلك أن مدة الدنيا سبعون ألف سنة واستظهروا لقولهم هذا بما في التوراة من قوله واعلم أن الله إلهك هو القادر المهيمن الحافظ العهد والفضل لمحبيه وحافظي وصاياه لألف جيل
وذكر أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي في كتاب أخبار الزمان عن الأوائل أنهم قالوا كان في الأرض ثمان وعشرون أمة ذات أرواح وأيد وبطش وصور مختلفات بعدد المنازل القمر لكل منزلة أمة منفردة تعرف بها تلك الأمة ويزعمون أن تلك الأمم كانت الكواكب الثابتة تدبرها وكانوا يعبدونها
ويقال لما خلق الله تعالى البروج الاثني عشر قسم دوامها في سلطانها فجعل للحمل اثني عشر ألف عام وللثور أحد عشر ألف عام وللجوزاء عشرة آلاف عام وللسرطان تسعة آلاف عام وللأسد ثمانية آلاف عام وللسنبلة سبعة آلاف عام وللميزان ستة آلاف عام وللعقرب خمسة آلاف عام وللقوس أربعة آلاف عام وللجدي ثلاثة آلاف عام وللدلو ألفي عام وللحوت ألف عام فصار الجميع ثمانية وسبعين ألف عام فلم يكن في عالم الحمل والثور والجوزاء وحيوان وذلك ثلاثة وثلاثون ألف عام
فلما كان عالم السرطان تكونت دواب الماء وهوام الأرض
فلما كان عالم الأسد تكونت ذوات الأربع من الوحش والبهائم وذلك بعد تسعة آلاف عام من خلق دواب الماء والهواء
فلما كان عالم السنبلة تكون الإنسانان الأولان وهما ادمانوس وحنوانوس وذلك لتمام سبعة عشر ألف عام لخلق دواب الماء وهوام الأرض ولتمام ثمانية آلاف عام من خلق ذوات الأربع وخلقت الأرض في عالم الميزان
ويقال بل خلقت الأرض أولا وأقامت خالية ثلاثة وثلاثين ألف عام ليس فيها حيوان ولا عالم روحاني ثم خلق الله تعالى هوام الماء ودواب الأرض وما بعد ذلك على ما تقدم ذكره فلما تم أربعة وعشرون ألف عام لخلق دواب الماء وهوام الأرض ولتمام خمسة عشر ألف عام من خلق ذوات الأربع ولتتمة سبعة آلاف عام من لدن تكون الإنسانين خلقت الطيور
ويقال إن مدة مقام الإنسانين ونسلهما في الأرض مائة ألف وثلاثة وثلاثون ألف عام منها لزجل ستة وخمسون ألف عام وللمشتري أربعة وأربعون ألف عام وللمريخ ثلاثة وثلاثون ألف عام
ويقال إن الأمم المخلوقات قبل آدم هي كانت الجبلة الأولى وهي ثمان وعشرون أمة بإزاء منازل القمر خلقت من أمزجة مختلفة أصلها الماء والهواء والأرض والنار فتباين خلقها
فمنها أمة خلقت طوالا زرقا ذوات أجنحة كلامهم قرقعة على صفة الأسود
ومنها أمة أبدانهم أبدان الأسود ورؤسهم رؤوس الطير لهم شعور وآذان طوال وكلامهم دوي
ومنها أمة لها وجهان وجه أمامها ووجه خلفها ولها أرجل كثيرة وكلامهم كلام الطير
ومنها أمة ضعيفة في صور الكلاب لها أذناب وكلامهم همهمة لا يعرف
ومنها أمة تشبه بني آدم أفواههم في صدورهم يصفرون إذا تكلموا صفيرا
ومنها أمة يشبهون نصف إنسان لهم عين واحدة ورجل يقفزون بها قفزا ويصيحون كصياح الطير
ومنها أمة لها وجوه كوجوه الناس وأصلاب كأصلاب السلاحف في رؤوسهم قرون طوال لا يفهم كلامهم
ومنها أمة مدورة الوجوه لهم شعور بيض وأذناب كأذناب البقر ورؤوسهم في صدورهم لهم شعور وثدي وهم إناث كلهن ليس فيهن ذكر يلقحن من الريح ويلدن أمثالهن ولهن أصوات مطربة يجتمع إليهن كثير من هذه الأمم لحسن أصواتهن
ومنها أمة على خلق بني آدم سود وجوههم ورؤوسهم كرؤوس الغربان
ومنها أمة في خلق الهوام والحشرات إلا أنها عظيمة الأجسام تأكل وتشرب مثل الأنعام
ومنها أمة كوجوه دواب البحر لها أنياب كأنياب الخنازير وآذان طوال ويقال أن هذه الثمانية والعشرين أمة تناكحت فصارت مائة وعشرين أمة
وسئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل كان في الأرض خلق قبل آدم يعبدون الله تعالى فقال نعم خلق الله الأرض وخلق فيها الجن يسبحون الله ويقدسونه لا يفترون وكانوا يطيرون إلى السماء ويلقون الملائكة ويسلمون عليهم ويستعملون منهم خبر ما في السماء
ثم أن طائفة منهم تمردت وعتت عن أمر ربها وبغت في الأرض بغير الحق وعدا بعضهم على بعض وجحدوا الربوبية وكفروا بالله وعبدوا ما سواه وتغايروا على الملك حتى سفكوا الدماء وأظهروا في الأرض الفساد وكثر تقاتلهم وعلا بعضهم على بعض وأقام المطيعون لله تعالى على دينهم وكان إبليس من الطائفة المطيعة لله والمسبحين له وكان يصعد إلى السماء فلا يحجب عنها لحسن طاعته
ويروى أن الجن كانت تفترق على إحدى وعشرين قبيلة وأن بعد خمسة آلاف سنة ملكوا علهم ملكا يقال له شملان بن أرس ثم افترقوا فملكوا عليهم خمسة ملوك وأقاموا على ذلك دهرا طويلا ثم أغار بعضهم على بعض وتحاسدوا فكانت بينهم وقائع كثيرة فأهبط الله تعالى عليهم إبليس وكان اسمه بالعربية الحارث كنيته أبو مرة ومعه عدد كثير من الملائكة فهزمهم وقتلهم
وصار إبليس ملكا على وجه الأرض فتكبر وطغى وكان من امتناعه من السجود لآدم ما كان فأهبطه الله تعالى إلى الأرض فسكن البحر
وجعل عرشه على الماء فألقيت عليه شهوة الجماع وجعل لقاحه لقاح الطير وبيضه
ويقال إن قبائل الجن من الشياطين خمس وثلاثون قبيلة خمس عشرة قبيلة تطير في الهواء وعشر قبائل مع لهب النار وثلاثون قبيلة يسترقون السمع من السماء ولكل قبيلة ملك موكل يدفع شرها ومنهم صنف من السعالى يتصورون في صور النساء الحسان ويتزوجن برجال الإنس ويلدن منهم ومنهم صنف على صور الحيات إذا قتل أحد منهم واحدة هلك من وقته فإن كانت صغيرة هلك ولده أو عزيز عنده
وعن ابن عباس أنه قال إن الكلاب من الجن فإذا رأوكم تأكلون فألقوا إليهم من طعامكم فإن لهم أنفسا يعني أنهم يأخذون بالعين
وقد روي أن الأرض كانت معمورة بأمم كثيرة منهم الطم والرم والجن البن والحسن والبسن وإن الله تعالى لما خلق السماء عمرها بالملائكة ولما خلق الأرض عمرها بالجن فعاثوا وسفكوا الدماء فأنزل الله عليهم جندا من الملائكة فأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا فكان ممن أسر إبليس وكان إسمه عزرايل فلما صعد به إلى السماء أخذ نفسه بالإجتهاد في العبادة والطاعة رجاء أن يتوب الله عليه فلما لم يجد ذلك عليه شيئا خامر الملائكة القنوط فأراد الله أن يطهر لهم تكبره وإبانة ما خفي عنهم من مكتوم أنبائه إلى عمارة الأرض قبل آدم ممن أفسد فيها أشار بقوله تعالى حكاية عن الملائكة ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( يعنون كما فعل بها من قبل والله أعلم بمراده هكذا قيل
ويقال والذي ينبغي التعويل عليه والتصبير إليه ما ورد به الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة من بدء الخلق وما كان وما يكون وهو قليل جدا وما أتى الناس به من القصص وأساطير المخلوقات قبل آدم وبعده
فلا يقبل منه إلا ما يشهد به نص من كتاب أنزل من عند الله تعالى أو خبر صحيح ورد من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأما ما جاء من أهل الكتاب ومن يضايقهم فلا نصدقه ولا نكذبه بل نتوقف فيه ونكل علمه إلى الله تعالى ولا نقطع بصحته لأن أسانيده إلى الذين رووا عنهم منقطعة معضلة غير متتابعة لبعد العهد وطول الأمد ) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( ) وما يعلم جنود ربك إلا هو ( والنظر في كتب التواريخ لا يورث إلا خلافا كثيرا وتعارضا شديدا وحيرة مدهشة وباطلا لاحق وخطأ لا صواب وكذبا لا صدق والخوض في أمثال ذلك شأن السفهاء دون العقلاء لأن ما لم يكن سبيل إلى تحقيقه لا يحسن السلوك في طريقه
قال أبو بكر بن أحمد بن علي وحشية في كتاب الفلاحة أنه عرب هذا الكتاب ونقله من لسان الكلدانيين إلى اللغة العربية وأنه وجده من وضع ثلاثة حكماء قدماء وهم صعريت وسوساد وفوقاي إبتدأوه الأول وكان ظهوره في الألف السابع من سبعة آلاف سني زحل وهي الألف التي يشارك فيها زحل القمر وتممه الثاني وكان ظهوره في آخر هذه الألف وأكمله الثالث وكان ظهوره بعد مضي أربعة آلاف سنة من دور الشمس الذي هو سبعة آلاف سنة وأنه نظر إلى ما بين زمان الأول والثالث فكان ثمانية عشر ألف سنة شمسية وبعض الألف التاسع عشر
وقد اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة أيضا فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الدنيا جمعة من جمع الآخرة واليوم ألف سنة فذلك سبعة آلاف سنة
وروى سفيان عن الأعمش عن أبي صالح قال قال كعب الأحبار الدنيا ستة آلاف سنة
وعن وهب بن منبه أنه قال قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة إني لأعرف كل زمان منها ومن فيه من الأنبياء فقيل له فكم الدنيا قال ستة آلاف سنة
وروى عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس أخرجه الشيخان
وفي حديث أبي هريرة الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا يوالحقب هنا بكسر الحاء وضمها
قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني في كتاب الأكاليل وكان الدنيا جزءا من أربعة وخمسين يوما وخمس وسدس يوم فإذا كانت الدنيا ستة آلاف سنة واليوم ألف سنة تكون سنين قمرية ستة آلاف سنة فإذا جعلناه جزء وضربناه في أجزاء الحقب وهي أربعة آلاف وسبعمائة سنة وثلاث وعشرون وثلث خرج من الستين ثمانية وعشرون ألف ألف ألف وثلاثمائة ألف ألف وأربعون ألف الف وإذا كانت جمعة من جمع الآخرة زدنا مع هذا العدد مثل سدسه وهذا عدد الحقب
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الصواب من القول ما دل على صحته الخبر الوارد فذكر قوله عليه السلام أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس
وقوله عليه السلام بعثت أنا والساعة كهاتين وأشاء بالسبابة والوسطى وقوله عليه السلام بعثت أنا و الساعة جميعا إن كادت لتسبقني
قال فمعلوم إن كان اليوم أوله طلوع الشمس وآخره غروب الشمس
وكان صحيحا عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قوله أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس
وقوله بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى وكان قدر ما بين أوسط أوقات صلاة العصر وذلك إذا صار كل شيء مثليه على التحري إنما يكون قدر نصف سبع اليوم يزيد قليلا أو ينقص قليلا وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة إنما يكون نحوا من ذلك
وكان صحيحا مع ذلك قوله {صلى الله عليه وسلم} لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم يعني نصف اليوم الذي مقداره ألف سنة فأولى القولين اللذين أحدهما عن ابن عباس والآخر عن كعب قول ابن عباس إن الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف وإذا كان كذلك وكان قد جاء عنه عليه السلام أن الباقي من ذلك في حياته نصف يوم وذلك خمسمائة عام إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر الواحد منها ألف عام كان معلوما أن الماضي من الدنيا وقت قوله عله السلام ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة أو نحو ذلك
وقد جاء عنه عليه السلام خبر يدل على صحة قول من قال أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة لو كان صحيحا لم يعد القول به إلى غيره وهو حديث أبي هريرة يرفعه الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا فتبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة وذلك أنه حيث كان اليوم الذي هو من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من سني الدنيا وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا كان معلوما أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة وذلك ستة آلاف سنة
وقال أبو القاسم السهلي وقد مضت الخمسمائة من وفاته {صلى الله عليه وسلم} إلى اليوم بنيف عليها وليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكر مع وقوع الوجود بخلافه وليس في قوله لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم ما ينفي الزيادة على النصف ولا في قوله بعثت أنا والساعة كهاتين ما يقطع به على صحة تأويله يعني الطبري فقد نقل في تأويله غير هذا وهو أنه ليس بينه وبين الساعة بني ولا شرعة غير شرعته مع التقريب لحينها كما قال تعالى ) اقتربت الساعة (
وقال ) أتى أمر الله فلا تستعجلوه ( ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من مدرك آخر لو ساعده التحقيق وقال ولكن إذا قلنا إنه عليه السلام إنما بعث في الألف الآخر بعدما مضت منه سنون ونظرنا إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك ألم يسطع نص حق كره ثم تأخذ العدد على حساب أبي جاد فيجيء تسعمائة وثلاثة
ولم يسم الله تعالى أوائل السور إلا هذه الحروف فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدمناه من حديث الألف السابع الذي بعث عليه السلام فيه
غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته وكل قريب بعضه من بعض فقد جاء أشراطها ولكن لا تأتيكم إلا بغتة
وقد روي أنه عليه السلام قال إن أحسنت أمتي فبقاءها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة وإن أساءت فنصف يوم ففي الحديث تتميم للحديث المتقدم وبيان له إذ انقضت الخمسمائة والأمة باقية
قال ابن خلدون قلت وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه والذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع في كتاب السير لابن اسحق في حديث ابني أخطب من أحبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حبي حين سمعا من الأحرف المقطعة ألم وتأولاها على بيان المدة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلا المدة وجاء حبي إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} يسأله هل مع هذا غيره فقال المص ثم استزاد المر ثم استزاد المر فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدة وقال قد لبس علينا أمرك يا محمد حتى لا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم ذهبوا عنه
وقال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة وأربع سنين
قال ابن اسحق فنزل قوله تعالى ) منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( انتهى
ولا يقوم من القصة دليل على تقدير الملة بهذا العدد لأن دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية وإنما هي بالتواضع والأصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل نعم إنه قديم مشهور وقدم الاصطلاح لا يصير حجة وليس أبو ياسر وأخوه حبي من يؤخذ رأيه في ذلك دليلا ولا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غفلا عن الصنائع والعلوم حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملتهم وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك انتهى كلامه
وقال شاذان البلخي المنجم مدة ملة الإسلام ثلاثمائة وعشر سنين وقد ظهر كذب قوله ولله الحمد
وقال أبو معشر يظهر بعد المائة والخمسين من سني الهجرة اختلاف كثير ولم يصح ذلك
وقال حراس إن المنجمين أخبروا كسرى أنو شيروان بتملك العرب وظهور النبوة فيهم وأن دليلهم الزهرة وهي في شرفها والزهرة دليل العرب فتكون مدة ملك نبوتهم ألفا وستين سنة ولأن طالع القرآن الدال على ذلك برج الميزان والزهرة صاحبته في شرفها
قال وسأل كسرى وزيره بزرجمهر عن ذلك فأعلمه أن الملك يخرج من فارس وينتقل إلى العرب وتكون ولادة القائم بامرة العرب بخمس وأربعين سنة من وقت القران وأن العرب تملك المشرق والمغرب من أجل أن المشتري دليل فارس قد قبل تدبير الزهرة دليل العرب والقران قد انتقل من المثلثة المائية إلى برج العقرب منها وهو دليل العرب أيضا وهذه الأدلة تقتضي بقاء الملة الإسلامية بقدر دور الزهرة وهو ألف وستون سنة شمسية
وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر
وقال نفيل الرومي وكان في أيام بني أمية تبقى ملة الإسلام بقدر مدة القران الكبيرة وهي تسعمائة وستون سنة شمسية فإذا عاد القرآن بعد هذه المدة إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة وتغير وضع تشكيل الفلك عن هيأته في الابتداء فحينئذ يفتر العمل ويتجدد ما يوجب خلاف الظن
قال واتفقوا أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك المكونات بأسرها وذلك إذا قطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة من برج الأسد الذي هو حد المريخ بعد تسعمائة وستين سنة شمسية من قران الملة
ويقال إن ملك زابلستان وهي عزبة بعث إلى عبد الله أمير المؤمنين المأمون بحكيم اسمه ددبان في جملة هدية فأعجب به المأمون وسأله عن ملك بني العباس فأخبره بخروج الملك عن عقبه واتصاله في عقب أخيه وأن العجم تغلبهم فيتغلب الديلم أولا في دولة سنة خمسين ثم يسوء حالهم حتى يظهر الترك من شمال المشرق فيملكون الفرات والروم والشام فقال له المأمون من أين لك هذا قال من كتب الحكماء ومن أحكام صصه بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج قلت والترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية وقد انقضت دولتهم أول القران السابع
وقال يعقوب بن اسحاق الكندي مدة ملة الإسلام ستمائة وثلاث وتسعون سنة ووقع في الملة حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر الإجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان قال والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه وإسم أبيه وقبيلته
وسكت عليه أبو داود وما سكت عليه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحا فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضا قال قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فينا خطيبا فما ترك شيئا يكون في نسيه مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه حفظه من حفظه ونسيه من قد علمه أصحابه هؤلاء ولفظ البخاري ما ترك شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره
وفي كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وهذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن والإشراط لا غير لإنه المعهود من الشارع {صلى الله عليه وسلم} في أمثال هذه العمومات وهذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذا الطريق شاذة منكرة مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها
وقال الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون الدنيا أربعة آلاف سنة والنصارى يقولون الدنيا خمسة آلاف سنة وأما نحن يعني أهل الإسلام فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا
ومن أدعى في ذلك سبعة آلاف أو أكثر أو أقل فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه لفظة تصح بل صح عنه {صلى الله عليه وسلم} خلافه بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى
قال الله تعالى ) ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم (
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض
وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر علم أنا لدنيا أمدا لا يعده إلا الله
وكذلك قوله عليه السلام بعثت أنا والساعة كهاتين وضم أصبعيه المقدستين السبابة والوسطى
وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه فصح أنه {صلى الله عليه وسلم} إنما عنى شدة القرب لا فضل الوسطى على السبابة إذ لو أردنا ذلك لأخذت نسبة ما بين الإصبعين ونسب من طول الأصبع فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة وهذا باطل وأيضا فكان تكون نسبته {صلى الله عليه وسلم} إيانا إلى من قبلنا بأننا كالشعرة في الثور كذبا ومعاذ الله من ذلك فصح انه عليه السلام إنما أراد شدة القرب وله {صلى الله عليه وسلم} منذ بعث أربعمائة عام ونيف والله تعالى أعلم بما بقي للدنيا فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقلته وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى فهو الذي قاله {صلى الله عليه وسلم} من إننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار
وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال حدثني محمد بن معاوية القرشي أنه رأى بالهند بلدا له اثنتان وسبعون ألف سنة
وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون بأربعمائة ألف سنة
قال أبو محمد إلا أن لكل ذلك أولا ولا بد نهاية لم يكن شيء من العالم موجودا قبله ولله الأمر من قبل ومن بعد والله أعلم انتهى
وهذا ناظر في طول أمد الدنيا ولعل المراد بهذه المدينة بالهند بلدة قنوج بزنة سنور التي فتحها السلطان محمود وهي من المدائن القديمة
لمملكة الهند ودار حكومتها ولا يعرف بلد أقدم زمانا منها في أرض الهند وتتلوها في القدم بلدة أجودهيا التي يقال لها الآن فيض آباد وهي بلدة دارسة جدا حتى يقال أن بها قبر شيث بن آدم عليه السلام والله أعلم
وقنوج هذه كانت مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحامتي وموطن خاصتي وعامتي منذ ثلاثمائة سنة تقريبا ثم درج الآباء والأمهات في خبر كان ولم يبقى منهم أثر ولا عيان
شرقني غربني
أخرجني عن وطني
فإن تغيبت بدا
وإن بدا غيبني
فهي اليوم يلمع وموضع بلقع بما حل بها من ريب المنون وحوادث الدرب الخؤون فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها وعفى اسمها ولم يبقى منها إلا رسمها
وبادوا فلا مخبر عنهم
وماتوا جميعا وهذا الخبر
فمن كان ذا عبرة فليكن
فطينا ففي من مضى معتبر
وكان لهم أثر صالح
فأين هم ثم أين الأثر
ويقال أنها من المؤتفكات وليس بها الآن إلا عوام الناس صفر الأيدي من العلم والكمال والصفراء والبيضاء كأنهم أموات غير أحياء أو صخور صماء
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وإلا ما كان يفنيها البلاد وكاد يمحو رسمها الفناء والعدم
وما الناس بالناس الذين عهدتهم
وما الدار بالدار التي كنت تعرف
فإنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لراغبون هذا وقد ذكرنا في كتابنا حجج الكرامة في آثار القيامة كلاما أبسط من ذلك في بيان أمد الدنيا وعمر العالم وطرفا من حال قنوج وأهلها
ذكر أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم
اعلم أن الله سبحانه وتعالى اعتمر هذا العالم بخلقه وكرم بني آدم باستخلافهم في أرضه وبثهم في نواحيها لتمام حكمته وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهارا لآياته فيتعارفون بالأنساب ويختلفون باللغات والألوان ويتمايزون بالسير والمذاهب والأخلاق ويفترقون بالنحل والأديان والأقاليم والجهات
فمنهم العرب والفرس والروم وبنو إسرائيل والبربر ومنهم الصقالبة والحبش والزنج
ومنهم أهل الهند والسند وأهل بابل واليهود والصين وأهل اليمن وأهل مصر وأهل المغرب
ومنهم المسلمون والنصارى واليهود والصابئة والمجوس ومنهم أهل الوبر وهم أصحاب الخيام والحلل وأهل المدر وهم أصحاب المجاشر والقرى والأطم
ومنهم البدو الظواهر والحضر الأهلون
ومنهم العرب أهل البيان والفصاحة والعجم أهل الرطانة بالعبرانية والفارسية والإفريقية واللطينية والبربرية والهندية خالف أجناسهم وأحوالهم وألسنتهم وألوانهم ليتم أمر الله تعالى في اعتمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق وحاجات المعاش بحسب خصوصياتهم ونحلهم
فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية ) إن في ذلك لآيات للعالمين (
وأن الامتياز بالنسب أضعف المميزات لهذه الأجيال والأمم لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذهابه ولهذا كان الاختلاف كثيرا ما يقع في نسب الجيل الواحد أو الأمة الواحدة إذا اتصلت مع الأيام وتشعب بطونها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين والفرس والبربر وقحطان من العرب فإذا اختلفت الأنساب واختلفت فيها المذاهب وتباينت الدعاوى استظهر كل ناسب على صحة ما ادعاه بشواهد الأحوال والمتعارف من المقارنات في الزمان والمكان وما يرجع إلى ذلك من خصائص القبائل وسمات الشعوب والفرق التي تكون فيهم منتقلة متعاقبة في بنيهم
وسئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك فقيل له فمن إسماعيل فأنكر ذلك وقال من يخبره به
وعل هذا درج كثير من علماء السلف وكره أيضا أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان وقال من يخبره به وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى ) والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ( قال كذب النسابون واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنه {صلى الله عليه وسلم} لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال من هاهنا كذب النسابون واحتجوا أيضا بما ثبت فيه أنه علم لا ينفع وجهالة لا تضر إلى غير ذلك من الاستدلالات
وذهب كثير من أئمة المحدثين والفقهاء مثل ابن اسحق والطبري والبخاري إلى جواز الرفع في الأنساب ولم يكرهوه محتجين بعمل السلف فقد كان أبو بكر رضي الله عنه أنسب قريش لقريش ومضر بل ولسائر
العرب وكذا ابن عباس وجبير بن مطعم وعقيل بن أبي طالب وكان من بعدهم ابن شهاب والزهري وابن سيرين وكثير من التابعين
قالوا وتدعو الحاجة إليه في كثير من المسائل الشرعية مثل تعصيب الوراثة ولاية النكاح والعاقلة في الديات والعلم بنسب النبي {صلى الله عليه وسلم} وأنه القرشي الهاشمي الذي كان بمكة وهاجر إلى المدينة فإن هذا من فروض الإيمان ولا يعذر الجاهل به وكذا الخلافة عند من يشترط النسب فيها وكذا من يفرق في الحرية والاسترقاق بين العرب والعجم فهذا كله يدعو إلى معرفة الأنساب ويؤكد فضل هذا العلم وشرفه فلا ينبغي أن يكون ممنوعا
وأما حديث ابن عباس من هاهنا كذب النسابون يعني من عدنان فقد أنكر السهيلي روايته من طريق ابن عباس مرفوعا وقال الأصح أنه موقوف على ابن مسعود وخرج السهيلي عن أم سلمة أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن البري بن اعراق الثرى
قال وفسرت أم سلمة زيدا بأنه الهميسع والبري أنه نبت أو نابت واعراق الثرى بأنه إسماعيل وإسماعيل هو ابن إبراهيم وإبراهيم لم تأكله النار كما لا تأكل الثرى
ورد السهيلي تفسير أم سلمة وهو الصحيح وقال إنما معناه معنى قوله {صلى الله عليه وسلم} كلكم بنو آدم وآدم من تراب لا يريد أن الهيسع ومن دونه ابن لإسماعيل لصلبه وعضد ذلك في باتفاق الأخبار على بعد المدة بين عدنان وإسماعيل التي تستحيل في العادة أن يكون فيما بينها أربعة آباء أوسبعة أو عشرة أو عشرون لأن المدة أطول من هذا كله كما ذكر في نسب عدنان فلم يبق في الحديث متمسك لأحد من الفريقين
وأما ما رووه من أن النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر فقد ضعف الأئمة رفعه إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} مثل الجرجاني وأبي محمد بن الحزم وأبي عمر بن عبد البر
والحق في الباب أن كل واحد من المذهبين ليس على إطلاقه فإن
الأنساب القريبة التي يمكن التوصل إلى معرفتها لا يضر الإشتغال بها لدعوى الحاجة إليها في الأمور الشرعية من التعصيب والولاية والعاقلة وفرض الإيمان بمعرفة النبي {صلى الله عليه وسلم} ونسب الخلافة والتفرقة بين العرب والعجم في الحرية والإسترقاق عند من يشترط ذلك كما مر كله
وفي الأمور العادية أيضا تثبت به اللحمة الطبيعية التي يكون بها المدافعة والمطالبة ومنفعة ذلك في إقامة الملك والدين ظاهرة
وقد كان {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ينسبون إلى مضر ويتساءلون عن ذلك وروي عنه {صلى الله عليه وسلم} أنه قال تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
وهذا كله ظاهر في النسب القريب وأما الأنساب البعيدة العسرة المدرك التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد والمقارنات لبعد الزمان وطول الأحقاب إذ لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال فهذا قد ينبغي أن يكون له وجه في الكراهة كما ذهب إليه من ذهب من أهل العلم مثل مالك وغيره لأنه شغل الإنسان بما لا يعنيه وهذا وجه قوله {صلى الله عليه وسلم} فيما بعد عدنان من هنا كذب النسابون لأنها أحقاب متطاولة ومعالم دراسة لا تثلج الصدور باليقين في شيء منها مع أن علمها لا ينفع وجهلها لا يضر كما نقل والله الهادي إلى الصواب
ولنأخذ الآن في الكلام أنساب العالم على الجملة ونترك تفصيل كل واحد منها إلى مكانه
فنقول إن النسابين كلهم اتفقوا على أن الأب الأول للخليقة فهو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل إلا ما يذكره ضعفاء الإخباريين من أن الحن والطم أمتان كانتا فيما زعموا من قبل آدم وهو ضعيف متروك وليس لدينا من أخبار آدم وذريته إلا ما وقع في المصحف الكريم وهو معروف بين الأئمة واتفقوا على أن الأرض عمرت بنسله أحقابا وأجيالا بعد أجيال إلى عصر نوح عليه السلام وأنه كان فيهم أنبياء مثل شيث وادريس وملوك في تلك الأجيال معدودون وطوائف مشهورون
بالنحل مثل الكلدانين ومعناه الموحدون ومثل السريانيين وهم المشركون وزعموا أن أمم الصائبة منهم وأنهم من ولد صابى ء بن لمك بن أخنوخ وكان نحلتهم في الكواكب والقيام لهياكلها واستنزال روحانيتها وأن من حزبهم الكلدانين أي الموحدين
وقد ألف أبو إسحاق الصابى ء الكاتب مقالة في أنسابهم ونحلتهم وذكر أخبارهم أيضا داهر مؤرخ السريانيين والبابا الصابى ء الحراني وذكروا استيلاءهم على العالم وجملا من نواميسهم وقد اندرسوا وانقطع أثرهم
وقد يقال أن السريانيين من أهل تلك الأجيال وكذلك النمرود والأزدهاق وهو المسمى بالضحاك من ملوك الفرس وليس ذلك بصحيح عند المحققين واتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع بما كان من خراب المعمور وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله وعاد أبا ثانيا للخليقة وهو نوح بن لامك ويقال لمك بن متوشلح بن أخنوخ ويقال أخنوخ ويقال أشنخ ويقال أخنخ وهو إدريس النبي فيما قاله ابن إسحاق بن برد ويقال بيرد بن مهلائيل ويقال ماهلايل ابن قاين ويقال قينن بن أنوش ويقال يانش بن شيث بن آدم ومعنى شيث عطية الله هكذا نسبه ابن إسحاق وغيره من الأئمة وكذا وقع في التوراة نسبه وليس فيه اختلاف بين الأئمة
ونقل ابن إسحاق أن خنوخ الواقع اسمه في هذا النسب هو ادريس النبي وهو خلاف ما عليه الأكثر من النسابين فإن ادريس عندهم ليس بجد لنوح ولا في عمود نسبه
وقد زعم الحكماء الأقدمون أيضا أن إدريس هو هرمس المشهور بالإمامة في الحكمة عندهم
وكذلك يقال أن الصائبية من ولد صابى ء بن لامك وهو أخو نوح وقيل أن صابى ء متوشلخ جده
واعلم أن الخلاف الذي في ضبط هذه الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب فإذا وقع الحرف متوسطا بين حرفين من لغة العرب فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا وكذلك إشباع الحركات فد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم فمن ههنا اختلف الضبط في هذه الأسماء
واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط وأن آدم هو كيومرت وهو نهاية نسبهم فيما يزعمون وأن افريدون الملك في آبائهم هو نوح وأنه بعث لازدهاق وهو الضحاك فلبسه الملك وقبله كما ذكروه في أخبارهم وقد تترجح صحة هذه الأنساب من التوراة وكذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهود أو من نسخ صحيحة من التوراة ويغلب على الظن صحتها وقد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط ونسب ما بينهم وبين آدم صلوات الله عليه والنسب والقصص أمر لا يدخله النسخ فلم يبق تحري النسخ الصحيحة والنقل المعتبر
وأما ما يقال من أن علماءهم بدلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد وقال معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله أو ما في معناه قال وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل ويشهد لذلك قوله تعالى ) وعندهم التوراة فيها حكم الله ( ولو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنما المعنى به التأويل اللهم إلا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة ولاسيما وملكهم قد ذهب وجماعتهم انتشرت في الآفاق واستوى الضابط منهم وغير الضابط والعالم والجاهل ولم يكن وازع
يحفظ لهم لذهاب القدرة بذهاب الملك فتطرق من أجل ذلك إلى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف غير معتمد من علمائهم وأحبارهم
ويمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذا تحرى القاصد لذلك بالبحث عنه ثم اتفق النسابون ونقله المفسرون على أن ولد نوح الذين تفرعت الأمم منهم ثلاثة سام وحام ويافث وقد وقع ذكرهم في التوراة وأن يافث أكبرهم وحام الأصغر وسام الأوسط
وخرج الطبري في الباب أحاديث مرفوعة بمثل ذلك وأن سام أبو العرب ويافث أبو الروم وحام أبو الحبش والزنج وفي بعضها السودان وفي بعضها سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والبربر
ومثله عن ابن المسيب ووهب بن منبه
وهذه الأحاديث وإن صحت فإنما الأنساب فيها مجملة ولا بد من نقل ما ذكره المحققون في تفريع أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا
وكذلك نقل الطبري أنه كان لنوح ولد إسمه كنعان وهو الذي هلك في الطوفان قال وتسميه العرب يام وآخر مات قبل الطوفان اسمه عابر
وقال هشام كان له ولد إسمه بوناطر والعقب إنما هو من الثلاثة على ما أجمع عليه الناس وصحت به الأخبار
فأما سام
فمن ولده العرب على إختلافهم وإبراهيم وبنوه صلوات الله عليهم بإتفاق النسابين والخلاف بينهم إنما هو في تفريع ذلك أو في نسب غير العرب إلى سام
فالذي نقله ابن إسحاق أن سام بن نوح كان له من الولد خمسة
وهم أرفخشد وارم ولاوذ واشود وغليم وكذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة وأن بني أشوذ أهل الموصل وبني غليم أهل خوزستان ومنها الأهواز ولم يذكر في التوراة ولد ولاوذ
وقال ابن اسحاق وكان للاوذ أربعة من الولد وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس قال ومن العماليق أمة جاسم فمنهم بنو لف وبنو هزان وبنو مطر وبنو الأزرق ومنهم بديل وراحل وظفار ومنهم الكنعانيون وبرابرة الشام وفراعنة مصر
وعن غير ابن إسحاق أن عبد بن ضخم وأميم من ولد ولاوذ
قال ابن اسحاق وكانت طسم والعماليق وأميم وجاسم يتكلمون بالعربية وفارس يجاورونهم إلى المشرق ويتكلمون بالفارسية قال ولد أرم عوص وكاثر وعبيل ومن ولد عوص عاد ومنزلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت ومن ولد كاثر ثمود وجدبس ومنزل ثمود بالحجر بين الشام والحجاز
وقال هشام بن الكلبي عبيل بن عوص أخو عاد
وقال ابن حزم عن قدماء النسابين أن لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عوص وكاثر
قال فعلى هذا يكون جديس وثمود أخوين وطسم وعملاق أخوين أبناء عم لحام وكلهم بنو عم عاد قال ويذكرون أن عبد بن ضخم ابن إرم وأن أميم ابن عاد أرم
قال الطبري وفهم الله لسان العربية عاد وثمود وعبيل وطسم وجديس وأميم وعمليق وهم العرب العاربة وربما يقال أن من العرب العاربة يقطن أيضا ويسمون أيضا العرب البائدة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد
قال وكان يقال عاد إرم فلما هلكوا قيل ثمود إرم ثم هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان وهم النبط
وقال هشام بن محمد الكلبي إن النبط بنو نبيط بن ماش بن ارم والسريان بنو سريان بن نبط وذكر أيضا أن فارس من ولد أشوذ بن سام وقال فيه فارس بن طبراش بن أشوذ وقيل أمهم من أميم بن لاوذ وقيل ابن غليم
وفي التوراة ذكر ملك الأهواز واسمه كرد لا عمرو من بني غليم والأهواز متصلة ببلاد فارس فلعل هذا القائل ظن أن أهل الأهواز هم فارس والصحيح أنهم من ولد يافث
وقال أيضا أن البربر من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم بنو ثميلة من مارب بن قاران بن عمرو بن عمليق والصحيح أنهم من كنعان بن حام وذكر في التوراة ولد ارم أربعة عوص وكاثر وماش ويقال مشح والرابع حول ولم يقع عند بني إسرائيل في تفسير هذا الشيء إلا أن الجرامقة من ولد كاثر وقد قيل أن الكرد والديلم من العرب وهو قول مرغوب عنه
وقال ابن سعيد كان لأشوذ أربعة من الولد أيران ونبيط وجرموق وباسل فمن ايران الفرس والكرد والخزر ومن نبيط النبط والسريان ومن جرموق الجرامقة وأهل الموصل ومن باسل الديلم وأهل الجبل
قال الطبري ومن ولد أرفخشد العبرانيون وبنو عامر بن شالخ ابن ارفخشد وهكذا نسبه في التوراة وفي غيرها أن شالخ بن قينن بن ارفحشدر وإنما لم يذكر قينن في التوراة لأنه كان ساحرا وادعى الألوهية وعند بعضهم أن النمرود من ولد ارفخشد وهو ضعيف
وفي التوراة أن عابر ولد اثنين من الولد هما قانع ويقطن وعند المحققين من النسابة أن يقطن هو قحطان عربته العرب هكذا ومن قانع ابراهيم عليه السلام وشعوبه ومن يقطن شعوب كثيرة
ففي التوراة ذكر ثلاثة من الولد له وهم المرذاذ ومعربة ومضاض وهم جرهم وارام وهم حضور وسالف وهم أهل السلفات
وسبأ وهم أهل اليمن من حمير والتبابعة وكهلان وهدرماوت وهم حضرموت هؤلاء خمسة وثمانية أخرى ننقل إسماءهم وهي عبرانية ولم نقف على تفسير شيء منها ولا يعلم من أي البطون هم وهم بباراح أوزال ودفلا وعوثال وافيمايل وايوفير وحويلا ويوقاف
وعند النسابين أن جرهم من ولد يقطن فلا ادري من أيهم
وقال هشام بن الكلبي أن الهند والسند من نوفير بن يقطن والله أعلم
وأما يافث
فمن ولده الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج باتفاق من النسابين وفي آخرين خلاف وكان له من الولد على ماوقع في التوراة سبعة وهم كومر وياوان وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش وعدهم ابن إسحاق هكذا وحذف ماذاي ولم يذكر كومر وتوغرما واشبان وريغاث هكذا في نص التوراة
ووقع في الإسرائيليات أن توغرما هم الخزر وأن أشبان هم الصقالبة وأن ريغات هم الإفرنج ويقال لهم برنسوس والخزر هم التركمان وشعوب الترك كلهم من بني كومر ولم يذكروا من أي الثلاثة هم والظاهر أنهم من توغرما ونسبهم ابن سعيد إلى الترك ابن مامورين سويل بن يافث والظاهر أنه غلط وأن عامور هو كومر صحف عليه وهم أجناس كثيرة منهم الطغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طمغاج والخزلقية والغز الذين كان منهم السلجوقية وللهياطلة الذين كان منهم الخلج ويقال للهياطة الصغد أيضا
ومن أجناس الترك الغور والخزر القفجاق ويقال الخفشاخ ومنهم يمك والعلان ويقال اللاز ومنهم الشركس وازكش ومن ماغوغ عند الإسرائليين يأجوج ومأجوج
وقال ابن اسحاق انهم من كومر ومن ماذاي الديلم ويسمون في اللسان العبراني ماهان ومنهم أيضا همذان وجعلهم بعض الإسرائيليين من بني همذان بن يافث وعد همذان ثامنا للسبعة المذكورين من ولده وأما ياوان وإسمه يونان فعند الإسرائليين أنه كان له من الولد أربعة وهم داورين واليشا وكيتم وترشيش وأن كيتم من هؤلاء الأربعة هو أبو الروم والباقي يونان وأن ترشيش أهل طرطوس وأما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق واللمان المغرب ويقال أن أهل إفريقية قبل البربر منهم وأن الفرنج أيضا منهم
ويقال أيضا أن أهل الأندلس قديما منهم وأما ماشخ فكان ولده عند الإسرائليين بخرسان وقد انقرضوا لهذا العهد فيما يظهر وعند بعض النسابين أن الأشبان منهم وأما طيراش فهم الفرس عند الإسرائيليين وربما قال غيرهم أنهم من كومر وأن الخزر والترك من طيراش وأن الصقالبة وبرجان والأشبان من ياوان وأن يأجوج ومأجوج من كومر وهي كلها مزاعم بعيدة عن الصواب
وقال أهردشيوش مؤرخ الروم أن القوط واللطين من ماغوغ وهذا آخر الكلام في أنساب يافث والله أعلم
وأما حام
فمن ولده السودان والهند والسند والقبط و كنعان باتفاق وفي آخرين خلاف
وكان له على ما وقع في التوراة أربعة من الولد وهم مصر ويقول بعضهم مصرايم وكنعان وكوش وقوط فمن ولد مصر عند الإسرائيليين فتروسيم وكسلوحيم ووقع في التوراة فلشنين منهما معا ولم يتعين من أحدهما وبنو فلشنين الذين كان منهم جالوت ومن ولد مصر عندهم كفتورع ويقولون هم أهل دمياط ووقع الأنقلوس بن أخت قيطش الذي خرب القدس في الجولة الكبرى على اليهود وقال أن كفتورع هو قبطفاي ويظهر من هذه الصيغة أنهم القبط لما بين الإسمين من الشبه ومن ولد
مصر عناميم وكان لهم نواحي اسكندرية وهم أيضا يفتوحيم ولوديم ولهابيم ولم يقع إلينا تفسير هذه الأسماء
وأما كنعان بن حام
فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون ولهم ناحية صيداء وايموري وكرساش وكانوا بالشام وانتقلوا عندما غلبهم عليه يوشع إلى إفريقية فأقاموا بها ومن كنعان أيضا بيوسا وكانوا ببيت المقدس وهربوا أمام داود عليه السلام حين غلبهم عليه إلى إفريقية والمغرب وأقاموا بها والظاهر أن البربر من هؤلاء المنتقلين أولا وآخرا إلا أن المحققين من نسابهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان فلعل مازيغ ينتسب إلى هؤلاء ومن كنعان أيضا حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق ومنهم عرفان واروادى وخوى ولهم نابلس وسبأ ولهم طرابلس وضمارى ولهم حمص وحماة ولهم أنطاكية وكانت تسمى حماة بإسمهم وأما كوش بن حام فذكر له في التوراة خمسة من الولد وهم سفتا وسبأ وجويلا ورعما وسفخا ومن ولد رعما شاد وهم السند ودادان وهم الهند وفيها أن النمرود من ولد كوش ولم يعنيه وفي تفاسيرها أن جويلا زويلة وهم أهل برقة وأما أهل اليمن من ولد سبأ وأما قوط فعند أكثر الإسرائيليين أن القبط منهم
ونقل الطبري عن ابن اسحاق أن الهند والسند والحبشة من بني السودان من ولد كوش وأن النوبة وقزان وزغاوه والزنج منهم من كنعان
وقال ابن سعيد أجناس السودان كلهم من ولد حام ونسب ثلاثة منهم إلى ثلاثة سماهم من ولده غير هؤلاء الحبشة إلى حبش والنوبة إلى نوابة أو نوى والزنج إلى زنج ولم يسم أحدا من أباء الأجناس الباقية وهؤلاء الثلاثة الذين ذكروا لم يعرفوا من ولد حام فلعلهم من أعقابهم أو لعلها أسماء أجناس
وقال هشام بن محمد الكلبي أن النمرود هو ابن كوش بن كنعان
وقال أهردشيوش مؤرخ الروم أن سبأ وأهل إفريقية يعني البربر من جويلا بن كوش ويسمى يضول وهذا والله أعلم غلط لأنه مران يضول في التوراة من ولد يافث ولذلك ذكر أن حبشة المغرب من دادان بن رعما من ولد مصر بن حام بنو قبط بن لاب بن مصر انتهى الكلام في بني حام
وهذا آخر الكلام في أنساب أمم العالم على الجملة والخلاف الذي في تفاصيلها ذكره ابن خلدون في أماكنه والله ولي العون والتوفيق
ذكر طرف من تاريخ بعض الرسل والأمم الماضية
أعلم أن للناس في العالم مذاهب ثلاثة الحدوث وهو مذهب أهل الملل والمجوس وغيرهم والقدم المطلق أي قدم أصول هذا العالم من الأفلاك ومواد العناصر وأنواع صورها على الإتصال بلا انقطاع وهو مذهب الفلاسفة والآباديين وهم قوم من أوائل الفرس يدعون أن مبدأ نوعهم وقدوة دينهم رجل اسمه مه آباد وأنزل عليه كتاب اسمه دساتير بالفارسية والقدم بالنوع والحدوث بالشخص وهو مذهب الهنود
وهذه الإحتمالات بعينها تجري في نوع الإنسان إذا أقمنا وجود هذا النوع على الإتصال مقام الوجود الشخصي والتجدد في الأعيان مع الإنقطاع مقام القدم النوعي وعلى تقدير الحدوث هذا النوع الموجود مختلف في بدايته على أقوال لا يمكن الجمع بينهما وأصحاب هذا الرأي المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والترك والإفرنج قبل ظهور النصرانية فيهم والمنقح عند جميع اليهود والمسلمين ما صور في كتابي تقويم التواريخ وتاريخ بيت المقدس للناصر مجير الدين عبد الرحمن العلمي الحنبلي العمري صنفه في آخر سنة تسعمائة
وقد وقع في الكتابين في بعض المواضع تفاوت قليل تارة في التعرض والترك وتارة في الرقوم وإني قد جمعت ذلك مع زيادة فائدة على ما فيهما وأشرت إلى مواضع الإختلاف وجعلت مبدأ التاريخ على ما في الكتابين هبوط آدم أبي البشر عليه السلام والظاهر أنه وقت الخلقة والله أعلم ولكنهما اعتبراه من وقت الهبوط ولم يتعرضا لما بين الخلقة
والهبوط من المدة وكذا صنع غيرهما في غيرهما فأقول هبوط آدم أبي البشر عليه السلام كان وقت العصر يوم الجمعة ثامن شهر نيسان مطابق لعاشر المحرم في جزيرة سرانديب وإنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وخلق الله جسده وتركه أربعين ليلة وقيل أربعين سنة ملقى بغير روح فلما نفخ فيه الروح سجد له الملائكة كلهم أجمعون ) إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ( وقال ) أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( وكان سجودهم لآدم تحية لا عبادة وكان بوضع الجبهة على الأرض كما هو ظاهر النظم القرآني لا بالانحناء كما زعم كثير من أهل العلم والتفسير
وعلم الله آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة وخلق الله من ضلعه حواء زوجته وسميت بها لأنها خلقت من شيء حي فقال الله ) يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( فوسوس لهما الشيطان وأكلا من الشجرة المنهي عنها ) فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( وقال الله ) اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( وقد اختلف أهل العلم في الجنة التي كان فيها آدم قبل الهبوط هل هي على الأرض أو فوق السماء على قولين ثم اختلفوا في أي موضع كانت من الأرض على أقوال واستدل كل قائل بما بدا له من الحجج والأدلة وأطال في ذلك كما ذكره الحافظ بن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
والحق البحت أنه لم يرد في تعيين تلك الجنة نص من الله ولا من رسوله في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة حتى يجب المصير إليه والقول به فالأولى في الباب التوقف والسكوت والحجة في مثل هذا
المقام وهذا المرام دلالة العبارة من القرآن والحديث دون اقتضائها وإشارتها ولما هبط آدم عليه السلام منها إلى الأرض كان له ولدان هابيل وقابيل فقتل الثاني الأول
وتوفي آدم عليه السلام سنة تسعمائة وثلاثين والظاهر أنه أربعون سنة لأن عمره ألف سنة قمرية وتفاوتها قريب من ثلاثين سنة شمسية فهو بالشمسية تسع وتسعون فمدة المكث في الجنة أربعون سنة والله أعلم
وكانت ولادة شيث لمضي مائتين وثلاثين سنة من عمر آدم وهو وصي آدم وتفسيره هبة الله وإلى شيث تنتهي أنساب بني آدم كلهم وولد له أنوش لمضي سنة 435 من عمر آدم
وتقول الصابئة أنه ولد له ابن آخر اسمه صابى ء بن شيث وإليه تنسب الصابئة وولد له قينن لمضي سنة 625 من عمر آدم وولد له مهلائيل لمضي سنة من عمر آدم
قال ابن الجوزي أن آدم عند موته كان قد بلغ عدة ولده وولد ولده أربعين ألفا وولد لمهلائيل يرد وولد ليردخنوخ ولمضي عشرين سنة من عمر خنوخ توفي شيث وعمره تسعمائة واثنتا عشرة سنة وكانت وفاته لمضي سنة ألف ومائة واثنتين وأربعين لهبوط آدم عليه السلام
وفي تقويم التواريخ بترك مائة وأسم شيث عند الصابئة عاديمون وولد لخنوخ متوشلح وتوفي في زمنه أنوش وكان له من العمر تسعمائة وخمسون سنة وولد لمتوشلح لامخ ويقال له لامك ولمك وتوفي في زمنه قينن وله تسعمائة وعشر سنين وأما خنوخ وهو إدريس فإنه رفع لما صار له من العمر ثلاثمائة وخمس وستون سنة رفعه الله إلى السماء فكان ذلك لمضي ثلاث عشرة سنة من عمر لامخ قبل ولادة نوح بمائة وخمس وسبعين سنة وسنة سبع وستين وأربعمائة وألف من هبوط آدم عليه السلام ونبا الله إدريس المذكور وانكشفت له الأسرار السماوية وله صحف منها لا ترموا أن تحيطوا بالله خبرة فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين إلا من آثاره
وأما متوشلح بن إدريس فإنه توفي لمضي ستمائة من عمر نوح وذلك عند ابتداء مجيء الطوفان وكان عمره 969 وولد للامخ نوح وكانت ولادته بعد أن مضي ألف وستمائة واثنتان وأربعون سنة من هبوط آدم وتوفي في زمنه مهلائيل وكان له من العمر 895 وأيضا يرد وعمره 926 ولما صار لنوح خمسمائة سنة من العمر ولد له سام وحام ويافث ولما مضى من عمر نوح ستمائة سنة كان الطوفان وذلك لمضي ألفين ومائتين واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فكانت جملة ذلك تسعمائة وخمسين سنة ألف سنة إلا خمسين عاما وهذا نص المصحف الكريم وكذا وقع التوراة بعينه
قال ابن الكثير في الكامل أن الله تعالى أرسل نوحا إلى قومه وقد اختلف في ديانتهم وأصح ذلك ما نطق به الكتاب العزيز بأنهم كانوا أهل أوثان ) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ( وصار نوح يدعوهم إلى طاعة الله وهم لا يلتفتون وبقي لا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من الذي قبله فلما طال ذلك عليه شكاهم إلى الله تعالى فأوحى إليه ) أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ( فلما يئس منهم دعا عليهم فقال ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( فأوحى إليه أن يصنع الفلك وصنع السفينة من خشب الساج فلما فار التنور وكان هو الآية بين نوح وبين ربه حمل نوح من أمر الله بحمله وكان منهم سام وحام ويافث ونساؤهم وقيل حمل أيضا ستة أناسى وقيل ثمانين رجلا أحدهم جرهم كلهم من بني شيث وتخلف عنه ابنه يام وكان كافرا وارتفع الماء وطمى وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال وعلا الماء على رؤوس الجبال خمس عشرة ذراعا فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات
وكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال وقيل أن ركوب نوح في الفلك كان لعشر ليال مضت من رجب وكان ذلك أيضا لعشر ليال خلت من آب وخرج من السفينة يوم عاشوراء من المحرم وكان استقرار السفينة على الجودى من أرض الموصل
قال ابن الأثير وأما المجوس فلا يعرفون الطوفان وكان بعضهم يقر به ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه وأن مساكن ولد خيرموت كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم وكذلك جميع الأمم المشرقية من الهند والفرس والصين لا يعترفون به وبعض الفرس يعترف به ويقول لم يكن عاما ولم يتعد عقبه حلوان والصحيح أن جميع أهل الأرض من ولد نوح لقوله تعالى ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث أولاد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم وحام أو السودان ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج والفرنج والقبط من ولد حام بن نوح ولما مضت سنة ثلاثمائة وخمسين للطوفان توفي نوح سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وألفين لهبوط آدم وعمره تسعمائة وخمسون سنة وهذا على أن المراد بقوله تعالى ) فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ( جميع عمره عليه السلام والمتبادر من السباق والسياق أنه ما بين البعثة والطوفان والله أعلم
وولد لسام ارفخشد بعد الطوفان بسنتين وولد له قنين لمضي سنة 137 للطوفان وولد له شالخ لمضي سنة 276 من الطوفان وولد له عابر لمضي سنة 466 للطوفان وولد له فانع لمضي 540 للطوفان ثم ولد لفنع رعو وعند مولده تبلبلت الألسن وقسمت الأرض وتفرقت بنو نوح وذلك لمضي 670 للطوفان وولد لرعو ساروع بعد مضي سنة 802 وولد له ناحور لمضي سنة 932 للطوفان وولد له تارخ لمضي إحدى عشرة وألف سنة للطوفان وولد له إبراهيم الخليل
عليه السلام وذلك لمضي ألف وإحدى وثمانين سنة للطوفان وسنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وثلاثة آلاف من هبوط آدم عليه السلام
ومن الغريب الواقع في التوراة أن عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثة وخمسين سنة فيكون لقي نوحا وخالطه وأخذ عنه وهو على رأي وبعضهم أب لجميع الشعوب من بعده فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم ونوح وعلى هذا جملة السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان وسبع وتسعون سنة وعمر نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسون سنة
وأما سبب تبلبل الألسن
فقد ذكر أبو عيسى أن بني نوح الذين نشوا بعد الطوفان اجتمعوا على بناء حصن يتحرزون به خوفا من مجيء الطوفان مرة ثانية والذي وقع رأيهم عليه أن يبنوا صرحا شامخا يبلغ رأسه السماء فجعلوا له اثنين وسبعين برجا وجعلوا على كل برج كبيرا منهم يستحث على العمل فانتقم الله منهم وبلبل ألسنتهم إلى لغات شتى ولم يوافقهم عابر على ذلك واستمر على طاعة الله تعالى فبقاه الله تعالى على اللغة العبرانية ولم ينقله عنها ولما افترقت بنو نوح صار لولد سام العراق وفارس وما يلي ذلك إلى الهند وصار لولد حام الجنوب مما يلي مصر على النيل وكذلك مغربا إلى أقصاه وصار لولد يافث مما يلي بحر الخزر وكذلك مشرقا إلى جهة الصين وكانت شعوب أولاد نوح الثلاثة عند تبلبل الألسن اثنين وسبعين شعبا هود وصالح وهما نبيان أرسلا بعد نوح وقبل إبراهيم الخليل
أما هود فقيل أنه عابر بن شالح أرسل إلى عاد وكانوا أهل أصنام ثلاثة وكان عاد وثمود جبارين طوال القامات كما قال تعالى ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ( وبقي
هود بعد هلاك عاد كذلك حتى مات وقبره بحضرموت وقيل بالحجر من مكة
وأما صالح فأرسله الله إلى ثمود وهو ابن عبيد بن أسف بن ماشج وكان مسكن ثمود بالحجر فلم يؤمن به إلا قليل وعقروا الناقة فأهلكهم الله تعالى ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( وصار صالح إلى فلسطين ثم انتقل إلى الحجاز يعبد الله إلى أن مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة وولد إبراهيم بالأهواز وقيل ببابل وهي العراق وكان نمرود عاملا على سواد العراق وما اتصل به للضحاك وقيل كان ملكا مستقلا برأسه فأخذ إبراهيم ورماه في نار عظيمة سنة ثمان وستين وثلاثمائة وثلاثة آلاف من هبوط آدم عليه السلام فكانت النار عليه بردا وسلاما
وفي تاريخ القدس سنة تسع وثلاثين وفيها هجرة إبراهيم من بابل إلى فلسطين وفي تقويم التواريخ سنة ثلاث وتسعين وفيها خروج كادة الحداد على الضحاك وسلطنته أفريدون الفارسي
وكان إبراهيم في أواخر أيام بيوراسب المسمى بالضحاك وفي أول ملك أفريدون
وكان بناء الكعبة المعظمة على يده الكريمة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وثلاثة آلاف وفيها ولاة اسحاق عليه السلام
وكانت ولادة إسماعيل قبل هذا بأربعة عشر عاما أعني سنة تسع منها وقد اختلف في الذبيح هل هو إسحاق أم إسماعيل وفداه الله بكبش ولكل من أهل العلم وجهة هو موليها وقد بينا ما هو الحق في تفسيرنا فتح البيان في مقاصد القرآن
ومن زعم أن الذبيح إسحاق يقول كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيليا وهي بيت المقدس ومن يقول أنه إسماعيل يقول أن ذلك كان بمكة ثم أن إبراهيم ومن آمن معه فارقوا قومهم وهاجروا إلى
حران وأقاموا بها مدة ثم سار إبراهيم إلى مصر وصاحبها فرعون ووهبه هاجر ثم سار من مصر إلى السام وأقام بين الرملة وإيليا وولدت له هاجراسماعيل ومعناه بالعبراني مطيع الله فحزنت سارة لذلك فوهبها الله إسحاق وماتت هاجر بمكة وقدم إليه أبوه ابراهيم وبينا الكعبة وهي بيت الحرام
ولوط هو ابن أخي ابراهيم هاران بن آزر وكان قد آمن بعمه إبراهيم وهاجر معه إلى مصر وعاد إلى الشام وأرسله الله إلى أهل سذوم وكان ما كان وقصته في القرآن الكريم وأرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن وإلى العماليق وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة ومات بمكة ودفن عند قبر أمه هاجر بالحجر وكانت وفاته بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة
واستمر البيت على ما بناه إبراهيم إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبنوه وكان بناؤه بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم بمدة فتكون بالتقريب بين ذلك وبين الهجرة ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة
ولادة يعقوب عليه السلام سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وثلاثة آلاف ويقال له إسرائيل وكان بنوه اثني عشر رجلا هم آباء الأسباط وهم روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم يساخر ثم زبولون ثم يوسف ثم بنيامين ثم دان ثم نفتالي ثم كاذ ثم أشار
وتوفي إبراهيم عليه السلام سنة ثمان وتسعين وأربعمائة وثلاثة آلاف
أيوب عليه السلام وهو رجل عده المؤرخون من أمة الروم لأنه من ولد العيص بن إسحاق وكان نبيا في عهد يعقوب في قول بعضهم وعاش ثلاثا وتسعين سنة ومن ولد أيوب ابنه بشر وبعث الله بشرا بعد أيوب وسماه ذا الكفل وكان مقامه بالشام
يوسف بن يعقوب لما صار له من العمر ثماني عشرة سنة كان فراقه لأبيه وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة ثم اجتمعا في مصر وبقيا
مجتمعين سبع عشرة سنة وعاش يوسف مائة وعشر سنين وكان مولده لمضي سنة 251 من مولد إبراهيم ووفاته لمضي سنة 361 من مولد إبراهيم ويكون وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة محققا وأما قصة فراقه من أبيه وشغف زليخا به حبا فحسب ما ذكر الله في كتابه العزيز وهو أحسن القصص في القرآن وكان وفاة يوسف بمصر ودفن بها حتى كان من موسى وفرعون ما كان فلما سار موسى من مصر ببني إسرائيل إلى إلى التيه نبش يوسف وحمله معه في التيه حتى مات موسى فلما قد يوشع ببني إسرائيل إلى الشام ودفنه بالقرب من نابلس وقيل عند الخليل عليه السلام
شعيب بعثه الله إلى أصحاب الأيكة وأهل مدين وقد اختلف في نسبه فقيل من ولد إبراهيم الخليل وقيل من ولد بعض المؤمنين بإبراهيم وكان الأيكة من شجر ملتف فلم يؤمنوا فأهلكهم الله بسحابة أمطرت عليهم نارا يوم الظلة وأهلك أهل مدين بالزلزلة
موسى هو ابن عمران بن قاهات بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق أرسله الله تعالى نبيا بشريعة بني إسرائيل وكان من أمره ما حكاه الله سبحانه في كتابه العزيز في غير موضع وهارون أخوه وكان اكبر منه بثلاث سنين وقارون ابن عم موسى وكان قد رزقه الله مالا عظيما يضرب به المثل على طول الدهر وكان وفاة موسى سنة ثمان وستين وثمانمائة وثلاثة آلاف من هبوط آدم في التيه في سابع آذار لمضي ألف وستمائة وست وعشرين سنة من الطوفان في أيام منوجهر الملك وكان موته بعد هارون أخيه بأحد عشر شهرا وكان مولد موسى لمضي سنة 445 من مولد إبراهيم وكان بين وفاة إبراهيم ومولد موسى مائتان وخمسون سنة وولد لمضي ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان وكان عمره حين خرج من مصر ثمانين سنة وأقام في التيه أربعين سنة فيكون عنمره مائة وعشرين سنة وكانت جملة مقام بني إسرائيل بمصر من حين دخلوا بها حتى أخرجهم موسى مائتين وخمس عشرة سنة وأول من قام في بني إسرائيل بعد موسى طالوت
وقد كثر اللغط في بيان حكام بني إسرائيل وملوكهم لبعد عهده ولكونه باللغة العبرانية فتعسر النطق بألفاظه على الصحة ولم أجد في نسخ التواريخ ما اعتمد على صحته لأن كل نسخة تخالف الأخرى أما في أسمائهم وأما في عددهم وأما في مدد استيلائهم ولليهود الكتب الأربعة والعشرون وهي عندهم متواترة قديمة لم تعرب إلى الآن بل هي باللغة العبرانية
قال أبو الفدا فأحضرت منها سفري بني إسرائيل وملوكها وأحضرت إنسانا عارفا باللغة العبرانية والعربية وتركته يقرأها وأحضرت منها ثلاث نسخ وكتبت منها ما ظهر عندي صحته وضبطت الأسماء بالحروف والحركات حسب الطاقة انتهى
ولادة داود
هو من ولد هوذا بن يعقوب بن إسحاق سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وثلاثة آلاف من هبوط آدم وكان مقامه بجيرون فلما بلغ سنة ثمان وثلاثين من عمره انتقل إلى القدس وفتح في الشام فتوحات كثيرة من أرض فلسطين وبلد عمان وماب وحلب ونصيبين وبلاد الأرمن وغير ذلك وملك داود أربعون سنة وتوفي وله سبعون سنة في أواخر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى وأوصى بالملك إلى سليمان وأوصاه بعمارة بيت المقدس وفي تقويم التواريخ وفي أي في سنة مولد داود غلبة أفراسياب على الفرس وفيه اختلاف وفي تاريخ الطبري أن غلبة أفراسياب غلى منوجهر كان في زمن موسى وكان كيقباذ في زمن داود عليه السلام ولعل ذلك هو الصحيح
ولادة سليمان
سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وأربعة آلاف من هبوط آدم وملك بعد أبيه وعمره اثنتا عشر سنة في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وأربعة آلاف وفيها توفي داود عليه السلام وأتاه الله من
الحكمة والملك ما لم يؤته لأحد سواه على ما أخبر الله به في محكم كتابه العزيز وهذا الذي ذكر من وفاة داود وخلافة سليمان خلاف ما في الكتابين ففيهما أن وفاة داود سنة ثلاث وأربعمائة بعد أربعة آلاف ووفاة سليمان عليه السلام سنة ثلاث وأربعين منها والذي أوجب ذلك ما صح في حديث الميثاق فأكمل الله تعالى لداود مائة سنة ولآدم ألف سنة ومن الثابت أن سليمان ولي الخلافة بعد أبيه أربعين سنة والله أعلم
وفي السنة الرابعة من ملك سليمان وهي سنة 539 لوفاة موسى ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس وأقام فيها سبع سنين وفرغ في السنة الحادية عشرة من ملكه فيكون الفراغ منه في أواخر سنة 546 لوفاة موسى وكان ارتفاع البيت ثلاثين ذراعا وطوله ستين ذراعا في عرض عشرين ذراعا وعمل خارج البيت سورا محيطا به امتداده خمس مائة ذراع وفي السنة الخامسة والعشرين من ملكه جاءته بلقيس ملكة اليمن ومن معها وأطاعه جميع ملوك الأرض
واستمر سليمان على ذلك حتى توفي وعمره اثنتان وخمسون سنة فكانت مدة ملكه أربعين سنة فيكون وفاة سليمان في أواخر سنة 575 لوفاة موسى
تولي بخت نصر على بابل في سنة اثنين وخمسين وتسعمائة لوفاة موسى وذلك على حكم ما اجتمع لنا من مدد ولايات حكام بني إسرائيل والفترات التي كانت بينهم وأما ما اختاره المؤرخون فقالوا أن من وفاة موسى إلى ابتداء ملك بخت نصر تسعمائة وثمانيا وسبعين سنة وثمانية وأربعين يوما وهو يزيد على ما اجتمع لنا من المدد المذكورة فوق ست وعشرين سنة وهو تفاوت قريب وكان هذا النقص إنما حصل من إسقاط اليهود كسورات المدد المذكورة فإنه من المستبعد أن يملك الشخص عشرين سنة أو تسع عشر سنة مثلا بل لابد من أشهر وأيام مع ذلك فلما ذكروا لكل شخص مدة صحيحة سالمة من الكسر نقصت جملة السنين القدر المذكور أعني ستا وعشرين سنة وكسورا وكان ابتداء ولاية بخت نصر في سنة تسع وسبعين وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام
ظهور طبقة الكيانين
وأولهم كيقباد سنة اثنتين وعشرين بعد أربعة آلاف وستمائة كما في تقويم التواريخ وابتداء ملك بخت نصر إحدى وأربعين وثمانمائة وأربعة آلاف وفي تاريخ بيت المقدس أن بخت نصر كان أميرا للهراسب الفارسي الذي فوض إليه السلطنة كيخسرو وابتداء ملكه سنة سبع وأربعين منها تخريب بيت المقدس على يده سنة سبع وستين وثمانمائة وأربعة آلاف وفي تقويم التواريخ بزيادة سنة واحدة وفيها ابتداء ملك كشتاسب ابن لهراسب سنة سبع وتسعمائة وأربعة آلاف وكشتاسب عند اليهود يسمى كورش
تعمير بيت المقدس على يد كورش
سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وأربعة آلاف وفيها كان ظهور زردشت ومتابعة كشتاسب كما في تقويم التواريخ وعند صاحب تاريخ القدس الأصح أن كورش هو بهمن بن أسفنديار ولد كشتاسسب قال أبو الفدا صاحب حماة يكون انقضاء ملوك بني إسرائيل وخراب بيت المقدس على يد بخت نصر سنة عشرين من ولايته تقريبا وهي السنة التاسعة والتسعون وتسعمائة لوفاة موسى وهي أيضا سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة مضت من عمارة بيت المقدس وهي مدة لبثه على العمارة
واستمر بيت المقدس خرابا سبعين سنة ثم عمر وعمره بعض ملوك الفرس واسمه عند اليهود كيرش واختلف فيه من هو فقيل دارا ابن بهمن وقيل هو بهمن المذكور وهو الأصح ويشهد لصحة ذلك
كتاب أشعيا ولما عادت عمارة بيت المقدس تراجعت إليه بنو إسرائيل من العراق وغيره وكانت عمارته في أول سنة تسعين لابتداء ولاية بخت نصر
قال أبو عيسى أن بني إسرائيل لما تراجعوا إلى القدس بعد عمارته صار لهم حكام منهم وكانوا تحت حكم ملوك الفرس واستمروا حتى ظهر الإسكندر في سنة 435 لولاية بخت نصر وغلبت اليونان على الفرس ودخلت حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان وأقام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم وكان يقال للمتولي عليهم هرذوس واستمر بنو إسرائيل على ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني وتشتت منه بنو إسرائيل
يونس بن متى عليه السلام
ومتى أم يونس ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس عليهما السلام كذا ذكره ابن الأثير في الكامل وقد قيل أنه من بني إسرائيل وأنه من سبط بنيامين وكانت بعثته بعد يوثم بن عزيا وهو أحد ملوك بني إسرائيل وكانت وفاة يوثم في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى وبعث الله يونس إلى أهل نينوى وهي قبالة الموصل بينهما دجلة وكانوا يعبدون الأصنام فنهاهم وأوعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا وضمن ذلك عن ربه عز وجل فلما أظلهم العذاب آمنوا فكشفه الله عنهم والتقمه الحوت وسار به إلى الابله وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز
آرميا بن خلقيا عليه السلام
نبي من أنبياء بني إسرائيل كان بعهد صدقيا وهو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس ولما توغلوا في الكفر والعصيان هدد بني إسرائيل ببخت نصر وهم لا يلتقتون إليه فلما رأى أنهم لا يرجعون عما هم فيه فارقهم وختفى حتى غزاهم بخت نصر وخرب القدس حسب ما تقدم ذكره وكان من قصته ما أخبر الله به في الكتاب بقوله ) أو كالذي (
مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) الآية وقد قيل أن صاحب القصة هو العزيز والأصح أنه أرميا كذا في تاريخ ابن سعيد المغربي والله أعلم
ولادة الإسكندر اليوناني
سنة ستين ومائتين وخمسة آلاف من هبوط آدم وفيها وفاة أفلاطون الحكيم الإلهي غلبة إسكندر على الفرس سنة اثنتين وثمانين ومائتين وخمسة آلاف ووفاة إسكندر سنة تسع وثمانين منها
زكريا من ولد سليمان بن داود عليه السلام
وكان نبيا ذكره الله في كتابه العزيز وكان نجارا وهو الذي كفل مريم أم عيسى وكانت مريم بنت عمران بن ماتان من ولد سليمان وكانت أم مريم اسمها حنه وكان زكريا متزوج أخت حنه واسمها ايشاع فكانت زوج زكريا خالة مريم وأرسل الله تعالى جبريل فبشر زكريا بيحي ثم أرسل جبريل فنفخ في جيب مريم فحبلت بعيسى وولد يحيى قبل المسيح بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى فلما علمت اليهود أن مريم ولدت من غير بعل اتهموا زكريا بها وطلبوه فهرب واختفى في شجرة عظيمة فقطعوا الشجرة وقطعوا زكريا معها وشق فيها نصفين وقيل المشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وكان عمر زكريا حينئذ نحو مائة سنة وكان قتله بعد ولادة المسيح لمضي ثلاثمائة وثلاث سنين للإسكندر فيكون مقتل زكريا بعد ذلك بقليل
وأما يحي ابنه فإنه نبي صغير ودعا الناس إلى عبادة الله ولبس يحي الشعر واجتهد في العبادة حتى نحل جسمه وذبح يحي لما نهى هذروس عن بنت أخ له أن يتزوجها وقيل اغتصب امرأة أخيه وتزوجها ولم يكن ذلك في شرعهم مباحا فأنكر ذلك عليه وقتل يحي
وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة واختلف
هل كان أبوه حيا عند قتله فقيل مات قبله وقيل بعده وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن في ببيت المقدس وهو الصحيح وكان قتله قبل رفع المسيح بمدة يسيرة بعد مضي ثلاثين سنة من عمر عيسى وكان رفع عيسى بعد نبوته بثلاث سنين والنصارى تسمي يحي يوحنا المعمدان لكونه عمد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام
قال في تقويم التواريخ ولادة يحي وعيسى سنة أربع وثمانين وخمسمائة وخمسة آلاف من هبوط آدم عليه السلام ومريم معناه العابدة وولدته في بيت لحم وهي قرية قريبة من القدس سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر ثم إن مريم سارت به إلى مصر وسار معها ابن عمها يوسف بن يعقوب بن ماتان النجار وكان حكيما وزعم بعضهم أن يوسف كان قد تزوج مريم لكنه لم يقربها وهو أول من أنكر حملها ثم علم وتحقق براءتها وسار معها إلى مصر وأقاما هناك اثنتي عشرة سنة ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى وأقام بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة فأوحى الله إليه وأرسله إلى الناس وكان يلبس الصوف والشعر ويأكل من نبات الأرض
وكان الحواريون اثني عشر رجلا وسألوه المائدة فأنزل الله إليه سفرة حمراء مغطاة بمنديل فيها سمكة مشوية وحولها البقول ما خلا الكراث وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ومعها خمس أرغفة على بعضها زيتون وعلى باقيها رمان وتمر فأكل منها خلق كثير ولم تنقص ولم يأكل منها ذو عاهة إلا برئ وكانت تنزل يوما وتغيب يوما أربعين ليلة ثم رفع الله تعالى المسيح إليه وألقى شبهه على الذي دلهم عليه وكان رفعه إلى السماء سنة سبع عشرة وستمائة وخمسة آلاف من هبوط آدم عليه السلام وفي تاريخ القدس كل من الولادة والوفاة بعد هذه السنين قال ابن الأثير في الكامل اختلف العلماء في موته قبل رفعه فقيل رفع ولم يمت وقيل بل توفاه الله ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات ثم أحياه وتأول قائل هذا قوله تعالى ) إني متوفيك ( وكان رفعه لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين سنة من غلبة الإسكندر على دارا وكان بين رفعه
ومولد النبي {صلى الله عليه وسلم} خمسمائة وخمس أربعون سنة تقريبا وكانت ولادة المسيح أيضا لمضي ثلاث وثلاثين سنة من أول ملك أغسطس ولمضي إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا ملكة اليونان
وقيل غير ذلك ولكن هذا هو الأقوى وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثا وثلاثين سنة فكان رفعه في أواخر السنة الأولى من ملك غانيوس
وأما مريم أمه فعاشت نحو ثلاث وخمسين سنة لأنها حملت بالمسيح لما صار لها ثلاث عشرة سنة وعاشت معه مجتمعة ثلاثا وثلاثين سنة وكسرا وبقيت بعد رفعه ست سنين
ذكر خراب بيت المقدس
الخراب الثاني وهلاك اليهود وزوال دولتهم زوالا لا رجوع بعده كان ابتداء عمارته الثانية لمضي ألف وسبع وستين سنة لوفاة موسى ولمضي تسع وثمانين سنة من ابتداء ملك بخت نصر والذي عمره هو ملك الفرس اردشير بهمن واسمه عند بني إسرائيل كيرش وقيل كورش وقيل كيرش ملك آخر غير بهمن وكان اسم هرذوس الذي قصد قتل المسيح فيلاطوس فرفع الله عيسى وكان منه ومنهم ما كان
ثم ملك طيطوس وفي السنة الأولى من ملكه قصد بيت المقدس وأوقع باليهود وقتلهم وأسرهم عن آخرهم إلا من اختفى ونهب القدس وخربه وخرب بيت المقدس وأحرق الهيكل وأحرق كتبهم وخلا القدس من بني إسرائيل كان لم يغن بالأمس ولم تعد لهم بعد ذلك رئاسة ولا حكم وكان ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة وثلاث مائة وست وسبعين سنة من غلبة الإسكندر ولثمان مائة وإحدى عشرة سنة مضت لابتداء ملك بخت نصر
وفي تقويم التواريخ سنة تسع وخمسين وستمائة وخمسة آلاف من هبوط آدم وفي تاريخ بيت المقدس بعده يسنتين فيكون لبث بيت المقدس
على عمارته الأولى إلى حين خربه بخت نصر أربعمائة وثلاثا وخمسين سنة ثم لبث على التخريب سبعين سنة ثم عمر ولبث على عمارته الثانية إلى حين خربه طيوطوس الرومي مرة ثانية سبعمائة وإحدى وعشرين سنة
قال الحسن بن أحمد المهلبي في المسالك و الممالك ثم تراجع بيت المقدس إلى العمارة قليلا قليلا واعتنى به بعض ملوك الروم وسماه إيليا ومعناه بيت الرب فعمره ورمم شعثه واستمر عامرا وهي عمارته الثالثة حتى سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس في طلب خشبة المسيح التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها ولما وصلت إلى القدس بنت كنيسة قيامة على القبر الذي تزعم النصارى أن عيسى دفن به وخربت هيكل بيت المقدس إلى الأرض وأمرت أن يلقى في موضعه قمامات البلد و زبالته فصار موضع الصخرة مزبلة وبقي الحال على ذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس فدله بعضهم على موضع الهيكل فنظفه عمر من الزبايل وبنى به مسجدا وبقي ذلك المسجد إلى أن تولى الوليد بن عبد الملك الأموي فهدم ذلك المسجد وبنى على الأساس القديم المسجد الأقصى وفيه الصخرة
وبنى هناك قبايا أيضا سمي بعضها قبة الميزان وبعضها قبة المعراج وبعضها قبة السلسلة والأمر على ذلك إلى يومنا هذا
هكذا نقله المهبلي العزيزي المذكور والعهدة عليه فيكون عمارة الوليد هي عمارته الخامسة
الفرس وهم أربع طبقات
وهذه الأمة من أقدم أمم العالم وأشدهم قوة وآثارا في الأرض وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان الأولى منهما الكينية وهي التي غلب عليها الإسكندر والثانية الساسانية الكسروية وهي التي غلب عليها المسلمون وأما قبل هاتين الدولتين فبعيد وأخباره متعارضة ولا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح وأرض ايران هي بلاد الفرس ولما عربت قيل لها عراق وقيل أنهم من ولد ايران بن
افريدون وهم ينسبون الفرس إلى كيومرت ومعناه ابن الطين كانت ملوك الفرس من أعظم ملوك الأرض في قديم الزمان ودولتهم وترتيبهم لا يماثلهم في ذلك غيرهم وهم أربع طبقات
الأولى
يقال لهم الفيشداذية ومعناها أول سيرة العدل وعدتها تسعة وهم أوشهنج وطهمورت وجمشيد وبيوراسب وهو الضحاك و أفريدون بن أثفيان ومنوجهر وفراسياب وزد وكرشاسف وهذه الطبقة قديمة وقد نقل عن مدد ملكهم وحروبهم أمورا كثيرة يأباها ويمجها السمع
والثانية
يقال لهم الكيانية وهم الذين في أول أسمائهم لفظة كي وكي لقطة للتنويه قيل معناه الروحاني وقيل الجبار وعدة الكيانية تسعة أيضا وهم كيقباذ وكياكاؤس وكيخسرو وكيلهراسف وكيبشتاسف وكي ازدشير وبهمن وخمانى بنت أزدشير ودار الأول ودار الثاني وهو الذي قتله الإسكندر واستولى على ملكه
و الثالثة
هم بعض ملوك الطوائف ويقال لهذه الطبقة الإشغانية وعدتهم أحد عشر وهم اشغابن اشغان ويقال اشك بن اشكان وسابور بن اشغال وجور بن اشغان وبيرن الأشغاني وجودزر الأشغاني وترسي الأشغاني وهمز الأشغاني واردوان الأشغاني وخسرو الأشغاني وبلاش الأشغاني واردوان الأصغر الأشغاني
والرابعة
وهم الأكاسرة لآن كل واحد منهم يقال له كسرى ويقال لهم أيضا الساسانية نسبة إلى جدهم ساسان وملك منهم عدة من النساء بعد
الهجرة واستولى عليهم غيرهم من الفرس وكان أولهم أزدشير بن بابك وآخرهم يزدجرد الذي قتل في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ومدة ملكهم في العالم على ما نقل ابن سعيد من كتاب تاريخ الأمم لعلي ابن حمزة الأصفهاني وذلك من زمن كيومرت أبيهم إلى مهلك يزدجرد أربعة آلاف سنة ومائتا سنة ونحو إحدى وثمانين سنة وكيومرت عندهم هو أول ملك نصب في الأرض ويزعمون فيما قال المسعودي أنه عاش ألف سنة والفرس كلهم متفقون على أن كيومرت هو آدم الذي هو أول الخليقة وأن اوشهنك هو مهلايل ملك الهند وبالجملة وكان أوشهنك فاضلا محمود السيرة والسياسة بني بابل والسوس ونزل الهند وعقد على رأسه التاج وجلس على السرير وجمشيد معناه شعاع القمر فجم هو القمر والشيد هو الشعاع وكذلك خورشيد لأن خور إسم الشمس وملك جمشيد الأقاليم السبعة وببوراسب كان يقال له الدهاك ومعناه عشر آفات فلما عرب قيل الضحاك وملك الأرض كلها
وكان إبراهيم الخليل عليه السلام في أواخر أيام الضحاك وأول ملك افريدون ويقال أن أفريدون هو نوح والتحقيق أنه من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء وأنه ملك خسمائة سنة وأنه الذي محا آثار ثمود واختلف في الضحاك اختلافا كثيرا فيزعم كل من الفرس واليونان والعرب أنه منهم والفرس يجعلونه قبل الطوفان لأنهم يعترفون بالطوفان
وخر ج في أيامه بأصبهان رجل يقال له كابى وكان حدادا فدعا الناس إلى مجاهدة الضحاك في سنة 3393 وكان ماكان حتى ملك أفريدون قيل هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم وكان له ثلاثة أولاد فقسم الأرض بينهم أثلاثا أحدهم ايرج جعل له العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج والسرير وفوض إليه الولاية على أخويه والثاني شرم وجعل له الروم وديار مصر والمغرب والثالث طوج وجعل له الصين والترك والمشرق جميعه ومنوجهر هو ابن ايرج وكانت أمه من ولد اسحاق عليه السلام
ثم استبد وحمل الفرس على دين إبراهيم وفي أيامه ظهر موسى
عليه السلام وكان فرعون مصر عاملا لمنوجهر ومطيعا له وأفريدون وأول من تسمى بكي ومعناه التنزيه أي ملخص متصل بالروحانيات
وقيل معناه البهاء لأنه يغشاه نور من بيوم قتل الضحاك وقيل معناه مدرك الثأر وكان في زمان لهراسف بخت نصر وجعله اصبهذا على العراق والهواز والروم وهو الذي خرب القدس وحضر مع بخت نصر دانيال النبي من بني إسرائيل والأصح أنه لم يكن ملكا مستقلا بنفسه بل كان نائبا للهراسف ثم غزا بخت نصر العرب وكان في زمن معد بن عدنان فقصده طوائف من العرب مسالمين فأحسن إليهم وأنزلهم شاطئ الفرات وبنوا موضع معسكرهم وسموه الأنبار واستمروا كذلك مدة حياة بخت نصر ورأى رؤيا لم يطق أحد من العلماء والسحرة والكهنة أن ينبئه بذلك حتى سأل دانيال فعبرها فخر بخت نصر ساجدا لدانيال وأمر له بالخلع وأن يقرب له القوابين وتفسير بخت نصر بالعربية عطارد وهو ينطق
قال ابن العميد ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس وغزا مصر واستولى عليها وتسمى بخت نصر الثاني وظهر في أيام كي بشتاسف زرادشت وهو صاحب كتاب المجوس فصدقه ودخل في دينه وكان فيما زعم أهل الكتاب من أهل فلسطين خادما لبعض تلامذة أرميا النبي عليه السلام وعند علماء الفرس أنه من نسل منوجهر الملك وأن نبيا من بني إسرائيل بعث إلى كشتاسف وهو يبلخ فكان لزرادشت وجاماسب العالم وهو من نسل منوجهر أيضا يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبي بالعبرانية وكان جاماسب يعرف اللسان العربي ويترجمه لزرادشت وقال علماء الفرس أن زرادشت جاء بكتاب ادعاه وحيا قال المسعودي ويسمى ذلك الكتاب نسناه وهو كتاب الزمزمة ويدور على ستين حرفا من حروف المعجم وفسره زرادشت وسمي تفسيره زند ثم فسر التفسير ثانيا وسماه زندية وهذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق وأقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة قسم في أخبار الأمم الماضية وقسم في حدثان المستقبل وقسم في نواميسهم وشرائعهم مثل أن المشرق قبلة
وأن الصلوات في الطلوع والزوال والغروب وأنها ذات سجدات ودعوات وجدد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوجهر أخمدها ورتب لهم عيدين النيروز في الاعتدال الربيعي والمهرجان في الاعتدال الخريفي وأمثال ذلك من نواميسهم
ولما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الإسكندر هذه الكتب
ولما جاء ازدشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمى استا وجاماسب العالم من أهل أذربيجان وهو أول موبذان كان في الفرس
قال المسعودي وكان أزدرنشير بهمن كريما متواضعا علامته على كتبه يقلمه من أزدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسائس لأمركم وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية
وكان بهمن متزوجا بابنته خماني وذلك حلال على دين المجوس فتوفى بهمن وهي حامل منه بدرا وساست خمانى الملك بعده أحسن سياسة ثم ملك بدارا وولد له ابن سماه دارا باسم نفسه وهو الذي صار ملكه إلى الإسكندر بن فيلبس وكان أبوه أحد ملوك اليونان وكانوا طوائف فلما ملك الإسكندر غزاهم واجتمع له ملكهم ثم غزا دارا ملك الفرس وقتله ثم غزا الهند وتناول أطراف الصين ثم بنى الإسكندرية وذللت عليه الملوك وحملت إليه الهدايا والخراج من كل ناحية وراسله ملوك الأرض من افريقيه والغرب والافرنجة والصقالبة والسودان ثم ملك بلاد خرسان والترك واستولى على الملوك يقال على خمسة وثلاثين ملكا وعاد إلى بابل فمات بها وقيل هلك في ناحية السواد وقيل بشهر زور وكان عمره ستا وثلاثين سنة وكان ملكه نحو ثلاث عشرة سنة وكان مرضه الخوانيق وقيل اغتيل بالسم وهذا هو صاحب ارسطاطليس وتلميذه وكان اشقر أزرق ومر في طريقه على بيت المقدس وأكرم بني إسرائيل قيل أنه بنى السد على يأجوج ومأجوج والصحيح أنه لم يكن منه ذلك بل ذو القرنين الذي وذكره الله في القرآن وهو ملك قديم كان على زمن إبراهيم وقيل أنه أفريدون وقيل غيره وقد غلط من ظن أن باني السد هو الإسكندر الرومي وذو القرنين الصعب بن الرائش
وهو الذي مكن الله له في الأرض وعظم ملكه وبنى السد على يأجوج ومأجوج وهو من حمير قاله ابن عباس وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك
ولما مات الإسكندر الرومي عرض الملك على ابنه فأبى واختار النسك فانقسمت الممالك بين ملوك الطوائف واليونان واستمر بهم الحال على ذلك نحو خمسمائة واثنتي عشرة سنة حتى قام أزدشير بن بابك وجمع ملك الفرس وكانت عدة طوائف الملوك تزيد على تسعين ملكا ولم تؤرخ في مبتدأ أمرهم أسماؤهم ولا مدد ملكهم فإنهم كانوا ملوكا صغارا في الأطراف وبقي الأمر على ذلك حتى اشتهرت الملوك الأشغانية من بينهم وملك أشغا هو أولهم لمضي مائتين وست وأربعين سنة لغلبة الإسكندر ثم ملك يعده ابنه سابور وكان مولد المسيح في سنة وأربعين سنة خلت من ملكه وقال هرمز يوم ملك يا معشر الناس اجتنبوا الذنوب كيلا تذلوا بالمعاذير وانقضى ملك أردوان الأصغر وهو آخر هذه الطبقة لمضي خمسمائة واثنتي عشرة سنة لغلبة الإسكندر وأول الأكاسرة أزدشير بن بابك وهو من ولد ساسان بن بهمن المذكور سابقا وكان بين قيامه وبين الهجرة النبوية أربعمائة واثنتان وعشرون سنة وكان رصد بطليموس قبله بسبع وسبعين سنة وجميع الأكاسرة الذين كان آخرهم يزدجرد بن شهريار من ولد أزدشير المذكور وظهر في أيام سابور ماني الزنديق النقاش صاحب القول بالنور والظلمة وادعى النبوة وتبعه خلق كثير وهم المسمون بالمانوية والثنوية
قال في تقويم التواريخ ظهور الماني المتنبي في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة وخمسة آلاف يعني من هبوط آدم عليه السلام
وأما ظهور بله ولصان فكان في سنة عشر وسبعمائة وخمسة آلاف كما في التقويم
انتباه أصحاب الكهف من نومهم
كان في سنة ست وثلاثين وستة آلاف
وكان لسابور المذكور عناية عظيمة بجمع كتب الفلاسفة لليونانيين ونقلها إلى اللغة الفارسية
ويقال أن في زمانه اخترع العود وهو آلة اللهو التي يضرب بها وفي أيام صبا سابور بن هرمز وهو السابور الثاني طمعت العرب في بلاده فلما بلغ غلب على العرب وقتل أناسا من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس وسمي ذا الأكتاف وقتل النصارى وأخرب الكنائس وأحرق الإنجيل
وفي أيام قباذ بن فيروز ظهر مردك الزنديق المجوسي وادعى النبوة وأمر الناس بالتساوي في الأموال وأن يشتركوا في النساء لأنهم أخوة لأب وأم آدم وحواء
ودخل قباذ في دينه وكان ظهوره من هبوط آدم عليه السلام لسنة ثماني عشرة ومائة وستة آلاف ثم ملك أنوشروان بن قباذ ولما تولى كان صغيرا فلما استقل وجلس على السرير أعاد آل المنذر إلى الحيرة وطرد الحارث عنها وقتل مردك بين يديه وأحرق جيفته ونادى بإباحة دماء المردكية فقتل منهم في ذلك اليوم عالما كثيرا وأباح دماء المانوية أيضا وقتل منهم خلقا كثيرا
وثبتت ملة المجوسية القديمة وفتح الإسكندرية وتوجه إلى عدن فعسكر هناك من ناحية البحر بين جبلين بالصخور وعمد الحديد وكان مكرما للعلماء محبا للعلم وفي أيامه ترجم كتاب كليلة ودمنة وترجمه من لسان اليهود وحله بضرب الأمثال ويحتاج إلى فهم دقيق
قال الطبري وفي أيامه رأى الموبذان أن الإبل الصعاب تقود الخيل العراب وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فأفزعه ذلك وسيأتي تفصيله
وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي {صلى الله عليه وسلم} لأربع وعشرين سنة من ملكه وكذلك ولد النبي {صلى الله عليه وسلم} في السنة الثانية والأربعين من ملكه وذلك عام الفيل ومات أنو شيروان في سنة ثمان وثمانين وثمانمائة للإسكندر لمضي سبعة أشهر من السنة المذكورة ثم قام ابنه هرمز ثم سمل برويز
ابنه عينيه وتملك وغزا الروم وجمع في مدة ملكه من الأموال ما لم يجتمع لغيره من الملوك وكان يشتو بالمدائن ويصيف بهمدان وكان له اثنا عشر ألف امرأة وألف فيل وخمسون ألف دابة وبنى بيوت النيران وتزوج شيرين المغنية وبنى لها قصر شيرين بين حلوان وخانقين ثم قتل على يدي ابنه شيرويه وكانت أم شيرويه مريم بنت ملك الروم
ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملك برويز هاجر النبي {صلى الله عليه وسلم} من مكة إلى المدينة وكان له من العمر ثلاث وخمسين سنة فيكون لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبع سنين في أيام أنوشيروان واثنتا عشرة سنة في أيام هرمز بن أنوشيران وسنة ونصف بالتقريب في الفترة التي كانت بين إمساك وبين استقرار ابنه برويز واثنتان وثلاثون سنة ونصف بالتقريب من ملك برويز ومجموع ذلك ثلاث وخمسون سنة وعلى ذلك فتكون السنة الثالثة والثلاثون من ملك برويز هي السنة الخامسة والثلاثون وتسعمائة للاسكندر بالتقريب
وفي أيامه افتتح هرقل عظيم الروم يغزو بلاد كسرى وفي مناوبة هذا الغلب بين فارس والروم نزلت الآيات من أول سورة الروم قال الطبري وأدنى الأرض التي أشارت إليه الآية هي أذرعات بصرى التي كانت بها هذه الحروب ثم غلبت الروم سبع سنين من ذلك العهد وأخبر المسلمون بذلك الوعد الكريم لما أهمهم من غلب فارس الروم لأن قريشا كانوا يتشيعون لفارس لأنهم غير دئنين بكتاب والمسلمون يودون غلب الروم أهل كتاب وفي كتب التفسير بسط ما وقع في ذلك بينهم وبرويز هذا هو الذي قتل النعمان بن المنذر ملك العرب
واتفق صاحب التقويم وتاريخ القدس على أن ولادة النبي {صلى الله عليه وسلم} كانت في سنة ثلاث وستين ومائة وستة آلاف والله أعلم من هبوط آدم عليه السلام
قال الشيخ رفيع الدين بن أحمد ولي الله المحدث الدهلوي لا يخفى أن هذه السنين سنون شمسية والسنون المأخوذة من مولد النبي {صلى الله عليه وسلم} قمرية
وجمعها في الحساب لا يخلو عن مسامحة بل المناسب إما إرجاع ما بعد المولد إلى الشمسية أو إرجاع ما قبله إلى القمرية
فاعلم أن من هبوط آدم عليه السلام إلى المولد الشريف إذا أخذت قمرية صارت ستة آلاف وثلاثمائة وإحدى وخمسين سنة قمرية ومائتين وتسعة وعشرين يوما وهو قريب من سبعة أشهر ومن المولد الشريف إلى آخر سنة من الهجرة المقدسة ثلاث وخمسون وألف ومائتان فمن هبوط آدم عليه السلام إلى آخر تلك السنة سبعة آلاف وستمائة وأربع وستون سنة قمرية وأشهر وأيضا فمن المولد الشريف إلى آخر السنة المذكورة ألف ومائتان وثماني عشرة سنة شمسية وستون يوما بالتقريب وهو قريب من شهرين فمن هبوط آدم عليه السلام إلى آخر السنة المذكورة سبعة آلاف وثلاثمائة وإحدى وسبعون سنة شمسية فاحفظ فإن جمهور أهل التاريخ ومنهم صاحبا تاريخ القدس والخليل وتقويم التواريخ قد خلطا الأمر وغفلا عن التمييز والله الهادي انتهى وسيأتي لذلك مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى
ولما ملك شيرويه وكان رديء المزاج كثير الأمراض صغير الخلق قتل أخوته السبعة عشر ثم ندم على قتلهم وصار يبكي ليلا ونهارا ويرمي التاج عن رأسه ثم هلك وملك أزدشير بن شيرويه وكان ابن سبع سنين وقتل وملك شهريران ولم يكن من أهل بيت المملكة ثم قتل وولوا الملك يوران بنت كسرى برويز فأحسنت السيرة ثم هلكت بعد سنة وأربعة أشهر وملك بعدها خشنشدة من بني عم كسرى برويز وكان ملكه أقل من شهر وقتل ثم ملكت أرزمى دخت بنت كسرى برويز وكانت من أحسن النساء صورة فخطبها فرخ هرمز فقتلته فجمع رستم بن فرخ المذكور عسكره وقتلها ثم ولوا مكانها كسرى بن مهر وقتلوه بعد أيام ولم يجدوا من يملكونه من بيت المملكة فولوا رجلا يقال له فيروز ابن خستان يزعم أنه من نسل أنوشيروان ثم قتلوه ثم ملك فرخ زاد خسرو من أولاد أنو شيروان وملك ستة أشهر وقتلوه ثم ملك يزدجرد ابن شهريار من نسل أردشير بن بابك وكان ملكه كالخيال بالنسبة إلى
ملك آبائه وغزت المسلمون بلادهم وكان عمره إلى أن قتل بمرور عشرين سنة وكان مقتله في خلافة عثمان رضي الله عنه في سنة إحدى وثلاثين للهجرة وهو آخر من ملك منهم وزال ملكهم بالإسلام زوالا إلى الأبد وهذه هي سياقة الخبر عن دولة الفرس عند المحققين
قال الطبري فجميع سني العالم من آدم حتى الهجرة على ما يزعمه اليهود أربعة آلاف سنة وستمائة واثنتان وأربعون سنة وعلى ما يدعيه النصارى في توراة اليونانيين ستة آلاف سنة غير ثماني سنين وعلى ما يقوله الفرس إلى مقتل يزدجر أربعة آلاف ومائة وثمانون سنة ومقتل يزدجرد عندهم لثلاثين من الهجرة وأما عند أهل الإسلام فبين آدم ونوح عشرة قرون والقرن مائة سنة وبين نوح وإبراهيم كذلك وبين إبراهيم وموسى كذلك ونقله الطبري عن ابن عباس ومحمد بن عمرو بن واقد الإسلامي عن جماعة من أهل العلم وقال إن الفترة بين عيسى وبين محمد {صلى الله عليه وسلم} ستمائة سنة ورواه عن سلمان الفارسي وكعب الأحبار قال ابن خلدون والله أعلم بالحق في ذلك والبقاء لله الواحد القهار
ذكر فراعنة مصر
هم ملوك القبط في بالديار المصرية وكانوا أهل ملك عظيم في الدهور الخالية والأزمان السالفة وكانوا أخلاطا من الأمم ما بين قبطي ويوناني وعمليقي إلا أن جمهرتهم قبط وأكثر ما تملك مصر الغرباء
وكانوا صابئية يعبدون الأصنام وصار بعد الطوفان بمصر علماء بضروب من العلوم خاصة بعلم الطلمسات والنيرنجات والكيمياء
وكانت مدينة منف هي كرسي المملكة حتى ملك الوليد بن مصعب وهو فرعون موسى عليه السلام وكان من العمالقة وهو الأظهر وقيل أنه فرعون يوسف وطال عمره إلى أيام موسى
وذكر القرطبي أن الوليد المذكور من القبط وهو الذي ادعى الربوبية وكان من شأنه وشأن موسى ما حكاه الله سبحانه في كتابه العزيز ولما هلك ملكت القبط بعده دلوكة المشهورة بالعجوز من بنات ملوك القبط وانتهى السحر إليها وطال عمرها
ولما قتل بخت نصر فرعون مصر بقيت خرابا أربعين سنة حتى انقرضت دولة بني بخت نصر فتوالت ولاة الفرس عليها فكان منهم طخارست وفي أيامه كان بقراط الحكيم حتى غلب عليها الإسكندر والخطط للمقريزي أجمع التواريخ لمصر وليس ذكر ملوك اليونان وملوك الروم من غرضنا في هذا المقام
وأما ملوك العرب قبل الإسلام فأول من نزل اليمن قحطان بن عابر بن شالخ المقدم الذكر ثم ملك بعده ابنه يعرب وهو أول من نطق بالعربية على ما ذكر ثم ابنه يشجب ثم ابنه عبد شمس وسمي سبأ وهو الذي بنى السد بأرض مآرب وفجر إليه سبعين نهرا وساق إليه السيول من أمد بعيد ثم ابنه حمير بن سبأ إلى أن ملكت بلقيس بنت الهدهاد عشرين سنة وتزوجها سليمان بن داود عليهما السلام إلى أن الملك ذو نواس وكان من لا يتهود ألقاه في أخدود مضطرم نارا فقيل له صاحب الأخدود ثم ملك بعده ذوجدن وهو آخر ملوك حمير وكانت مدة ملكهم على ما قيل ألفين وعشرين سنة
قال صاحب تواريخ الأمم ليس في جميع التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر فيه من كثرة عدد سنيهم مع قلة عدد ملوكهم فإنهم يزعمون أن ملوكهم ستة وعشرون ملكا ملكوا في مدة ألفين وعشين سنة ثم ملك اليمن بعدهم من الحبشة أربع ومن الفرس ثمانية ثم صارت اليمن للإسلام
وكان أول من ملك على العرب بأرض الحيرة مالك بن فهم من ولد يعرب بن قحطان وكان ملكه قبل الأكاسرة ثم ملكه اللحميون وأولهم عمرو بن عدي إلى أن ملكه المنذر بن النعمان وسمته العرب المغرور واستمر مالكا للحيرة إلى أن قدم إليها خالد بن الوليد واستولى على الحيرة
وكانت ملوك غسان عمالا للقياصرة على عرب الشام وأصل غسان من اليمن من ولد كهلان بن سبأ وأول من ملك منهم جفنة بن عمرو وآخرهم جبلة بن الأيهم وهو الذي أسلم في خلافة عمر بن الخطاب وقد اختلف في مدة ملك الغسانية فقيل أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وقيل بين ذلك وأما جرهم فهم صنفان الأولى وكانوا على عهد عاد فبادوا ودرست أخبارهم وهم من العرب البادية وأما جرهم الثانية فهم من ولد قحطان فملك يعرب اليمن وأخوه جرهم الحجاو وهم الذين اتصل بهم إسماعيل وتزوج منهم
وأول ملوك كندة حجر بن عمرو وقيل له آكل المرار وآخرهم الحارث ومن ملوك العرب عمرو بن لحى ملك الحجاز وهو أول من جعل الأصنام على الكعبة وعبدها فأطاعته العرب وعبدوها معه واستمرت العرب على تلك العبادة حتى جاء الإسلام ومنهم زهير بن حباب وزهير ابن جذيمة والحارث بن ظالم وقيس بن زهير ولهم أيام ذكرها المؤرخون وأطالوا في بيانها ومنها يوم ذي قار
وكان في سنة أربعين من مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقيل في عام وقعة بدر والأول أولى قال ابن خلدون أن جميع العرب يرجعون إلى ثلاثة أنساب وهي عدنان وقحطان وقضاعة فأما عدنان فهو من ولد إسماعيل بالاتفاق إلا الآباء الذين بينه وبين إسماعيل فليس فيه شيء يرجع إلى يقينه وغير عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا فليس على وجه الأرض منهم أحد وأما قحطان فقد قيل من ولد إسماعيل وهو ظاهر كلام البخاري في قوله باب نسبة اليمن إلى إسماعيل وأما قضاعة فقيل أنها من حمير قاله ابن إسحاق والكلبي وطائفة
وقيل غير ذلك والنسب البعيد يحيل الظنون ولا يرجع فيه إلى يقين
ذكر الأمم
الأمة الجماعة هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع وكل جنس
من الحيوان أمة وفي الحديث لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها
أمة السريان هي أقدم الأمم وكلام آدم وبنيه بالسرياني وملتهم هي ملة الصابئين ويذكرون أنهم أخذوا دينهم عن شيث وإدريس ولهم كتاب يسمونه صحف شيث ولهم صلوات سبع وصوم ثلاثين يوما وأعياد عند نزول الكواكب الخمسة المتحيرة بيوت أشرافها ويعظمون مكة ولهم بظاهر حران مكان يحجونه ويعظمون أهرام مصر ويزعمون أن أحدهما قبر شيث والآخر قبر إدريس والآخر قبر صابئ بن إدريس
قال ابن حزم والدين الذي انتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله تعالى إليهم إبراهيم بالدين الذي نحن عليه الآن
قال الشهرستاني وهم يقاتلون الحنفية ومدار مذهبهم التعصب للروحانيين كما أن مدار مذهب الحنفاء التعصب للبشر والجسمانيين
أمة القبط
وهم من ولد حام بن نوح وكان سكناهم بديار مصر فاختلطت بهم طوائف كثيرة وكانوا في سالف الدهر صابئية وكانت ملوكهم تلقب الفراعنة يعبدون الهياكل والأصنام وهذه الأمة أقدم أمم العالم وأطولهم أمدا في الملك واختصوا بملك مصر وما إليها ملوكها من لدن الخليقة إلى أن صحبهم الإسلام بها فانتزع المسلمون من أيديهم ولعهدهم كان الفتح وربما غلب عليهم جميع من عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة والفرس والروم واليونان فيستولون على مصر من أيديهم ثم يتقلص ظلهم فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام
أمة الفرس
ومساكنهم وسط المعمور يقال لها أرض فارس منها كرمان والأهواز وأقاليم يطول ذكرها وجميع ما دون جيحون من تلك الجهات يقال له إيران وهي أرض الفرس وأما ما وراء جيحون فيقال له توران وهو أرض الترك وقد اختلف في نسب الفرس فقيل أنهم من ولد فارس ابن أرم بن سام وقيل من ولد يافث وهم يقولون أنهم من ولد كيومرت وهو عندهم الذي ابتدأ منه النسل مثل آدم عندنا ويذكرون أن الملك لم يزل فيهم من كيومرت إلى غلبة الإسلام خلا تقطع حصل في مدد يسيرة لا يعتد به مثل تغلب الضحاك وفراسياب التركي وملوك الفرس عند الأمم أعظم ملوك العالم وكانت لهم العقول الوافرة والأحلام الراجحة وكان لهم من ترتيب المملكة ما لم يلحقهم فيه أحد من الملوك وهم فرق كثيرة فمنهم الديلم وهم سكان الجبال ومنهم الجيل وأرضهم هي ساحل بحر طبرستان ومنهم الكرد ومنازلهم جبال شهرزور وقيل أن الكرد من العرب ثم تنبطوا وقيل أنهم أعراب العجم وكان للفرس ملة قديمة يقال لها الكيومرتية أثبتوا إلها قديما وسموه يزدان وإلها مخلوقا من الظلمة وسموه أهرمن والأول عندهم هو الله والثاني إبليس وأصل دينهم تعظيم النور والتحرز من الظلمة ولهذا عبدوا النيران حتى ظهر زرادشت من قرية من قرى أذربيجان فصارت الفرس على دينه ولهم في خلق زرادشت وولادته كلام طويل لا فائدة فيه وقال بآله يسمى أرمزد بالفارسي وأنه خالق النور والظلم وهو واحد لا شريك له ولهم أعياد ورسوم منها النوروز والتيركان والمهرجان والفروردجان والكنبهارت
زعم زرادشت أن في كل يوم خلق الله نوعا من الخليقة من سماء وأرض وماء ونبات وحيوان وإنس فتم خلق العالم في ستة أيام
أمة اليونان
وهم نجموا من رجل اسمه اللن ولد سنة أربع وسبعين لمولد
موسى عليه السلام ولم يعلموا قبل ذلك وكانوا أهل شعر وفصاحة ثم صارت فيهم الفلسفة في زمان بخت نصر
قال الشهرستاني أن أبيد قليس كان في زمن داود النبي عليه السلام وكذلك فيثاغورس كان في زمن سليمان وهذا يخالف ما سبق فإن بخت نصر بعد سليمان بأكثر من أربعمائة سنة وبلاد اليونان كانت على الخليج القسطنطيني من شرقيه وغربيه إلى البحر المحيط وهو بين بحر الروم وبحر القلزم واسم القلزم في القديم بحر نيطش وهم فرقتان الإغريقيون واللطينيون
قيل أنهم من ولد يافث وهو الصحيح باتفاق من المحققين وقيل من جملة الروم من ولد العيص بن يعقوب النبي وكانت ملوكهم من أعظم الملوك ودولتهم من أفخر الدول ولم يزالوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم ولم يبقى لهم ذكر وكانت لهم الدولتان العظمتان للإسكندر والقياصرة من بعده الذين صبحهم الإسلام وهم ملوك بالشام وجميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم مثل العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية وكانوا يسمون العلم الرياضي جوهرا مطريا وهو المشتمل على علم الهيئة والهندسة والحساب واللحون والإيقاع وغير ذلك وكان العالم بها يسمى فيلسوفا وتفسيره محب الحكمة ومن فلاسفتهم تاليس الملطي وكان في زمن بخت نصر وأخذ عن لقمان وأبيدقليس وفيثاغورس وكانا في زمن داود عليهما السلام
وزعم فيثاغورس أنه سمع حفيف الفلك ووصل إلى مقام الملك وقال ما سمعت شيئا ألذ من حركات الأفلاك ولا رأيت شيئا أبهى من صورتها وبقراط الحكيم ونجم في سنة 196 لبخت نصر فيكون قبل الهجرة بألف ومائة وبضع وسبعين سنة وسقراط أقام في غار ونهى الناس عن الشرك وعبادة الأوثان حتى قتل في الحبس بالسم وأفلاطون الإلهي قام مقام سقراط حين اغتيل وجلس على كرسيه وأرسطوطاليس كان تلميذا لأفلاطون وكان أفلاطون كبير حكماء الخليقة غير منازع كان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرواق المظلل له من حر الشمس
فسمى تلاميذه بالمشائين في زمن الإسكندر وكان ملكه لعهد أربعة آلاف وثمانمائة من عهد الخليقة ولعهد أربعمائة أو نحوها من بناء رومة
وبين الإسكندر والهجرة تسعمائة وأربع وثلاثون سنة فيكون أفلاطون قبل ذلك بمدة يسيرة وكذلك سقراط قبله بمدة يسيرة أيضا فبالتقريب يكون بين سقراط والهجرة نحو ألف سنة وبين أفلاطون والهجرة أقل من ألف سنة وطيماوس هو من مشايخ أفلاطون ومن تلامذة أرسطو الإسكندر الذي ملك غالب المعمور من الغرب إلى الشرق واستولى على بلاد فارس وتخطاها إلى بلاد السند فملكها ثم زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها وحاربه فور ملك الهند فانهزم وأخذه الإسكندر أسيرا بعد حروب طويلة وغلب على جميع طوائف الهنود وملك بلاد الصين والسند وأقام يتعلم على أرسطو خمس سنين وبلغ فيها أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه ومنهم برقلس وكان بعد أرسطو وصنف كتابا أورد فيه شبها في قدم العالم ومنهم طيموخارس حكيم رياضي عالم بهيئة الفلك رصد الكواكب في زمانه ذكره بطليموس في المجسطي وكان قبل بطليموس بأربعمائة وعشرين سنة وفرفوريوس من أهل مدينة صور على البحر الرومي بالشام كان بعد زمان جالينوس فسر مشكلات كتب أرسطو وفلوطيس نقل تصانيف أرسطو من الرومي إلى السرياني قال ولا أعلم أن شيئا منها خرج إلى العربي وفولس الأجانيطي ويعرف بالقوابلي
كان خبيرا بطب النساء كثير المعاناة له وكان مقامه بالإسكندرية ولسلون المتعصب يقرى فلسفة أفلاطون وينتصر لها ومقسطراطيس شرح كتب أرسطو وأخرجها إلى العربي ومنطر الإسكندري كان إماما في علم الفلك واجتمع هو وافطيمن بالإسكندرية وأحكما آلات الرصد ورصدا الكواكب وحققاها وكانا قبل بطليموس بنحو خمسمائة وإحدى وسبعون سنة ومورطس له رياضة وحيل صنف كتابا في الآلة المسماة بالأرغون وهي آلة تسمع على ستين ميلا ومغنس من أهل حمص من تلامذة بقراط وله كتاب البول وغيره ومثروديطوس
كان طبيبا ركب معجونا يسمى باسمه وكان معتنيا بتجربة الأدوية وأما بطليموس وجالينوس فزمانهما متأخر عن زمان اليونان وكانا في زمن الروم وأحدهما قريب من الآخر
وكان بطليموس مقدما على جالينوس بقليل وكان بين رصد بطليموس ورصد المأمون ستمائة وتسعون سنة وكان رصد المأمون بعد سنة مائتين للهجرة فيكون بين الهجرة ورصد بطليموس أربعمائة وتسعون سنة بالتقريب وبين جالينوس والهجرة أكثر من أربعمائة سنة بقليل وذلك كله بالتقريب
قال ابن خلدون ومن حكماء اليونانين انكيثا غورس كان مع حكمته مبرزا في علم الطب وبعث به بهمن ملك الفرس إلى ملك اليونان فامتنع من إيفاده عليه ضنانة به وكان من تلاميذته جالينوس لعهد عيسى عليه السلام ومات بصقلية ودفن بها اقليدس صاحب كتاب الأستقصاءات المسمى باسمه وكان في أيام ملوك البطالسة ولم يكن بعد أرسطو ببعيد وليس هو مخترع كتاب اقليدس بل هو جامعه ومحرره ومحققه ومنهم ابرخس رصد الكواكب وحققها وكان بين رصده ورصد بطليموس مائتان وخمس وثمانون سنة فارسية بالتقريب
أمة اليهود
هم بنو إسرائيل وإنما بنو إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل وكان لإسرائيل اثنا عشر ابنا وهم الأسباط
وجميع بني إسرائيل هم أولاد الأسباط وأمة اليهود أعم منهم لأن كثيرا من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهودا ولم يكونوا من بني إسرائيل هم الأصل في هذه الملة وغيرهم دخيل فيها وأما اسم اليهود فيقال هاد الرجل أي رجع وتاب وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى أنا هدنا إليك أي رجعنا
وقال البيروتي في الآثار الباقية ليس ذلك بشيء وإنما سمي هؤلاء
باليهود نسبة إلى يهوذا أحد الأسباط وأبدلت المعجمة بالمهملة قلت وهذا هو الصواب لأن القرآن عربي والتوراة عبرانية وافترقت اليهود فرقا كثيرة
أمة النصارى
وهم أمة المسيح عليه السلام ولهم في تجسد الكلمة مذاهب شتى منهم من قال أشرقت على الجسد إشراق النور على الجسم المشف ومنهم من قال انطبعت فيه انطباع النقش في الشمعة ومنهم من قال تدرع اللاهوت بالناسوت ومنهم من قال مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء واتفقت النصارى على أن المسيح قتلته اليهود وصلبوه وافترقت على اثنتين وسبعين فرقة كبارهم ثلاث فرق الملكانية والنسطورية واليعقوبية
والبطاركة للنصارى بمنزلة الأئمة أصحاب المذاهب للمسلمين والمطارنة مثل القضاة والأساقفة مثل المفتين والقسيسون بمنزلة القراء والجاثليق بمنزلة الإمام الذي يؤم في الصلاة والشمامسة بمنزلة المؤذنين وقومة المساجد ومن أعيادهم الشعانين وجمعة الصلبوت وعيد الفصح ويوم الأحد والسلاقا وعيد البنديقسطي والدنح وعيد الصليب والميلاد
وأما الإنجيل فهو كتاب يتضمن أخبار المسيح من ولادته إلى وقت خروجه من هذا العالم كتبه أربعة نفر من أصحابه وهم متى كتبه بفلسطين بالعبرانية ومرقوس كتبه ببلاد الروم باللغة الرومية ولوقا كتبه بالإسكندرية باللغة اليونانية ويوحنا كتبه بافسس باليونانية أيضا ومن الأمم الداخلة في دين النصارى أمة الروم كانوا صابئة حتى تنصر قسطنطين وحملهم عليه حتى تنصروا عن آخرهم
وأما أمم النصارى فهي الأرمن والروم والبلغار وكان أصل الكرج والجراكسة نصارى إلا أنهم الآن مسلمون وأما المسلمون القاطنون في جهات الروم ايلي فأصلهم نصارى ويوجد في سوريا وحلب وبغداد وغيرها من الممالك العثمانية نصارى ولغتهم العربية وبقية النصارى في
بلاد أوروبا وأميريكا وغيرهما وهم أمم مختلفة منهم الجرمانيون والإنكليز أعني البريطانيون والفرنساويون والطليانيون والروس وغيرهم والانكليزيون هم المسئولون الآن على سلطنة الهند
أمة الهند
فرق كثيرة ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل منهم الباسومية واليهودية وعبدة الأصنام وعباد النار ومنهم البراهمة أصحاب الفكرة وهم أهل العلم بالفلك والنجوم على طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم وللهند ممالك منها مملكة قنوج وهي منقطعة عن البحر ولأهلها أصنام يتوارثون عبادتها ويزعمون أن لها نحو مائتي ألف سنة قاله أبو الفدا وهي اليوم خاوية على عروشها كأن لم تغني بالأمس ولنعم ما قيل
ورأيت معالم دراسة
رسمته مزاولة السبل
وسألت رسوم الأربع ما
فعلت بك سابقة الأزل
فأجابت قال الله لنا
وسؤالك من جهة الغفل
تلك الأيام نداولها
لا مكث لهن على رجل
وكانت هذه البلدة هي موطن آبائنا منذ ثلاثمائة سنة تقريبا حتى خرجنا منها منذ أعوام ثم لم نعد ونزلنا ببلذة بهوبال وبها نعيش في هذه الأيام وهي سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف هجرية وجزائر بحر الهند في نهاية الكثرة وهي في البحر قبالة هذه الممالك ولها ملوك وكوائف وأيام ومحاربات قد أكثر المصنفون فيها الكلام وقد ذكرنا طرفا من حالها وخبر فتوح في كتابنا حجج الكرامة في آثار القيامة فإن شئت أن تطلع على معظم مجرياتها وتعلمها فارجع إليه تجده كتابا لم يؤلف مثله قبل ذلك الزمان وبالله التوفيق وهو المستعان
أمة السند
وهم غربي الهند منها على جانب البحر ويقال لها بلاد اللان ومنها في البر إلى جانب الحبل وكل من ملك السند يقال لها رتبيل ومن المدن
الأول ملتان والمنصورة ومن الثاني قشمير وكان المسلمون غالبين عليها ثم صارت هي والهند في أيدي الكفار من البريطانية والنصرانية منذ مائة عام بل أزيد من ذلك
أمم السودان
قيل هم من ولد حام وأديانهم مختلفة فمنهم مجوس ومنهم من يعبد الحيات ومنهم صاحب أوثان وقد روي عن جالينوس أنهم يختصون بعشر خصال وهي تفلفل الشعر وخفة اللحى وانتشار المنخرين وغلظ الشفتين وتحدد الأسنان ونتن الجلد وسواد اللون وتشقق اليدين والرجلين وطول الذكر وكثرة الطرب ومن أعظم أممهم الحبش وبلادهم تقابل الحجاز وبينهما البحر وهي بلاد طويلة عريضة وخصيانهم أفخر الخصيان ومنهم النوبة ويقال أن لقمان الحكيم الذي كان مع داود عليه السلام من النوبة ومنهم ذو النون المصري وبلال بن حمامة مؤذن الرسول {صلى الله عليه وسلم} ومنهم البجا وهم شديدو السواد عراة يعبدون الأوثان وهم أهل أمن وحسن مرافقة للتجار ومنهم الدمادم وبلادهم على النيل فوق بلاد الزنج وهم تتر السودان خرجوا عليهم وقتلوا فيهم كما جرى للتتر مع المسلمين وهم مهملون في أديانهم ومنهم الزنج وهم أشد السودان سوادا يعبدون الأوثان وأهل بأس وقساوة ومنهم التكرور وهم على غربي النيل كفار ومسلمون ومنهم الكانم وهم على مذهب مالك ومدينة غانة هي من أعظم مدن السودان وهي في أقصى جنوب المغرب
أمم الصين
هي بلاد طويلة عريضة من المشرق إلى المغرب أكثر من مسيرة شهرين طولا وعرضا من بحر الصين في الجنوب إلى سد يأجوج ومأجوج في الشمال وقيل أن عرضها أكثر من طولها حتى يشتمل على الأقاليم السبعة وأهل الصين أحسن الناس سياسة وأكثرهم عدلا وأحذق الناس في الصناعات وهم قصار القدود عظام الرؤوس أهل مذاهب مختلفة مجوس وأهل أوثان وأهل نيران ومدينتهم الكبرى يقال لها جمدان
والصين الأقصى ويقال له صين الصين هو نهاية العمارة من حهة الشرق وليس وراءه غير البحر المحيط ومدينته العظمى يقال لها السيلى
بني كنعان
هم أهل الشام وإنما سمي الشام شاما لسكنى سام بن نوح به وسام اسمه بالعبرانية شام بالمعجمة وقيل تشاءمت به بنو كنعان هو ابن حام ابن نوح وسار منهم طائفة إلى المغرب وهم البربر
أمة البربر
اختلف فيهم اختلافا كثيرا فقيل أنهم من ولد حام وهم يزعمون أنهم من ولد قيس عيلان وصنهاجة منهم تزعم أنها من ولد أفريقس الحميري وزناتة منهم تزعم أنها من لخم والأصح انهم من ولد كنعان ابن مازيع بن حام
ولما قتل ملكهم جالوت وكان كل من ملك بني كنعان يلقب جالوت إلى أن قتل داود جالوت آخر ملوكهم تفرقت بنو كنعان وقصدت منهم طائفة بلاد المغرب وسكنوا تلك البلاد وهم البربر وقبائل البربر كثيرة جدا منهم كتامة وصنهاجة والمصامدة وبرغواطة وهم مثل العرب في سكنى الصحارى ولهم لسان غير العربي قال أبو سعيد ولغاتهم ترجع إلى أصول واحدة وتختلف فروعها حتى لا تفهم إلا بترجمان
أمة عاد
هم من ولد عاد من ولد سام بن نوح وبلادهم الأحقاف متصلة باليمن وأول من ملك منهم شداد قال الزمخشري إن شدادا هو الذي بنى مدينة أرم في صحارى عدن وشيدها بصخور الذهب وأساطين الياقوت والزبرجد يحاكي بها الجنة لما سمع وصفها طغيانا منه وعتوا ويقال أن باني أرم هذه هو أرم بن عاد وذكر بن سعيد عن البيهقي هو أرم بن شداد بن عاد الأكبر انتهى
والصحيح أنه ليس هناك مدينة اسمها ارم وإنما هذا من خرافات القصاص وإنما ينقله ضعفاء المفسرين وأرم المذكورة في قوله تعالى ) إرم ذات العماد ( القبيلة لا البلد وكانوا ذوي قوة وبطش وكان لهم في الأرض آثار عظيمة حتى قال لهم هود عليه السلام ) أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين ( وقد كثر الاختلاف في ذكرهم وجميع ما ذكروا من ذلك مضطرب غير قريب للصحة
أمة العمالقة
هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بهم يضرب المثل في الطول والجسمان نزلوا بصنعاء من اليمن ثم تحولوا إلى الحرم وكان منهم جماعة بالشام وأهل عمان البحرين وهم الذين قاتلهم موسى ثم يوشع فأفناهم وكان منهم فراعنة مصر والكنعانيون ومن ملك يثرب وخيبر وتلك النواحي
أمم العرب
العرب الجاهلية أصناف ولهم مذاهب مختلفة ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل وقسمهم المؤرخون إلى ثلاثة أقسام بائدة وعاربة ومستعربة أما البائدة فهم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم وهم عاد وثمود وجرهم الأولى وكانت على عهد عاد فبادوا ودرست أخبارهم وأما جرهم الثانية فهم من ولد قحطان وثبت أن قحطان كان يتكلم بالعربية ولقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بنيه ولذلك سموا العرب المستعربة ولم يكن في آباء قحطان من لدن نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية وكذلك كان أخوه قانع وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية إلى أن جاء إسماعيل بن إبراهيم فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه وهم أهل الطبقة الثالثة المسمون بالعرب التابعة للعرب ولم يبق من ذكر العرب البائدة إلا القليل
وأما العرب العاربة
فهم عرب اليمن من ولد قحطان وهذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثارا في الأرض وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها لتطاول الأحقاب ودروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر من الأنبياء بوحي الله إليهم وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمقطع الأستاذ ولذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم ما تنطق به آية القرآن في قصص الأنبياء الأقدمين أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم وذكر دولهم وحروبهم ينقلون ذلك عن السلف من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة أو سمعوه ممن هاجر إلى الإسلام من أحبار اليهود وعلمائهم أهل التوراة أقدم الصحف المنزلة فيما علمناه وما سوى ذلك من حطام المفسرين وأساطير القصص وكتب بدء الخليقة فلا نعول على شيء منه وإن وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبري و البدء للكسائي فإنما نحوا فيها منحى القصاص وجروا على أساليبهم ولم يلتزموا فيها الصحة ولا ضمنوا لنا الوثوق بها فلا ينبغي التعويل عليها وتترك وشأنها وأخبار هذا الجيل من العرب وإن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصرا وأوعى لأخبارهم فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل
ثم إن هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك ودول
وأما العرب المستعربة
فهم ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام
ومن العاربة بنو جرهم وكانت مساكنهم بالحجاز
ومنهم بنو سبأ واسم سبأ عبد شمس فلما أكثر الغزو السبي سمي سبأ وكان له عدة أولاد
منهم حمير وكهلان وجميع قبائل عرب اليمن وملوكها التبابعة من ولد سبأ المذكور وجميع تبابعة اليمن من ولد حمير بن سيأ خلا عمران
وأخيه مزيقيا فأنهما من ولد كهلان بن سبأ بني حمير بن سبأ
ومنهم التبابعة ملوك اليمن
ومنهم قضاعة وكان مالكا لبلاد الشحر ومن قضاعة بنو كلب نزلوا في الجاهلية دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام
ومنهم حارثة أبو زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ومنهم بلى وبهراء وجهينة وكانت منازلهم بأطراف الحجاز الشمالي من جهة بحر جدة وبنو سليخ وبنو نهد وبنو عذرة وشعبا بني كهلان
وصار منهم أحياء كثيرة والمشهور فيها سبعة وهي الأزد وطيء ومذحج وهمذان وكندة ومولد وأنمار ومن الأزد الغسانية والأوس والخزرج أهل يثرب والمسلمون منهم هم الأنصار وخزاعة وبارق ودوس وعتيك وغافق فهؤلاء بطون الأزد وحصل لخزاعة سدانة البيت والرئاسة والأكثر أنها يمانية وما زالت فيهم حتى أخذها قصي بن كلاب وأرسل بها إلى مكة
وقال معاشر قريش هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل قد رددتها عليكم من غير عار ولا ظلم وظهر قصي على خزاعة وأخرجها من مكة
ومن خزاعة بنو المصطلق الذين غزاهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسكنت بنو دوس إحدى الشروات المظلة على تهامة وكانت لهم دولة بأطراف العراق ومن الدوس أبو هريرة واختلف في اسمه والأكثر أن اسمه عمير بن عامر
وأما عتيق وغافق
فقبيلتان مشهورتان في الإسلام وهم من ولد الأزد ومن الأزد بنو الجلندي ملوك عمان والجلندي لقب لكل من ملك منهم عمان وانتهى ملك عمان في الإسلام إلى حبقر وعبد ابني الجلندي وأسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص
ونزلت طيء بنجد الحجاز في جبلي أجأ وسلمى فعرفا بجبل طيء
إلى يومنا هذا ومن بطون جديلة ونبهان وبولان وسلامان وهي سدوس بضم السين ومن طيء زيد الخيل وسماه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد الخير وحاتم طيء المشهور بالكرم ومن بطون مذحج أيضا النخع ومنهم الأشتر النخعي واسمه مالك بن حارث صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم علي بن أبي طالب
ومن النخع سنان بن أنس قاتل الحسين وعنس وهي قبيلة الأسود الكذاب الذي ادعى النبوة باليمن وعنس أيضا رهط عمار بن ياسر صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ولهمدان من بني كهلان صيت في الجاهلية والإسلام وبلاد كندة باليمن تلي حضرموت ومنهم حجر بن عدي صاحب علي بن أبي طالب وهو الذي قتله معاوية صبرا ومنهم القاضي شريح ومن كندة السكاسك والسكون
ومن السكون معاوية بن خديج قاتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه وحصين بن نمير السكوني الذي صار صاحب جيش يزيد نوبة وقعة الحرة بظاهر مدينة الرسول {صلى الله عليه وسلم} وبنو مراد بلادهم إلى جانب زبيد من جبال اليمن والأنمار فرعان وهما بجيلة وخثعم وبجيلة هي رهط جرير ابن عبد الله البخلي صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني عمرو بي سبأ ومنهم لخم بن عدي ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداري صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمناذرة ملوك الحيرة وكانت دولتهم من أعظم دول ملوك العرب وجذام بني اشعر ويقال لهم الأشعريون وهم رهط أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس بنو عاملة هم من القبائل اليمانية خرجت إلى الشام عند سيل العرم ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة
العرب المستعربة
هم ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وقيل لهم المستعربة لأن إسماعيل لم تكن لغته عربية بل عبرانية ثم دخل في العربية فمن سكنى إسماعيل مكة إلى الهجرة ألفان وسبعمائة وثلاث وتسعون سنة
وكان هناك قبائل جرهم فتزوج إسماعيل منهم إمرأة وولدت له إثنى عشر ولدا ذكرا منهم قيذار وماتت هاجر ودفنت بالحجر ثم لما مات إسماعيل بمكة دفن معها بالحجر أيضا
وقد اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا في أمر الملك على الحجاز بين جرهم وبين إسماعيل فمن قائل كان الملك على الحجاز في جرهم ومفتاح الكعبة وسدانتها في يد ولد إسماعيل ومن قائل أن قيذار توجته أخوالهم جرهم وعقدوا له الملك عليهم بالحجاز
وأما سدانة البيت الحرام ومفاتيحه فكانت مع بني إسماعيل بغير خلاف حتى انتهى ذلك إلى نابت من ولد إسماعيل فصارت السدانة بعده لجرهم ويدل على ذلك قول عامر بن الحارث الجرهمي من قصيدته التي منها
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
ثم ولد لقيذار ابنه حمل ولحمل نبت ويقال نابت وقيل نبت بن إسماعيل وفيه خلاف كثير ثم لنبت سلامان ثم ولد له الهميسع وولد له اليسع وله أدد وله أد ثم ولد لأد عدنان وولد له معد ولمعد نزار ولنزار أربعة منهم مضر على عمود النسب النبوي وثلاثة خارجون عنه أولهم إياد ومنه كعب بن مامة ويضرب بجوده المثل وقس بن ساعدة ويضرب بفصاحته المثل
والثاني ربيعة الفرس ومن ربيعة أسد وضبيعة ولأسد جديلة وعنزة ومن جديلة وائل ومن وائل بكر وتغلب ومن بكر بنو شيبان ومرة وطرفة والمرقشان الأكبر والأصغر وبنو حنيفة
ومنهم مسيلمة الكذاب ومن أسد بنو عنزة وهم أهل خيبر ومن عنزة القارظان ومن ربيعة النمر ولجيم والعجل وبنو عبد القيس ومن أسد السدوس واللهازم
والثالث أنمار ومضى إلى اليمن فتناسل بنوه بتلك الجهات
وحسبوا من العرب اليمانية ثم ولد لمضر الياس على عمود النسب وولد له خارجا عنه قيس عيلان وعيلان فرسه أو كلبه وقيل بل هو أخو إلياس
وقد جعل الله لقيس المذكور من الكثرة أمرا عظيما فمن ولده قبائل هوازن الذين كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم رضيعا وبنو كلاب ومنهم أصحاب حلب وعقيل ومنهم ملوك الموصل المقلد وقرواش وغيرهما وبنو عامر وصعصعة وخفاجة
وما زالت لخفاجة إمرة العراق من قديم وإلى الآن وبنو ربيعة وجشم وبنو وبكر وبنو هلال وثقيف وقيل أن ثقيفا من اياد وقيل من بقايا ثمود وهم أهل الطائف وبنو نمير وباهلة ومازن وغطفان وبنو عبس وأشجع وسليم وبنو ذبيان وبنو فزارة والنابغة وعدوان نزلوا الطائف قبل ثقيف ثم ولد لإلياس مدركة على عمود النسب وولد له خارجا عنه طابخة وبعضهم ينسب مدركة وطابخة إلى أمهما خندف واسمها ليلى بنت حلوان وصار من طابخة قبائل منهم بنو تميم والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة ثم ولد لمدركة خزيمة على عمود النسب وله خارجا عن النسب هذيل ومنه جميع قبائل الهذليين منهم ابن مسعود صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وولد لخزامة كنانة على عمود النسب وخارج النسب الهون وأسد ومن الهون عضل وديش ويقال لهما القارة ومن أسد الكاهلية ودودان وغيرهما وولد لكنانة على عمود النسب النضر وكان له عدة أخوة ليسوا على عمود النسب وهم ملكان وعبد مناة وعمرو وعامر ومالك
ومن عبد مناة بنو غفار رهط أبي ذر وبنو بكر ومنه الدئل وبنو ليث وبنو الحارث وبنو مدلج وبنو ضمرة ومن عمرو العمريين ومن عامر العامريون ومن مالك بنو فراس ومن بطون كنانة الأحابيش وغلط من ظن أنهم من الحبشة
وأما النضر
فقيل إنه قريش والصحيح أن قريشأ هم بنو فهر الذي سنذكره وولد لنضر مالك على عمود النسب ولم يشتهر له ولد غيره ثم ولد لمالك فهر على عمود النسب وهو قريش فكل من كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس قرشيا
وقيل سمي قريشا لشدته تشبيها له بدابة من دواب البحر يقال لها القرش تأكل دواب البحر وتقهرهم وقيل أن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سموا قريشا لأن قرشهم أي جمعهم حول الحرم وعلى هذا يكون اسما لبني فهر لا لفهر نفسه وولد لفهر غالب على عمود النسب وولد له خارجا عنه ولدان هم محارب وهما والحارث
فمن الأول بنو محارب ومن الثاني بنو الخلج ومنهم أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة المبشرة
ثم ولد لغالب لؤي على عمود النسب وخارج النسب تيم الأردم وهو الناقص الذقن ثم ولد للوى ستة أولاد وهم كعب على عمود النسب وأخوته الخمسة خارجون لمن عمود النسب وهم سعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة ولكل ولد ينسبون إليه خلا الحارث منهم
ثم ولد لكعب مرة على عمود النسب وخارجا عنه هصيص وعدي فمن الأول بنو جمح ومنهم أمية بن خلف عدو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبنو سهم ومنهم عمرو بن العاص ومن الثاني بنو عدي ومنهم عمر الخطاب وسعيد بن زيد من العشرة
ثم ولد لمرة على عمود النسب كلاب وخارج النسب تيم ويقظة
فمن الأول أبو بكر الصديق وطلحة من العشرة ومن الثاني بنو مخزوم ونسب خالد بن الوليد وأبي جهل بن هشام ثم ولد لكلاب قصي على عمود النسب وولد له خارجا عنه زهرة ومنه بنو زهرة
ونسب سعد بن أبي وقاص أحد العشرة ونسب آمنة أم الرسول {صلى الله عليه وسلم} ونسب عبد الرحمن بن عوف وكان قصي عظيما في قريش وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من خزاعة وهو الذي جمع قريشا وائل مجدهم
ثم ولد لقصي عبد مناف على عمود النسب والخارج عنه عبد الدار وعبد العزى
فمن الأول بنو شيبة الحجبة ومن الثاني النضر بن الحارث وكان شديد العداوة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقتله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صبرا يوم بدر ومنهم الزبير بن العوام أحد العشرة وخديجة بنت خويلد زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} وورقة بن نوفل
وولد لعبد مناف على عمود النسب هاشم وخارجا عنه عبد شمس والمطلب ونوفل
فمن الأول أمية ومنه بنو أمية ومنهم عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان وسعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وقتله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صبرا يوم بدر
ومن المطلب المطلبيون ومنهم الإمام الشافعي ومن نوفل النوفليون ثم ولد الهاشم عبد المطلب على عمود النسب ولم يعلم له ولد غيره وولد لعبد المطلب على عمود النسب عبدالله وولد له خارجا عنه جميع أعمام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق
ومنهم من يقول هو حجل والحارث والمقوم وضرار والوبير وقم درج صغيرا وعبد الكعبة
ومنهم من يقول أن الذي عبد الكعبة هو المقوم ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في عام الفيل
قال ابن الأثير في الكامل أن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار الملك إلى أبرهة منهم بني كنيسة عظيمة وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة الحرام فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة فغضب أبرهة لذلك وسار بجيشه ومعه الفيل وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلا ليهدم الكعبة فلما وصل إلى الطائف بعث الأسود ابن مقصود إلى مكة فساق أموال أهليها وأحضرها إلى أبرهة وأرسل أبرهة إلى قريش وقال لهم لست أقصد الحرب بل جئت لأهدم الكعبة
فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه هذا بيت الله فإن منع عنه فهو بيته وحرمه وإن خلا بينه فوالله ما عندنا من دفع
ثم انطلق عبتدالمطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة هذا سيد قريش فآذن له أبرهة وأكرمه ونزل عن سريره وجلس معه وسأله في حاجته فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة إني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك فقال عبد المطلب أنا رب الأباعر فاطلبها وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه فأخذها وانصرف إلى قريش ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها بقي كلما قبل فيله مكة
وكان اسم الفيل محمودا ينام ويرمي نفسه إلى الأرض ولم يسر فإذا قبلوه غير مكة قام يهرول وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس فلم يصب أحدا منهم إلا هلك وليس كلهم أصابت ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم هاربا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وصاروا يتساقطون بكل منهم ولى منهل وأصيب أبرهة في جسده وسقطت أعضاؤه ووصل إلى صنعاء كذلك ومات ولما جرى ذلك خرجت قريش إلى منازلهم وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا ولما هلك أبرهة ملك بعده ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق ومنه أخذت العجم اليمن
انتهى الكلام وهو آخر التواريخ القديمة ولا نذكر من التواريخ الإسلامية هنا إلا مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وذكر الهجرة النبوية لأن أهل العلم من المسلمين قد أكثروا الجمع والتأليف فيها وهي كثيرة شهيرة متيسرة لكل واحد في كل بلد من بلاد الإسلام وقد ذكرنا طرفا منها في كتاب حجج الكرامة في آثار القيامة
مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
أما أبوه فهو عبد الله وكانت ولادته قبل الفيل بخمس وعشرين سنة وكان أبوه قد بعثه يمتار له فمر بيثرب فمات بها ولرسول الله {صلى الله عليه وسلم} شهرين وقيل كان حملا وولد بعد مهلكه بأشهر قلائل ودفن في
دار الحارث بن إبراهيم بن سراقة العدوي وهم أخوال عبد المطلب وقيل دفن بدار النابغة ببني النجار وكان أبوه يحبه لأنه كان أحسن أولاده وأعفهم وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن وهي حاضنة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأما آمنة أم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب فولدت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الاثنين لعشر وقيل لاثنتي عشرة ليلة خلون من ربيع الأول من عام الفيل وكان قدوم الفيل في منتصف المحرم من تلك السنة وهي السنة الثانية والأربعون من ملك كسرى أنوشيروان وهي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإسكندر على دارا وهي سنة ألف وثلاثمائة وست عشر لبخت نصر وكفله جده عبد المطلب وكفالة الله من ورائه والتمس له الرضاعة فاسترضع في بني سعد من بني هوازن أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب وكان أهله يتوسمون فيه علامات الخير والكرامات من الله
قال البيهقي وفي اليوم السابع من ولادة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذبح جده عبد المطلب عنه ودعا له قريشا فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب أرأيتك ابنك هذا الذي أكرمتنا على وحهه ما سميته قال سميته محمدا قالوا فيم رغبت به عن أسماء أهل بيته قال أردت أن يحمده الله تعالى في السماء وخلقه في الأرض وروي أيضا بسنده المتصل بالعباس قال ولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مختونا مسرورا
قال فأعجب جده وحظي عنده وقال ليكونن لابني هذا شأن
وروي أيضا عن هاني المخزومي قال لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان وهو قاضي الفرس في منامه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك واجتمع بالموبذان فقص عليه ما رأى فقال كسرى أي شيء يكون هذا فقال الموبذان وكان عالما بما يكون حدث من جهة العرب أمر فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه
إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجه بعبد المسيح بن عمرو بن حنان الغساني فأخبره كسرى بما كان من ارتجاس الإيوان وغيره فقال له علم ذلك عند أخال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال كسرى فاذهب إليه وسله وأتني بتأويل ما عنده فسار عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه محياه ففتح سطيح عينيه ثم قال يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وخمدت نار فارس وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة فليس بالشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه وقدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بقول سطيح فقال إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور فملك منهم عشرة في أربع سنين وذكر في العقد أن سطيحا كان على زمن نزار بن معد وكان من حديثه شق الملكين بطنه واستخراج العلقة السوداء من قلبه وغسلهم أحشاءه وقلبه بالثلج وذلك لرابعة من مولده وكان شأنه في رضاعه وصباه وشبابه ومرباه عجبا ثم استمر على أكمل الزكاء والطهارة في أخلاقه وكان يعرف بالأمين ثم بدى بالرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل كخلق الصبح
وأما شرفه {صلى الله عليه وسلم} وشرف أهل بيته فروى البيهقي عن ابن عباس قال قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله
وروي عن ابن عمر قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله خلق السموات سبعا فاختار العلي منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم
وعن عايشة قالت قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لي جبرئيل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة شهيرة لا يسعها هذا المقام
وأما نسبه {صلى الله عليه وسلم} فقد تقدم ذكر بني إسماعيل الذين هم على عمود نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والخارجين عن عمود النسب
وأما نسبه {صلى الله عليه وسلم} سردا فهو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ونسبه إلى عدنان متفق عليه من غير خلاف ورجمه صحيح باتفاق النسابين وعدنان من ولد إسماعيل من غير خلاف ورجحة ابن سيد الناس وصححه
وقال ابن خلدون باتفاق من النسابين انتهى
ولكن الخلاف في عدة الآباء الذين بين عدنان وإسماعيل عليه السلام فعد بعضهم بينهما نحو أربعين رجلا وبعضهم سبعة
قال البيهقي وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ يقول نسبة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صحيحة إلى عدنان وما وراء عدنان فليس فيه شيء يعتمد عليه أنتهى
وقال ابن خلدون إن الآباء بينه وبين إسماعيل غير معروفة وتنقلب في غالب الأمر مخلطة مختلفة بالقلة والكثرة في العدد فأما نسبته إليه فصحيحة في الغالب انتهى
وفي سبائك الذهب لأبي الفوز محمد أمين السويدي البغدادي وقد انتسب النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى عدنان هذا كما روى ذلك البيهقي وابن عساكر عن أنس وهو المتفق عليه بين النسابين وأما النسب من عدنان إلى آدم عليه السلام فقد وقع الاختلاف فيه قال الحافظ شرف الدين الدمياطي من بعد أن ساق هذا النسب هكذا ساقه أبو علي محمد بن أسعد النسابة وقال هذا أصح الطرق وأحسنها وأوضحها وهي رواية شيوخنا في النسب
ثم اختلف في كراهة رفع النسب من عدنان إلى آدم فذهب بن اسحق وابن جرير وغيرهما إلى جوازه وعليه البخاري وغيره من العلماء
وذهب جمع من أهل العلم إلى كراهة ذلك ومنهم مالك فإنه لما سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم كرهه وقال من يخبره به وقد وردت آثار تفيد منع رفع النسب من عدنان إلى آدم منها ما ورد عنه {صلى الله عليه وسلم} أنه قال لا تجاوزا معد بن عدنان
وعن ابن عباس قال أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان ثم يمسك ويقول كذب النسابون مرتين أو ثلاثا
وعن عمر بن الخطاب قال إنما ننتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندري ما هو وقد تقدم الكلام في ذلك وعضد ذلك باتفاق النسابين على بعد المدة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو خمسة أو عشرة إذ المدة أطول من هذا كله بكثير
قال أبو الفدا وسبب هذا الاختلاف أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من حفظ بعض وقال ابن خلدون ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة لأن الأسماء ترجمت من العبرانية انتهى
وقال ابن الجوزي أن اليهود اختلفوا اختلافا متفاوتا بين آدم ونوح وفيما بين الأنبياء من السنين وهذا هو سبب الاختلاف انتهى
ومواطن بني عدنان مختصة بنجد وكلها بادية رحالة إلا قريش بمكة فلم يشاركهم أحد من العرب إلا طيء من كهلان ثم افترقت بنو عدنان في تهامة الحجاز ثم في العراق والجزيرة ثم تفرقوا بعد الإسلام في الأقطار
وكان له {صلى الله عليه وسلم} من الأولاد خمسة القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وإبراهيم
ومن الإناث أربع رقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة وأوصافه الغر {صلى الله عليه وسلم} أكثر من أن يحيط بها وصف ولم يبقى له {صلى الله عليه وسلم} عقب إلا من فاطمة رضي الله عنها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يحبها حبا شديدا وكان لها ولدان الحسن والحسين وهما ريحانتا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسيدا شباب أهل الجنة وولد الحسين بالمدينة لخمس خلون من شعبان لسنة أربع من الهجرة وقال {صلى الله عليه وسلم} حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب الحسين وفضائله كثيرة لا يسعها المقام وولد له علي ويلقب بزين العابدين بالمدينة في أيام جده علي بن أبي طالب قبل وفاته بسنتين وتوفي سنة أربع وتسعين ودفن بالبقيع وله من العمر سبع وخمسون سنة ومات مسموما سمه الوليد ابن عبد الملك
وولد له محمد الباقر بالمدينة قبل قتل جده الحسين بثلاث سنين وأمه فاطمة بنت الحسن وله من العمر ثمانية وخمسون سنة مات بالسم في زمن إبراهيم بن الوليد ودفن بالبقيع في قبة العباس وولد له جعفر الصادق بالمدينة سنة ثمانين من الهجرة وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر توفي في سنة مائة وثمانية وأربعون وله من العمر ثمانية وسبعون سنة قيل مات مسموما في زمن المنصور ودفن بالبقيع وولد له موسى الكاظم بالابواء سنة مائة وثمانية وعشرون وأمة حميدة البربرية
وكانت وفاته سنة مائة وثلاث وثمانين من الهجرة وله من العمر خمس وخمسون سنة ودفن بمقابر قريش وولد له علي الرضا وتوفي بطوس قرية من قرى خراسان في آخر صفر سنة مائتين وثلاثين وله من العمر خمسة وخمسون سنة
وولد له محمد الجواد بالمدينة المنورة تاسع شهر رمضان سنة تسع وتسعين ومائة وأمه أم ولد وزوجه المأمون ابنته أم الفضل وسيره إلى المدينة توفي ببغداد ودفن في مقابر قريش بالقرب من جده موسى الكاظم
وولد له علي الهادي وتوفي يوم الاثنين سنة مائتين واثنتين وخمسين ودفن بسر من رأى وله من العمر أربعون سنة وإليه ينتهي نسب محرر هذه السطور ويبلغ منه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالترتيب المذكور وسرده هكذا ولد لعلي الهادي جعفر التركي على عمود النسب
وولد له علي الأشقر المختار
وولد له عبد الله
وولد لعبد الله السيد محمد البغدادي
وولد له السيد محمود
وولد لمحمود السيد محمد البخاري
وولد لمحمد المذكور السيد جعفر
وولد لجعفر السيد علي موبد البخاري
وولد له السيد حسين أبو عبد الله الملقب بالسيد جلال أعظم البخاري
وولد له السيد أحمد الكبير
وولد له السيد أبو عبد الله حسين المعروف بمخدوم جهانيان جهان كشت المتوفي بأرض ملتان من إقليم السند المدفون بقرية أج
وولد له السيد محمود الملقب بناصر الدين
وولد له السيد حامد الكبير
وولد له السيد أبو الفتح ركن الدين سجاد وولد له السيد جلال الثالث البخاري
وولد له السيد راجو شهيد صاحب السجادة ببلدة قنوج
وولد له السيد جلال الرابع
وولد له السيد تاج الدين
وولد له السيد كبير
وولد له السيد علي أصغر
وولد له السيد لطف الله
وولد له السيد عزيز الله
وولد له السيد لطف الله المسمى باسم جده
وولد له السيد علي الملقب بنواب أولاد عليخان بهادر أنور جنك المتوفي بأرض حيدر أباد من بلاد دكن
وولد له والدي السيد العلامة حسن المعروف بسيد أولاد حسن القنوجي المتوفى بقنوج سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف وله من الفضائل العلمية والفواضل العملية والآيات والكرامات ما يغني شهرته عن الذكر والضبط له وولد له هذا العبد صديق بن حسن عفا الله عنه
ذكر تجديد قريش عمارة الكعبة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الإباية والحرب
قيل لما مات إسماعيل ولي البيت بعده ابنه نابت ثم صارت ولاية البيت إلى جرهم ثم إلى خزاعة ثم إلى قريش وكانت الكعبة قصيرة البناء فأرادت قريش رفعها فهدموها ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود فاختصموا فيه لأن كل قبيلة أرادت أن ترفعه إلى موضعه ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل من باب الحرم فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحكموه فأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوب وأن يمسك كل قبيلة بطرف من أطرافه وأن يرفعوه إلى موضعه ففعلوا ذلك وأخذه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند وصوله إلى موضعه فوضعه بيده الكريمة موضعه ثم أتموا بناء الكعبة وكانت تكسى القباطي ثم كسبت البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف
وكان عمر النبي {صلى الله عليه وسلم} حين رضيت قريش بحكمه خمسا وثلاثين سنة قبل مبعثه بخمس سنين ولما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر وافترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام والعراق وما دونهما من الحجاز فكانوا ظعونا وأحياء وكان جميعهم بمسغبة وفي جهد من العيش بحرب بلادهم وحرب فارس والروم على تلول العراق والشام وأربابهما يتنزلون حاميتهم بثغورها ويجهزون كتائبهم بتخومها ويولون على العرب من رجالاتهم وبيوت العصائب منهم من يسومهم القهر ويحملهم على الإنقياد حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم وإتاوة ملك العرب ويؤدوا ما عليهم من الدماء والطوائل من يسترهن أبناءهم على السلم وكف العادية ومن
انتجاع الأرباب وميرة الأقوات والعساكر من وراء ذلك توقع بمن منع الخراج وتستأصل من يروم الفساد
وكان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك كندة بني حجر آكل المرار منذ ولاه عليهم تبع حسان ولم يكن في العرب ملك إلا في آل المنذر بالخيرة للفرس وفي آل جفنة بالشام للروم وفي بني حجر هؤلاء على مضر والحجاز
وكانت قبائل مضر مع ذلك بل وسائر العرب أهل بغي وإلحاد وقطع أرحام وتنافس في الردى وإعراض عن ذكر الله فكانت عبادتهم الأوثان والحجارة وأكلهم العقارب والخنافس والحيات والجعلان وأشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمروها في الحرارة في الدم وأعظم عزهم وفادة على آل المنذر وآل جفنة وبني جعفر ونجعة من ملوكهم وإنما كان تنافسهم المؤودة والسائبة والوصيلة والحامي فلما تأذن الله بظهورهم واشرأبت إلى الشرف هوادي أيامهم وتم أمر الله في إعلاء أمرهم وهبت ريح دولتهم وملة الله فيهم تبدت تباشير الصباح من أمرهم وأونس الخير والرشد في خلالهم وأبدل الله بالطيب الخبيث من أحوالهم وشرهم واستبدلوا بالذل عزا وبالمآثم متابا وبالشر خيرا وبالضلالة هدى وبالمسغبة شبعا وريا وإيالة وملكا وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه فكان لهم من العز والظهور قبل المبعث ما كان وتنافست العرب في الخلال وتنازعوا في المجد والشرف حسب ما هو مذكور في أيامهم وأخبارهم وكان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه وعلى ما كانوا ينتحلونه من هدى آباءهم ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين وإنكار ما عليه قومهم من عبادة الأوثان حتى تلاوموا في عبادة الأحجار والأوثان وتواصوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنفية دين إبراهيم نبيهم ثم تحدث الكهان والحزاة قبل النبوة وأنها كائنة في العرب وأن ملكهم سيظهر
وتحدث أهل الكتاب بما في التوراة والإنجيل من بعث محمد وأمته وظهرت كرامة الله بقريش ومكة في أصحاب الفيل إرهاصا بين يدي مبعثه ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يد ابن ذي يزن ثم رجمت الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره وأصغى الكون للاستماع أنبائه
ذكر مبعث رسول {صلى الله عليه وسلم}
لما بلغ {صلى الله عليه وسلم} أربعين سنة بعثه الله إلى الأسود والأحمر رسولا ناسخا بشريعته الشرائع الماضية والأديان الخالية فكان أول ما ابتدى به من النبوة الرؤيا الصادقة وحبب الله إليه الخلوة وكان يجاور في جبل حراء في كل سنة شهرا فلما كانت سنة مبعثه خرج إلى حراء في رمضان للمجاورة فيه ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاء جبريل عليه السلام فقال له اقرأ قال له ما أنا بقارئ ثم قال له جبريل ثانيا وثالثا اقرأ قال فما أقرأ قال ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( إلى قوله ) علم الإنسان ما لم يعلم ( فقرأها وقال ورقة بن نوفل لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وأنه نبي هذه الأمة ثم تواتر الوحي إليه أولا فأولا
وكان أول الناس من النساء إسلاما خديجة ومن ومن الرجال أبو بكر ومن الصغار علي بن أبي طالب ومن الموالي زيد بن حارثة وكانت دعوة رسول الله إلى الإسلام سرا ثلاث سنين ثم أمره الله بإظهار الدعوة حتى أسلم عمر بن الخطاب وكان ما كان ولله الأمر من قبل ومن بعد وكان أمر الله قدرا مقدورا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وكتب السنة المطهرة ودواوين الإسلام وتواريخه كأبي الفدا وابن خلدون والخميس تغني عن بيان أحواله {صلى الله عليه وسلم} لأنها اشتملت على جميع ما كان من مولده إلى وفاته {صلى الله عليه وسلم} وليس هذا موضع تفاصيلها
ذكر تاريخ الهجرة النبوية
وهي ابتداء التاريخ الإسلامي أما لفظ التاريخ فإنه محدث في لغة
العرب لأنه معرب من ماه وروز كما تقدم وبذلك جاءت الرواية
وروى ابن سليمان عن ميمون بن مهران أنه رفع إلى عمر بن الخطاب في خلافته رضي الله عنه صك محله شعبان فقال أي شعبان أهذا هو الذي نحن فيه أم الذي هو آت
ثم جمع وجوه الصحابة وقال إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت فكيف التوصل إلى ما نضبط به ذلك فقالوا نحب أن يعرف ذلك من رسوم الفرس
فعندما استحضر عمر الهرمزان وسأله عن ذلك فقال إن لنا حسابا نسميه ماه روز ومعناه حساب الشهور والأيام فعربوا الكلمة فقالوا مؤرخ ثم جعلوا اسمه التاريخ واستعملوه ثم طلبوا وقتا يجعلونه أولا لتاريخ دولة الإيلام واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة شرفهما الله تعالى
وقد تصرم من شهور هذه السنة وأيامها المحرم وصفر وثمانية أيام من ربيع الأول فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوما وجعلوا مبدأ التاريخ أول المحرم من هذه السنة ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إلى آخر يوم من عمر النبي {صلى الله عليه وسلم} فكان عشر سنين وشهرين
وأما إذا حسب عمره من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش بعدها تسع سنين وواحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما
التواريخ القديمة
المشهورة من السنين بين الهجرة وبين آدم على مقتضى التوراة اليونانية واختيار المؤرخين ستة آلاف ومائتان وست عشرة سنة وعلى مقتضى التوراة اليونانية واختيار المنجمين حسب يما أثبتوا في الزيجات خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وستون سنة وعيلى مقتضى التوراة العبرانية واختيار المؤرخين أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة وأما على إختيار
المنجمين ينقص عند مائتان وتسع وأربعون سنة وعلى مقتضى التوراة السامرية واختيار المؤرخين خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة وأما على اختيار المنجمين فينقص ما ذكر وكذلك جاء الأمر في جميع التواريخ التي قبل بخت نصر فبين الهجرة وبين الطوفان على اختيار المنجمين ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة وكان الطوفان لستمائة سنة مضت من عمر نوح وعاش نوح بعده ثلاثمائة وخمسين سنة وعلى اختيار المنجمين ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وعشرون سنة حسب ما قرره أبو معشر وكوشيار وغيرهما في الزيجات والتقاويم وبين الهجرة وتبلبل الألسن على اختيار المؤرخين ثلاثة آلاف وثملاثمائة وثلاث وأربع سنين وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعا وأربعين سنة حسب ما تقدم ذكره وبين الهجرة وبين مولد إبراهيم الخليل على اختيار المؤرخين ألفان وثمانمائة وتسعون سنة وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعا وأربعين سنة وبين الهجرة وبين بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليل وولده إسماعيل ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة وكان ذلك بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم وهو القريب والله أعلم
وبين الهجرة وبين وفاة موسى على اختيار المؤرخين ألفان وثلاثمائة وثمان وأربعون سنة وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعا وأربعون سنة وبين الهجرة وبين عمارة بيت المقدس على اختيار المؤرخين ألف وثمانمائة وقريب سنتين وكان فراغه لمضي إحدى عشرة سنة من ملك سليمان ولمضي خمسمائة وست وأربعين سنة لوفاة موسى وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعا وأربعين سنة وبين الهجرة وبين ابتداء ملك بخت نصر ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة وليس فيه خلاف وبين الهجرة وبين خراب بيت المقدس ألف وثلاثمائة وخمسون سنة وكان لمضي تسع عشرة سنة لبخت نصر واستمر خرابا سبعين سنة ثم عمر وبين الهجرة وبين غلبة الإسكندر على دارا ملك الفرس تسعمائة وأربع وثلاثون سنة وكانت أيضا ابتداء ملكه على الفرس وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين وبين الهجرة وبين فيلبس
تسعمائة وسبع وعشرون سنة وهو أخو الإسكندر أصغر منه باثنتي عشرة سنة وملك بعده على مقدونيا كما ذكره بطليموس وبين الهجرة وبين غلبة أغسطس على قلوبطرا ملكة مصر ستمائة واثنتان وخمسون سنة وكانت بسنة اثنتي عشرة من ملك أغسطس وبين الهجرة وبين مولد المسيح عليه السلام ستمائة وإحدى وثلاثون سنة وكانت بسنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر ولإحدى وعشرون سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا وبين الهجرة وبين الخراب الثاني لبيت المقدس خمسمائة وثمان وخمسون سنة وكان لمضي أربعين سنة من رفع المسيح عليه السلام وهو تاريخ لسنة اليهود إلى الآن وبين الهجرة وبين أول ملك أدريانس خمسمائة وسبع سنين وبين الهجرة وبين قيام أزدشير بن بابك أربعمائة واثنتان وعشرون سنة وهو أيضا تاريخ انقراض ملوك الطوائف وبين الهجرة وبين أول ملك دوقلطيانس ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة وهو آخر عبدة الأصنام من ملوك الروم وبين الهجرة وبين مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثلاث وخمسون سنة وشهران وثمانية أيام وبين الهجرة وبين مبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثلاث عشرة سنة وشهران وثمانية أيام وبين الهجرة وبين وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسع سنين وأحد عشر شهرا واثنان وعشرون يوما وهي بعد الهجرة وقد وضع أبو الفدا في المختصر زائجة تتضمن ما بين الهجرة وبين التواريخ القديمة المشهورة من السنين وذكر ما ذكرنا هنا والله أعلم
ذكر اختلاف التواريخ القديمة
ينبغي لمتأمل التواريخ القديمة أن يعلم أن الاختلاف فيها بين المؤرخين كثير جدا
قال ابن الأثير في ذكر ولادة المسيح عليه السلام أن ولادته كانت بعد خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر عند المجوس
وأما عند النصارى فكانت ولادته بعد ثلاثمائة وثلاث سنين من غلبة الإسكندر وهذا تفاوت فاحش وكذلك عند أبي معشر وكوشيار وغيرهما
من المنجمين أن بين الطوفان وبين الهجرة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسا وعشرين سنة وهو الثابت في الزيجات مثل الزيج المأموني وغيره
وأما المحققون من المؤرخين فيقولون إن بين الطوفان وبين الهجرة ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعا وسبعين سنة فيكون التفاوت بينهما مائتين وتسعا وأربعين سنة
وسبب هذا الاختلاف أن من هبوط آدم عليه السلام إلى وفاة موسى لا يعلم إلا من التوراة والتوراة مختلفة على ثلاث نسخ كما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى
وأما ما بين وفاة موسى إلى ابتداء ملك بخت نصر فيعلم من المنجمين قال أبو عيسى ويعلم من قرانات زحل والمشتري في المثلثات وهم أيضا مختلفون في ذلك ويعلم أيضا من سفر قضاة بني إسرائيل وهو أيضا غير محصل
وأما ما يؤخذ عن المؤرخين قبل الإسلام فهو أيضا مضطرب لأنهم كانوا يؤرخون من ابتداء ملك كل من يتملك منهم فكثرت ابتداءات تواريخهم
قال حمزة الأصفهاني وفسدت تواريخهم بسبب ذلك فسادا لا مطمع في إصلاحه مع ما انضم إلى ذلك من بعد العهد وتغير اللغات كقدم الكتب المؤلفة في هذا الفن فصار تحقيق التواريخ القديمة بسبب ذلك متعذرا أو في غاية التعسر
ذكر نسخ التوراة التي عليها مدار التواريخ القديمة
وهي ثلاث الأولى السامرية وهي تنبئ أن من هبوط آدم إلى الطوفان ألفا وثلاثمائة وسبع سنين وكان الطوفان ستمائة سنة خلت من عمر نوح وعاش آدم تسعمائة وثلاثين سنة باتفاق فيكون نوح على حكم هذه التوراة قد أدرك من عمر آدم فوق مائتي سنة فنوح قد أدرك جميع
آبائه إلى آدم وهذا غاية المنكر وتنبئ هذه النسخة أن من انقضاء الطوفان إلى ولادة إبراهيم الخليل عليه السلام تسعمائة وسبعا وثلاثين سنة وأن من ولادة إبراهيم إلى ولادة موسى خمسمائة وخمسا وأربعين سنة فمن آدم إلى وفاة موسى حينئذ ألفان وسبعمائة وتسع وثمانون سنة
وأما ما بين وفاة موسى وبين الهجرة ففيه مذهبان أحدهما اختيار المؤرخين والآخر اختيار المنجمين فإذا ضممنا إلى ذلك ما بين وفاة موسى والهجرة كان بين هبوط آدم وبين الهجرة على حكم اختيار المؤرخين وحكم توراة السمرة خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة وأما على اختيار المنجمين فتنقص عن هذه الجملة مائتين وتسعا وأربعين سنة فقد ظهر لك فساد هذه التوراة من كونها تقتضي إدراك نوح آدم وعيشه معه المدة الطويلة
الثانية العبرانية وهي أيضا فاسدة وذلك أنها تنبئ أن ما بين هبوط آدم وبين الطوفان ألف وخمسمائة وست وخمسون سنة وبين الطوفان وبين ولادة إبراهيم مائتان واثنتان وتسعون سنة وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة باتفاق فالتوراة العبرانية تنبئ أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم الخليل ثمانيا وخمسين سنة وهذا أيضا غاية المنكر فإن نوحا لم يدرك إبراهيم أصلا ولا يجوز ذلك لأن قوم هود أمة نجمت بعد قوم نوح وأمة صالح نجمت بعد أمة هود وإبراهيم وأمته بعد أمة صالح ومما يدل على ذلك قوله تعالى مخبرا عن هود فيما يعظ به قومه وهم قوم عاد ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ( وكذلك أخبر الله تعالى عن صالح فيما يعظ به قومه وهم ثمود ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ( فقد ظهر فساد هذه التوراة العبرانية بذلك وهي التوراة التي بيد اليهود إلى زماننا هذا وعليها اعتمادهم
ولنستوف ما تنبي به من جملة سني العالم قد تقدم أنها تنبي أن بين هبوط آدم وبين الطوفان ألفا وخمسمائة وستا وخمسين سنة وبين الطوفان وبين ولادة إبراهيم مائتين واثنتين وتسعين سنة وبين ولادة إبراهيم وبين وفاة موسى خمسمائة وخمسا وأربعين سنة باتفاق وما بين وفاة موسى وبين الهجرة فيه المذهبان المذكوران فعلى اختيار المؤرخين ومقتضى العبرانية يكون بين آدم وبين الهجرة أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة
وأما على اختيار المنجمين فتنقص من هذه الجملة مائتين وتسعا وأربعين سنة فيكون من آدم إلى الهجرة على ذلك أربعة آلاف وأربع مائة واثنتان وتسعون سنة وجملة سني هذه التوراة تنقص عن التوراة اليونانية وهي التي عليها العمل ألفا وأربعمائة وخمسأ وسبعين سنة وهذه الجملة هي القدر الذي نقصه اليهود من الماضي من سني العالم فنقصوا من قبل الطوفان ستمائة وستا وثمانين سنة ومن بعد الطوفان سبعمائة وتسعا وثمانين سنة الجملة ألف وأربعمائة وخمس وسبعون سنة وصورة ما اعتمده اليهود في ذلك أنهم نقلوا من عمر كل واحد من آدم وبنيه مائة سنة من قبل ميلاد ابنه إلى بعد الميلاد فلم تتغير جملة عمر ذلك الشخص ونقصت مدة الزمان فإن آدم لما صار له مائتان وثلاثون سنة ولد له شيث وعاش آدم تسعمائة وثلاثين سنة باتفاق فأخذ اليهود مائة سنة من عمر آدم قبل أن يولد له شيث جعلوها بعد مولد شيث فلم تتغير جملة عمر آدم وجعلوه أنه ولد شيث لمضي مائة وثلاثين سنة من عمره وكذلك اعتمدوا في كل من بعده فنقص من سني العالم القدر المذكور قالوا والذي دعا اليهود إلى ذلك أن التوراة وغيرها من كتب بني إسرائيل بشرت بالمسيح وأنه يجيء في أوآخر الزمان وكان مجيء المسيح في الألف السادس في توسط الزمان لا في أوآخر بناء على أن عمر الزمان جميعه سبعة آلاف سنة
والثالثة التوراة اليونانية وهي التي اختارها المحققون من المؤرخين وليس فيها ما يقتضي الإنكار من جهة الماضي من عمر الزمان وهي توراة نقلها اثنان وسبعون حبرا قبل ولادة المسيح بقريب ثلاثمائة سنة لبطليموس اليوناني الذي كان بعد الإسكندر ولذلك اعتمدنا على هذه
التوراة دون غيرها والذي تنبي به هذه التوراة أن ما بين هبوط آدم والطوفان ألفان ومائتان واثنتان وأربعون سنة وما بين الطوفان وكان ستمائة سنة مضت من عمر نوح وبين مولد إبراهيم الخليل ألف وإحدى وثمانون سنة وبين ومولد إبراهيم ووفاة موسى خمسمائة وخمس وأربعون باتفاق في نسخ التوراة جميعها وبين وفاة موسى وبين ابتداء ملك بخت نصر فيه خلاف بين المنجمين والمؤرخين والذي اختاره المؤرخون أن بين وفاة موسى وبين ابتداء ملك بخت نصر تسعمائة وثمانيا وسبعين سنة ومائتين وثمانية وأربعين يوما
وأما ما بين ابتداء ملك بخت نصر وبين الهجرة فهو ألف وثلاث مائة وتسع وستون سنة ومائة وسبعة عشر يوما وليس فيه خلاف لأن بطليموس أثبته في المجسطي وأرخ به رصده فيكون بين الهجرة وبين هبوط آدم ستة آلاف سنة ومائتان وست عشرة سنة
وهذا القدر هو المختار وعليه بنى أبو الفدا كتابه المختصر في أحوال البشر
وأما الذي اختاره المنجمون وأثبتوه في الزيجات من المدة بين وفاة موسى وبين بخت نصر فإنها تنقص عما ذكرناه مائتين وتسعا وأربعين سنة وأقترح أبو الفدا جدولا يتضمن ما بين التواريخ المشهورة من المدد وقال ينبغي أن تعلم أن المحققين من المنجمين والمؤرخين قد اختلفوا في المدة التي بين وفاة موسى وابتداء ملك بخت نصر اختلافا كثيرا فذهب أبو عيسى والمحققون من المؤرخين إلى أن بينهما تسعمائة وثمانيا وسبعين سنة ومائتين وثمانية وأربعين يوما وهو الذي اخترناه وأثبتناه في جدولنا وجعلنا الأيام المذكورة على سبيل الجبر سنة فصار المثبوت في الجدول تسعمائة وتسعا وسبعين سنة وأما أبو معشر وكوشيار وغيرهما من كبار المنجمين فإنهم أثبتوا في الزيجات أن بين وفاة موسى وابتداء ملك بخت نصر سبعمائة وعشرين سنة وذلك ينقص عما اختاره أبو عيسى وغيره من المحققين مائتين وتسعا وأربعين سنة وإذا نقص ما بين وفاة موسى وبخت نصر المدة المذكورة نقص ما بين الطوفان والهجرة
قطعا فلذلك تجد في الزيج المأموني وغيره من الزيجات أن بين الطوفان وبين الهجرة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسا وعشرين سنة وتجد ما بين الطوفان وبين الهجرة في جدولنا هذا ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعا وسبعين سنة فيكون ما في الجدول أزيد مما في الزيجات بمائتين وتسع وأربعين سنة وأما بمقتضى سفر قضاة بني إسرائيل وسفر ملوكهم إذا جمعنا مدد ولايتهم فإن بين وفاة موسى وبين ملك بخت نصر بمقتضي ذلك اثنتين وخمسين وتسع مائة سنة وأما من بخت نصر بمقتضي ذلك اثنتين وخمسين وتسع مائة سنة وأما من بخت نصر إلى الهجرة فلم يختلف فيه لأن بطليموس أثبته في المجسطي وأما تاريخ فيلبس فهو مشهور كما تقجدم فيما سبق وقد أرخ به بطليموس في المجسطي غالب أرصاده ولكنا تركناه للاختصار لقربه من تاريخ الإسكندر لأنه متقدم على تاريخ الإسكندر بإثنتي عشرة سنة فإذا زدت على تاريخ الإسكندر اثنتي عشرة سنة خرج فيلبس وأما أزدشير بن بابك فبين ملكه وبين الإسكندر خمسمائة واثنتا عشرة سنة تقريبا وبينه وبين الهجرة أربعمائة واثنتان وعشرون سنة انتهى كلامه
وهذا غاية الجمع والبيان في أحوال التواريخ القديمة للزمان من هبوط آدم عليه السلام إلى الهجرة النبوية
ولعلك لا تجد أكثر منه وأوضح مجموعا في كتاب بسيط وسفر وسيط ومرقوم محيط وإن وجدت شيئا من ذلك بعد جهد بالغ وجدت ما ذكرناه في صحف جمة لا في مقالة صغيرة فخذه وكن من الشاكرين
ذكر وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
إذا أحطت علما بما ذكرنا من تاريخ الهجرة واختلاف التواريخ المتقدمة فاعلم أنه لما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حجة الوداع أقام بالمدينة حتى مضت سنة عشر والمحرم من سنة إحدى عشرة ومعظم صفر وأبتدأ برسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرضه في أوآخر صفر قيل لليلتين بقيتا منه وهو في بيت زينب بنت جحش وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحارث فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن فإذن له أن يمرض في بيت عائشة فانتقل إليها وفي أثناء
مرضه خرج بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر فحمد الله ثم قال أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد مني ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ثم نزل وصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد إلى مقامه فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضا ثم قال إلا أن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر ثم قال فديناك بأنفسنا ثم أوصى بالأنصار وكان في أيام مرضه يصلي بالناس وإنما انقطع ثلاثة أيام فلما أذن بالصلاة أول ما انقطع قال مروا أبا بكر فليصل بالناس وتزايد به مرضه حتى توفي يوم الإثنين ضحوة النهار وقيل نصف النهار لأثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول
فعلى هذه الرواية يكون يوم وفاته موافقا ليوم مولده ولما مات ارتد أكثر العرب إلا أهل المدينة ومكة والطائف فإنه لم يدخلها ردة وقيل دفن يوم الثلاثاء ثاني يوم موته وقيل ليلة الأربعاء وهو الأصح وقيل بقي ثلاثا لم يدفن وكان الذي تولى غسله علي بن أبي طالب والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان العباس وابناه يقبلونه واسامة وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا ولم ير منه ما يرى من ميت وكفن {صلى الله عليه وسلم} في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها أدراجا وصلوا عليه ودفنوه تحت فراشه الذي مات عليه وحفر له أبو طلحة الأنصاري وأنزل في قبره علي والفضل وقثم
واختلف في مدة عمره {صلى الله عليه وسلم} فالمشهور أنه ثلاث وستون سنة وقيل خمس وستون سنة وقبل ستون سنة والمختار أنه بعث لأربعين سنة وأقام بمكة يدعو الإسلام ثلاث عشرة سنة وكسرا وأقام بالمدينة بعد الهجرة قريب عشر سنين فذلك ثلاث وستون سنة وكسور وقد رثاه جمع من الصحابة والصحابيات بمراث كثيرة
وكان بين كتفيه خاتم النبوة وهو بضعة ناشزة حولها شعر مثل بيضة الحمامة تشبه جسده وقيل كان لونه أحمر قال أبو هريرة خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا توقد في بيت من بيوته نار وكان قوتهم التمر والماء وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع قيل كانت غزواته تسع عشرة وقيل ستا وعشرين وقيل سبعأ وعشرين غزوة وآخر غزواته غزوة تبوك ووقع القتال منها في تسع وهي بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخبير والفتح وحنين والطائف وباقي الغزوات لم يجر فيها القتال
وأما السرايا والبعوث فقيل خمس وثلاثون وقيل ثمان وأربعون ودواوين الإسلام وكتب السنة المطهرة قد اشتملت على تفاصيل أحواله {صلى الله عليه وسلم} وما جرياته بما هو معروف عند علماء هذا الشأن وليس هذا موضع ذكرها وأوصافه أجل من أن تحصر أو تحيطه الدفاتر صلى الله تعالى عليه على وصحبه وسلم تسليما كثيرا
ذكر طرف من هيئة الأفلاك
إعلم أن الكواكب أجسام كريات والذي أدرك منها الحكماء بالرصد ألف كوكب وتسعة وعشرين كوكبا وهي على قسمين سيارة وثابتة فالسيارة سبعة وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وقد نظمها المقريزي في بيت واحد وهو
زحل شري مريخه من شمسه
فتزاهرت بعطارد الأقمار
ويقال لهذه السبعة الخنس وقيل أنها التي عناها الله تعالى بقوله ) فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ( والتي عناها الله بقوله ) فالمدبرات أمرا ( وقيل لها الخنس لاستقامتها في سيرها ورجوعها وقيل لها الكنس لأنها تجري في البروج ثم تكنس أي تستتر كما يكنس الظبي وقيل الكنس والخنس منها خمسة وهي ما سوى الشمس والقمر سميت بذلك من الأنخاس وهو الإنقباض وفي الحديث الشيطان يوسوس للعبد فإذا ذكر الله خنس أي انقبض ورجع فيكون الخنس على هذا في الكواكب بمعنى الرجوع وسميت بالكنس من قولهم كنس الظبي إذا دخل الكناس وهو مقره فالكنس على هذا في الكواكب بمعنى اختفائها تحت ضوء الشمس ويقال لهذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغريبة في رأي العين فيكون هذا الإرتداد لها شبه التحير
وهذه الأسماء التي لهذه الكواكب يقال أنها مشتقة من صفاتها
فزحل مشتق من زحل فلان إذا أعيا سمي بذلك لبطء سيره ويقال أنه المراد في قوله تعالى ) والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب (
والمشتري سمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه وقيل لأنه نجم الشراء والبيع ودليل الربح والمال في قولهم
والمريخ مأخوذ من المرخ وهو شجر يحتك بعض أغصانه ببعض فيوري نارا سمي بذلك لإحمراره وقيل المريخ سهم لا ريش له إذا رمي به لا يستوي في ممره وكذا المريخ فيه التواء كثير في سيره ودلالته بزعمهم تشبه ذلك
والشمس لما كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية لأنهم من فوقها وثلاثة سفلية لأنهم من تحتها سميت بذلك لأن الواسطة التي في المخنقة تسمى شمسة
والزهرة من الزاهر وهو الأبيض النير من كل شيء
وعطارد وهو النافذ في كل الأمور ولذلك يقال له أيضا الكاتب فإنه كثير التصرف مع ما يقارنه ويلابسه من الكواكب
والقمر مأخوذ من القمرة وهي البياض والأقمر الأبيض ويقال لزحل كيوان وللمشتري تبر والبرجيس أيضا وللمريخ بهرام وللشمس مهر وللزهرة أناهيذ وسدحت أيضا وناهيذ ايضا ولعطارد هرمس وللقمر ماه وقد جمعها المقريزي في ثاني هذين البيتين
لا زلت تبقى وترقى للعلى أبدا
ما دام للسبعة الأفلاك أحكام
مهر وماه وكبوان وتبر معا
وهرمس وأناهيذ وبهرام
ويقال لما عدا هذه الكواكب السبعة من بقية نجوم السماء الكواكب الثابتة سميت بذلك لثباتها في الفلك بموضع واحد وقيل لبطء حركتها
فإنها تقطع الفلك بزعمهم بعد كل ست وثلاثين ألف سنة شمسية مرة واحدة ولكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة فلك من الأفلاك يخصه والأفلاك أجسام كريات مشفات بعضها في جوف بعض وهي تسعة أقربها إلينا فلك القمر وبعده فلك عطارد ثم بعده فلك الزهرة وبعده فلك الشمس وفوقه فلك المريخ ثم فلك المشتري وفوقه فلك زحل ثم فلك الثوابت وفيه كل كوكب يرى في السماء سوى السبعة السيارة ومن فوق فلك الثوابت الفلك المحيط وهو الفلك التاسع ويسمى الأطلس وفلك الأفلاك وفلك الكل
وقد اختلفت في الأفلاك فقيل هي السموات وقيل بل السموات غيرها وقيل بل هي كرية وقيل غير ذلك وقيل الفلك الثامن هو الكرسي والفلك التاسع هو العرش وقيل غير ذلك
وهذا الفلك التاسع دائم الدوران كالدولاب ويدور في كل أربعة وعشرين ساعة مستوية دورة واحدة ودورانه يكون أبدا من المشرق إلى المغرب ويدور بدورانه جميع الأفلاك الثمانية وما حوته من الكواكب دورانا حركته قسرية لإدارة التاسع لها وعن حركة التاسع المذكور يكون الليل والنهار فالنهار مدة بقاء الشمس فوق أفق الأرض والليل مدة غيبوبة الشمس تحت أفق الأرض وفلك الكواكب الثابتة مقسوم باثني عشر قسما كحجم البطيخة كل قسم منها يقال له برج وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وكل برج من هذه البروج الأثني عشر ينقسم ثلاثين قسما يقال لكل قسم منها درجة وكل درجة من هذه الثلاثين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها ثانية وهكذا إلى الثوالث والروابع والخوامس إلى الثواني عشر وما فوقها من الأجزاء وكل ثلاثة بروج تسمى فصلا فالزمان على ذلك أربعة فصول وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء وجهات الأقطار
أربعة اشرق والغرب والشمال والجنوب والأركان أربعة النار والهواء والماء والتراب والطبائع أربعة الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والأخلاط أربعة الصفراء والسوداء والبلغم والدم والرياح أربعة الصبا والدبور والشمال والجنوب فالبروج منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار عليل وهي الحمل والثور والجوزاء وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار وهي السرطان والأسد والسنبلة وثلاثة خريفية هابطة في جنوب زائدة الليل على النهار وهي الميزان والعقرب والقوس وثلاثة شتوية صاعدة في الجنوب آخذة النهار من الليل وهي الجدي والدلو والحوت والفلك المحيط كما تقدم يدور أبدا من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحتها فيكون دائما نصف الفلك وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة فوق الأرض ونصفة الآخر وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة تحت الأرض وكلما طلعت من أفق المشرق درجة من درجات الفلك التي عدتها ثلاثمائة وستون درجة غرب نظيرها في أفق المغرب من البرج السابع فلا يزال دائما ستة بروج طلوعها بالنهار وستة بروج طلوعها بالليل والأفق عبارة عن الحد الفاصل من الأرض بين المرئي والخفي من السماء والفلك يدور على قطبين شمالي وجنوبي كما يدور الحق على قطبي المخروطة
ويقسم الفلك خط من دائرة تقسمه نصفين متساويين بعدهما من كلا القطبين سواء وتسمى هذه الدائرة دائرة معدل النهار فهي تقاطع فلك البروج ودائرة فلك البروج تقاطع دائرة معدل النهار ويميل نصفها إلى الجانب الشمالي بقدر أربع وعشرين درجة تقريبا وهذا النصف فيه قسمة البروج الستة الشمالية وهي من أول الحمل إلى آخر السنبلة ويميل نصفها الثاني عنها إلى الجنوب بمثل ذلك وفيه قسمة البروج الستة الجنوبية وهي من أول برج الميزان إلى آخر برج الحوت
وموضع تقاطعين هاتين الدرجتين أعني دائرة معدل النهار ودائرة فلك
البروج من الجانبين هما نقطتا الاعتدالين أعني رأس الحمل ورأس الميزان ومدار الشمس والقمر وسائر النجوم على محاذاة دائرة فلك البروج دون دائرة معدل النهار
وتمر الشمس على دائرة معدل النهار عند حلولها بنقطتي الاعتدالين فقط لأنها موضع تقاطع الدائرتين وهذا هو خط الاستواء الذي لا يختلف فيه الزمان بزيادة الليل على النهار ولا النهار على الليل لأن ميل الشمس عنه إلى كلا الجانبين الشمالي والجنوبي سواء فالشمس تدور الفلك وتقطع الاثني عشر برجا في مدة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم بالتقريب وهذه هي مدة السنة الشمسية وتقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا من يوم وتكون أبدا بالنهار ظاهرة فوق الأرض وبالليل بخلاف ذلك وإذا حلت في البروج الستة الشمالية التي هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة فإنها تكون مرتفعة في الهواء قريبة من سمت رؤوسنا وذلك من فصل الربيع وفصل الصيف وإذا حلت في البروج الجنوبية وهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت كان فصل الخريف وفصل الشتاء وانحطت الشمس وبعدت عن ست الرؤوس
وزعم وهب بن منبه أن أول ما خلق الله تعالى من الأزمنة الأربعة الشتاء فجعله باردا رطبا وخلق الربيع فجعله حارا رطبا وخلق الصيف فجعله حارا يابسا وخلق الخريف فجعله باردا يابسا
وأول الفصول عند أهل زماننا الربيع ويكون فصل الربيع عندما تنتقل الشمس من برج الحوت وقد اختلف القدماء في البداية من الفصول فمنهم من اختار فصل الربيع وخيره أول السنة ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفي ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفي ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتوي فإذا حلت أول جزء من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان وانصرف الشتاء ودخل الربيع وطاب الهواء وهب النسيم وذاب الثلج وسالت الأودية ومدت الأنهار فيما عدا مصر ونبت العشب وطال الزرع ونما الحشيش وتلألأ الزهر وأورق الشجر
وتفتح النور واخضر وجه الأرض ونتجت البهائم ودرت الضروع وأخرجت الأرض زخرفها وأزينت وصارت كصبية شابة قد تزينت للناظرين ولله در الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليعمري رحمه الله حيث يقول
واستنشقوا لهوا الربيع فإنه
نعم النسيم وعنده ألطاف
يغذي الجسوم نسيمه وكأنه
روح حواها جوهر شفاف
وقال ابن قتيبة ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه النور والورد ولا يعرفون الربيع غيره والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعد ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع ثم فصل القيظ وهو الذي تدعوه العامة الصيف ومن العرب من يسمي الفصل الذي يعتدل وتدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول ويسمي الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمام والنور الربيع الثاني وكلهم مجمعون على أن الربيع هو الخريف فإذا حلت الشمس آخر برج الجوزاء وأول برج السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل وابتدأ وزيادة الليل وانصرم فصل الربيع ودخل فصل الصيف واشتد الحر وحمي الهواء وهبت السمائم ونقصت المياه إلا بمصر ويبس العشب واستحكم الحب وأدرك حصاد الغلال ونضجت الثمار وسمنت البهائم واشتدت قوة الأبدان ودرت أخلاف النعم وصارت الأرض كأنها عروس فإذا بلغت آخر برج السنبلة وأول برج الميزان تساوى الليل والنهار مرة ثانية وأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الصيف ودخل فصل الخريف فبرد الهواء وهبت الرياح وتغير الزمان وجفت الأنهار وغارت العيون واصفر ورق الشجر وصرمت الثمار ودرست البيادر واختزن الحب واقتنى العشب واغبر وجه الأرض إلا بمصر وهزلت البهائم وماتت الهوام وانجحرت الحشرات وانصرف الطير والوحش يريد البلاد الدافئة وأخذ الناس يخزنون القوت للشتاء وصارت الدنيا كأنها امرأة كهلة قد أدبرت وأخذ شبابها
يولي ولله در الإمام أبو الحسن أحمد بن علي الأزدي المهلبي حيث يقول
لله فصل الخريف المستلذ به
برد الهواء لقد أبدى لنا عجبا
أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبا
والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا
وقال أيضا
لله فصل الخريف فصلا
رقت حواشيه فهو رائق
فالماء يجري من قلب سال
والدمع يبدو بوجه عاشق
فبرد هذا ولون هذا
يلذه ذائق ووامق
وقال أيضا
أتى فصل الخريف بكل طيب
وحسن معجب قلبا وعينا
أرانا الدوح مصفرا نضارا
وصافي الماء مبيضا لجينا
فاحسن كل إحسان إلينا
وأنعم كل إنعام علينا
وقال آخر يذم الخريف
خذ في التدثر في الخريف فإنه
مستوبل ونسيمه خطاف
يجري مع الأجسام جري حياتها
كصديقها ومن الصديق يخاف
وقال آخر
يا عائبا فصل الخريف وغائبا
عن فضله في ذمه لزمانه
لا شيء ألطف منه عندي موقعا
أبدا يعري الغصن من قمصانه
وتراه يفرش تحته أثوابه
فاعجب لرأفته وفرط خنانه
وألذ ساعات الوصال إذا دنا
وقت الرحيل وحان حين أوانه
فإذا حلت الشمس آخر برج القوس وأول برج الجدي تناهى طول الليل وقصر النهار وأخذ النهار في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الخريف وحل فصل الشتاء واشتد البرد وخشن الهواء وتساقط ورق الشجر ومات أكثر النبات وغارت الحيوانات في جوف الأرض
وضعف قوى الأبدان وعري وجه الأرض من الزينة ونشأت الغيوم وكثرت الأنداء وأظلم الجو وكلح وجه الأرض إلا بمصر وامتنع الناس من التصرف وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت فإذا بلغت آخر برج الحوت وأول برج الحمل عاد الزمان كما كان عام أول وهذا دأبه ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير الخبير الحكيم لا إله إلا هو
وقد شبه بطليموس فصل الربيع بزمان الطفولية وفصل الصيف بالشباب والخريف بالكهولة والشتاء بالشيخوخة وعن حركة الشمس وتنقلها في البروج الاثني عشر المذكورة تكون أزمان السنة وأوقات اليوم من الليل والنهار وساعاتهما وعن حركة القمر في البروج الاثني عشر تكون الشهور القمرية والسنة القمرية فالقمر يدور البروج الاثني عشر ويقطع الفلك كله في مدة ثمانية وعشرون يوما وبعض يوم ويقيم في كل برج يومين وثلث يوم بالتقريب ويقيم في كل منزلة من منازل القمر الثمانية والعشرين منزلة يوما وليلة فيظهر عند إهلاله من ناحية الغرب بعد غروب جرم الشمس ويزيد نوره في كل ليلة قدر نصف سبع حتى يكمل نوره ويمتلئ في ليلة الرابع عشر من إهلاله ثم يأخذ من الليلة الخامسة عشرة في النقصان فينقص من نوره في كل ليلة نصف سبع كما بدأ إلى أن يمحق نوره في آخر الثمانية وعشرين يوما من إهلاله ويمر في هذه المدة منذ يفارق الشمس ويبدو في ناحية الغرب ويسير إلى أن يجامعها بثمانية وعشرين منزلة وهي السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزبانان والاكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرع المقدم والفرع المؤخر وبطن الحوت ولحساب ذلك كتب موضوعة وفيما ذكرنا كفاية والله يعلم وأنتم لا تعلمون
ذكر محاسن الفصول الأربعة للسنة على لسان الأدب
من كتاب نسيم الصبا للشيخ شمس الدين بن حبيب رحمه الله قال حضر فصول العام مجلس الأدب في يوم بلغ فيه الأريب نهاية الأرب بمشهد من ذوي البلاغة ومنتهى صناعة الصاغة فقام كل منهم يعرب عن نفسه ويفتخر على أبناء جنسه
فقال الربيع أنا شباب الزمان وروح الحيوان وإنسان عين الإنسان أنا حياة النفوس وزينة عروس الغروس ونزهة الأبصار ومنطق الأطيار عرف أوقاتي ناسم وأيامي أعياد ومواسم فيها يظهر النبات وتنشر الأموات وترد الودائع وتتحرك الطبائع ويمرح جنيب الجنوب ويبرح وجيب القلوب وتفيض عيون الأنهار ويعتدل الليل والنهار كم لي من عقد منظوم وطراز وشي مرقوم وحلة فاخرة وحلية ظاهرة ونجم سعد يدني راعيه من الأمل وشمس حسن بأبعد ما بين برج الجدي والحمل عساكري منصورة وأسلحتي مشهورة فمن سيف غصن مجوهر ودرع بنفسج مشهر ومغفر شفيق أحمر وترس بهار يبهر وسهم آس يرشق فينشق ورمح سوسن سنانه أزرق تحرسها آيات وتكنفها ألوية ورايات بي تحمر من الورد خدوده وتهتز من البان قدوده ويخضر عذار الريحان وينتبه من النرجس طرفه الوسنان وتخرج الخفايا من الزوايا ويفتر ثغر الأقحوان قائلا أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
إن هذا الربيع شيء عجيب
تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر
حيث درنا وفضة في الفضاء
وقال الصيف أنا الخل الموافق والصديق الصادق والطيب الحاذق أجتهد في مصلحة الأصحاب وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب وأخفف أثقالهم وأوفر أموالهم وأكفيهم المؤونة واجزل لهم المعونة وأغنيهم من شراء الفرا وأحقق عندهم أن كل الصيد في جوف الفرا نصرت بالصبا وأوتيت الحكمة في زمن الصبى بي تتضح الجادة وتنضج من الفواكه المادة ويزهو البسر والرطب وينصلح مزاج العنب ويقوى قلب اللوز ويلين عطف التين والموز وينعقد حب الرمان فيقمع الصفراء ويسكن الخفقان وتخضب وجنات التفاح ويذهب عرف السفرجل مع هبوب الرياح وتسود عيون الزيتون وتتخلق تيجان النارنج والليمون مواعيدي منقودة وموائدي ممدودة الخير موجود في مقامي والرزق مقسوم في أيامي والفقر ينصاع على مده وصاعه ويالغنى يرتع في ملكه وإقطاعه والوحش تأتي زرافات ووحدانا والطير تغدو خماصا وتعود بطانا
مصيف له ظل مديد على الورى
فكم قد حلا طعما وحليل أخلاطا
يعالج أنواع الفواكه مبديا
لصحتها حفظا ويعجز بقراطا
وقال الخريف أنا سائق الغيوم وكاسر جيش الغموم وهازم أحزاب السموم وحادي نجائب السحائب وحاسر نقاب المناقب أنا أصد الصدى وأجود بالندى وأظهر كل معنى جلى وأسمو بالوسمى والولى في أيامي تقطف الثمار وتصفو الأنهار من الأكدار ويترقرق دمع العيون ويتلون ورق الغصون طورا يحاكي البقم وتارة يشبه الأرقم وحينا يبدو في حلته الذهبية فيجذب إلى جانبه القلوب الأبية وفيها يكفي الناس هم الهوام ويتساوى في لذة الماء الخاص والعام وتقدم الأطيار مطربة بنشيشها رافلة في الملابس الجديدة من ريشها وتعصر بنت العنقود وتوثق في سجن الدن بالقيود على أنها لم تجترح إثما ولم تعاقب إلا عدوانا وظلما بي تطيب الأوقات وتحصل اللذات وترق النسمات وترمى حصى الجمرات وتسكن
حرارة القلوب وتكثر أنواع المطعوم والمشروب كم لي من شجرة أكلها دائم وحملها للنفع المتعدي لازم وورقها على الدوام غير ذابل وقدود أغصانها تخجل كل رمح ذابل
إن فصل الخريف وافي إلينا
يتهادى في حلية كالعروس
غيره كان للعيون ربيعا
وهو ما بيننا ربيع النفوس
وقال الشتاء أنا شيخ الجماعة ورب البضاعة والمقابل بالسمع والطاعة أجمع شمل الأصحاب وأسدل عليهم الحجاب وأتحفهم بالطعام والشراب ومن ليس له بي طاقة أغلقت من اجله الباب أميل إلى المطيع القادر المستطيع المعتضد بالبرود والفرا والمستمسك من الدثار بأوثق العرى المرتقب قدومي وموافاتي المتأهب للسبعة المشهورة من كافاتي ومن يعش عن ذكري ولم يتمثل أمري أرجفته بصوت الرعد وأنجزت له من سيف البرق صادق الوعد وسرت إليه بعساكر السحاب ولم أقنع بالغنيمة بالإياب معروفي معروف ونيل نيلي موصوف وثمار إحساني دانية القطوف كم لي من وابل طويل المدى وجود وافر الجدا وقطر حلا مذاقه وغيث قيد العفاة إطلاقه وديمة تطرب السمع بصوتها وحيا يحي الأرض بعد موتها أيامي وجيزة وأوقاتي عزيزة ومجالسي معمورة بذوي السيادة مغمورة بالخير والمبر والسعادة نقلها يأتي من أنواعه بالعجب ومناقلها تسمح بذهب اللهب وراحها تنعش الأرواح وسقاتها يجفونهم السقيمة تفتن العقول الصحاح إن زرتها وجدت مالا ممدودا وإن زرتها شاهدت لها بنين شهودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا
عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما
حرك لنا عودا واحرق عودا
فلما نظم كل منهم سلك مقال وفرغ من الكلام على شرح حاله أخذ الجماعة من الطرب ما يأخذ أهل السكر وتجاذبوا أطراف مطارف الثناء والشكر وظهرت أسرار السرور وانشرحت صدور الصدور وهبت قبول الاقبال وأنشد لسان الحال
وماذا يعيب المرء في مدح نفسه إذا لم يكن في قوله بكذوب ثم انفض المجلس وحل النطاق وتفرق شمل أهله وآخر الصحبة الفراق قال بعضهم الربيع مفضل على سائر الفصول بحسن آثاره ورياحينه وأزهاره قال بقراط الحكيم من لم يبتهج بالربيع وأزهاره ولم يستمتع ببرد نسيمه وأمطاره فهو فاسد المزاج محتاج إلى العلاج وقال بعض البلغاء الربيع جميل الوجه ضاحك السن رشيق القد حلو الشمائل عطر الرائحة كريم الخلق وقال ظريف الربيع شباب الزمان ونسيمه غذاء النفوس ومنظره جلاء العيون ومن لطائف الصنوبري في تفضيل الربيع على سائر الفصول قوله
إن كان في الصيف أثمار وفاكهة
فالأرض مستوقد والجو تنور
وإن يكن في الخريف النخل مخترفا
فالأرض مسجورة والماء مأسور
وإن يكن في الشتاء الغيم متصلا
فالأرض عريانة والأفق مقرور
ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا
أتى الربيع أتاك النور والنور
فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة
والنبت فيروزج والماء بلور
تبارك الله ما أحلى الربيع فلا يقل
تغرر فقائسه بالصيف مغرور
( من شم ريح تحيات الربيع يقل
لا المسك مسك ولا الكافور كافور
ذكر علم الهيئة
وهو علم ينظر به في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت الأرض عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية كما يبرهن على أن مركز الأرض مبائن لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدل بالرجوع والإستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعدد المبول له وأمثال ذلك وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها وإنما هو بالرصد فإنما علمنا حركة الإقبال والإدبار به
وكذا تركيب الأفلاك في طباقتها وكذا الرجوع والإستقامة وأمثال ذلك وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين وكانت تسمى عندهم ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه ومطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس
وأما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل وكان في أيام المأمون شيء منه وضع الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق وشرع في ذلك فلم يتم ولما مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب وأن مطابقة حركة الآلة في الرصد بحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطى التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك بالتقريب وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطي صورة السموات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا أن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم ولا ايعطى الحقيقة بوجه على أنه علم جليل وهو أحد أركان التعاليم
ومن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس وليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء ولخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السمح وابن الصلت في كتاب الإقتصار
ولإبن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها الهندسية والله علم الإنسان ما لم يعلم سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين
ومن فروعه علم الأزياج وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع
الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلا على المتعلمين وتسمى الأزياج ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا وتقويما وللناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين والمتأخرين مثل البناني وابن الكماد وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد وأن يهودا كان بصقلية ماهرا في الهيئة والتعاليم وكان قد عنى بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحول الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثائق مبناه على ما يزعمون ولخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتني عليها الأحكام النجومية وهو معرفة الآثار التي تتحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية كما بينه ابن خلدون وأوضح فيه أدلتهم والله الموفق لما يحبه ويرضاه ولا معبود سواه
ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها
لما تقدم في الأفلاك من القول ما تبين به لمن ألهمه الله تعالى كيف تكون الحركة التي بها الليل والنهار وتركب الشهور والأعوام منها جاز حينئذ الكلام على الأرض فأقول الجهات من حيث هي ست الشرق وهو حيث تطلع الشمس والقمر وسائر الكواكب في كل قطر من الأرض والغرب وهو حيث تغرب والشمال وهو حيث مدار الجدي والفرقدين والجنوب وهو حيث مدار سهيل والفوق وهو مما يلي السماء والتحت وهو مما يلي مركز الأرض
والأرض جسم مستدير كالكرة وقيل ليست بكروية الشكل وهي واقفة في الهواء بجميع جبالها وبحارها وعامرها وغامرها والهواء محيط بها من جميع جهاتها كالمح في جوف البيضة وبعدها من السماء متساو من جميع الجهات وأسفل الأرض ما تحقيقه هو عمق باطنها مما يلي مركزها من أي جانب كان
ذهب الجمهور إلى أن الأرض كالكرة الموضوعة في جوف الفلك كالمح في البيضة وأنها في الوسط وبعدها في الفلك من جميع الجهات على التساوي
وزعم هشام بن الحكم أن تحت الأرض جسما من شأنه الإرتفاع وهو المانع للأرض من الإنحدار وهو ليس محتاجا إلى ما بعده لأنه ليس يطلب الإنحدار بل الإرتفاع وقال أن الله تعالى وقفها بلا عماد
وقال ديمقراطس أنها تقوم على الماء وقد حصر الماء تحتها حتى لا يجد مخرجا فيضطر إلى الإنتقال
وقال آخر هي واقفة على الوسط مقدار واحد من كل جانب والفلك بجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون ناحية لأن قوة الأجزاء متكافئة وذلك كحجر المغناطيس في جذبه الحديد فإن الفلك بالطبع مغناطيس الأرض فهو يجذبها فهي واقفة في الوسط وسبب وقوفها بالوسط سرعة تدبير الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط كما إذا وضعت ترابا في قارورة وأدرتها بقوة فإن التراب يقوم في الوسط
وقال محمد بن أحمد الخوارزمي في وسط السماء والوسط هو السفلي بالحقيقة وهي مدورة مضرسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة وذلك لا يخرجها عن الكرية إذا اعتبرت جملتها لأن مقادير الجبال وإن شمخت يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض فإن الكرة التي قطرها ذراع أو ذراعان مثلا إذا نتأ منها شيء أو غار فيها لا يخرجها عن الكرية ولا هذه التضاريس لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها بحيث لا يظهر منها شيء فحينئذ تبطل الحكمة المؤدية المودعة في المعادن والنبات والحيوان فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلا هو
وأما سطحها الظاهر المماس للهواء من جميع الجهات فإنه فوق والهواء فوق الأرض يحيط بها ويجذبها من سائر الجهات وفوق الهواء الأفلاك المذكورة فيما تقدم واحدا فوق آخر إلى الفلك التاسع الذي هو أعلى الأفلاك ونهاية المخلوقات بأسرها
وقد اختلف فيما وراء ذلك فقيل خلاء وقيل ملاء وقيل لا خلاء ولا ملاء وكل موضع يقف فيه الإنسان من سطح الأرض فإن رأسه أبدا يكون مما يلي السماء إلى فوق ورجلاه أبدا تكون أسفل مما يلي مركز الأرض وهو دائما يرى من السماء نصفها ويستر عنه النصف الآخر حدبة الأرض وكلما انتقل من موضع إلى آخر ظهر له من السماء بقدر ما خفي عنه
والأرض غامرة بالماء كعنبة طافية فوق الماء فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض وليس
بصحيح وإنما التحت الطبيعي قلب الأرض ووسط كرتها الذي هو مركزها والكل يطلبه بما فيه من الثقل وما عدا ذلك من جوانبها
وأما الماء المحيط بها فوق الأرض وإن قيل في شيء منها أنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه
وأما التي قد انحسر الماء عنها نحو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي من جميع جهاتها بحرا يسمى البحر المحيط ويسمى أيضا لبلابة بتفخيم اللام الثانية ويسمى أوقيانوس أسماء عجمية ويقال له البحر الأخضر
ثم إن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال وإنما المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كري ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الإستواء ومن جهة الشمال إلى خط كري ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج ومأجوج
وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضا بقطعتين من الدائرة المحيطة وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم السبعة وانغمر النصف الآخر في الأرض وصار المنكشف من الأرض نصفين كأنما قسم بخط مسامت لخط معدل النهار يمر تحت دائرته وجميع البلاد التي على هذا الخط لا عرض لها البتة والقطبان غير مرئيين فيها ويكونان هناك على دائرة الأفق من الجانبين وكلما بعد موضع بلد عن هذا الخط إلى ناحية الشمال قدر درجة ارتفع القطب الشمالي الذي هو الجدي على أهل ذلك البلد درجة وانخفض القطب الجنوبي الذي هو سهيل درجة وهكذا ما زاد ويكون الأمر فيما بعد من البلاد الواقعة في ناحية الجنوب كذلك من ارتفاع القطب الجنوبي وانحطاط القطب الشمالي
وبهذا عرف عرض البلدان وصار عرض البلد عبارة عن ميل دائرة معدل النهار عن سمت رؤوس أهله وارتفاع القطب عليهم وهو أيضا بعد ما بين سمت رؤوس أهل ذلك البلد وسمت رؤوس أهل بلد لا عرض له فأما ما انكشف من الأرض مما يلي الجنوب من خط الاستواء فهو الربع العامر وهو المسكون من الأرض وخط الاستواء لا وجود له في الخارج وإنما هو فرض يوهمنا أنه خط ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس الحمل وسمي بذلك من أجل أن النهار والليل هناك أبدا سواء لا يزيد ولا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا البتة في سائر أوقات السنة كلها ونقطتا هذا الخط ملازمتان للأفق إحداها على مدار سهيل في ناحية الجنوب والأخرى مما يلي الجدي في ناحية الشمال وخط الاستواء يقسم الأرض نصفين من المغرب إلى المشرق وهو طول الأرض وأكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر خط في الفلك ومنطقة البروج منقسمة ثلاثمائة وستين درجة والدرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع في ثلاثة أميال لأن الميل أربعة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعا والإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهرا لبطن وبين دائرة معدل النهار التي تقسم الفلك نصفين وتسامت خط الاستواء من الأرض وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع وستون درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر
والعمارة من المشرق إلى المغرب مائة وثمانون درجة من الجنوب إلى الشمال من خط إريس إلى بنات نعش ثمان وأربعون درجة وهو مقدار ميل الشمس مرتين وخلف خط إريس وهو مقدار ست عشر درجة وجملة معمور الأرض نحو من سبعين درجة لاعتدال مسير الشمس في هذا الوسط ومرورها على ما وراء الحمل والميزان مرتين في السنة وأما الشمال والجنوب فالشمس لا تحاذيهما إلا مرة واحدة ولأن أوج الشمس
مرتين في جهة الشمال كانت العمارة فيه لارتفاعها وانتفاء ضرر قوتها غير ساكنة ولأن حضيضها في الجنوب عدمت العمارة هنالك
وقد اختلف الناس في مسافة الأرض فقيل مسافتها خمسمائة عام ثلث عمران وثلث خراب وثلث بحار وقيل المعمور من الأرض مائة وعشرون جزء تسعون ليأجوج ومأجوج واثنا عشر للسودان وثمانية للروم وثلاثة للعرب وسبعة لسائر الأمم وقيل الدنيا سبعة أجزاء ستة ليأجوج ومأجوج وواحد لسائر الناس وقيل الأرض خمسمائة عام البحار ثلاثمائة ومائة خراب ومائة عمران وقيل الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ للسودان اثنا عشر ألفا وللروم ثمانية آلاف ولفارس ثلاثة آلاف وللعرب ألف
وعن وهب بن منبه ما العمارة من الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء وقال أزدشير بن بابك الأرض أربعة أجزاء جزء منها للترك وجزء للعرب وجزء للفرس وجزء للسودان وقيل الأقاليم سبعة والأطراف أربعة والنواحي خمس وأربعون والمدائن عشرة آلاف والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا وقيل المدن والحصون أحد وعشرون ألفا وستمائة مدينة وحصن
ففي الإقليم الأول ثلاثة آلاف ومائة مدينة كبيرة
وفي الثاني ألفان وسبعمائة وثلاث عشر مدينة وقرية كبيرة
وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون مدينة وقرية
وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون مدينة
وفي الخامس ثلاثة آلاف مدينة وست مدائن
وفي السادس ثلاثة آلاف وأربع مائة وثمانون مدينة
وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة في الجزائر
وقال الخوارزمي قطر الأرض سبعة آلاف فرسخ وهو نصف سدس الأرض والجبال والمفاوز والبحار والباقي خراب يباب
لا نبات فيه ولا حيوان وقيل المعمور من الأرض مثل طائر رأسه الصين والجناح الأيمن الهند والسند والجناح الأيسر الخزر وصدره مكة والعراق والشام وذنبه الغرب وقيل قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا ودورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل وذلك جميع ما أحاطت به من بر وبحر
وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخي طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو أربعمائة مرحلة وعرضها من حيث العمران الذي من جهة الشمال وهو مساكن يأجوج ومأجوج إلى حيث العمران الذي من جهة الجنوب وهو مساكن السودان مائتان وعشرون مرحلة وما بين براري يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط في الشمال وما بين براري السودان والبحر المحيط في الجنوب خراب ليس فيه عمارة
ويقال أن مسافة ذلك خمسة آلاف فرسخ وهذه أقوال لا دليل على صدقها والطريق في معرفة مساحة الأرض أنا لو سرنا على خط نصف النهار من الجنوب إلى الشمال بقدر ميل دائرة معدل النهار عن سمت رؤوسنا إلى الجنوب درجة من درج الفلك التي هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا وارتفع القطب علينا درجة نظير تلك الدرجة فإنا نعلم أنا قد قطعنا من محيط جرم الأرض جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا وهو نظير ذلك الجزء من الفلك فلو قسنا من ابتداء مسيرنا إلى انتهاء مكاننا الذي وصلنا إليه حيث ارتفع القطب علينا درجة فإنا نجد حقيقة الدرجة الواحدة من الفلك قد قطعت من الأرض ستة وخمسين ميلا وثلثي ميل منها خمسة وعشرون فرسخا فإذا ضربنا حصة الدرجة الواحدة وهو ما ذكر من الأميال في ثلاثمائة وستين خرج من الضرب عشرون ألفا وأربعمائة ميل وذلك مساحة دور الأرض فإذا قسمنا هذه الأميال التي هي مساحة دور الأرض على ثلاثة وسبع خرج من القسمة ستة آلاف وأربعمائة وأربعون ميلا وهي مساحة قطر الأرض فلو ضربنا هذا القطر في مبلغ دور الأرض لبلغت مساحة بسط الأرض بالتكسير مائة ألف ألف واثنتين وثلاثين ألف ألف وستمائة ألف ميل بالتقريب فعلى هذا مساحة ربع
الأرض المسكون بالتكسير ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل ومائة وخمسون ألف ميل وعرض المسكون من هذا الربع بقدر بعد مدار السرطان عن القطب وهو خمسة وخمسون جزءا وسدس جزء وهذا هو سدس الأرض وانتهاؤه إلى جزيرة تولي في بريطانية وهي آخر المعمور من الشمال وهو من الأميال ثلاثة آلف وسبعمائة وأربعة وستون ميلا فإذا ضربنا هذا السدس الذي هو مساحة عرض الأرض في النصف وهو مقدار الطول كان المعمور من الشمال قدر نصف ثلث الأرض وأما الطول فإنه يقل لتضايق أقسام كرة الأرض ومقداره مثل خمس الدور وهو بالتقريب أربعة آلاف وثمانون ميلا وفي الربع المسكون من الأرض سبعة أبحر كبار وفي كل بحر منها عدة جزائر وفيه خمس عشرة بحيرة منها ملح وعذب وفيه مائتا جبل طوال ومائتا نهر وأربعون نهرا طوالا ويشتمل على سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة
وقال في كتاب هروشيوس لما استقامت طاعة بوليس الملقب قيصر الملك في عامة الدنيا تخير أربعين من الفلاسفة سماهم فأمرهم أن يأخذوا له وصف حدود الدنيا وعدة بحارها وكورها أرباعا فولى أحدهم أخذ وصف جزء المشرق وولى آخر أخذ وصف جزء المغرب وولى الثالث أخذ وصف جزء الشمال وولى الرابع أخذ وصف جزء الجنوب فتمت كتابة الجميع على أيديهم في نحو من ثلاثين سنة فكانت جملة البحار المسماة في الدنيا تسعة وعشرين بحرا قد سموها منها بجزء الشرق ثمانية وبجزء الغرب ثمانية وبجزء الشمال أحد عشر وبجزء الجنوب اثنان وعدة الجزائر المعروفة الأمهات إحدى وسبعون جزيرة منها في الشرق ثمان وفي الغرب ست عشرة وفي جهة الشمال إحدى وثلاثون وفي جهة الجنوب ست عشر
وعدة الجبال الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وثلاثون وهي أمهات الجبال وقد سموها فيما فسروه منها في جهة المشرق سبعة وفي جهة الغرب خمسة عشر وفي الشمال اثنا عشر وفي الجنوب اثنان والبلدان الكبار ثلاثة وستون منها في الشرق سبعة وفي المغرب خمسة
وعشرون وفي الشمال تسعة عشر وفي الجنوب اثنا عشر وقد سموها
والكور الكبار المعروفة تسع ومائتان منها في المشرق خمس وسبعون وفي المغرب ست وستون وفي الشمال ست وفي الجنوب اثنان وستون
والأنهار الكبيرة المعروفة في جميع الدنيا ستة وخمسون منها لجزء الشرق سبعة عشر ولجزء الغرب ثلاثة عشر ولجزء الشمال تسعة عشر ولجزء الجنوب سبعة
ثم إن المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وما فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا وصاحب كتاب زجار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول وقالوا الأقاليم السبعة كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من الشرق إلى الغرب وعرضه من الشمال إلى الجنوب وهذه الأقاليم مختلفة الطول والعرض
فالإقليم الأول أطول مما بعده وكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة الأرض وكل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي وفي كل جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه فالإقليم الأول منها يمر وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ثلاث عشرة ساعة والسابع منها يمر وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ست عشرة ساعة لأن ما حاذى حد الإقليم الأول إلى نحو الجنوب يشتمل عليه البحر ولا عمارة فيه وما حاذى الإقليم السابع إلى الشمال لا يعلم فيه عمارة فجعل طول الأقاليم السبعة من الشرق إلى الغرب مسافة اثنتي عشر ساعة من دور الفلك وصارت عروضها تتفاضل نصف ساعة من ساعات النهار الأطول فأطولها وأعرضها
الإقليم الأول وطوله من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة آلاف فرسخ وعرضه من الشمال إلى الجنوب مائة وخمسون فرسخا وأقصرها طولا وعرضا
الإقليم السابع وطوله من الشرق إلى الغرب ألف وخمسمائة فرسخ وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو من سبعين فرسخا وبقية الأقاليم الخمسة فيما بين ذلك
وهذه الأقاليم خطوط متوهمة لا وجود لها في الخارج وضعها القدماء الذين جالوا في الأرض ليقفوا على حقيقة حدودها ويتيقنوا مواضع البلدان منها ويعرفوا طرق مسالكها هذا حال الربع المسكون
وأما الثلاثة الأرباع فإنها خراب فجهة الشمال واقعة تحت مدار الجدي قد أفرط هناك البرد وصارت ستة أشهر ليلا مستمرا وهي مدة الشتاء عندهم لا يعرف فيها نهار ويظلم الهواء ظلمة شديدة وتجمد المياه لقوة البرد فلا يكون هناك نبات ولا حيوان
ويقابل هذه الجهة الشمالية ناحية الجنوب حيث مدار سهيل فيكون النهار ستة أشهر بغير ليل وهي مدة الصيف عندهم فيحمى الهواء ويصير سموما محرقة يهلك بشد حره الحيوان والنبات فلا يمكن سلوكه ولا السكنى فيه
وأما ناحية الغرب فيمنع البحر المحيط من السلوك فيه لتلاطم أمواجه وشدة ظلماته وناحية الشرق تمنع من سلوكه الجبال الشامخة وصار الناس أجمعهم قد انحصروا في الربع المسكون من الأرض ولا علم لأحد منهم بالأرض أي بالثلاثة الأرباع الباقية والأرض كلها بجميع ما عليها من الجبال والبحار نسبتها إلى الفلك كنقطة في دائرة وقد اعتبرت حدود الأقاليم السبعة بساعات النهار وذلك أن الشمس إذا حلت برأس الحمل تساوي طول النهار والليل في سائر الأقاليم كلها فإذا انتقلت في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم فإذا بلغت آخر الجوزاء وأول برج السرطان بلغ طول النهار في وسط الأقليم الأول ثلاث عشرة ساعة سواء وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة وفي وسط الأقليم الثالث أربع عشرة ساعة وفي وسط الأقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصف ساعة وفي وسط الأقليم الخامس خمس عشرة ساعة وفي وسط الأقليم السادس خمس عشرة ساعة ونصف ساعة وفي وسط الأقليم السابع ست عشرة ساعة سواء
وما زاد على ذلك إلى عرض تسعين درجة يصير نهارا كله ومعنى طول البلد هو بعدها من أقصى العمارة في الغرب وعرضها هو بعدها عن خط الإستواء وخط الإستواء كما تقدم هو الموضع الذي يكون فيه الليل والنهار طول الزمان سواء فكل بلد على هذا الخط لا عرض له وكل بلد في أقصى الغرب لا طول له ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق مائة وثمانون درجة وكل بلد يكون طوله تسعين درجة فإنه في وسط ما بين الشرق والغرب وكل بلد كان طوله أقل من تسعين درجة فإنه أقرب إلى الغرب وأبعد من الشرق وما كان طوله من البلاد أكثر من تسعين درجة فإنه أبعد من الغرب وأقرب إلى الشرق
فقد ذكر القدماء أن العالم السفلي مقسوم سبعة أقسام كل قسم يقال له إقليم فإقليم الهند لزحل وإقليم بابل للمشتري وإقليم الترك للمريخ وإقليم الروم للشمس وقليم مصر لعطارد وإقليم الصين للقمر
وقال قوم الحمل والمشتري لبابل والجدي وعطارد للهند والأسد والمريخ للترك والميزان والشمس للروم ثم صارت السنة على اثني عشر برجا فالحمل ومثلاه للمشرق والثور ومثلاه للجنوب والجوزاء ومثلاها للمغرب والسرطان ومثلاه للشمال
قالوا وفي كل إقليم مدينتان عظيمتان يحسب بين كل كوكب إلا إقليم الشمس وإقليم القمر فإنه ليس في كل إقليم منهما سوى مدينة واحدة عظيمة وجميع مدائن الأقاليم السبعة وحصونها أحد وعشرون ألف مدينة وست مائة مدينة وحصن بقدر دقائق درج الفلك
وقال هرمس إذا جعلت هذه الدقائق روابع كانت أناس هذه الأقاليم وإذا مات أحد ولد نظيره ويقال أن عدد مدن الإقليم الأول من مطلع الشمس وقراها ثلاثة آلاف ومائة مدينة وقرية كبيرة وان في الثاني ألفين وسبعمائة وثلاث عشر مدينة وقرية كبيرة وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون وفي الخامس ثلاثة آلاف وست مدن وفي السادس
ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة وقرية كبيرة في الجزائر
ثم إن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة أقل عمرانا مما بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرمال والبحر الهندي الذي في الشرق منهما وأمم هذين الإقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة والرمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحد والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس والجنوب خلاء كله وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحر وقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس
وقد أوضح ذلك ابن خلدون ببرهانه ويتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع
فالإقليم الأول يمر وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ثلاث عشر ساعة ويرتفع القطب الشمالي فيها عن الأفق ست عشرة درجة وثلثا درجة وهو العرض وانتهاء عرض هذا الإقليم من حيث يكون طول النهار الأطول فيه ثلاث عشرة ساعة وربع ساعة وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض عشرون درجة ونصف درجة وهو مسافة أربعمائة وأربعين ميلا وابتداؤه من أقصى بلاد الصين فيمر فيها إلى ما يلي الجنوب ويمر بسواحل الهند ثم ببلاد السند ويمر في البحر على جزيرة العرب وأرض اليمن ويقطع بحر القلزم فيمر ببلاد الحبشة ويقطع نيل مصر إلى بلاد ومدينة دنقله من أرض النوبة ويمر في أرض المغرب على جنوب البربر إلى نحو البحر المحيط وفي هذا الإقليم عشرون جبلا فيها ما طوله من عشرين فرسخا إلى ألف فرسخ وفيه ثلاثون نهرا طويلا منها ما طوله ألف فرسخ إلى عشرين فرسخا وفيه خمسون مدينة كبيرة
وعامة أهل هذا والإقليم سود الألوان ولهذا الإقليم من البروج الحمل والقوس وله من الكواكب السيارة المشتري وهو مع فرط حرارته كثير المياه كثير المروج وزرع أهله الذرة والأرز إلا أن الاعتدال عندهم معدوم فلا يثمر عندهم كرم ولا حنطة والبقر عندهم كثير لكثرة المروج وفي مشرقه البحر الخارج وراء خط الاستواء بثلاث عشرة درجة وفي مغربه النيل وبحر الغرب ومن هذا الإقليم يأتي نيل مصر وشرقهم معمور بالبحر الشرقي الذي هو بحر الهند واليمن وهذا الإقليم مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب وليس وراء هنالك إلا القفار والرمال وبعض عمارة إن صحت فهي كل عمارة ويليه من جهة شماله الإقليم الثاني ثم الثالث كذلك ثم الرابع والخامس والسادس والسابع وهو آخر العمران من جهة الشمال وليس وراء السابع إلا الخلاء والقفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحال في ما وراء الإقليم الأول في جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمال أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة الجنوب
ثم إن أزمنة الليل والنهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالي عن آفاقها فيتفاوت قوس النهار والليل لذلك كما ذكرنا وفيه من جهة غربه الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس بأخذ أطوال البلاد وليست في بسيط الإقليم وإنما هي في البحر المحيط جزر متكثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة ويقال إنها معمورة
الإقليم الثاني حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف ويرتفع القطب الشمالي فيه قدر أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء وعرضه من حد الإقليم الأول إلى حيث يكون النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض سبعة وعشرون درجة ونصف درجة ومساحة هذا الإقليم أربعمائة ميل ويبتدئ من بلاد المشرق مارا ببلاد الصين إلى بلاد الهند والسند ثم بملتقى البحر الأخضر وبحر البصرة ويقطع جزيرة العرب قي أرض نجد
وتهامة فيدخل في هذا الإقليم اليمامة والبحران وهجر مكة والمدينة والطائف وأرض الحجاز ويقطع بحر القلزم فيمر بصعيد مصر الأعلى ويقطع النيل فيصير فيه مدينة قوص واخميم واسنا وانصنا وأسوان ويمر في أرض المغرب على وسط بلاد إفريقية فيمر على بلاد البربر إلى البحر في المغرب وفي هذا الإقليم سبعة عشر جبلا وسبعة عشر نهرا طوالا وأربعمائة وخمسون مدينة كبيرة وألوان أهل هذا الإقليم ما بين السمرة والسواد وله من البروج الجدي ومن السيارة زحل ويسكن هذا الإقليم الرحالة ففي المغرب حدالة وصنهاجة ولمتونة ومسوفة ويتصل بهم رحالة مصر من ألواح وفي هذا الإقليم يكون نخل وفيه مكة والمدينة ومن السماوة من أهل العراق إلى رحالة الترك وهو متصل بالأول من جهة الشمال وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات
الإقليم الثالث وسطه حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة وارتفاع القطب وهو العرض ثلاثون درجة ونصف وخمس درجة وعرض هذا الإقليم من حد الإقليم الثاني إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة وربع ساعة وارتفاع القطب وهو العرض ثلاث وثلاثون درجة ومسافته ثلاثمائة وخمسون ميلا ويبتدى ء من الشرق فيمر بشمال الصين وبلاد الهند وفيه مدينة الهندهار ثم بشمال السند وبلاد كابل وكرمان وسبحستان إلى سواحل بحر البصرة وفيه اصطخر وسابور وشيراز وسيراف ويمر بالأهواز والعراق والبصرة وواسط وبغداد والكوفة والأنبار وهيت ويمر ببلاد الشام إلى سلمية وصور وعكا ودمشق وطبرية وقيسارية وبيت المقدس وعسقلان وغزة ومدين والقلزم ويقطع أسفل أرض مصر من شمال انصنا إلى فسطاط مصر وسواحل البحر وفيه الفيوم والاسكندرية والفرما وتنيس ودمياط ويمر ببلاد برقة إلى افريقية فيدخل فيه القيروان وينتهي في البحر إلى الغرب وبهذا الإقليم ثلاث وثلاثون جبلا كبارا واثنان وعشرون نهرا طوالا ومائة وثمانية وعشرون مدينة وأهله سمر الألوان وله من البروج
العقرب ومن السيارة الزهرة وفي هذا الإقليم العمائر المتواصلة من أوله إلى آخره وهو متصل بالثاني من جهة الشمال
والإقليم الرابع وسطه حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف ساعة وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض ست وثلاثون درجة وخمس درجة وحد هذا الإقليم من حد الإقليم الثالث إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة والعرض تسعا وعشرين درجة وثلث درجة ومسافة هذا الإقليم ثلاثمائة ميل ويبتدى ء من الشرق فيمر ببلاد التبت وخرسان وخجنده وفرغانة سمرقند وبخارى وهراة ومرو والرود وسرخس وطوس ونيسابور وجرجان وقومس وطبرستان وقزوين والديلم والري واصفهان وهمدان ونهاوند ودينور والموصل ونصيبين وآمد ورأس العين وشميساط والرقة ويمر ببلاد الشام فيدخل فيه بالس ومسح ولمطية وحلب وإنطاكية وطرابلس والصيصة وحماة وصيدا وطرطوس وعمورية واللاذقية ويقطع بحر الشام على جزيرة قبرس ورودس ويمر ببلاد طنجة فينتهي إلى بحر المغرب وفي هذا الإقليم خمسة وعشرون جبلا كبارا وخمسة وعشرون نهرا طوالا ومائتا مدينة واثنتا عشرة مدينة وألوان أهله ما بين السمرة والبياض وله من البروج الجوزاء ومن السيارة عطارد وفيه البحر الرومي من مغربه إلى القسطنطينية ومن هذا الإقليم ظهرت الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين ومنه انتشر الحكماء والعلماء فإنه وسط الأقاليم ثلاثة جنوبية وثلاثة شمالية وهو في قسم الشمس وبعده في الفضيلة الإقليم الثالث والخامس فإنهما على جنبيه وبقية الأقاليم منحطة أهلوها ناقصون ومنحطون عن الفضيلة لسماجة صورهم وتوحش أخلاقهم كالزنج والحبشة وأكثر أمم الإقليم الأول والثاني والسادس والسابع يأجوج ومأجوج والتغرغر والصقالبة ونحوهم وهو متصل بالثالث من جهة الشمال
والإقليم الخامس وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض إحدى وأربعون درجة
وثلث درجة وابتداؤه من نهاية عرض الإقليم الرابع إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشر ساعة ونصف ساعة والعرض ثلاثا وأربعين درجة ومسافته خمسون ومائتا ميل ويبتدئ من المشرق إلى بلاد يأجوج ومأجوج ويمر بشمال خراسان وفيه خوارزم واسبيجاب وآذربيجان وبردعة وسجستان واردن وخلاط ويمر على بلاد الروم إلى رومية الكبرى والأندلس حتى ينتهي إلى البحر الذي في المغرب وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال ثلاثون جبلا ومن الأنهار الكبار خمسة عشر نهرا ومن المدائن الكبار مائتا مدينة وأكثر أهله بيض الألوان وله من البروج الدلو ومن السيارة القمر
والإقليم السادس وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض خمسا وأربعين درجة وخمسي درجة وابتداؤه من حد نهاية عرض الاقليم الخامس إلى حيث يكون النهار الاطول خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة والعرض سبعا وأربعين درجة وربع درجة ومسافة هذا الإقليم مائتا ميل وعشرة أميال ويبتدئ من المشرق فيمر بمساكن الترك من الجرخير والتغرغر إلى بلاد الخزر من شمال تخومهم على اللان والشرير وأرض برجان والقسطنطينية وشمال الأندلس إلى البحر المحيط الغربي وفي هذه الإقليم من الجبال الطوال اثنان وعشرون جبلا ومن الأنهار الطوال اثنان وثلاثون نهرا ومن المدن الكبار تسعون مدينة وأكثر أهل هذا الإقليم ألوانهم ما بين الشقرة والبياض وله من البروج السرطان ومن السيارة المريخ
ولإقليم السابع وسطه حيث يكون النهار الأطول ست عشر ساعة سواء وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض ثمانية وأربعين درجة وثلثي درجة وابتداء هذا الإقليم من حد نهاية الإقليم السادس إلى حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة وربع ساعة والعرض خمسين درجة ونصف درجة ومسافته مائة وخمسة وثمانون ميلا فتبين أن ما بين أول حد الإقليم الأول وآخر حد الإقليم السابع ثلاث ساعات ونصف
وأن ارتفاع القطب الشمالي ثمانية وثلاثون درجة تكون من الأميال ألفين ومائة وأربعين ميلا ويبتدئ الإقليم السابع من المشرق على بلاد يأجوج ومأجوج ويمر ببلاد الترك على سواحل بحر جرجان ما يلي الشمال ويقطع بحر الروم على بلاد جرجان والصقالبة إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط في المغرب وبهذا الإقليم عشرة جبال طوال وأربعون نهرا طوالا واثنتان وعشرون مدينة كبيرة وأهله شقر الألوان وله من البروج الميزان ومن السيارة الشمس
وفي كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة أمم مختلفة الآلسن والألوان وغير ذلك من الطبائع والأخلاق والآراء والديانات والمذاهب والعقائد والأعمال والصنائع والعادات والعبادات لا يشبه بعضهم بعضا
وكذلك الحيوانات والمعادن والنبات مختلفة في الشكل والطعم واللون والريح بحسب اختلاف أهوية البلدان وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها على ما اقتضته طوالع كل بلد من البروج على أفقه وممر الكواكب على مسامتة البقاع من الأرض ومطارح شعاعاتها على المواضع كما هو مقر في مواضعه من كتب الحكمة ليتدبر أولو النهي ويعتبر ذوو الحجى بتدبير الله في خلقه وتقديره لما يشاء وفعله لما يريد لا إله إلا هو
ومع ذلك فإن الربع المسكون من الأرض على تفاوت أقطاره مقسوم بين سبع أمم كبار وهم الصين والهند والسودان والبربر والروم والترك والفرس فجنوب مشرق الأرض في يد الصين وشماله في يد الترك ووسط جنوب الأرض في يد الهند وفي وسط شمال الأرض الروم وفي جنوب مغرب الأرض السودان وفي شمال مغرب الأرض البربر وكانت الفرس في وسط هذه الممالك قد أحاطت بهم الأمم الست
ذكر المعتدل من الأقاليم والمنحرف
قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا
فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حفافيه من الثالث والخامس أقرب إلى الإعتدال والذي يليهما والثاني والسادس بعيدان من الإعتدال والأول والسابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصه بالإعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها ولم نقف على خبر بعثه في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم قال تعالى ) كنتم خير أمة أخرجت للناس ( وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الإعتدال لهم فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين ويبعدون
عن الانحراف في عامة أحوالهم وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين ومن كان مع هؤلاء أو قريبا منهم في هذه الأقاليم المعتدلة ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات
وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين والقصب وأقواتهم من الذرة والعشب وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم حتى ينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا وكذا الصقالبة
والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك وكذلك أحوالهم في الديانة أيضا فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين اليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد يقال أنهم دانوا به في المائة السابعة ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال من سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم ) ويخلق ما لا تعلمون (
ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف
وبلاد الحجاز واليمامة وما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر وصار فيه بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر
وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيد ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص ودعاء نوح على إبنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد أخوته لا غير وفي القول بنسبته السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول و الثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإن الشمس تسامت رؤسهم مرتين في كل سنة قريبة أحدهما من الأخرى فتطول المسامته عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها ويلج القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس شمل سكانها أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط في الشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها ويشتد البرد عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور
وتوسطت بينهما الأقاليم الثلاثة الخامس والرابع والثالث فكان لها في الإعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر والرابع أبلغها في الإعتدال غاية لنهايتة في التوسط فكان لأهله من الإعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التوسط لميل هذا قليلا إلى الجنوب الحار وهذا قليلا إلى الشمال البارد إلا أنهما لم ينتهيا إلى الإنحراف
وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم فالأول والثاني للحر والسواد والسابع والسادس للبرد والبياض ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة والزنج والسودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد
وإن كان اسم الحبشة مختصا منهم بمن تجاه مكة واليمن والزنج بمن تجاه بحر الهند وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الربع المعتدل أو السبع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام وبالعكس في من يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب تسود ألوان أعقابهم وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء قال ابن سينا أرجوزته في الطلب
بالزنج حر غير الأجسادا
حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا
حتى غذت جلودها بضاضا
وأما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لونا لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء فلم يكن فيه غرابة يحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والتغرغر والخزر واللان والكثير من الإفرنجة و يأجوج ومأجوج أسماء متفرقة وأجيالا متعددة مسمين بأسماء متنوعة
وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الإعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم وكافة الأحوال الطبيعية لإعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرئاسات والملك فكانت فيهم النبوات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة
وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب
فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم فتكفلوا نقل تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام
وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو أخبار عن الواقع لأن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط وليس كذلك فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعرب ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي وقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرار سنة الله في عباده ) ولن تجد لسنة الله تبديلا ( والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم
ذكر المساجد العظيمة في العالم
أعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعا اختصها بتشريفه وجعلها مواطن العبادة يضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السعادة لهم وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسب ما ثبت في الصحيحين وهي مكة والمدينة وبيت المقدس
أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه
وبيت المقدس بناه داود عليه السلام وسليمان أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه
والمدينة مهاجر نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} أمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشريف في تربتها فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وفي الآثار من ففضلها ومضاعفة الثواب في مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم
فأما مكة فأوليتها فيما يقال أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت
المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك وليس فيه خبر صحيح يعول عليه وإنما إقتبسوه من محل الآية في قوله ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ( ثم بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ما هو معروف وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم ومرور الرفقة من جرهم بهما حتى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتا يأوي إليه وأدار عليه سياجا من الدوم وجعله زربا لغنمه وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مرارا لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه واستعان فيه بإبنه إسماعيل ودعا الناس إلى حجة وبقي إسماعيل ساكنا به ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم واستمر الحال على ذلك والناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى فقد نقل أن التبابعة كانت تحج البيت وتعظمه وأن تبعا كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعل لها مفتاحا ونقل أيضا ان الفرس كانت تحجه وتقرب إليه وإن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم ولم يزل بجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش وغيرهم وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل قال الأعشى
حلفت بثوبي راهب الدير والتي
بناها قصي والمضاض بن جرهم
ثم أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدم وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أمولهم وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها
للسقف وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثمانية عشر ذراعا وكان الباب لاصقا بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ستة أذرع وشبرا أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر
وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد ين معاوية مع الحصين بن نمير السكوني ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فأعاد بناءه أحسن مما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه واحتج عليهم بقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعائشة رضي الله عنها لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين شرقيا وغربيا فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجمع الوجوه والأكابر حتى عينوه وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار حفظا للقبلة وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس فحملها وسأل عن مقطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام ورفع جدرانها سبعا وعشرين ذراعا وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديه وجعل فرشها وارها بالرخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب
ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانها ثم لما ظفر بابن الزبير شاور عبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم ويقال انه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة
وقال وددت أني كنت حملت أبا خبيب في أمر البيت وبنائه ما تحمل فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبرا مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي
وترك ساترها لم يغير منه شيئا فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير وبناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البنائين والبناء متميز عن البناء بمقدار اصبع شبه الصدع وقد لحم
ويعرض ها هنا أشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف ويحذر الطائف عن أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدر إنما قامت على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشاذروان وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لابد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائما لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت وإذا كانت الجدران كلها من بناء الزبير وهو إنما على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه ولا ومخلص من هذا إلا بأ أحد أمرين إما أن يكون الحجاج هدم جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين بنائين وتمييز أحد الشقين من أعلاه عن الآخر في الصناعة يرد ذلك وإما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم من جميع جهاته وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم وهذا بعيد ولا محيص من هذين والله تعالى أعلم
ثم أن مساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطائفين ولم يكن عليه جدر أيام النبي {صلى الله عليه وسلم} وأبي بكر من بعده ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دورا هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جدارا دون القامة وفعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك وبناه بعمد الرخام ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا
وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر من أن يحاط به وكفى من ذلك أن جعله مهبطا للوحي والملائكة ومكانا للعبادة وفرض له شعائر الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق ما لم يوجبه لغيره فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك
الحرم وأوجب على داخله أن يتجرد ومن المخيط إلا إزارا يستره وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدة سبعة أميال إلى منقطع العشائر هذا شأن مكة وخبرها وتسمى أم القرى وتسمى الكعبة لعلوها من إسم الكعب ويقال لها بكة
قال الأصمعي لأن الناس يبك بعضهم بعضا إليها أي يدفع
وقال مجاهد باء بكة أبدلوها ميما كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين
وقال النخعي بالباء البيت وبالميم البلد
وقال الزهري بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر ككسرى وغيره وقصة الأسياف وغزالي الذهب معروفة
وقد وجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيه سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكرره مرتين بمائتي قنطار وزنا
وقال له علي بن أبي طالب يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه هكذا قال الأزرقي وفي البخاري بسنده إلى وائل قال جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إلى عمر بن الخطاب فقال هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل قال ولم قلت لم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدي بهما وخرجه أبو داود ابن ماجه وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب على مكة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها
وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ ذكر ذلك كله ابن خلدون في تاريخه وفي كتابنا رحلة الصديق إلى البيت العتيق من شأن الكعبة ومكة ومناسك الحج والعمرة ما يغني
قال القاضي محمد بن علي الشوكاني في إرشاد السائل إلى دليل المسائل عمارة المقامات بمكة المكرمة بدعة بإجماع المسلمين أحدثها شر ملوك الجراكسة فرح بن برقوق في أوائل المائة التاسعة من الهجرة وأنكر ذلك أهل العلم في ذلك العصر ووضعوا فيه مؤلفات وقد بينت ذلك في غير هذا الموضع ويالله العجب من بدعة يحدثها من هو من شر ملوك المسلمين في خير بقاع الأرض كيف لم يغضب لها من جاء بعده من الملوك المائلين إلى الخير لا سيما وقد صارت هذه المقامات سببا من أسباب تفريق الجماعات وقد كان الصادق المصدوق ينهى عن الإختلاف والفرقة ويرشد إلى الإجتماع والألفة كما في الأحاديث الصحيحة بل نهى عن تفريق الجماعات في الصلوات وبالجملة فكل عاقل متشرع يعلم أنه حدث بسبب هذه المذاهب التي فرقت فرق الإسلام مفسدة أصيب بها الدين وأهله وأن من أعظمها خطرا و أشدها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم الشريف من تفريق الجماعات ووقوف كل طائفة في مقام من هذه المقامات كأنهم أهل أديان مختلفة وشرائع غير مؤتلفة فإنا لله وإنا إليه راجعون
وأما رفع المنارات فأصل وضعها لمقصد صالح وهو إسماع البعيد عن محل الآذان وهذه مصلحة مسوغة إذا لم تعارضها مفسدة فإن عارضتها مفسدة من المفاسد المخالفة للشريعة فدفع المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر ذلك في الأصول وأما تشتيد البنيان ورفعه فوق حاجة الإنسان فقد ورد النهي عنه والوعيد عليه وثبت أنه {صلى الله عليه وسلم} أمر بهدم بعض الأبنية وليس ذلك مجرد بدعة بل خلاف ما أرشد إليه الشارع انتهى كلامه
وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام
الصابئية موضع الزهرة وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك ثم دثر دلك الهيكل واتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم وذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمكينهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيه التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يضع مذبحا للقربان وصف ذلك كله في التوراة أكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضا عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها وعهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويتقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب وجعل في ظهره قبرا ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه داود تحمله الأسباذ والكهونية حتى وضعه في القبر ووضعت القبة والأوعية والمذبح لكل واحد حيث أعد له من المسجد وأقام كذلك ما شاء الله ثم خربه بخت نصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار
ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز نبي بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بخت نصر وحد لهم في بنائه حدود دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام فلم يتجاوزوها ثم تداولتهم ملوك اليونان والفرس والروم واستفحل
الملك لبني إسرائيل في هذه المدة ثم لبني خسمان من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودوس ولبنيه من بعده وبني هيردوس ببيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه ثم أخذوا الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمة هيلانة وارتحلت إلى المقدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساسة بأنه رمى بخشبة على الأرض وألقى عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم وخربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزءا بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب فكشف عنها وبنى عليها مسجدا على طريق البداوة وعظم من شانه ما أذن الله من تعظمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسب ما ثبت ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسميه بلاط الوليد وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا
استقل صلاح الدين ابن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العيدين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى
ما كانوا ملكوه من ثغور الشام وذلك لمحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد ولا يعرض لك الأشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي {صلى الله عليه وسلم} سئل عن أول بيت وضع فقال مكة قيل ثم أي قال بيت المقدس قيل فكم بينهما قال أربعون سنة فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأن سليمان بانيه وهو ينيف على الألف بكثير واعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنما المراد أول بيت عين للعبادة ولا يبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة وقد نقل أن الصابئية بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك أنها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها والصابئية الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مدة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف وأن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام ففيه حل هذا الإشكال
وأما المدينة وهي المسماة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائل من العمالقة وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوا من أرض الحجاز ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها ثم أمر النبي {صلى الله عليه وسلم} بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله وآواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سموا الأنصار وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب إلى قومه وفتح مكة وملكها وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده فأهمهم ذلك فخاطبهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأخبرهم أنه غير متحول حتى إذا قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان ملحده الشريف بها وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحة ما لا خفاء به ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رافع بن خديج أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال المدينة خير من
مكة نقل ذلك عبد الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك وخالف أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله لها وتفهم سر الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين والدنيا وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسر نديب من جزائر الهند لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم منها بيوت النار للفرس والهند والصين وهياكل اليونان وبيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي {صلى الله عليه وسلم} بهدمها في غزواته
وقد ذكر المسعودي منها بيوتا لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في ا لتواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها و الله يهدي من يشاء سبحانه وتعالى عما يشركون ذكر ذلك كله ابن خلدون
وقد عقدنا فصلا في التفاضل بين مكة والمدينة في كتابنا رحلة الصديق إلى البيت العتيق وذكرنا فيه أنه قال محمد بن علي الشوكاني في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار بعدما ذكر أدلة الفريقين بالبسط أن الإستيعاب ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين كالإشتغال ببيان الأفضل من القرآن الكريم والنبي {صلى الله عليه وسلم} والكل من فضول الكلام الذي لا يتعلق به فائدة غير الجدال والخصام وقد أفضى النزاع في ذلك وأشباه إلى فتن وتلفيق حجج واهية كاستدلال المهلب على أفضلية المدينة بأنها هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الأسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وبأنها تنفي الخبيث كما ثبت في الحديث الصحيح وقد أجيب عن هذين الإستدلالين في موضعه انتهى
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا
والمسجد الأقصى متفق عليه وصورة هذا الحديث نفي والمراد به النهي كأنه قال لا يستقيم شرعا أن يقصد المساجد أو البقاع الأخرى بالزيارة إلا هذه البقاع الثلاثة لاختصاصها بما اختصت به من المزايا التي شرفها الله تعالى بها وقال أهل الأصول خبر الشارع آكد من الأمر والنهي وقد استدل بهذا الحديث جمع من أهل العلم أكبرهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه على منع السفر للزيارة إلى مشاهد الأنبياء والأولياء ومقابر المشايخ والأصفياء وهو استنباط حسن المسلك وبه قال مالك إمام دار الهجرة والقاضي عياض ومن خالفه في ذلك أو طعن عليه لم يأت بما يشفي العليل ويروي الغليل وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في مؤلفاتنا بسطا لائقا ومهدناه مهدا فائقا فمن شاء الإطلاع على مباحثه فعليه مسك الختام شرح بلوغ المرام وأمثاله ففيه مقنع وبلاغ والذين لم يبلغوا معشار ما آتاه الله من العلم والعمل قد أقاموا عليه الطامة الكبرى في هذه المسألة وأخواتها ولهم في ذلك قلاقل وزلازل قديما وحديثا ليس هذا موضع ذكرها والحق الذي لا محيص عنه هو ما دل عليه حديث الباب بظاهره وله شواهد من الأخبار الصحيحة والآثار المأثورة
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وفق الله إخواننا من المسلمين إلى القول الحق والعمل الصدق على مراد الله في كتابه العزيز ومراد رسوله في السنة المطهرة وجنبنا وإياهم عما لم يرد فيه نص من القرآن والحديث أو لم يقل به سلف الأمة وأئمتها أو لم يعمل به أحد من الصحابة والتابعين والذين اتبعوهم باحسان وكم من آية وسنة دلت على الإتباع ونهت عن التقليد والإبتداع وهي لا تخفى على من عرف دواوين الإسلام ومارس الفرقان ولكن مفاسد الجهل والتعصب أكثر من إن تضبط أو تحيط بها الأذهان وكم للعلما من كتب ضخمة ورسائل جمة في هذا الشأن في لسان العرب والعجم تدفع بها أهل الإيمان في صدور الناكثين والمارقين من أهل الطغيان فمن قدر الله
السعادة في الأزل يوفق لها ويكون علمه له عليها دليلا ومن جعله شقيا في علمه فهو لا يهتدي إليه سبيلا
ولا بد من شكوى إلى ذي مروة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وهذا زمان جاء فيه الجهل وحلي مذاقه وذهب عنه العلم برمته وطاب فراقه لا ترى واحدا من ألف يحزن على عقباه إنما يبكي كل واحد منهم على دنياه فهم ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( حتى نبعث فرقة لعهدنا هذا في مملكة الهند نقول بالملة النيجيرية وتنصر النصارى وتخذل المسلمين بأدلة واهية وشكوك شيطانية وحجج داحضة ولها دعاة في ديارهم يدعون ضعفاء العقول وسفهاء الأحلام إلى قبول قولها وتحسين فعلها وما هي بأول فتنة حدثت في الأسلام أو قارورة كسرت فييه فكم من دجاجلة كاذبة خاطئة ظهرت قديما في الملة الحقة وكم بلغت الشريعة الصادقة من أيديها الفاسدة وآرائها الكاسدة أنواع المحن والمشقة وتلألأ رونقها في بدء الولاية ثم أدرك الله سبحانه وتعالى ثأرها على أيدي حماة الدين القويم وسالكي الصراط المستقيم السادة القادة وأنجز وعده ونصر حزبه وصدق رسوله وعبده فيما قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله فرحم الله عبدا أبصر الحق حقا واتبعه ورأى الباطل باطلا واجتنبه وانتصف من نفسه كما انتصف من غيره ولم يبال بقبول الحق ورده وآثر الحق على الخلق ونصر الله ورسوله في إتباع كتابه وسنة رسوله ولم يقلد آراء الرجال ولم يلتفت إلى كتب القيل والقال وأخذ الدين من حيث أخذه السلف الصلحاء واقتبس الأنوار من مشكوة مصابيح السنة البيضاء وعلم أن الرأي ثلمة في مكان الدين وتحريف في سواذج الشرع المبين وإنما القضاء ما قضى الله به والرسول في الكتاب والسنة على ألسنة الفحول من أهل القرآن والحديث جهينة الأخبار وعيبة الآثار ودارسي الرق المنزل من السماء وآخذي
السنن من رجال الصدق والصفاء ورواة العز والعلاء وعاملي الصالحات ومقدمي الروايات على الصناعات وأولئك حزب الله إلا أن حزب الله هم المفلحون وتلك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون والله يهدي إلى الحق من يشاء اللهم كن لي حيثما كنت ولا تشمت بي الأعداء
ذكر حكم الصلاة والصوم في أرض التسعين
قال الشيخ رفيع الدين الدهلوي في بعض إفاداته لم أجد أحدا من أهل العلم تكلم في ذلك ولم يذكر الفقهاء في كتاب من كتب الفقه حكم هذه المسألة بالخصوص ولعل السلف من العلماء لما رأوا هذا الموضع من الأرض لا يسكن فيه الحيوان فضلا عن نوع الإنسان ولا يمكن ذلك طووا كشح البحث عن ذكرها وعلموا أن لا فائدة في البحث عن ذلك لأن الشمس بعدت عن تلك الأرض جدا واستولت عليها البرودة غاية الإستيلاء حتى لم يمكن العيش بها لذي حياة أبدا فإن الحياة تتوقف على الحرارة الغريزية وهي لا توجد هناك فكيف يعيش أو كيف يوجد بها حيوان وحينئذ البحث عن حكم الصلاة والصوم في تلك البقعة من الأرض المفروضة عبث لا جدوى تحته
ولكن القرآن العزيز يستفاد منه حكمها في هذا الموضع من الأرض وصورته هكذا أن الشمس إذا دخلت بحركتها الخاصة في البروج الشمالية من الحمل إلى آخر السنبلة لا تغيب عند سكناها في تمام دورة اليوم والليلة بل تقطع كل يوم مدارا بحركة فلك الأفلاك وعلى هذا ينبغي أن يجعل المصلي مدارا كل يوم حصتين ويعتبر أحدهما يوما ويصلي فيه للصلوات الثلاث الصبح والظهر والعصر في مواقيتها بتقسيم ذلك المدار على تلك الأوقات ويعتبر النصف الآخر ليلا ويصلي فيه المغرب أولا ثم إذا بلغت الشمس ربع المدار يصلي العشاء الآخرة وهذا حكم الصلاة حين تكون الشمس في المدارات الشمالية ظاهرة في أنظار سكانها
وأما إذا كانت في البروج الجنوبية من الميزان إلى آخر الحوت فيقدر المدارات الجنوبية كما كان قدر المدارات الشمالية وينصف اليوم والليلة ويعتبر أحد النصفين
ليلا و الآخر يوما لأن كلا من المدارات الشمالية والجنوبية متساويان لا تفاوت بينهما وإن وجدا متفاوتين في النظر باختلاف الأوج والحضيض تفاوتا غير محسوس
وأما الصوم فيستفسر من أهل المراكب التي تأتي من قرب الأرض المعمورة أي شهر هذا من الشهور القمرية فإذا أخبروهم بذلك حسبوا كل شهر ثلاثين يوما من الشهور القمرية الأخرى فإذا جاء شهر رمضان على ذلك الحساب يجعل نصف المدار يوما والنصف الآخر ليلا ويصوم بالنهار ويفطر بالليل كما ذكرنا في الصلاة
وهذا هو الطريق السهل وإن كانت هناك آلات النجامية ومعرفة التفاويم كما يذكر أن في بلاد الروم أجراسا تصنع لمعرفة الشهور يعرفون بها جملة تشكلات الشهر القمري من أوله إلى آخره فيعتبر بهذه الآلة أولا شهر رمضان ثم بآلة أخرى ساعات اليوم والليلة ويفطر الصائم على وفقها ويمكن أن يعرف منازل القمر من إبتداء ذلك الشهر ويجعل كل منزل منها قسمين فيعتبر ونصفا من اليوم ونصفا الليل وأسهل الطرق أن القمر في المنازل الشمالية كان مداره دائم الظهور على سكان تلك الأرض فينصف كل مدار ويصوم ويفطر وإذا سار القمر في البروج الجنوبية يعمل على ذلك الحساب الكائن في المنازل الشمالية وهذا الحكم دل عليه قوله تعالى ) هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ( ومنازل القمر وعشرون منزلة وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي إثنا عشر برجا ولكل برج منزلتان وثلث فينزل القمر كل ليلة منها منزلا ويكون إنقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل والمعنى لتعلموا عدد الشهور والأيام والساعات وما يتفرع عليها مثل الصلاة والصوم وحلول الديون ووجوب المشاهرة وغير ذلك قوله تعالى ) الشمس والقمر بحسبان ( أي يجريان بحساب
البروج والمنازل لا يعدوانها يعني بهما تحسب الأوقات والآجال فإن قيل أن أوقات الصلوات موقوفة على ساعات الليل والنهار طويلة كانت أو قصيرة فيجب أن يصلى ثلاث صلوات في ستة أشهر وصلاتين في الستة الأخرى وكذلك الصوم في الشرع إنما يجب بطلوع القمر في أول الشهر وعلى هذا إذا طلع القمر على سكان تحت القطب بحركته الخاصة يصوم من هناك بطلوعه وإذا سار نحو الجنوب يفطر من بها بسيره
قلت هذه الصورة تخالف مقصود الشرع ومقصود الآيات الكريمة بوجوه أحدها إن انقسام أوقات الصلاة على ساعات اليوم والليلة إنما يتعلق بحركة أولية هي أسرع الحركات بحركة الشمس الخاصة بها في فلكها قال الله تعالى ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( أي يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر
والمعنى يذكر باللسان أو القلب أو يشكر نعمة ربه عليه بالجسد والجوارح فعلم من هذه الآية أن اليوم والليل المتعلقين بالحركة الأولية هما المتعينان للذكر والشكر والصوم داخل في الشكر لأن الصائم يصون بدنه بترك الغذاء لله تعالى وثانيها أن الصلاة إنما فرضت لأجل أن يتوجه العبد إلى خالقه ساعة فساعة بفاصله يسيرة ومسافة قليلة ويعبده هكذا حتى يستولي لون التوجه والعبادة على روحه ونفسه ويذهب عنه صبغ الغفلة والسكرة فإن تقع هذه القضية في عام خمس مرات لا تؤثر في الروح والجسد أصلا بل تنس
وكذلك الصوم إن امتد إفطاره إلى ستة أشهر في حق سكان تلك الأرض لكان لهم تكليف بما لا يطاق فإن الإمتناع من الأكل والشرب إلى هذه الغاية الطويلة مهلك في مجاري العادات وقد نطق الكتاب العزيز بنفي هذا التكليف قال تعالى ) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (
و أيضا قال تعالى عند ذكر فرضية الصوم ) كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ( والظاهر أن عدد الأيام في شهر واحد يكون في أقل من شهر عرفا فيعدون مثلا أيام الشهر ويقولون يوم أو يومان أو ثلاثة أيام أربعة أيام وإذا تجاوزوا الشهر قالوا شهر أو شهران أو ثلاثة أشهر أو شهران ونصف فعلم أن الصيام لا يزيد على شهر فضلا عن أن يزيد إلى ستة أشهر
وقال بعض المتفهمين موردا للشبهة في هذا المقام أن في كتب الأصول أن الصلاة والصوم إنما سبب وجوبهما الوقت وليس في أرض التسعين وقت لهما يعني لا طلوع ولا زوال ولا غروب في كل يوم حتى تجب الصلاة والصوم والمسبب لا يتحقق إلا بوجود السبب والجواب عنه أن المراد يكون الوقت سببا للوجود هو العلامة وإلا فأصل السبب في الوجوب إنما هو حكم الله سبحانه حكم به لحكمة مقصودة فالسبب في وجوب الصلاة حقيقة التنبه بذكر الخالق وفكره ودفع الغفلة عن تذكره وفي الصوم كسر النفس وهضمها بترك المألوفات إلى مدة طويلة وهذه الأسباب تلازم وجود نوع الإنسان أينما كان وكيفما كان وعلى أن الشرع الشريف فيه يسر يمكن استخراج حكم الصلاة والصوم بطريق آخر وهو إذا كان اليوم ستة أشهر والليل ستة اشهر يستحيل عادة أن يبقى يقظانا ويشتغل بالحوائج تلك المدة على الاتصال في النهار أو ينام بلا حس وحركة إلى تلك المدة الطويلة بحكم الجبلة البشرية بل لابد أن يفرق بين هذه المدة ويجعل وقتا للإستراحة والنوم ووقتا آخر للكسب والمعاش فهذا الوقت يكون في حقه يوما ويصلي فيه صلوات النهار والوقت الأول يكون ليلا ويصلي فيه صلاة الليل في أول الوقت وأوسطه وكذلك يعمل في الصوم وفي إفطاره وهذا طريق سهل يوافق قواعد الفقه لأن العرف والعادة له اعتبار في بعض الأحكام عند الضرورة والقرآن الكريم يشير إلى أصل هذا المطلب قال الله تعالى ) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (
) أي بحساب معلوم للشهور والأعوام لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما وقال تعالى ) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ( يعني جعل الليل للسكون والاستراحة واليوم لكسب المعاش وهذه العبارة فيها لف ونشر مرتب وعلم منها أن الليل وقت للإستراحة حقيقة كيفما كان وكذلك اليوم وقت لإبتغاء الفضل وهو المعاش كيفما يكون ولا يقف ذلك على طلوع الشمس والقمر وغروبهما انتهى كلامه
ذكر حكم الصلاة والصوم بأرض البلغار
بلغار بضم الباء الموحدة فسكون اللام والألف بين الغين المعجمة والراء وضبطه في القاموس بلا ألف وقال العامة تقول بلغار وهي مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد انتهى
يطلع الفجر فيها قبل غروب الشفق وقت العشاء والوتر وكذلك وقت الفجر أيضا في أربعينية الصيف ففاقدها مكلف بهما يجب عليه صلاة العشاء والوتر ويقدر الوقت كما في أيام الدجال والمراد بالتقدير ما قاله الشافعيه من أنه يكون وقت العشاء في حقه بقدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليه والأول أظهر والوجوب عليه قضاء لا أداء ولا قضاء وقيل أن الصلاة الواقع بعضها في الوقت وبعضها خارجه يسمى ما وقع منها في الوقت أداء وبه أفى البرهان الكبير واختار الكمال وقد يقال لا مانع من كونها لا أداء وما وقع خارجه قضاء اعتبارا لكل جزء بزمانه وقيل لا يكلف بهما لعدم السبب وبه جزم في الكنز والدرر والملتقى وبه أفتى البقالي ووافقه الحلواني والمرغيناني ورجحه الشرنبلالي والحلبي وأوسعا المقال ومنعا ما ذكره الكمال وقد كر على الحلبي الفاضل المحشي بالنقض وانتصر للمحقق بما يطول قال في الدر المختار ولا يساعده أي الكمال حديث الدجال لأنه
وإن وجب أكثر من ثلاثمائة ظهر مثلا قبل الزوال ليس كمسألتنا لأن المفقود فيه العلامة لا الزمان أما فيها فقد فقد الأمران انتهى
قال الشامي والأحسن في الجواب عنه أنه لم يذكر حديث الدجال ليقيس عليه مسألتنا أو يلحقها به دلالة وإنما ذكره دليلا على افتراض الصلوات الخمس وإن لم يوجد السبب افتراضا عاما وما أورد عليه من عدم الإفتراض على الحائض والكافر يجاب عنه بما قاله المحشي من ورود النص بإخراجهما من العموم هذا وقد أقر ما ذكره المحقق تلميذاه العلامتان المحققان ابن أمير حاج والشيخ قاسم والحاصل أنهما قولان مضجعان ويتأيد القول بالوجوب بأنه قال به إمام مجتهد وهو الشافعي كما نقله في الحلية عن المتولي عنه إنتهى
والمراد بالأمرين العلامة وهي غيبوبة الشفق قبل الفجر والزمان المعلم وهو ما تقع فيه الصلاة فيه أداء ضرورة أن الزمان الموجود قبل الفجر هو زمان المغرب وبعده هو زمان الصبح فلم يوجد الزمان الخاص وليس المراد فقد أصل الزمان كما لا يخفى نعم إذا قلنا بالتقدير هنا يكون الزمان موجودا تقديرا كما في أيام الدجال فلا يرد على المحقق الكمال ذكره الشامي
أقول وصل إلينا في هذا الزمان أعني سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين مؤلف للشيخ الأجل والحبر الأكمل هارون بن بهاء الدين المرجاني شهاب الدين البلغاري سلمهما الله تعالى على يد الحاج الحبيب الشيخ محمد أحسن الطيب الحاجي بوري ألفه في مسألتنا هذه وأطال فيها غاية الإطالة ولم يدع لقائل عدم الوجوب حجة ولا مقالة وسماه بناطورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق فلنلخص هنا كلامه ولنحرر مرامه بما يتضح به الصواب ويجيء الحق ويزهق الباطل ويتحلى به كل جيد عاطل
فأقول قال سلمه الله تعالى وعافاه وعلى معارج العلى رقاه قد ثبت فرضية كل واحدة من الصلوات الخمس بالكتاب والسنة وإجماع
الأمة على كل واحد من المكلفين من غير اختصاص بأهل قطر دون قطر وحصرها على عصر دون عصر وكل واحدة منها على قدم سواء في عموم الفرضية وشمول الوجوب ودخولها تحت كليات الدلائل القطعية وعمومات البراهين اليقينية فهذا مما لا مساغ للارتياب فيه لأحد فإنها أظهر من الشمس وأبين من الأمس لا تمس الحاجة إلى تفصيل الأمر فيه وبسط الكلام في مبانيه ففرضيتها موزعة على أوقاتها المعروفة في الدين ضرورة غدوة وظهيرة وعشية ومساء وزلفة وإنما شذ شرذمة قليلة من أحداث الأمة واخلاف المتفقهة وزعموا أن العشاء ساقطة عن سكان بعض الأقطار في عدة أيام من السنة ينتهي قصر لياليها إلى غاية لا يغيب الشفق فيها توهما منهم أن وجود الوقت الذي هو سبب لوجوب الصلاة وطريق لها وشرط لتحققها يتوقف على غيبوبة الشفق وهو زعم ساقط وتوهم لا مساغ له قط وذلك لأن أدنى مراتب السبب أن يكون ملائما للمسبب وهو منتف بين الصلاة والوقت قطعا ولأن السبب لا يجوز أن يكون كل الوقت لوجوب الصلاة لمن صار أهلا لها في آخر الوقت ولا البعض منه لصحة الأداء ممن أقامها في غير ذلك الجزء المعين ولا الغير المعين مطلقا لعدم وجوب أدائها ولا قضائها ولا الفدية عنها على من اعترضه عدم الأهلية في آخر الوقت من موت أو جنون مطبق أو حيض أو نفاس ولا الجزء المقارن للأداء لوجوب قضائها على المساهل الذي لم يشرع فيها بل تعطل في الوقت كله مع أن الجزء المقارن ليس له تقدم على الصلاة أصلا فكيف يكون سببا موجبا لها و مؤديا إليها وبالجملة جعل الوقت سببا للعبادة بما هو وقت غير معقول وما ذكروه في الاستدلال عليه فضول لا يرتضيه الفحول وقوله سبحانه ) أقم الصلاة لدلوك الشمس ( إنما يدل على السببية إن لو كان اللام للتعليل وهو في حيز المنع فإنها ترد على معان فقد جعلها في القاموس هنا بمعنى بعد وجعلها للتوقيت وجعلها المجد أيضا بمعنى عندما
قال ابن الهمام وهو استعمال محقق في اللغة وعلى ذلك قوله تعالى
) فطلقوهن لعدتهن ( وهو المفهوم من قوله {صلى الله عليه وسلم} في حديث جابر هذا حين دلكت الشمس ثم لا شك أن الوقت متحقق في حق من هو ليس بأهل للصلاة لا شتماله على أحواله مع عدم الوجوب فيتقدح عليه فيقدح من ذلك أن السبب أمر وراء الوقت وقد ذهب الفقهاء المتقدمون والعلماء المحققون إلى أن سبب وجوب العبادات توالي نعم الله تعالى وتواتر أنعامه وإحسانه إلينا في كل وقت ومن كل وجه وعلى كل حال كما دلت عليه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحات ثم النعم لما كانت غير داخلة تحت الضبط والإحصاء وكان الوقت ظرفا لحدوثها أديرت الصلوات معه ووزعت على أوقاتها تيسيرا للعباد وإقامة للظرف مقام المظروف
ثم أن الوقت مقدار محدود من زمان غير محدود وهو أمر بديهي الآنية وإن كان خفي اللمية لأن الزمان مقدار متجدد غير قار فلتجعله ما شئت وسمه به وإنما جعل الطلوع والزوال والغروب والغيبوبة وأمثالها علامات لوجود الصلوات ومعرفات لها يتمكن بها الخاصة بحضور الأوقات المعينة للصلوات ولو سلم أن الوقت سبب الوجوب مع عدم مسافة فإنما ينتفي وجوب الصلاة بانتفائه علاماته المفارقة من غيبوبة الشفق وغيرها
والذي ثبت من الأوقات لا نسلم انتفاءه بانتفاء تلك العلامات ثم حديث إمامة جبريل وغيره مما ذكر فيه غيبوبة الشفق في بيان وقت صلاة العشاء والمغرب لا تدل أصلا على اشتراط غيبوبتة لخروج وقت المغرب ودخول وقت العشاء لأن قوله حين غاب الشفق وإن احتمل بالنظر إلى نفس اللفظ أمرين أحدهما تقدير المدة المعينة وقتا لصلاة المغرب بالمدة الفاصلة بين غروب الشمس وغيبوبة الشفق في البلاد التي كانوا فيها من غير أن يكون تحقق العلامة شرطا لخروج وقت المغرب ودخول وقت العشاء بل يكون الشرط تحقق المدة الفاصلة فقط سواء تحقق العلامة أولا
وثانيهما اعتبار غيبة الشفق شرطا لخروج الوقت ودخوله لكن بالنظر إلى تمام الحديث في هذه الرواية وإلى الأدلة الخاصة يضمحل هذا الإحتمال المرجوح بالكلية ويتعين الشق الأول مرادا منه
أما أولا فلأن في نظائره لم تعتبر العلامات المذكورة شرطا لدخول وقت وخروج وقت مثلا صيرورة ظل كل شيء مثله أو مثليه ليست بشرط لخروج وقت الظهر أو ودخول وقت العصر لعدم تحقق ذلك في غيم الهواء ويوم السحاب افترى أنه يسقط عن سكانها صلاة الظهر لا يكلف أهلها بها وكذلك إفطار الصائم وحرمة الطعام والشراب عليه شرط لدخول وقت المغرب ووقت الفجر قطعا ضرورة انتفاء الصائم في بعض أيام السنة وكذلك الحال في الروايات الفقهية من نحو قولهم وقت المغرب من غروب الشمس إلى غيبية الشفق ووقت العشاء منه إلى طلوع الفجر معناه أن إمتداد الوقت مقدر بذلك القدر وإن لم يتحقق العلامة كيف لا فإن غيبة الشفق كما أخذت في دخول وقت العشاء اعتبرت في خروج وقت المغرب فلو كان شرطا لما تحقق خروج وقت المغرب أصلا فيمن لا يغيب عنهم الشفق ولا يوجد حين يحرم فيه الطعام والشراب على الصائم عند أولئك ومقتضاه سقوط الفجر عنهم وعدم وجوب صوم الشهر عليهم وهو باطل بالنص والإجماع
وأما ثانيا فلأن حديث إمامة جبريل عليه السلام وحديث عائشة وعمر وأبي موسى وبريدة وأبي سعيد وفي رواية عن أبي هريرة و أبي برزة وعبد الله بن عمرو بن العاص قد اعتبر في بيان آخر وقت العشاء ثلث الليل وفي رواية عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة وعمر وأبي سعيد نصف الليل ثم ما تضمن حديث بريدة من قوله {صلى الله عليه وسلم} وقت صلاتكم بين ما رأيتم
وحديث الإمامة والوقت ما بين هذين الوقتين تشريع عام لعموم خطابة عليه السلام ومفاده أن يكون آخر وقت العشاء لجميع الأمة ثلث الليل أو نصفه والثلث والنصف متحقق في جميع الليالي في كل قطر
يوجد فيه غروب الشمس وطلوعها فيوجد آخر وقت العشاء عند أهل ذلك القطر وإن لم يتحقق الغيبوبة من ضرورته تحقق أوله لا محالة
فلو حمل قوله {صلى الله عليه وسلم} حين غاب الشفق على اشتراط تحقق الغيبوبة يلزم أن يتناقض مفاد أول الحديث ومفاد آخره وهو محال في كلام الشارع المعصوم عن الخطأ والكذب ولئن حمل على الإشتراط فيكون مخصصا لعمومه بالنسبة إلى الأقطار التي لا يغيب فيها الشفق وملخص كلام الطحاوي في هذه الأحاديث أنه يظهر من مجموعها أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر إذ قد ورد في رواية لعائشة أنه {صلى الله عليه وسلم} اعتم بها حتى ذهب عامة الليل وفي رواية لابن عمر إلى آخر الليل
وعن أبي موسى الأشعري أنه كتب إليه عمر صل العشاء أي الليل شئت ولا تغفلها وفي رواية عنه أنه {صلى الله عليه وسلم} أخرها حتى انهار الليل وغير ذلك وكلها في الصحيح قال فثبت أن الليل كله وقت لها ولكنها على أوقات ثلاثة إلى الثلث أفضل وإلى النصف دونه وما بعده دونه
وأما ثالثا فلأنه على ذلك التقدير يكون مناقضا لحديث جابر بن عبد الله أنه {صلى الله عليه وسلم} صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق وحديث أبي هريرة صلاها حين ذهبت ساعة من الليل ولما مر عن عمر صل أي الليل شئت أخرجه الطحاوي بطرق رجاله ثقات ولحديث نعمان بن بشير كان النبي {صلى الله عليه وسلم} يصليها لسقوط القمر لثالثة ولا ريب أن غروب القمر في الليلة الثالثة من رؤيته ليس بشرط لدخول وقت العشاء في جميع أيام الدهر فإن المقصود من النقل بلفظ ظاهره المواظبة بيان المشروع العام لجميع الأمة
ولو فرض على منوال فرض المحال أن الحديث بالنسبة إلى الأمرين على قدم سواء في الإحتمال فما أخرجه مسلم في صحيحه من رواية نواس بن سمعان من حديث الدجال وفيه قلنا يا رسول الله فذلك
اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم قال لا أقدروا له يلتحق بيانا لهذا المحتمل وكذلك عدة أحاديث غيره في هذا المعنى فلو شرط غيبة الشفق لدخول وقت العشاء لزم نسخ عمومات الكتاب ومحكمات الأدلة الواردة في إيجاب الصلوات الخمس على كل مؤمن ومؤمنة بالنسبة إلى سكان الأقطار التي لا يغيب فيها الشفق ولذلك اختلف في مفاده فقهاء الأمة وعلماء الملة فإن أصحابنا وسفيان الثوري وأحمد ومالكا في رواية والشافعي في قوله القديم ذهبوا إلى أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق مع اختلافهم في الشفق وذهب الأوزاعي وابن المبارك والشافعي في قوله الجديد ومالك في رواية إلى أنه قدر ما يصلي خمس ركعات متوسطات بوضوء وأذان وإقامة فحسب ويدخل وقت العشاء بعده والشفق هو البياض عند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل والمزني والصفرة فيما أختاره الجويني والحمرة عند آخرين وذهب أبو سعيد الصخري من الشافعية إلى أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل وقال الحسن بن زياد آخر وقت العصر إلى اصفرار الشمس فقط ومن مذهب المخالفين أن وقت الظهر والعصر واحد وكذا وقت المغرب والعشاء وجواز الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر ولو كان قطعيا لزمه الإجماع ولما ساغ هذا الخلاف فيما بين هؤلاء
هذا و المذهب أن العلامات حيث ما تحققت يجب مراعاتها ولا يجوز المساهلة في تحقيقها تحصيلا لليقين وسلوكا لطريق الإحتياط وعملا بقوله {صلى الله عليه وسلم} دع ما يريبك إلى مايريبك ومهما لم يكن اعتبارها ولم يتيسر مراعتها فلا يعبأ بها ولا يعتمد عليها في إسقاط ما ثبت من الفرائض بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع
وهل في ذلك من ريبة فيقدر وقت المغرب بمدة يغيب فيها الشفق في الأيام الإعتدالية والأقطار الإستوائية ثم يدخل وقت العشاء إن أمكن ذلك وإلا فبقدر ما يغيب فيه أسرع من غيبته في هذه الأيام والأقطار ثم الأسرع فالأسرع فإن لم يكن ذلك بأن لا يكون بين غروب الشمس وطلوعها إلا زمان قليل لا يسع فيه التقدير بشيء
فالواجب إذن إيقاع المغرب والعشاء والفجر بين الغروب والطلوع فإن لم يكن بينهما مدة تسع فيها تلك الفرائض فيسقط اعتبار تلك العلامات بالكلية ويرجع الأمر إلى التقدير في كل صلاة للضرورة ويكون أداء لما ثبت فرضيته بالأدلة المطلقة في الوجوب وتلخيص البيان أن كون الأوقات أسبابا لوجوب الصلاة ووجودها مشروطا بتحقق العلامات مما لا مساغ له قط فلا نسلم فقد الأوقات بانتفائها ولا سقوط الصلوات بفقدانها ولو قدر التسليم في ذلك لما عرف منها علامة بقاطع من نص الشارع وهو الغدوة والظهيرة والعشية والمساء والزلفة وأما نحو صيرورة الظل وغيبوبة الشفق فلو ثبت شرطا فإنما يثبت بدليل ظني وبمدخل من الرأي على أنه ربما يسقط بحكم الشرع اعتبار الأركان فضلا عن الشرائط والأسباب كالإقرار في الإيمان وطواف الزيارة في الحج والقيام والقراءة والركوع والسجود للعذر وقد تقرر في مقره أن الأسباب والشرائط إنما تعتبر بحسب الأماكن ولا يسقط الممكن بسقوط ما ليس بممكن هذا وإنه لو انتفت تلك العلامات المعرفة للمدة الفاصلة بين أوقات الصلوات أصلا بأن لا يتحقق غروب الشمس ولا طلوعها مدة مديدة نصف سنة أو أقل أو بأن تطلع الشمس كما تغرب فإن مثل هذه المعمورة متحقق لا محالة فإن العمارة موجودة في عرض ست وستين من الشمال معروفة من لدن عصر بطليموس بل في خارج دائرة قطب البروج فإن عرض ثمان وستين قد بلغ إليه الحكيم المسكوبي وفيه قلعة للروس يقال لها قوله لا تغرب فيها ا لشمس من أول الجموزاء إلى أول الأسد مدة اثنين وستين يوما ولا تطلع من حادي عشر القوس إلى عشرين من الجدي مدة تسعة وثلاثين يوما وربما يردها أشخاص من أهل الإسلام من أفراد العسكر في خدمات الدولة ويعترض عليهم هذه الحالة ويطول أيامهم على الغاية كما في أيام الدجال وتحت القطبة وأقصى المنطقة الباردة لا ى تغرب الشمس أكثر من ستة أشهر فإنه لا تطلع الشمس فيها ولا تغرب إلا بحركتها الخاصة الشرقية ويمكن
أن يكون طول يوم واحد كسنة من حيث الحكمة
وهل تجب الصلوات الخمس والصوم وسائر العبادات المتعلقة بالأوقات
على سكان هذه الأقطار لم بر فيه كلام في كتب المتقدمين ولم يرد خبر عنهم في تصانيف واحد من الكبار المتبحرين وقد كانت المسألة معركة فيما بين العلماء المتأخرين من أهل القرن السادس وبعده في وجوب العشاء والوتر وعدمه على من لا يجد وقتهما بأن لا تتحقق المدة الفاصلة التي هي مدة غروب الشفق في الأيام المعتدلة والأقطار المتوسطة ففي الفتاوى الظهيرة والمضمرات والتتارخانية وغيرها أفتى البرهان الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر أن عليهم صلاة العشاء والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء
وقال ابن الهمام في فتح القدير وافتى البرهان الكبير بوجوبهما وفي التيين شرح الكنز للزيلعي عن المرغيناني عن البرهان الكبير نحوه وقال التمرشاني الغزي في تنوير الإبصار وفاقد وقتهما مكلف بهما وقال سري الدين المعروف بابن الشحنة في الذخائر الأشرفية أن الصحيح خلاف ما اختاره صاحب الكنز في هذه المسألة وقال في ترجمة الكنز أن الفتوى على الوجوب وفي المحيط البرهاني عن الصدر الكبير أنه ليس عليهم صلاة العشاء هكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني ونحوه في المضمرات وخلاصة الفتاوى ولو كانوا في بلدة إذا غربت الشمس طلع الفجر لا يجب عليهم صلاة العشاء وفي الكافي للنسفي ولا يجب العشاء على قوم لم يجدوا وقته بأن يطلع فجر كما غربت الشمس لعدم سبب الوجوب وهو وقته وفي الكنز ومن لم يجد وقتهما لم يجبا وذكر الزاهدي في المجتبى شرح المختصر عن البدر الطاهر نحو ما في المحيط ونحوه في جواهر الفقه لطاهر بن سلام الخوارزمي وقد نسب الفتوى بالوجوب إلى ظهير الدين المرغيناني في غير واحد من الشروح وغيرها
وبالجملة فمأخذ القول بالوجوب هو برهان الدين الكبير ومأخذ القول بعدمه هو الصدر الكبير برهان الأئمة واختلف عن المرغيناني وقد شارك في هذا اللقب والنسبة رجلان من بيت واحد ولم يبين أحد أن المفتي في هذه الحادثة أيهما أحدهما ظهير الدين أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن عبد الرزاق المرغيناني مات سنة ست وخمسمائة وهو
جد صاحب الخلاصة لأمة وعم والد قاضيخان وثانيهما ابنه ظهير الدين أبو المحاسن حسن بن علي المرغيناني صاحب كتاب الأقضية وغيرها والظاهر أن تلك الفتوى بالوجوب منسوبة إليه ثم صحة كلام الزيلعي ترفع الاحتمال وتبين أنه هو المراد من المرغيناني ومن برهان الدين الكبير هو أبو محمد عبد العزيز بن عمر المروزي بعثه سلطان سنجر بن ملك شاه السلجوقي إلى بخاري في مهم وسماه صدرا سنة خمس وتسعين وأربعمائة وهو المعروف بالصدر الماضي والصدر الكبير وبرهان الدين الكبير وبرهان الأئمة وهو أبو الصدور وهذا اللقب مقارنا لوصفه بالكبير لم يقع إلا عليه
وأما التعبير بالصدر الكبير وبرهان الأئمة وبرهان الدين فقد وقع عليه وعلى جماعة من أولاده وغيرهم ولعل المفتي بالسقوط كان أحدهم إن صح ذلك ولا يساعد عصر واحد منهم أن يحكي عنه ظهير الدين المرغيناني إلا الصدر الماضي والدهم وأخاف أن يكون الزيلغي أخطأفينقله عن المرغيناني ذلك وأرى أنه أخذ من الفتاوى الظهيرية وزعم أن صاحبها ظهير الدين المزغيناني وجرى من جاء بعده ممن نسب إليه القول بالوجوب على أثره وليس كما زعم بل هو ظهير الدين محمد بن أحمد البخاري مات سنة تسع عشرة وستمائة
وبالجملة أن طائفة من أحداث الجهال المتعصبين على الحق المنهمكين في التقليد المتهالكين في إضاعة الصلوات قد حرفوا عبارة الظهيرية والمضمرات وغيرها وزادوا فيها كلمة ليس النافية وسلطوها على الوجوب زعما منهم أنه لو لم تكن موجودة في العبارة لكان آخر الكلام منافيا لأوله حيث قال والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء وهو زعم سقيم ووهم عقيم فإن عبارات تلك الكتب محكمة في عدم هذه الكلمة والنسخ منها مطردة عليه وقد عرفت أن الخلاف فيمن لا يجد الوقت أصلا ومن أفتى بالوجوب لم يبال بعدم الوقت وذهب إلى وجوبه مع عدمه لأن الوقت غير مقصود بالذات ولا بسبب حقيقة ويسقط اعتباره بأدنى سبب كما في عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالاتفاق
ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت أحدهما وكذا المغرب والعشاء عند مالك والشافعي ومن وافقهما وقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن النبي {صلى الله عليه وسلم} لما رجع من الأحزاب قال لا يصلين أحدا العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق وقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها
وقال بعضهم لم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي {صلى الله عليه وسلم} فلم يعنف أحدا منهم
وقد روي أن بعضهم صلاها بعدما انتصف الليل وقد قام الدليل القطعي على وجوب العشاء بعد غروب الشمس فلا يجوز تركها بانتفاء سبب جعلي محتمل للسقوط والتكليف إنما هو بقدر الوسع فيجب أداؤها وإن لم يتحقق الوقت أصلا لثبوت أصل الوجوب في الذمة
فقولهم الصحيح أنه لا ينوي القضاء متفرع على وجوب الأداء مع عدم تحقق وقت العشاء ولا تنافي بين أطراف الكلام أصلا ألا ترى المحقق ابن الهمام بعدما بسط الكلام في الوجوب وزيف القول بالسقوط قال الصحيح أنه لا ينوي القضاء واعترض عليه الزيلعي بما هو ظاهر السقوط لا يكاد يصح وتبعه صاحب الدرر والجواهر وأمثالهما وإنما الخلاف فيمن لا يجد الوقت أصلا وإن الحق الأبلج فيه هو الوجوب أيضا والفرق بينهما ظاهر وليت شعري ماذا يقول الزيلعي وأتباعه في المغرب هل يرى سقوطه عن هؤلاء أو يجعله فرض الوقت و إن دخل وقت الفجر وذكر الزاهدي في المجتبى حكاية في هذه المسألة عن الحلواني والبقالي وأن البقالي وافقه فيها
وقد انتحل هذه الحكاية عن الزاهدي رجال من المتأخرين وشوشوا به عقيدة الحق على أهله وفرحوا بإضاعتهم الصلاة مع زعمهم البقالي هو أبو الفضل محمد بن أبي القاسم الخوارزمي وهو متأخر الزمان توفي سنة ست وثمانين أو سبعين وخمسمائة فكيف يمكن معاصرته للحلواني فإن وفاة الحلواني كانت سنة ثمان أو تسع وأربعين وأربعمائة وهذا الوصف قد وقع على عدة أشخاص يعرف كل منهم بالبقالي
وقد وقع النقل عنه في المحيط البرهاني وخلاصة الفتوى وفتاوى قاضي خان وفي القنية وعصر هؤلاء لا ينجعه النقل عن أبي الفضل البقالي لعدم سبق زمانه عليهم وأيا ما كان فالبقالي من أهل الاعتزال في العقيدة ويلوح من كلام الزاهدي تعصبه لإخوانه من أرباب تلك النحلة
وقال ابن الشحنة في شرح المنظومة أن كلام الزاهدي لا يؤخذ به ما لم يعضده نقل عن غيره ولهذا اعترض عليه ابن الهمام وقال انتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر وقد وجد وهو ما توطأ من أخبار الإسراء من فرض الصلاة خمسا بعدما أمر أولا بخمسين ثم استقر الأمر على الخمس شرعا عاما لأهل الآفاق لا تفصيل فيه بين قطر و قطر
وما روي من حديث الدجال عند مسلم فقد أوجب أكثر من ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا أو مثلين وقس عليه فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها لا يسقط بعدمها الوجوب وكذا قال {صلى الله عليه وسلم} خمس صلوات كتبهن الله على العباد ومن أفتى بوجوب العشاء يجب على قوله الوتر أيضا انتهى
ولعمري أن هذا الكلام قد بلغ من التحقيق والإتقان الغاية ومن الطلاوة وحسن البيان النهاية ولكن قد كثر مدافعة المتأخرين له ومناقشتهم فيه وذلك لإهمالهم الفقه والأصول وإغفالهم معاني المعقول ومدارك المنقول وانتصر إبراهيم بن محمد الحلبي في شرح المنية للبقالي وقال الحديث ورد على خلاف القياس وقال القاضي عياض إنه حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة ولاكتفينا بالصلوات الخمس انتهى
قال الحسكفي في شرح تنوير الأبصار وقيل لا أبي لا يكلف بهما لعدم سببهما وبه جزم في الكنز والدرر والملتقى وبه أفتى البقالي ووافقه الحلواني وظهير الدين المرغيناني ورجحه الشرنبلالي والحلبي
قلت كلام المحبط والخلاصة والكافي والكنز وأمثالها محمول على من لم يجد الوقت أصلا غير أن الزيلعي ومن تابعه لما زعموا أن وقت العشاء لا يوجد إلا بغروب الشفق نزلوا هذا القول على من لا يغيب عنه الشفق وبنوا كلامهم عليه وتصرفوا في العبارات وكيف ما كان فقد أظهر الدليل فساده وأبدت الحجة عليه عواره وأثبت ابن الهمام الوجوب على الإطلاق وأقام برهانه وشيد أركانه ولم يأت الشرنبلالي في كتابه شرح الملتقى ولا في امداد الفتاح بشيء سوى ما نقله من كلام الحلبي بعبارته التي بطلانها أظهر من أن يحتاج المصنف إلى التأمل فيه فإن المحقق لا يسلم أولا فقدان الوقت بعدم غيبة الشفق وإنما كلامه في إثبات الوجوب على من لا يجد الوقت أصلا ثم لا يسلم كون الوقت سببا لأن السبب هو تتالي نعم الله تعالى على عباده ولئن كان سببا فلا نسلم أن الوقت الذي هو سبب غير موجود لأن مدة اليوم والليلة في قطر تغيب فيه الشمس تكون أربعة وعشرين ساعة سواء تساوى الليل والنهار أو تفاوتا في الطول والقصر ولا نسلم أن الوقت من الأسباب والشروط لا تحتمل السقوط لأنه يسقط بأدنى علة مثل عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالإتفاق وبعذر المطر والسفر والمرض وغير ذلك عند الشافعي ومن وافقه لكونه وسيلة غير مقصودة والنقض يمثل الحائض والكافر ظاهر السقوط فإنه حكم استثناه الشرع وورد فيه دليل قطعي من الكتاب والسنة وإجماع الأمة
والقول بأن القياس على حديث الدجال غير صحيح ظاهر البطلان لأن المحقق في غنى عن وضع السبب به وإنما هو في صدد بيان المعرف الآخر للوجوب العام وإن انتفى المعروف المعهود وهو الزوال والغروب وغيرهما وقد حكى النسفي في المصفى شرح المنظومة عن جمال الدين المحبوبي أنه قال كسالى بخارى لا يمنعون عن الصلاة وقت طلوع الشمس لأن الغالب أنهم إذا منعوا عن ذلك وأمروا بالمكث في المسجد إلى ارتفاع الشمس أو بالرجوع ثم الحضور لم يفعلوا ذلك ولم يقضوها ولو صلوها في هذه الحالة فقد أجازه أصحاب الحديث والأداء في وقت يجيزه بعض الأئمة أولى من الترك
وهكذا نقل عن الحلواني والمرغيناني فانظر كيف جوز هؤلاء صحة الفجر عند الطلوع والعشاء قبل الغيبوبة بناء على تجويز بعض الأئمة مع ورود النهي عنه ونصوص الأئمة الثلاثة القاضية على عدم الجواز مخافة أن يتركوها بالكلية بمجرد الكسالة فكيف يسوغ أن يفتي بسقوط العشاء عمن لا يغيب عنهم الشفق بجعل إلهي وسبب سماوي مع نهوض براهين الوجوب عليه نهوضا لا مرد له وليس في العالم قطر تغيب فيه الشمس
ثم كما تغرب يطلع الفجر من جانب آخر بل تتحول الحمرة من جهة المغرب متدرجة إلى الصفرة ثم إلى البياض حسب دوران الشمس تحت الأفق إلى أن ينتصف الليل
ثم ترجع على هذه الدراجة منعكسة قهقرى حتى تطلع الشمس من جهة المشرق وعندي أن نقول الفتوى بالسقوط عن الحلواني والمرغيناني والصدر الكبير وأمثالهم لا تصح أصلا وإن وجد في عدة كتب فإنه مع خلوه عن الإسناد لا دليل بيتني عليه وحسن الظن فيهم لا يرخصنا في نسبه هذه المجازفة إليهم ومما يشهد بذلك أن إسلام أهل بلغار كان بزمان كثير قبل زمان أولئك الفضلاء الذي يعزى إليهم الإفتاء بسقوط العشاء عن سكان هذه الديار في ليال من السنة تنتهي إلى غاية القصر فمنهم من قال أنهم أسلموا في صدر ملك بني مروان في كبد القرن الأول من الهجرة ومنهم من قال أنهم أسلموا في خلافة المأمون ومنهم من قال في خلافة ابن أخيه الواثق بالله ثم ظهر الإسلام فيهم بإسلام ملك بلغار الماس خان بن سلكي خان في خلافة المقتدر فتسمى بالأمير جعفر
ولأحمد بن فضلان رسالة كتب فيها ما شاهده في سفره إلى بلغار ومدينة بلغار كانت على خمس وخمسين درجة من العرض الشمالي وعرض قزان أكثر منه بخمس وأربعين دقيقة وطولها في ست وستين درجة وست وأربعين دقيقة من جزائر الخالدات وطول بلغار أكثر منه بشيء نحو ست عشرة دقيقة فكيف يتخيل أنه خفي عليهم شأن الشفق فما تكلموا في مسألة العشاء بها نعم كان الأمر واضحا لهم في ذلك حين
كانوا في بلادهم لمكانهم بمحل عظيم من العلوم الشرعية ولكنهم لم يروا إسقاط شيء من فرائض الله تعالى وما كان لهم أن يشكوا في هذا الحكم لما لاح لهم من عموم الأدلة وظهور البراهين القطعية والروايات المستفيضه أم كيف يهمل المتقدمون من أهل بلغار هذه المسألة مع فرط حاجتهم إليها وكثرة ابتلائهم بها ولم يستفتوا فيها والإسلام غض المجنى جلو المغنى يحفظون حدوده ويلتزمون عهوده وقد كان فيهم من علمائهم جماعة قبل عصر البقالي والحلواني وبعده مثل عبد الحي ووالده عبد السلام والقاضي أبو العلاء حامد بن إدريس والقاضي يعقوب ابن نعمان مؤرخ بلغار وغيرهم وهب أنه لم يكن فيهم علماء يفتون في الوقائع فهلا راجعوا إلى علماء سائر الأمصار مع كثرة أسفارهم في الأقطار وشهرتهم بوفور التجارة وحسن التمدن من قديم الأعصار وما ظهر ذلك إلا لأحمد بن فضلان وغيره من وفود العراق وعلماء دار الخلافة مع طول مقامهم بها وورودهم مقامهم بها وورودهم إليها لتعليم الإسلام وإذاعة الشرائع والأحكام بل علموا ذلك ولكن لم يشكوا في الوجوب بل إنما حدثت هذه الشبهة الغثة والريبة والرثة بعد انقراض الفقهاء وذهاب العلماء ورئاسة الجهال وإشراف الإسلام على الزوال وانتكاس حال الأنام واختلال مصالح البرية عند اضمحلال الدولة العباسية فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى كلام الناظورة وهو حرف من الكتاب وقطرة من العباب وكم فيه من أدلة وبراهين على فرضية صلاة العشاء على جميع المكلفين من الأمة على السواء غاب عنهم الشفق أو لم يغب تركناها مخافة الإطالة فمن شاء تفصيل ذلك فليرجع إليه
وأما مسألة الصوم فقد قال الشامي في رد المحتار حاشية در المختار لم أر من تعرض عندنا لحكم صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يقدر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنية ولا يمكن أن يقال بوجوب موالاة الصوم عليهم لأنه يؤدي إلى الهلاك فإن قلنا بوجوب الصوم يلزم القول بالتقدير وهل يقدر ليلهم بأقرب البلاد إليهم كما قال الشافعية هنا أيضا أم يقدر لهم بما يسع
الأكل والشرب أم يجب عليهم القضاء فقط دون الأداء كل محتمل فليتأمل ولا يمكن القول هنا بعدم الوجوب أصلا كالعشاء عند القائل به فيها لأن العلة عدم الوجوب فيها عند القائل به عدم السبب وفي الصوم قد وجد السبب وهو شهود جزء من الشهر وطلوع فجر كل يوم هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم
ذكر الأرض الجديدة
اعلم أنه قد حقق قوم من حكماء النصارى منذ مضي أربعمائة سنة من سني الهجرة أرضا جديدة ما خلا أرض الربع المسكون المنقسم على الأقاليم السبعة وسموها برا أعظم وينكي والدنيا الجديدة وأمريكا وقالوا إحاطة الماء لكرة الأرض ليس على ما رسمه الحكماء السابقون بل الواقع أنه قد أحاط عنصر الماء كرة الأرض على صورة المنطقة لخصر الإنسان وكما أن الأرض ظهرت وانكشفت في هذه الجهة التي قسموها على الأقاليم السبعة وسموها الربع المسكون وصارت هي مساكن العالم من بني آدم فكذلك انكشفت وظهرت في الجهة المقابلة لتلك الجهة وصارت مسكنا لجموع من الناس وهي واقعة على وضع لو لم تكن الأرض في البين لالتصقت أقدام أشخاص كلتا الجهتين بالأخرى وتبقى الرؤوس في جهة السماء فكان الأرض بتمامها خمس حصص والربع المسكون منها المسمى بالأقاليم السبعة ثلاث حصص والأرض الجديدة حصتان أو أزيد ثم تحتوي تلك الدنيا الجديدة على البلاد الحارة والباردة ويحصل منها صنوف الخشب والعشب والأدوية والأغذية وهي كثيرة المعادن من الذهب والفضة وفيها المعابد والكنائس والمكاتب والعمائر العظيمة وفيها كل شيء نحو ما في هذه الدنيا كأنها هي الربع المسكون بعينه تسكنها أقوام من النصارى وسلطنة هذه الأرض بأيديهم إلى يومنا هذا ولهم محاربات وقضايا ووقائع مع البريطانية الذين هم حكام الهند اليوم كثيرة يطول شرحها ويخلق ما لا تعلمون ولا يعلم جنود ربك إلا هو
ذكر في التاريخ
لا يخفى أن فن التاريخ من الفنون التي يتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفة السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمي فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها خليق وأن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام وخيم ووبيل والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل
وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن اسحق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الإثبات ومشهور بين الحفظة والثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحوله ترجع إليه الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك
ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن نحى منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار قطره واقتصر على أحاديث دولته ومصره كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذى منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صورا قد تجردت عن موادها وصفاحا انتضبت من أغمادها ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها بكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها أتباعا لمن عنى من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أوعز عليهم ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها ثم إذا
تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها حسب ما ذكر ابن خلدون في مقدمة تاريخه
ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من المهمل وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد
ومن أحسن ما ألف في فن التاريخ وأجمع ما جمع فيه تحقيقا وإتقانا في كتب القوم بعد سبر أغور الأمس واليوم كتاب العبر وديوان المبتدأ الخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر لقاضي القضاة فإنه أنشأ في التاريخ كتابا ورفع به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا وفصله في الأخبار والاعتبار بابا بابا وأبدى فيه لأولوية الدول والعمران عللا وأسبابا وبناه على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في تلك الآثار وملأوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان لهم من الدول الطوال والقصار ومن سلف من الملوك والأنصار سلك في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا واخترعه من بين المناحي مذهبا عجيبا وشرح فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال من قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك ثم من أحسن التواريخ المختصرة كتاب المختصر في أحوال البشر لأبي الفدا إسماعيل صاحب حماة الملك المؤيد وكتاب المواعظ والاعتبار في بيان الخطط والآثار للمقريزي رحمه الله وقد طالعناها على هذه المقالة وأضفنا إليها أشياء والله يهدي إليه من يشاء
ذكر فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والألماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها
اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق
وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد
جيوش بني إسرائيل
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل وأن موسى أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعها لمثل هذا العدد من الجيوش لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة
ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء
جيوش الفرس
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد بذلك من كان من غلبة بخت نصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم وهو من بعض عمال مملكة فارس يقال أنه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير
ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبا منه وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفا كلهم متبوع على ما نقله سيف قال وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف
جموع رستم
وعن عائشة والزهري أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا
العدد لاتسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإن العمالات والممالك في الدول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها والقوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن وفلسطين من الشام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف
وأيضا فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وهو إسرائيل الله هكذا نسبه في التوراة
والمدة بينهما على ما نقله المسعودي حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى إلى التيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة
تشعب النسل
ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أبا ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئين والآلاف
فربما يكون وإما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا والذي ثبت في الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألف خاصة وإن مقرباته كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم
أيام سليمان
وفي أيام سليمان وملكه كان عنفوان دولتهم واتساع ملكهم هذا وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول
التي لعهدهم أو قريبا منهم وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين وتوغلوا في العدد وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الأغراب
فإذا أستكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجلبت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة عن المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتخذ آيات الله هزوا ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة
ملوك اليمن وجزيرة العرب
ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية والبربر من بلاد المغرب وأن إفريقش بن قيس بن صيفي كان لعهد موسى أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنه سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم منه ودعوا به من حينئذ وأنه لما انصرف إلى المغرب حجز هناك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة
ومن هذا ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والبيلي إلى أن صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصحيح
ذا الأذعار
وذكر المسعودي أيضا أن ذا الأذعار من ملوكهم قبل أفريقش وكان
عل عهد سليمان غزا المغرب ودوخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنه بلغ وادي الرمل من بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرمل فرجع وكذلك يقولون في تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد بشتاسف من ملوك الفرس الكيانية أنه ملك الموصل وأذربيجان ولقي الترك فهزمهم وأثخن ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك وأغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصغد من أمم الترك ووراء النهر وإلى بلاد الروم فملك الأول البلاد إلى سمرقند وقطع المفاوز إلى الصين ورجع بالغنائم وترك بالصين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد
وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة كما بينها ابن خلدون في تاريخه
تفسير سورة الفجر
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ( فيجعلون لفظة أرم أسماء للمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن أرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنين مثلها فبنى مدينة أرم في صحاري عدن في مدة ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين
وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي
أرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له
ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال هذا والله ذلك الرجل
وذكره الشيخ عبد العزيز الدهلوي أيضا في تفسيره الفارسي وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن
وما زال عمرانا متعاقبا والادلاء نقص طرقه من كل وجه ولم يقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الإخباريين ولا من الأمم ولو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة وبعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملوكها وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر مزاعم كلها أشبه بالخرافات
والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الأعراب في لفظة ذات العماد أنهم صفة أرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد أرم على الإضافة من غير تنوين ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عدد المضحكات وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة والياس مضر وربيعة نزار وأي ضرورة إلى المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي يتنزه كتاب الله تعالى عن مثلها لبعدها عن الصحة
الرشيد
ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة
الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحي بن خالد مولاه وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها وأنها بنت عبد الله ابن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجابهم أموال الجباية
يحي بن أكثم
ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحي بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر المأمون الخمر مع أن يحي كان من علية أهل الحديث وقد أثنى عليه أحمد وإسماعيل القاضي وخرج عنه الترمذي وروى عنه البخاري في غير الجامع فالقدح فيه قدح في جميعهم وذكره ابن حيان في الثقاة وقال لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه
ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب العقد من حديث الزنبيل في سبب أصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران
العبيديين
ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين والإثبات في العبيديين خلفاء الشيعة في القيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفا إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفننا في الشمات بعدوهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم كما بينها ابن خلدون
واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت أتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم
وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم ومصلاه وموطن الرسول {صلى الله عليه وسلم} ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين بجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم بالذي بغني عنهم من الله شيئا فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شان ابنه ) إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم ( وقال {صلى الله عليه وسلم} لفاطمة يعظها يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا ومتى عرف أمر وقضية أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وقد أطال ابن خلدون في بيان صحة نسبهم إلى أهل البيت فمن شاء فليرجع إلى كلامه
ويلحق بهذه المقالات الفاسدة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي و تكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في أنفسهم من حسده على شأنه فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضة في العلم وانقيادا في الدين بزعمهم ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته
وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاءهم فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصارا وحامية وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقربوا إلى الله بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم ووألت بالعدوتين من الدول وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا حتى قبضه الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس وتخادع عن تمنيه فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته ) سنة الله التي قد خلت في عباده (
وانتصر له ابن خلدون ثم قال فقد زلت أقدام كثير من الإثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهيا مختلطا وناظره مرتكبا وعد من مناحي العامة فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بين ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منهما والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلا زيفه واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري والبخاري وابن اسحق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة
وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعى بالهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور
ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول
وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم
ثم جاء بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها
دولة مضر
ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثر متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السلف
ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذي شيدوا عزهم ومهدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها
والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة
لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكمية الناس على دين ملوكهم وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول
فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء وكانت الأولى أشد مخالفة ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة
فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط
الحجاج
فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن أباه كان مع المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية والمعلم مستضعف أهل الحرف والصنائع المعايشة إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات له فتذهب بهم وساوس المطامع وربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف ولا يعلمون استحالتها في حقهم وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأن التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلا لما سمع من الشارع وتعليما لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الانساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه {صلى الله عليه وسلم} على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هداياتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه
وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعزعهم عنه عاذل الأنفة
ويشهد لذلك بعث النبي {صلى الله عليه وسلم} كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع للعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك
والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام
أحوال القضاة
ومن هذا الباب أيضا ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرئاسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل ويظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا أن آباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد
وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها وكان مكانهم فيها معلوما ولم يكن نيلهم لما نالوه من الرئاسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها
ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبية الدولة وفي عداد الوزراء فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله وأما حين تباينت الدول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في قوتها وغلبتها ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد والغفلة عن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم كالحجاج وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الإخشيدي وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الألماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك
فائدة
ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذه المقالة بها وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تبنى عليه أكثر مقاصده وتتبين
به أخباره وقد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثلاثين والثلاثمائة غربا وشرقا وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من الأحوال لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغير
قول ابن خلدون
قال ابن خلدون وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق فد نزل به ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها
مملكة الهند
قلت وهذه الحال هي بعينها حال مملكة الهند في هذا العصر وهو آخر المائة الثالثة عشرة من سني الهجرة منذ ذهبت منها دولة الإسلام
واندرست معالم ملوكها وسلاطينها العظام وصارت تلك الدولة البريطانية أعني الإنكليز وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليفة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها
ويقفوا مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلا يقتدى به من يأتي من المؤرخين من بعده وقد ذكر ابن خلدون بعد هذا البيان ما أمكنه منه في القطر المغربي وكذلك غيره ما أمكنهم منه في الأقطار الشرقية و الجنوبية ولكن المحقق في ذلك في كتب القوم ما خلا ابن خلدون وأبا الفداء نبذة يسيرة والأقاصيص المختلفة والأساطير المفتعلة كثيرة جدا ومرد العلم كله إلى الله سبحانه وتعالى والبشر عاجز قاصر والاعتراف متعين واجب ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب وانجحت له المساعي والمطالب وههنا تمت كلمة التأليف والالتقاظ من كتب الثقاة على الارتجال مع تبلبل البال وتحول الحال وسميت تلك لقطة العجلان مما تمس إلى معرفة حاجة الإنسان على يد جامعه الفقير الجاني والعبد الفاني سلالة الماء والطين وسليل المسنونين أبي الطيب صديق بن حسن ابن علي الحسيني القنوجي البخاري ختم الله له بالحسنى وجعل له لسان صدق في الآخرين
وكان تنميقه بيمناه الدائرة ويده القاصرة في شهر ربيع الأول لعله الرابع عشر منه سنة تسعين ومائتين وألف من سني الهجرة القدسية على صاحبها ألف ألف صلاة مقبولة وتحية مرضية ببلدة دار الأمارة العليا بهوبال المحمية لا زالت ملحوظة بعين الله وألطافه الخفية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين أولا وأخيرا