التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
عاد العبيديون بجيش كبير للانتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى، ورغم الانتصار الذي حققوه في البداية إلا أنهم هزموا في النهاية، فماذا حدث؟
هزيمة مبدئية لبلدوين
مرت الأيام والشهور، وعاد العبيديون بجيش كبير للانتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى في سبتمبر 1101م، وكان عودتهم إلى عسقلان في شهر مايو 1102م، أي بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الكارثة الأولى، وكان جيشهم بقيادة شرف المعالي وهو ابن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي، مما يعطينا فكرة عن أهمية هذه الحملة[1].
وحشد بلدوين بضعة آلاف من جنوده في منطقة يافا، وخرج في مهمة استطلاعية بين يافا والرملة، ولم يكن معه سوى مائتين من الفرسان، وباغته العبيديون هناك، حيث اضطربت صفوفه، واضطر إلى قتالٍ مفاجئ، وقُتل من رجاله عدد كبير وفر الباقون، فمنهم من فر إلى يافا، ومنهم من فر إلى الرملة، وكان بلدوين ممن فر إلى الرملة، وكان هذا في (495هـ) 17 من مايو 1102م[2].
هزيمة ساحقة للعبيديين
حاصر العبيديون الرملة ليفتكوا ببلدوين الأول غير أنه هرب منها ليلاً متجهًا إلى يافا، وسقطت الرملة في أيدي العبيديين[3]، وأرسلوا فرقة سريعة لحصار يافا[4]، فغيَّر بلدوين الأول من مساره وذهب إلى أرسوف في شمال يافا[5]، وجمع من كان بها من الصليبيين، وأخذهم عن طريق البحر إلى يافا لنجدة الجيش الصليبي هناك، واستعان بأسطول إنجليزي مكون من مائتي سفينة كان يحمل كثيرًا من الجنود والحجاج، ودخل بلدوين الأول فعلاً إلى يافا من الميناء البحري على الرغم من وجود السفن العبيدية، وأخذ في تنظيم جيوشه في داخل المدينة[6].
ثم في (495هـ) يوم 27 من مايو 1102م خرج بلدوين الأول على رأس جيوشه لمقابلة الجيش العبيدي خارج أسوار يافا، وللأسف فإنه في خلال بضع ساعات هُزم الجيش العبيدي هزيمة ساحقة، ولم يفقد الجيش الصليبي عددًا يذكر من رجاله، وفرَّ العبيديون إلى عسقلان[7] للمرة الثانية في خلال ثمانية أشهر لتتفاقم الأزمة العسكرية للدولة العبيدية، بينما يزداد الصليبيون ترسيخًا لأقدامهم في المنطقة!
بلدوين يتخلص من دايمبرت
وعاد بلدوين الأول إلى بيت المقدس ليرتب أوضاعه فيها، وكان من أهم الأعمال التي قام بها استقبال مندوب البابا باسكال الثاني الذي جاء للتحقيق في أمر دايمبرت أسقف بيت المقدس، وكان بلدوين الأول قد أرسل إلى البابا يشكو له سوء سلوك دايمبرت، وأن هناك الكثير من الشبهات في تصرفاته، وجاء مندوب البابا -وهو الأسقف إبرمار- وحقق في الأمر، وسرعان ما أثبت -بمعونة بلدوين الأول بالطبع- أن دايمبرت مُدان في تصرفاته، وتم عزله عن الأسقفية المهمة، وتولى إبرمار مكانه، وبذلك تخلص بلدوين الأول من أشد منافسيه على الكرسي[8]، ولم يعبأ بلدوين الأول بعد ذلك باعتراضات تانكرد النورماني أمير أنطاكية، فقد صار بلدوين أقوى زعماء الصليبيين بلا منازع.
ولا ينبغي أن يجعلنا هذا التصرف من بلدوين أن نفهم أن سلطان الكنيسة ذهب بالكلية عند قيام حكومة علمانية ملكية في بيت المقدس، بل ظل للكنيسة نفوذ كبير، وإن كان في معظمه نفوذ بعيد عن سلطة أخذ القرار السياسي، وإنما هو نفوذ اقتصادي واسع؛ فقد تميزت الأديرة والكنائس في الإمارات الصليبية بوفرة الثروة واتِّساع الأملاك، ويكفي أن نعرف أن دير جبل صهيون في بيت المقدس -على سبيل المثال- امتلك في سنة (583هـ) 1178م حيًّا بأكمله في مدينة القدس ذاتها، وكذلك كان لنفس الدير ممتلكات وأراضٍ وبساتين وأسواق في عسقلان ويافا ونابلس وقيسارية وعكا وصور وأنطاكية وقليقية، بل إن الدير نفسه كان يملك ضياعًا وأملاكًا في أوربا: في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا!
ولا شك أن هذه الأملاك الواسعة أثارت حقد النبلاء والأمراء، خاصةً أن أملاك الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب[9]، وكان رجال الكنيسة معفيين من الخدمة العسكرية كذلك، فهذا رفع تساؤلات ضخمة في أذهان الأمراء الذين ما شعروا أن للدين أثرًا في حياتهم يوازي هذه المكانة الضخمة التي تتمتع بها الكنيسة، ومع ذلك فهذا واقع كان لا بد من قبوله، ولم يثر عليه عامة الأوربيين إلا بعد عدة قرون[10]!
أحوال المسلمين في ذلك الوقت
وهكذا بينما نحن نتحدث عن استقرار الأوضاع الداخلية في الإمارات الصليبية كانت الأحوال تزداد سوءًا في الإمارات الإسلامية! ولم يقف الحد عند النزاع بين الإمارات بعضها وبعض، وإنما وصل إلى النزاع الداخلي في كل إمارة، وليس أدل على ذلك مما حدث في الموصل في (495هـ) أواخر سنة 1102م عندما مات كربوغا أمير الموصل، فتنازع الملك في الموصل بعده اثنان هم سنقرجة وموسى التركماني، فقُتل سنقرجة في النزاع وتولى موسى التركماني، ليُقتَل بعد قليل على يد جكرمش الذي تولى إمارة الموصل، ولن يدوم الأمر له طويلاً بل سيظهر من ينافسه وهكذا[11]!!
إنه في ظل هذه الأوضاع المتردية، من غياب الشرع في حياة الناس، وحب السلطة والتملك، وذهاب الوحدة، وانفصام العروة، كان لا بد للكيان الصليبي أن يُزرع في داخل قلب الأمة الإسلامية! ولا عجب إن قلنا إنه في أثناء هذا الصراع في الموصل، وفي (495هـ) أواخر سنة 1102م سقطت مدينة اللاذقية -وهي ميناء شامي في غاية الأهمية- في يد تانكرد أمير أنطاكية بعد حصار سنة ونصف تقريبًا، دون أن يتحرك لها أحد من المدن القريبة: حلب أو حماة أو حمص، وهكذا صار لإمارة أنطاكية واجهة عريضة على البحر سهَّلت لها بعد ذلك -ولمدة عشرات السنين- وصول الإمدادات البحرية من أوربا؛ مما أسهم في طول بقائها واستقرارها[12].
ولعل من الأحداث التي رأيناها في سنة (496هـ) 1103م ما يدلنا أيضًا على تردِّي الأخلاق بدرجة كبيرة عند زعماء المسلمين، فلم تكن القضية -كما كانت في الموصل- نزاعًا على كرسي الحكم فقط، بل وصل الأمر عند البعض إلى المخاطرة بكل مصالح المسلمين من أجل حفنة من دنانير، أو اتفاقية تعاون مشترك مع الصليبيين، ومن هذا ما سيحدث بعد ذلك عند إطلاق سراح بوهيموند.
التعليقات
إرسال تعليقك