التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المشهد الصليبي في عهد عبد الرحمن الناصر، مقال د. راغب السرجاني، يتناول مملكة ليون وقشتالة وقصة صراع في الأندلس مع عبد الرحمن الناصر
أولًا: مملكة ليون
بلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).
أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.
لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.
وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).
السعي لإنشاء مملكة قشتالة
ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.
استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.
وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.
تطور الأحداث في مملكة ليون
توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.
وكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.
ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.
كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.
وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.
ثانيًا: مملكة نافار
نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.
ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].
التعليقات
إرسال تعليقك