التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
سياسة أبي الحزم جهور في قرطبة، مقال بقلم د. راغب السرجاني، يتناول سياسة الداخلية والخارجية للوزير جهور في قرطبة وكيف كان وضع قرطبة بين ملوك الطوائف
السياسة الداخلية:
تولَّى أبو الحزم جهور حكومة قرطبة والبلاد تعيش حالة توتر أمني؛ فالبلاد تعيش بلا خليفة يحكمها، أو خليفة يلتفُّ الناس حوله، فكانت البلاد مسرحًا للعابثين من محترفي النهب والسرقة، كما شهدت فسادًا اقتصاديًّا؛ حيث غلت الأسعار، وتدهورت التجارة، وعمَّ الاستغلال، وارتفعت الضرائب والمكوس، ونُهِبَت الأموال العامة من مختلسي أموال الدول، وعاشت كذلك تدهورًا علميًّا وفكريًّا فليست هناك حكومة تعتني بالعلماء والأدباء والشعراء، وتُنفق عليهم من الأموال ما هو كفيل بإبداعهم وتفوقهم، فكان النظام الجديد الذي ابتكره أبو الحزم بن جهور كفيلاً بأن يقف أمام هذه التحديات، التي تعصف بدول وحكومات لو ساءت الإدارة وتعسَّف المتحكمون.
القضاء على الانفلات الأمني:
سلك الوزير ابن جهور مسلك الحاكم المصلح، باتخاذ إجراءات إصلاحية في البلاد؛ لعل أوَّلها القضاء على الانفلات الأمني وأحداث الشغب، التي قد تعصف بالبلاد، وأن يُوَطِّد دعائم الأمن والنظام، فعامل البربر الثائرين عليه بخفض الجناح والرفق في المعاملة، حتى حصل على سلمهم ومحبَّتهم، كما فَرَّق السلاح على البيوت والمحلات؛ حتى إذا دهم أمرٌ في ليلٍ أو نهارٍ كان سلاح كل واحد معه، كما جعل أهل الأسواق جندًا، وهذه السياسة كفيلة بأن تجعل البلاد بلد أمن وسلام، بل وأصبحت قُرْطُبَة ملجأ أمنٍ للفارِّين والمنفيين من الأمراء المخلوعين عن عروشهم، فقُرْطُبَة في أيامه حريمًا يأمن فيه كل خائف من غيره[1].
الإصلاح الاقتصادي:
كما عمل أبو الحزم ابن جهور على إصلاح الفساد الاقتصادي؛ فقضى على كل أنواع البذخ والترف، وعمل على حفظ الأموال العامة؛ وخاصة الأموال السلطانية من السرقة، فقد جعل عليها رجالاً يثق بقدرتهم وأمانتهم، وجعل نفسه مشرفًا عليهم[2]، كما عمل على خفض الضرائب والمكوس، وعمل على تشجيع المعاملات التجارية؛ فوزَّع الأموال على التجار؛ لتكون بيدهم دَيْنًا عليهم، يستغلُّونها ويحصلون على ربحها فقط، وتُحْفَظ لديهم، ويُحَاسَبُون عليها من وقت لآخر، وكانت النتيجة أن عمَّ الرخاء قُرْطُبَة، وازدهرت الأسواق، وتحسَّنت الأسعار، وغلت الدور، وعاد النماء بعد الكساد[3].
إصلاح القضاء والازدهار الفكري:
ونتيجةً لهذه السياسة الحكيمة التي اتبعها الوزير أبو الحزم بن جهور شهدت قُرْطُبَة ازدهارًا سياسيًّا واقتصاديًّا، كان دافعًا إلى إصلاح القضاء من ناحية؛ حيث عمَّ العدل بين الناس، وأَمِنَ الناس على حقوقهم، ومن ناحية أخرى عملت هذه السياسة على الازدهار الثقافي والفكري، وهذا الانقلاب الإيجابي الذي أحدثته حكومة ابن جهور أثارت دهشة مؤرِّخ الأندلس ابن حيان، وهو أحد من عاشوا وشاهدوا ذلك التحوُّل بقوله: «فعَجِبَ ذو التحصيل للَّذي أَوَى إليه في صلاح أحوال الناس من القوَّة ولما تعتدل حال، أو يهلك عدوٌّ، أو تَقْوَ جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون»[4].
وابن حيان نفسه في موضع آخر يذكر أن ابن جهور لم يكن لينسى نفسه أمام هذا الرخاء، الذي نعمت به قُرْطُبَة في ظلِّ حكومته، فيقول: «ولم يخلُ مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه[5] لمعيشته، حتى تضاعف ثراؤه، وصار لا تقع عينه على أغنى منه، حاطَ ذلك كلَّهُ بالبخل الشديد والمنع الخالص، اللذين لولاهما ما وَجَدَ عائِبُه فيه طعنًا، ولكَمُلَ لو أن بشرًا يكمُل»[6].
السياسة الخارجية:
موقف الوزير جهور من دعوة ظهور هشام المؤيد في إشبيلية:
كان للوزير ابن جهور موقفًا خاصًّا من دعوة القاضي أبي القاسم بن عباد متملِّك إِشْبِيلِيَة بظهور الخليفة هشام المؤيد في إِشْبِيلِيَة سنة (426هـ=1235م) [7]؛ وذلك ليدحض دعوة يحيى بن علي الحمودي في الخلافة من ناحية، وليُكْسِبَ الشرعية السياسية لحُكم البلاد من ناحية أخرى، فبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام من أهل إِشْبِيلِيَة وأعيانها، بعث بالكُتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحدٌ سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بَلَنْسِيَة، والمُوَفَّق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وصاحب طُرْطُوشة[8].
أما الوزير أبو الحزم بن جهور فإنه أرسل الرسل ليتبيَّن حقيقة الأمر، ولما ظهر له كذبها رفض هذا الادعاء؛ إلا أن أهل قُرْطُبَة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وكادت تقوم ثورة ضدَّ ابن جهور، فزوَّر الشهادة؛ فَصَحَّت عنده الشهادة به، فبايعه وخطب له؛ بيد أن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة، ومطامعهم في أملاكها على نحو ما أراد ابن عباد، غير أن ابن جهور تراجع عن طاعته، خاصة أن القاضي ابن عباد طلب منه أن يدخل في طاعته باسم الخليفة هشام، فرفض ابن جهور وأعلن تَبَرُّؤَه من دعوته[9].
دعوة الوزير جهور للسلم وفض المنازعات بين الأمراء:
كانت سياسة الوزير أبي الحزم بن جهور سببًا مباشرًا في إقرار السلام والأمان والازدهار في قُرْطُبَة؛ وهذا ما جعلها موضع ثقة ملوك الطوائف الأخرى في بلاد الأندلس، وكانت الهيبة ورجاحة العقل صفتين تميَّزَ بهما الوزير ابن جهور، وهذا ما جعله موضع الوسيط العدل لفضِّ المنازعات والخصومات بين الأمراء المتنازعين، فحين كاد الصراع أن يحتدم بين المعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة والمظفر بن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس، حيث هاجم المعتضد بن عباد مدينة لَبْلَة الواقعة غربي إِشْبِيلِيَة، فاستغاث صاحبها ابن يحيى بالمظفر بن الأفطس لنجدته، فتحرَّك له، وأرسل جماعة من البربر لمهاجمة إِشْبِيلِيَة، وأرسل الوزير ابن جهور رسله ليُنْذرهم من رَحَى فتنةٍ تعصف ببلاد الأندلس، ويدعوهم إلى السلم وفضِّ النزاع، وهي السياسة نفسها التي اتبعها ابنه أبو الوليد محمد بن جهور بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس كذلك، على نحو ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
وكان لهذا النصح المتكرِّر من الوزير جهور وابنه أبي الوليد محمد أَثَرٌ في إنقاذ الأندلس من فتنة هوجاء عاصفة[10].
وفاة الوزير ابن جهور:
وهكذا عاشت قُرْطُبَة في ظلِّ حكومة الجماعة آمنة من الفتنة، فضلاً عن ذلك الازدهار الاقتصادي والأمن السياسي، وظلَّ الوزير ابن جهور حاكمًا لقُرْطُبَة حتى وافته المنية في صفر، وقيل: المحرم سنة 435هـ. وقد أجمع أهل قُرْطُبَة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكمًا عليهم[11].
ويجدر بنا هنا أن نذكر قصيدة لابن حيان يرثي بها أبا الحزم بن جهور، ويمدح فيها أبا الوليد بن جهور يقول: [الطويل]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ ضَمَّهَا الْقَبْرُ *** وَأَنْ قَدْ كَفَانَا فَقْدَهَا الْقَمَرُ الْبَدْرُ
وَأَنَّ الْحَيَا إِنْ كَانَ أَقْلَعَ صَوْبُهُ *** فَقَدْ فَاضَ لِلآمَالِ فِي إِثْرِهِ الْبَحْرُ
إِسَاءَةُ دَهْرٍ أَحْسَنَ الْفِعْلَ بَعْدَهَا *** وَذَنْبُ زَمَانٍ جَاءَ يَتْبَعُهُ الْعُذْرُ
فَلا يَتَهَنَّ الْكَاشِحُونَ فَمَا دَجَا *** لَنَا اللَّيْلُ إِلاَّ رَيْثَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ
وَإِنْ يَكُ وَلَّى جَهْوَرٌ فَمُحَمَّدٌ **** خَلِيفَتُهُ الْعَدْلُ الرِّضَا وَابْنُهُ الْبَرُّ
لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْعِلْقُ[12] أَتْلَفَهُ الرَّدَى *** فَبَانَ وَنِعْمَ الْعِلْقُ أَخْلَفَهُ الدَّهْرُ[13]
[1] الحميدي: جذوة المقتبس 1/29، وابن بسام: الذخيرة 2/603، 604، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186، 187.
[3] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، 29، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/23.
[5] التَّرْقِيح: إصلاح المعيشة، وترقيح المال إصلاحه والقيام عليه. الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الراء 1/366، وابن منظور: لسان العرب، مادة رقح 2/451.
[11] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/33، ، وابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، تحقيق الدكتور شوقي ضيف 1/56، وابن عذاري: البيان المغرب 3/187، 232، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص148.
التعليقات
إرسال تعليقك