التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الصراع بين إشبيلية وقرطبة، مقال د. راغب السرجاني، يتناول الصراع بين بني عباد في إشبيلية وبني جهور وبني ذي النون على امتلاك قرطبة عاصمة الأندلس وخاصة
أطماع بني عباد في قرطبة:
بدأ الصراع بين إشبيلية وقرطبة مبكِّرًا منذ أن بدأت أحداث الفتنة في بلاد الأندلس، وسنلاحظ دائمًا أن إشبيلية في ظلِّ بني عباد هي الطامع الذي لا يقنع إلاَّ بامتلاك ما في يد الآخرين، وكانت قرطبة محلَّ نظر بني عباد منذ أن استقلَّ القاضي أبو القاسم بن عباد بإشبيلية سنة (414هـ=1023م)، وظَلَّت عينه على قرطبة؛ إذ تُمَثِّل قرطبة مدينة الأندلس الأولى، ومحلَّ الخلافة المنصرمة، وإليها تهفو نفوس الأندلسيين من كل حدب وصوب، وكان أهل قرطبة وعلى رأسهم حاكمها الوزير جهور على علم بكل ذلك، وما يُخفيه ابن عباد وغيره من طمع فيها.
الوزير جهور وموقفه من دعوة ابن عباد لهشام المؤيد:
كان من أشهر أعمال القاضي أبي القاسم بن عباد أثناء ولايته -على نحو ما ذكرنا في المقالات السابقة- دعوته بظهور الخليفة هشام المؤيد وذلك سنة (426هـ=1035م)، ولم تكن نية ابن عباد من وراء ذلك إلا دحضًا لدعوى الحموديين بالخلافة؛ فالخليفة الشرعي قد بان وظهر، ومن ناحية أخرى إضفاء للشرعية السياسية في تدبيره وحكمه لإشبيلية؛ فهو يتوسَّع بأمر الخليفة الشرعي للأندلس كلها، الذي لا يملك من أمره شيئًا، وإنما الأمر والتدبير لابن عباد، الذي يُمْلِي عليه ما يُريد، والحقيقة أن هذا لم يكن خافيًا على ملوك الطوائف وخاصة الوزير ابن جهور حاكم قرطبة.
وبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة للمدعوِّ هشام المؤيد بإشبيلية، أرسل رسله إلى أمراء الأندلس يطلب منهم أخذ البيعة والنزول على حكم الخليفة الشرعي، بيد أنه لم يعترف به أحدٌ، سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، والموفق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية وصاحب طرطوشة[1]، وما يعنينا هنا هو موقف الوزير ابن جهور؛ إذ إن موقفه يهم ابن عباد والوزير نفسه؛ فابن عباد يعلم ثقل قرطبة في الأندلس، ويعلم ثقل الوزير ابن جهور ومكانته بين ملوك الطوائف، وسيطرته على قرطبة فاتحة له في السيطرة على الأندلس كلها، وأما الوزير ابن جهور فمع علمه بكذب الدعوة وافترائها، فهو يُريد أن يتخذها ذريعة لدفع دعوى الحموديين، الذين أرهقوه بغاراتهم على قرطبة محلِّ خلافتهم المزعومة، وامتلاكه لقوَّة ابن عباد سبيل لهذا الدفع.
بيد أن أهل قرطبة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وأعلنوه إمامًا للجماعة في الأندلس، ورفض ابن جهور في بادئ الأمر، وكادت أن تقوم ثورة ضدَّه في قرطبة، فأرسل رسله للوقوف على صحَّة ما يدَّعيه ابن عباد، ويبدو أنه باع دينه بعرض من الدنيا، وزوَّر شهادته، وأثبت صحَّة دعوى ابن عباد؛ ليدفع الحموديين عن قرطبة، وليُرْضِيَ أهل قرطبة ويدفعهم عنه، وأخذ ابن جهور البيعة لهشام المؤيد المزعوم، وخطب له في مساجد قرطبة وجامعها.
يبدو أن الوزير ابن جهور تراجع عن بيعته وأعلن كذب هذه الدعوة، وكان ذلك إيذانًا بالحرب بينه وبين ابن عباد، الذي جمع جيشه واتجه صوب قرطبة لإسقاطها بالقوَّة، وفرض الحصار على قرطبة أوائل (427هـ=1036م)، وأمر ابن جهور بسدِّ أبواب المدينة أمامه، ولم يجد القاضي ابن عباد جدوى من الحصار، فجمع جيشه وجرَّ أذيال خيبته أمامه ووراءه إلى إشبيلية[2].
المعتضد بن عباد وإثارة الفوضى داخل قرطبة:
هدأت الأمور نوعًا ما بين إشبيلية وقرطبة، وانشغل كلٌّ من القاضي ابن عباد والوزير ابن جهور في توطيد مملكتيهما وحروبهما الأخرى، ومرَّت السنوات وتُوُفِّيَ القاضي ابن عباد، وملك من بعده المعتضد سنة (433هـ=1042م)، كما تُوُفِّي الوزير ابن جهور، وملك من بعده ابنه الوزير أبو الوليد محمد بن جهور سنة (435هـ=1044م)، وسارت الأمور هادئة، ولكن يبدو أن أبا الوليد آثر الراحة، فقدَّم ولده الأصغر عبد الملك على ولده الأكبر عبد الرحمن، وسيطر عبد الملك بن جهور على مقاليد قرطبة، وكانت بين عبد الملك والمعتضد صداقة ووُدٌّ، ولا يخفى علينا أنها صداقة مصالح، كما لا يخفى علينا أن المعتضد فاغر فاه على قرطبة يُريد أن ينتزعها، فكانت الصداقة تمهيدًا لما يُريد.
على كل حال سيطر عبد الملك بن جهور على قرطبة، إلاَّ أنه أساء السيرة، وسار بين الناس بالمعاصي، وعَمَّت الفوضى البلاد، فلما رأى ذلك أوكل أمور قرطبة سنة 440هـ إلى وزيره ابن السقاء؛ فضبط الأمور، وسار بين الناس بالعدل والحقِّ، وعاد الأمن والأمان مرَّة أخرى، وساد الاستقرار، وتقوَّت قرطبة بعد أن أصابها الضعف، والمعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب، وقرطبة كانت بين قاب قوسين أو أدنى منه؛ فعمد إلى الوقيعة بينه وبين وزيره وأوغر صدره عليه، حتى فتك به بكمين كمنه له، وكانت محنة الوزير ابن السقاء سنة (455هـ=1063م) [3].
وهكذا تدخَّل المعتضد بقوَّة في شئون قرطبة، واستطاع أن يفتك بالوزير القوي ابن السقاء، وبذلك انفرد عبد الملك بالسلطة؛ فتجبَّر وأساء السيرة بين الرعية، وعَمَّت الفوضى ثانية، وهنا تدخَّل الوزير أبو الوليد بن جهور وعمد إلى تقسيم السلطة بين الولدين، وذلك عام (456هـ=1064م)، فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في الصكوك السلطانية المتضمِّنة للحَلِّ والعقد، وجميع أبواب النفقات، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والتولِّي لعرضهم، والإشراف على أعطياتهم، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم، وجميع ما يخصُّهم، ورَضِيَ الأخوان بذلك، إلا أن عبد الملك تَغَلَّب على أخيه؛ فسجنه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، واستبدَّ بالأمر دونه، وانصرف الناس عنه[4].
الصراع بين بني عباد وبني ذي النون على قرطبة:
لم تَخْفَ هذه الأحداث على المعتضد لحظة واحدة؛ فهو يُراقبها عن كثب، كما أنها لم تَخْفَ على ملوك الطوائف الآخرين، وخاصَّة المأمون بن ذي النون صاحب طلطية، ويمكن أن نقول: إن قرطبة كانت موضع صراع عنيف وسريع في الوقت نفسه بين إشبيلية وطلطية؛ إذ إن قرطبة في المنتصف بينهما وعلى الحدود الجانبية لكلٍّ منهما، فلِمَنْ يا ترى تنتهي به الأحداث فيُحكم قبضته على قرطبة؟!
هذا ما ستوضحه السطور القادمة..
عَمَّتِ الفوضى أرجاء قرطبة وانفلتت الأمور من يد عبد الملك بن جهور، وكانت هذه فرصة ذهبية لمن يُريد الانقضاض على قرطبة، ويبدو أن المأمون بن ذي النون قد أعدَّ لقرطبة عُدَّتها، وكان هو كذلك يُراقب الأحداث عن كثب، فجهَّز جيشه وأسرع ناحية قرطبة وأغار عليها سنة (462هـ=1070م)، ولم يجد عبد الملك بن جهور مَنْ يستغيث به سوى صاحب إشبيلية، وهو حليفه وصديقه المعتمد بن عباد؛ إذ تُوُفِّيَ المعتضد بالله سنة (461هـ=1069م)، وعلى الفور أرسل له المعتمد سرية مُكَوَّنة من أربعة آلاف، عليها قائداه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، ووصل الجيش الإشبيلي إلى قرطبة، ونزلوا في ربضها الشرقي، واستطاعوا أن يَرُدُّوا جيش ابن ذي النون عنها.
المعتمد بن عباد والسيطرة على قرطبة:
يبدو أن المعتمد بن عباد دبَّر مكيدته مسبقًا، وعزم على الاستيلاء على قرطبة، وأعطى أوامره لقائديه بذلك، كما يبدو أن الظروف في قرطبة قد هيَّأت له أمر السيطرة عليها؛ إذ عَمَّت الفوضى وانتشر الفساد، وكره أهل قرطبة عبد الملك بن جهور، فأرسلوا إلى القائدين ابن مرتين وخلف بن نجاح أن يقبضوا على عبد الملك بن جهور، وأن تكون المدينة في طاعة المعتمد بن عباد، فاجتمعت الخطتين معًا، خطة المعتمد المسبقة وخطة أهل قرطبة، ودُبِّرَت المكيدة على أحسن وجه؛ إذ تظاهر قائدَا الجيش الإشبيلي بالانصراف والعودة، وذهب القائدان ومن معهما إلى وداع عبد الملك بن جهور بباب المدينة، وهنا اقتحم الجيش الإشبيلي الأبواب وملك المدينة، وسار الجنود في قرطبة سلبًا ونهبًا وسرقة وفسادًا، ودخلت قرطبة في طاعة المعتمد بن عباد، وكان ذلك في شعبان (462هـ=1070م)، وقد اعْتُقِلَ عبد الملك بن جهور وأهله وأخوه عبد الرحمن وأُرسلوا إلى إشبيلية مراعاة للحزم.
وأما الشيخ القعيد أبو الوليد بن جهور فقد نُفِيَ إلى جزيرة شَلْطِيش، وكان مما حُفِظَ عنه قوله: اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجبه لنا. فمات بعد أربعين يومًا من نكبته وسقوط دولته[5].
ومنذ ذلك التاريخ ارتبط اسم قرطبة بإشبيلية، وجعل المعتمد بن عباد عليها ابنه المعتمد الحاجب سراج الدولة الملقب بالظافر، ووزيره محمد بن مرتين، وأقام الظافر ملكًا على قرطبة باسم أبيه، وظلَّ المأمون صاحب طلطية يتحين الفرص للسيطرة على قرطبة، وتمَّ له ذلك سنة (467هـ=1074م) إثر مكيدة دبَّرها المأمون مع رجل يُسَمَّى بحَكم بن عُكَّاشة ضد الظافر بن المعتمد؛ حيث دخل ابن عكاشة على الظافر بن المعتمد وقتله وحزَّ رأسه، واستولى على أبواب المدينة برجاله، كما قَتَل ابنَ مرتين وهو غارق في شرابه ولهوه.
ودخل المأمون قرطبة في موكب عظيم في جمادى الآخرة سنة 467هـ، وما لبث المأمون أن اعتلَّ بقرطبة ومات بها، وحُمِلَ تابوته إلى طلطية في ذي القعدة (467هـ=1075م)، وما لبثت قرطبة أن عادت إلى حوزة المعتمد بن عباد مرَّة أخرى؛ إذ دخلها بجنده بعد أن راسله أهل قرطبة، وتغلَّب على ابن عكاشة، وحزَّ رأسه ثأرًا لابنه الظافر، واستخلف المعتمد عليها ابنه الفتح الملقب بالمأمون، وكان ذلك في ذي الحجة (467هـ=1075م)[6].
[2] انظر التفاصيل في: ابن عذاري: البيان المغرب 3/190، 198، 199، 201، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
[4] ابن بسام: الذخيرة 2/606، 607، وابن عذاري: البيان المغرب 3/258، 259، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149.
التعليقات
إرسال تعليقك