ملخص المقال
حوار مع د. راغب السرجاني في مجلة التبيان الإسلامية يؤكد فيه أن تجديد الخطاب الديني بتغيير الأصول أمر مرفوض
** بداية نود معرفة رؤيتكم عن الداعية المسلم؟
- يتخيل بعض المسلمين الداعية المسلم على أنه الداعية المتكلم الخطيب الذي يعطي محاضرات ودروسًا، بينما أنا أعتقد أن الداعية المسلم هو كل مسلم صادق يتحرق شوقًا إلى رؤية الإسلام سائدًا على وجه الأرض، ولا يشترط أن يكون بليغًا في الخطابة أو في الشعر أو في الأدب أو في الأمور الشرعية والفقهية وما إلى ذلك.. أبدًا؛ فالرسول r أعطى حدًّا للداعية لا يتخلف عنه مسلم واحد فقال: "بلغوا عني ولو آية". فكل مسلم يعرف آية أو أكثر مأمور أن يوصِّلها للناس؛ فالطبيب يمكن أن يكون داعية مع مرضاه، والمهندس داعية مع عملائه، والمدرس داعية مع تلاميذه، وكلٌّ في مهنته يمكن أن يكون داعية.. العالم داعية، والمتعلم داعية، والحاكم داعية، والمحكوم داعية، الغني داعية، والفقير داعية، كل طوائف المجتمع دعاة إلى الله U، شريطة أن يتوافر الصدق ويتوافر العلم والمعلومة التي يدعو الناس إليها.
وبالرجوع إلى تاريخ الدعوة نعرف ما هي الدعوة إلى الله U، حينما ننظر مثلاً إلى الطفيل بن عمرو الدوسي عندما جلس مع الرسول r دقائق معدودة أو سويعات بسيطة، فعرف منه معنى الإسلام واستأذن النبي r أن يدعو دوسًا "قبيلته" إلى الإسلام، فأذن له رسول الله r، مع أن في الصحابة من هو أرسخ منه في الإسلام قدمًا، وأكثر منه علمًا، ومع ذلك لم ينكر عليه النبي ذلك بل شجعه، ودعا لقبيلته فكان الفتح على يديه.
** البعض يحلو له أن يسمي كثير من الدعاة المشهورين الجدد دعاة النوادي، فما تعليقكم؟
- كلمة دعاة كلمة واسعة، لو كل الدعاة مارسوا دعوتهم في المسجد فلن تجد أحدًا يدعو في الشارع أو النادي أو الحقل، لكن هناك نوعًا من التكامل، فهذا الذي يعمل في النادي استطاع أن يصل إلى مكان لم يصل إليه أحد قبله، وفي النهاية فكل هذه وسائل يجب استثمارها من أجل الوصول إلى الغاية التي نرجوها جميعًا.
** هل ترون ابتعاد الأكاديميين المؤهلين من قبل المؤسسات الدينية كالأزهر مثلاً عن ميدان الدعوة هو سبب انتشار موجة الدعاة الجدد؟ أم أنه تطور إيجابي بغض النظر عن وجود الأكاديميين أو غيابهم؟
- لا شك أن الأزهر يزخر بالعلماء الأجلاء الذين أعطاهم الله علمًا وأدبًا يصلون به إلى قلوب الناس، لكن المجهود أو النتائج المحصلة أقل بكثير؛ لأن هناك أناسًا كثيرين أخذوا جانبًا أكاديميًّا ولم يختلطوا بالمجتمع، وأصروا على نمط معين والناس لم تقبلهم، فحدث نوع من الحاجز بينهم وبين الجماهير المسلمة رغم علمهم الوفير.
لكن داعية آخر يأخذ شكلاً لا أريد أن أقول إنه متطور لكنه شكل قريب ممن يتكلم إليه، حيث يشعر المستمع أو المشاهد أنه منهم، فيحدث التأثير المنشود؛ ولذلك فأنا أرى أن ظهور الدعاة البدلاء عن علماء الأزهر أمر منطقي، فلو أن عالم الأزهر أخذ دوره لما استطاع الآخر أن يجد له دورًا، لكن غياب الأول عن الساحة هو أساس ظهور الآخر، حتى ولو لم يكن هذا الآخر مؤهلاً بطريقة أكاديمية إلا أنه يمتلك حمية وغيرة على الإسلام، ويرى أن الذي عنده العلم لا يتكلم به وسط الناس، فماذا يفعل هل يسكت.. إنه يتكلم، فهذا نوع أنا أسمِّيه جهد المقل، لكن مطلوب من العالم الذي أُعطى العلم أن يسد هذه الثغرة، ويؤدي شكر النعمة، فيوصل العلم.
أما بخصوص كونها ظاهرة إيجابية أو سلبية، فأنا أقول: إنها ظاهرة إيجابية أن يظهر دعاة عندهم حمية على الرغم من عدم حصولهم على العلم الكافي، بشرط ألا يخرجوا عن ثوابت الإسلام، وظاهرة سلبية جدًّا أن تكون طاقة الأزهر الخارجة منه أقل من عشر إمكانياته.
الجماعات الإسلامية
** كيف يرى د. راغب ما يمكن أن يسميه البعض خلافًا بين الجماعات الإسلامية؟ وهل ترون في تعدد الجماعات الإسلامية دليلاً على ثراء الحركة الإسلامية أم أنه ظاهرة سيئة؟
- أرى أن الخلاف بين الجماعات الإسلامية قد يكون خلافًا محمودًا أو إيجابيًّا ما دام بعيدًا عن الأصول الثابتة؛ لأن كل جماعة تسد ثغرة من الثغرات فيحدث التكامل بين الجماعات، لكن الخطورة تكمن في انشغال الجميع بنقد الآخر وترك الدعوة إلى الله، فيذهب الدور الذي تجمعوا عليه. أما اجتماع الجميع في حركة واحدة، ففوق أنه خطر على الدعوة ذاتها فهو كذلك ليس من السنن؛ فالناس تقول شدائد ابن مسعود ورُخص ابن عباس مع أنهم تخرجوا في مدرسة واحدة وعاشوا في قرن واحد، لكن الاختلافات واردة، وكذلك فالمواهب تختلف؛ فخالد بن الوليد خبير في العسكرية، وابن مسعود يعرف الفقه، وأبيّ بن كعب قارئ مجيد للقرآن، وهذا مما يعطي الدعوة الإسلامية مزيدًا من المرونة والتكامل.
أما بخصوص تعدد الجماعات فهو ليس ظاهرة سيئة كما بيّنا إلا إذا كانت الجماعة خارجة عن القرآن والسنة.
** لكثرة سفرياتكم إلى أوربا وأمريكا كيف ترون نظرة الغرب على مستوى القاعدة الشعبية للإسلام والمسلمين؟
- الشعب الأوربي والأمريكي بالذات يعاني من جهل شديد.. شعب غير مثقف.. الشعب الأمريكي منغلق على نفسه لا يسمع عن العالم إلا من خلال وسائل الإعلام الخاصة به.
كلينتون قال: "إن من أكبر المشاكل أن الشعب الأمريكي جاهل بالواقع الذي يعيش فيه"؛ ولهذا يتأثر بالإعلام الذي يعيش بداخله، ومعظم وسائل الإعلام مملوكة لليهود والباقي محارب للإسلام ومتطرف جدًّا.. فالمعلومات الواصلة للأمريكان عن الإسلام تصل عن طريق وسائل الإعلام اليهودية، ولك أن تتصور ما وصل إليهم بدون الدخول في تفاصيل.
وقد ازداد الموقف سوءًا بعد أحداث سبتمبر، والتي لا أرى لها أي سند شرعي بل العكس، فأنا أرى أنها أساءت للإسلام إساءة بالغة، المهم أين نحن من هذه القضية إذا كان اليهود يعملون بهذه الطريقة؟! فلا بد أن أصل إليهم بالدعوة إن كانوا معارضين، فيجب أن أذهب إليهم لدعوتهم إلى الإسلام؛ فالدعوة واجبة عند الهجوم على الإسلام.
** في إحدى ندواتك قلت: "إننا سنسأل عن هؤلاء الذين لا يدينون بالإسلام لمَ لمْ نبلغهم دعوة الإسلام"، فهل يعني ذلك أننا مقصرون في عرض الدعوة؟ وما هي الأدوات التي ترونها لتفعيل هذا العرض؟
- إن طاقاتنا أضخم بكثير من إنتاجنا، وهذا لا يدعو إلى الإحباط واليأس أبدًا، بل هو مبشر بالخير، فلو أن معك سيارة وتوقفت بك فجأة ومعك كمية من البنزين، فهل تحزن لوقوفها، وهل تظل واقفًا أم أن عليك أن تضع البنزين في السيارة؟
إننا نحتاج فقط إلى حركة واعية بظروف أمتنا، أما الإمكانيات فكثيرة ولكنها معطلة.. فمثلاً عندنا الطاقات المالية لعمل قنوات فضائية إسلامية نستطيع أن نغزو بها هؤلاء، عندنا الموارد البشرية التي أستطيع تفعيلها لمخاطبة هؤلاء الناس بلغاتهم، وما أكثر المسلمين الذين يتحدثون بلغات فرنسية وإنجليزية وألمانية، وهناك مساحة مفتوحة للكلام أستطيع استثمارها.
تجديد الخطاب الديني
** "تجديد الخطاب الديني" مصطلح تردد كثيرًا في الآونة الأخيرة.. فما رؤيتكم له؟
- لفظ تجديد الخطاب الديني كلمة مطاطية، فلو حُملت على أنني أتكيف حسب الظرف لأصل بالمنهج الأصيل إلى المستمع فهذا شيء طيب، وأعتقد أنه أصل من أصول الدعوة في الإسلام، فأنا أوصل معلومة عن طريق المسجد أو الشريط أو CD، أنتقل من مكة إلى المدينة بالجمل أو السيارة، أخرج كل الإمكانيات داخل النادي أو المصنع أو الجامعة فهذا مقبول ومطلوب، لكن إذا كان الغرض تغيير الأصول فهذا مرفوض، أن أكلم الناس بكلام ليس في الكتاب والسنة، أن ألوى عنق النصوص للوصول إلى إرضاء الأمزجة والأهواء تحت دعوى التجديد والمرونة والتيسير، فهذا قمة الإفك والتضليل.
** في ظل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام وثوابته، كيف ترون تفعيل الجهود الدعوية على الساحة؟
- كلما ازدادت الأزمة ازداد العمل، ومن أشد المؤثرات التي ينبغي أن تدفع الدعاة للعمل أن يروا أعداء الدين وحركتهم من أجل الصد عن هذا الدين؛ مما يدفعهم إلى المبادأة للوصول بالدعوة إليهم قبل أن يتحركوا.
فالمفترض كرد فعل لهذه الهجمة أن نملك نحن زمام المبادأة، ألا نتباكى على ما يحاك لنا من مؤامرات بل نعمل جاهدين من أجل تعرية هؤلاء المتآمرين أمام العالم، وأن نفعِّل كل الطاقات التي تمتلكها الأمة من إعلام وتعليم وموارد بشرية وخبرات دعوية وعلمية، لنصل في النهاية إلى وضعية تسمح لنا بامتلاك زمام المبادأة.
العمليات الاستشهادية
** في ظل المحنة التي يعيش فيها إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من الأقطار الإسلامية المحتلة، كيف يرى د. راغب السرجاني العمليات الاستشهادية والتي كثر الجدل بشأنها؟
- العمليات الاستشهادية أمر مشروع ولكن حسب مكانها؛ ففي فلسطين مثلاً لا يوجد يهودي يسمى مدنيًّا، سواء كان رجلاً أو امرأة أو شيخًا، إلا الأطفال فهم غير محاربين لأنهم غير مكلفين.
فالمجاهد البطل لا يجد أمامه وسيلة يستطيع التأثير بها في عدوه إلا الحجر والحزام الناسف الذي يضعه حول جسده، بعد أن تخلى العالم كله عنه، فهو شهيد في سبيل الله، وجمهور العلماء الذين يعتد بهم أفتوا بذلك.
أما العمليات التي تتم مع الآمنين داخل بلادهم حتى وإن كانت هذه البلاد تحارب الإسلام، فهذا لا يجوز أبدًا، فأنا لا أجرؤ ولا غيري على إهدار دم إنسان آمن، إن في الإسلام أخلاقيات تسمى أخلاقيات الحرب؛ فالرسول -عليه الصلاة والسلام- عندما كان يخرج الجيش كان يقول لهم: "...ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا"، وزاد أبو بكر "إذا وجدتم قومًا في الصوامع فاتركوهم"، وعمر بن الخطاب عندما خرجوا إلى قتال فارس قال لهم: "اتقوا الله في الفلاحين"؛ ذلك لأنهم مدنيون، فهؤلاء المدنيون ليس هناك أي مبرر لقتلهم، على العكس فهو يشوِّه صورة الإسلام.
** ما هو تصوركم للإعلام القائم بالفعل في البلاد الإسلامية هل يخدم الدعوة الإسلامية ويعتبر من أدواتها أم العكس؟
- الإعلام في البلاد الإسلامية من أهم أسباب الانحطاط، فهو -للأسف- من أكبر وسائل الصد عن سبيل الله.. ودائمًا أقول: هناك أمران إن صلحا صلحت الأمة كلها، وهما التربية والتعليم والإعلام.
التعليم والإعلام مسئولان عن تكوين الفكر، فمهما امتلكت الأمة من إمكانات عسكرية واقتصادية وغيرها، وهذان العنصران غير صالحين فلن تقوم لها قائمة والعكس صحيح؛ ذلك لأن بناء الفكر من أخطر عوامل بناء الأمم.
وأعتقد أن الإعلام عندنا الآن ينطبق عليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
فالإعلام يرى أنه يعمل على الفضيلة وهي الرذيلة؛ تجد مثلاً ممثلة إباحية تخرج تتكلم عن رسالتها للشباب ودورها في تغيير المجتمع إلى الإصلاح، وهي من أشد الناس إفسادًا، كذلك فإن مساحة الإسلام في الإعلام قليلة جدًّا، ولا يسمح إلا بالشخص الذي يتكلم في الإطار المسموح به.. بصراحة الإعلام يعاني من مشكلة خطيرة فعلاً، ويحتاج لكل إنسان لديه غَيرة على دينه.
معوقات الدعوة
** ما هي من وجهة نظركم معوقات الدعوة على مستوى العالم الإسلامي؟
- أنظمتنا الحاكمة التي تقنِّن خروج الدعوة في إطار معين يخدم المصالح هي أكبر معوق من معوقات الدعوة، وللأسف بعض الدعاة انساقوا خلف هذه الأمور فأصبحوا يتلمسون الأعذار لهذا التقنين، بل ويعملون على إضفاء الشرعية عليه، وهذا من أخطر المصائب أن تجد عالمًا مسموع الكلمة له باع في العلم يتبع النظام الحاكم، وينسى القضية ويُضِلّ بفتواه.
ومن المعوقات أيضًا غياب الأولويات وخاصة عند شباب الدعوة، ومن يظن العلم كله في كلام شيخه وفي الكتاب الذي قرأه، فتراه يتكلم في قضية لا نقول إنها غير مهمة، ولكنه يترك الأهم الذي تفرضه الظروف والأحوال ومقتضيات العصر، وفقه الواقع الذي نحياه. وهناك كذلك معوقات اقتصادية، ولكني أعتقد أنها أقل المعوقات تأثيرًا عند الدعاة الصادقين.
نصيحة للشباب
** وأخيرًا، ما هي نصيحتكم لشباب الدعوة الإسلامية؟
- لا تيئسوا من كثرة الاضطرابات والضغوط على القضية الإسلامية.. لا بد من الأمل، الشباب لا بد أن يؤمن أنه لا يوجد ما يسمى بالمستحيل، فهذه دورة من دورات التاريخ.. كنا في فترات كثيرة نقود الأرض، ومن المؤكد أننا سوف نعود إلى قيادتها مرة أخرى، وهذا وعد الله I: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
نصيحتي للشباب أيضًا ألا يشغل وقته بالتعليق على أفعال الآخرين، بل يحاول أن يكون إيجابيًّا في ذاته وفيمن حوله، يصلح قدر المستطاع في البيئة المحيطة به.. مدرسته، أسرته، جامعته، على قدر ما يستطيع أن يصلح، وليعلم أن الله يحاسب على الأعمال ولا يحاسب على النتائج.
المصدر: مجلة التبيان، عدد ديسمبر/ يناير 2005م.
التعليقات
إرسال تعليقك