الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
دور الأوقاف الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية، وكيف كان دعامة للتكافل الاجتماعي، وأبرز أنواع هذه الأوقاف في الحضارة الإسلامية
يعتبر الوقف الإسلامي الخيري دعامة للتكافل الاجتماعي، ووسيلة من وسائل علاج مشكلة الفقر في المجتمعات الإنسانية.
وقد شرعت الأوقاف ليكون ريعها صدقة جارية وعملا خيريا لا ينقطع، يدر الثواب المتصل على الواقفين، ويدر الخير العميم الوافر على المحتاجين والمستحقين.
الأوقاف والتضامن الاجتماعي
إن الأوقاف قامت بدور كبير في مجال التضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، لأنها وإن تعددت جهاتها وأبعادها، تؤول إلى جهة بر لا ينقطع، وهي في الغالب للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والغرباء والمنقطعين والضعفاء وذوي العاهات والحاجات والأطفال المحرومين.
لقد وجد هؤلاء جميعا الرعاية التامة في ظل المجتمع الإسلامي بفضل المؤسسات الخيرية وأعمال البر الدائمة التي تدرها الأوقاف. هذه الرعاية تعبير عملي عن روح التضامن الاجتماعي الحقيقي الذي غرسه الإسلام في النفوس، وجعله من أهم مرتكزات نظامه الاجتماعي.
ويعد هذا التضامن المرتكز على الوقف أرقى من نظام الضمان الاجتماعي المعمول به في العصر الحاضر بكثير، لأن الوقف عمل تطوعي، وعبادة مالية يؤيدها الأغنياء والموسرون للفقراء والمساكين والضعفاء؛ طلبا للثواب عند الله، وخدمة للمحتاجين من الناس، ولأنه مورد دائم تستفيد منه أجيال كثيرة، ثم لأنه مستقل عن الأجهزة الإدارية المركزية المعقدة.
كان الوقف هو حجر الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من ضرب المثل الأعلى لأمته في ذلك، فوقف سبع بساتين كان أوصى بها يهودي من أهل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصرف فيها كيف يشاء، فوقفها صلى الله عليه وسلم بعد موت اليهودي على الفقراء والمساكين والغزاة وذوي الحاجات.
الحث على الرعاية الاجتماعية والبر
والرعاية الاجتماعية والبر بالفقراء والمساكين مقصد من مقاصد الإسلام، أولاه القرآن الكريم عناية كبيرة، فحض في كثير من الآيات على الإحسان وإطعام المساكين والإنفاق على الفقراء.
وبرز هذا المقصد في السنة النبوية كذلك، وظهر جليا في الأحاديث التي تعد أصولا لتشريع الوقف، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما نشره أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته"[1].
وكما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ورد فيه أنه قال: "يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف"[2].
انطلاقا من التوجهات القرآنية التي تحض على رعاية حقوق الضعفاء والمساكين، ومن هذه الأحاديث التي برز فيها القصد إلى الرعاية الاجتماعية واضحا، تتابع المسلمون على مر الأجيال يحبسون الأراضي والعقارات والبساتين والغلات والدور لأعمال البر ونفع المحتاجين، مما ملأ المجتمع الإسلامي بالمؤسسات الخيرية.
من أنواع الأوقاف في الرعاية الاجتماعية
ووجوه البر وأبواب الإحسان والرعاية التي نشأت في المجتمع الإسلامي بفضل الوقف كثيرة، فهناك أوقاف للقطاء واليتامى لإيوائهم ورعايتهم وختانهم.
وهناك أوقاف مخصصة لرعاية المقعدين والعميان والشيوخ والعجزة، وأوقاف لإمدادهم بمن يقودهم ويخدمهم، وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات ممن تضيق أيديهم وأيدي أوليائهم عن نفقاتهم، وفي بعض المدن دور خاصة حبست على الفقراء لإقامة أعراسهم، وهناك أوقاف لإمداد الأمهات المرضعات بالحليب والسكر.
ويذكر المؤرخون بإعجاب شديد أن من مبررات صلاح الدين الأيوبي أنه جعل في أحد أبواب القلعة في دمشق ميزابا يسيل منه الحليب وميزابا يسيل منه الماء المحلى بالسكر، تأتي إليه الأمهات في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر[3].
وهناك أوقاف لإنشاء دور للضيافة والاستراحة (الخانات)، وأوقاف لقضاء الديون عن المعسرين، وأوقاف للقرض الحسن، وأوقاف لتوفير البذور الزراعية ولشق الأنهار وحفر الآبار.
ومن أهم المنشآت الاجتماعية التي نشأت في المجتمعات الإسلامية بفضل الإقبال على الوقف أسبلة المياه الصالحة للشرب (السقايات)، وكان من تقاليد الوقف أن تلحق الأسبلة بالمساجد، وغالبا ما تكون وسط المدينة أو على طرق القوافل، لتكون في متناول الجميع.
وشاع الوقف لهذا الوجه من البر في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لعظيم فضله وثوابه، وهناك أوقاف مشهورة في التاريخ لتزويد مكة المكرمة بالماء الطاهر الطيب، وأشهرها وقف السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد، وما زال يعرف بعين زبيدة [4].
إن كل هذه الأوقاف والمؤسسات الخيرية الاجتماعية الناشئة عنها تدل على الدور الحيوي الكبير الذي كان الوقف يقوم به في مجال الرعاية الاجتماعية، وتوفير الأمن الغذائي، وعلاج مشاكل الفقر، وتوفير الماء الصالح للشرب، وإطعام الفقراء والمساكين، وأداء الدين عن الغارمين، وإنشاء صناديق للقرض الحسن، إلى ما لا يعد ولا يحصى من وجوه البر والعمل الاجتماعي النافع الذي ينسج روابط المحبة وعلاقات التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع وطبقاته.
فأين هذه المبرات؟ كيف اختفت وتقلصت من مجتمعات المسلمين؟ أين الأيدي الرحيمة التي تمسح دموع اليتامى، وتصون الأرامل، وتعين المحتاجين، وتجعل المسلم أينما حل يشعر بالعزة والكرامة، وتجعل الأمة الإسلامية أمة واحدة متراصة ينعم فيها الناس جميعا بالأمن والخير والكرامة والسلام؟
[1] ابن ماجه: سنن ابن ماجه (242)، قال الألباني: حسن.
[2] رواه البخاري (2586، 2620)، ومسلم (1632).
[3] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، ص127.
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 144.
التعليقات
إرسال تعليقك