ملخص المقال
كان عبد الله بن المبارك مثالا يحتذى به في الشمولية الغائبة وكثرة ما اجتمع فيه من الخير والنفع؛ فهو العالم، وهو المجاهد، وهو الزاهد، وهو المنفق المتصدق
كان عبدُ الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- مثالاً يُحتذى به في شموليته وكثرة ما اجتمع فيه من الخير والنفع، فهو العالم، وهو المجاهد، وهو الزاهد، وهو المنفق المتصدق! يصدق فيه حديثُ النبي r: "إنّما النّاسُ كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة"[1].
فكأنّه t راحلة في هذه المائة، يُوصل الخير بالخير، يحجّ فينفق على من معه من أهل بلدته، ويجاهد في سبيل الله فيعلّم المسلمين أمورَ دينهم، يبثّ حديث النبي r، ويصل إخوانَه العلماء المحدّثين.
يقول العباس بن مصعب: جمع عبدُ الله (يعني: ابن المبارك) الحديثَ، والفقهَ، والعربيةَ، وأيام الناس، والشجاعة، والسخاء، والتجارة، والمحبة عند الفرق.
ويقول إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثلُ ابن المبارك، ولا أعلم أنّ الله خلق خَصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك.
ويقول الحسن بن عيسى بن ماسرجس مولى ابن المبارك: اجتمع جماعـةٌ مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نعدّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير.
فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهـد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعـة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.
وقد سبق عبدَ الله بن المبارك في هذا أقوامٌ من الصحابة والتابعين، ثم لحقهم آخرون من صالح هذه الأمّة في كلّ زمان ومكان، حتى استقرّ الأمرُ بنا نحن الكسالى وأهل التفريط! فلا يكاد يجتمع في واحد منّا حتى عمل واحد من أعمال الخير يُعرف به، أو ثغر هو قائم عليه! بل غاية ما عندنا كلام إثر كلام! وعلى الإسلام السّلام.
لستُ يائسًا أو مقنطًا، والنبي r يقول: "أمتي كالمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره"[2]، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، يستعملهم في طاعته"[3]. لكنّني -ككلّ محبٍّ- لا يرضى بأحوالنا وما آل إليه أمرُنا، كما أرجو أن تكون كلمتي تلك محفزًا ودافعًا لي ولإخواني.
وقد اشتهر عن كثير من السلف y ملازمتُهم ومداومتُهم على أنواع معيّنة من العبادات، كالقيام، أو الصيام، أو الجهاد، أو الصدقة، أو العلم.. حتى يُعرف الواحد منهم بما لازمه من عبادة، فيقال عنه: كان صاحب ليل، أي قيام بالليل، أو تهجد، أو كان صاحب صيام، أو صاحب ذكر وخشية، أو صاحب جهاد، وهكذا.
والعبد ما دام محافظًا على ما أوجبه الله تعالى عليه من الفرائض مجتنبًا لما حرمه عليه من الذنوب والآثام فهو على خير، فإن فتح الله عليه في باب من أبواب الخير فعليه ولُوجه واستغلاله، حتى يكون سبب نجاته أو رفع درجاته عند الله U.
ومن السلف من حباه الله تعالى، فجمع بين العبادة والعلم، أو بين العلم والجهاد، أو بين الدعوة والجهاد، أو بينها جميعًا، وهم قديمًا كثيرون، يسأل النبي r أصحابه: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ فيقول أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله r: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"[4].
فأبو بكر t جمع في يوم واحد بين الصيام وإطعام المسكين واتباع الجنازة وعيادة المريض، وهذا غير ما لا نعرفه من سائر عمله في هذا اليوم، أما حاله أولاً فقد جمع بين أصناف العلم والعمل والجهاد والدعوة.
وقد قلّ فينا جدًّا اليومَ من فُتح له أكثر من باب من أبوب الخير، وذلك لأسباب شتى، أحاول الوقوف على بعضها:
- عدم فهم شمولية عبادة الله تعالى، فيقصرها الإنسان منا على عبادات معيّنة أو معاملات معيّنة وهكذا، في حين إن أمر العبودية يسعُ كل دقيقة في هذا الكون، والمرء قد يحصّل من الخير بفهم شمولية العبودية ما لم يحصّل عُشْرَه من لم يفهمها.
- السعي الحثيث وراء الدنيا والانشغال بها عن الآخرة، وهذا مشاهد جدًّا فينا الآن، فلا يكاد يفرّغ المرء من وقته دقائق لله تعالى! ولو صدق الواحد فينا مع الله U لاستعمله الله تعالى فيما يحب ويرضى.
- ضعف الإخلاص الباعث على الانكباب على ما وافق حظوظَ النفس، والاستغناء أو التفريط في أولويات العمل المفترضة لثقلها، كحبّ طلب العلم وإهمال الدعوة إلى الله، وإظهار أمر الجهاد وضعف الوازع الديني، الذي هو ثمرة التعبّد وتربية النفس على معاني الدين جملة، وهكذا.
- انقطاع الصّلة بيننا وبين سلفنا، فمطالعة أخبارهم وأحوالهم تحرّك في النفوس الشوق إلى التأسي بهم والاقتداء بعملهم.
ومن هنا كان تذاكر أحوال السلف دافعًا ومعينًا على تحقيق الشمولية الغائبة فينا، على أنّ السلف تنافسوا في المستحبات والمقامات العليا، ونحن نجاهد أنفسنا على الفرائض والواجبات! والأمر يحتاج لنفس ذكية تؤثر مرضاة الله تعالى، وتعي خطر الموقف يوم القيامة.
وتحقيق الشمولية في واقعنا المعاصر ليس ضربًا من ضروب المستحيل، وإن كان عملاً لا يقوى عليه إلا الرجال، والعبرة فيه ليست بالكمّ الكبير بقدر ما هي بالكيف الصحيح.
وأولّ ذلك:
- استشعارُ العبد حاجتَه للعمل الصالح الذي هو زاده في رحلته إلى الله والدّار الآخرة، وأنّه بدونه يرد على الله تعالى مفلسًا ومعرضًا نفسه للخيبة والخسارة.
- ومراقبة قلبه وما يعتريه من أمراض خفية، تعوقه عن الخير، وتجعله يركن إلى الدّعة والراحة والكسل وحبّ البطالة ونسيان وظيفة العمر، وفي النهاية تسوقه إلى الهلكة والعياذ بالله.
- ثمّ إلزام النفس بفعل الخيرات ومحاسبتها عليها، والاستفادة من الأوقات وعدم إضاعتها فيما لا نفع فيه، إلا بنيّة الترويح ثم معاودة العمل، وأعظم هذا إتمام الواجبات ثم الشروع في المستحبات.
- وأخيرًا البحث عن الجو الإيماني الذي يرتقي المسلم بنفسه فيه، فإن لم يكن مسجدًا تنزل فيه السكينة والرحمة، فصحبة صالحة تتنافس على مرضاة الله تعالى وتُذكر الآخرة.
أسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يحببّ إلينا الخير وعمله، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع الألوكة.
التعليقات
إرسال تعليقك