ملخص المقال
كتابة السيرة النبوية في العصر الحديث لوائل عزت معوض يتناول بالتحليل أهم مدارس التأليف في السيرة النبوية في العصر الحديث، وأهم المؤلفين ومؤلفاتهم
كتابة السيرة النبوية في العصر الحديث ودور الاستشراق
كانت بداية الصحوة الإسلامية في العصر الحديث على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ= 1792م) الذي كتب مختصرًا للسيرة النبوية، وكذلك كتب رفاعة الطهطاوي (ت: 1883م) نهاية الإيجاز سيرة ساكن الحجاز، وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوي، وسلك فيه مسلكًا جديدًا في تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون.
وتأتي أهمية هذين الكتابين من أنهما أول ما تم تأليفه في العصر الحديث في السيرة النبوية بعد طول انقطاع عن كتابة السيرة، خاصة إذا نما إلى علمنا أن آخر كتاب تم تأليفه في مجال السيرة هو كتاب: سبل الهدي والرشاد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت: 942هـ=1536م)، أي أن فترة الانقطاع دامت أكثر من ثلاثة قرون، وهي نفس فترة الضعف والانحطاط العلمي والحضاري للمسلمين.
وهذا الواقع التاريخي يؤكد حقيقة كونية مفادها أن المسلمين كلما كان اتصالهم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وثيقًا علا شأن الإسلام وارتفع شأن المسلمين، وكلما انقطع المسلمين عن دراسة السيرة كانت انتكاستهم، وكان خمولهم الفكري وانحطاطهم الأخلاقي، وتأخرهم الحضاري.
لقد جرت طريقة المؤلفين في التأليف في بداية هذا العصر على منوال كتب الأقدمين، وكانت طريقتهم في عرض السيرة لا تختلف كثيرًا عن طريقة الأقدمين في العرض وطريقة التناول والمعالجة.
واستمر هذا الحال حتى العقد الثالث من القرن العشرين، خاصة بعد الهجمة الشرسة من المبشرين والمنصرين على بلاد الشرق الإسلامي، هذه الهجمة التي أشعلت حماس الدعاة والمفكرين والكتاب والأدباء والعلماء.
لقد بلغت هذه المدرسة أوج عظمتها، وقمة عطائها في العصر الحديث على يد كوكبة عظيمة من الأدباء انكبوا على كتابة السيرة النبوية بشكل أدبي، وتبارى الأدباء وتمايز كل منهم عن الآخر، حسب أدبه وأسلوبه وثقافته، فأبرزوا جوانب عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في البلاغة والبيان بأسلوب ساحر أخاذ.
وساعد على ذلك رواج حركة التأليف والتحقيق والشرح والتصحيح في شتي جوانب السيرة النبوية، والتركيز على الجوانب التي تم إهمالها في عصر الانحطاط الفكري والخمول الروحي.
ومن أهم مميزات تلك المدرسة أنها أبرزت جوانب عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في البلاغة والبيان.
أشهر من يمثل هذه المدرسة:
1- محمد جاد المولي وكتابه: "محمد المثل الكامل"
لم يأخذ هذا المؤلف حقه من الاحتفاء والتكريم، باعتباره (الرائد الأول وصاحب اللواء الذي اقتحم حلوكة الظلام وأضاء مصباحه المتبلج جنبات الميدان فهرع من خلفه مهتدين بمصباحه[1].
كان الأستاذ محمد جاد المولي من أوائل من تلقى العلم في أوربا وعاد إلى مصر دون أن يفتن عن أصله ودينه، كان مفتشًا للغة العربية بوزارة المعارف العمومية، وضع كتابين: أولهما محمد المثل الكامل، والآخر: محمد الخلق الكامل، تناول فيهما مواقف من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ ولادته حتى لحق بالرفيق الأعلى.
وبعد أن صادف الكتابان قبولاً لم يكن يتوقعه معاصروه من قادة الثقافة في مصر، "وحظيا بانتشار واسع أسال لعاب هؤلاء القادة، ناظرين إلى ما يجنى من وراء هذا الانتشار من ربح مادي وكسب معنوي"[2].
2- محمد حسين هيكل "حياة محمد"
تصدى الدكتور محمد حسين هيكل لترجمة كتاب: حياة محمد للمستشرق الفرنسي درمنجهم، ونشر كل أسبوع فصلاً منه في مجلته السياسة الأسبوعية وعلق عليه، ثم نشر الترجمة مع التعليق في كتاب واحد بعنوان كتاب المستشرق الفرنسي نفسه.
تناولت أقلام كثيرة، ومنابر متعددة نقد كتاب الدكتور محمد حسين هيكل:
حيث افتتن الدكتور محمد حسين هيكل بالمستشرق الفرنسي في نظرته المادية، واتخاذها أساسًا لإخضاع كل شيء للمقاييس العلمية، والعلم التجريبي، ومن الواضح أن هذه المقاييس إن صحت في كل ما يتصل بالمادة بسبب، فإنها لا تصلح أن تكون مقياسًا لما هو وراء المادة؛ لأن الأساس الأول في الدين يقوم على الإيمان بالغيب، فإننا لا نستطيع بحواسنا الخمس، أو بعقلنا القاصر، وعلمنا المحدود أن ندرك الوحي، أو إخضاع معجزات الأنبياء للعلم التجريبي.
3- مصطفى صادق الرافعي في كتابه: "رسول الإنسانية وبلاغة الرسول"، الذي اختص البيان النبوي بنحو 70 صفحة من كتابه إعجاز القرآن، وفصل كامل عن الأدب المحمدي في الجزء الثالث من كتاب: "وحي القلم"، لقد وصل الرافعي ما انقطع من مواصلة البحث منذ عصر الجاحظ والشريف الرضي.
4- طه حسين وكتابه "على هامش السيرة" الذي صدر عام 1933م، وطه حسين أشهر من يمثل أهداف هذه المدرسة من الاعتماد على الإسرائيليات والأساطير والروايات الضعيفة والموضوعة، والترويج لها والتعامل معها على أنها رواية أدبية تحتاج لعنصر الإثارة والتشويق حتى تلاقي القبول الجماهيري والنجاح الفني.
5- توفيق الحكيم في كتابه "محمد صلى الله عليه وسلم (سيرة حوارية)" كتبها عام 1936م، تتكون من خمسة فصول يبلغ عدد مناظرها 94 منظرًا؛ لكل فصل من الفصول الخمسة عدد من المناظر، وأعتقد أن الأستاذ علي الطنطاوي قد سبق توفيق الحكيم إلى ذلك اللون الأدبي؛ حيث كتب علي الطنطاوي في مجلة الرسالة عام 1929م بعض الفصول من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد كتبها على شكل حوار مسرحي.
وقرأ الأستاذ توفيق الحكيم تمثيلية فولتير عن النبي صلى الله عليه وسلم، أثناء تواجده في باريس، واستفزته الطريقة التي اتبعها فولتير، فـ"بدأ توفيق الحكيم يفكر في كتابة السيرة النبوية في أسلوب مسرحي عام 1927م حين كان بفرنسا، غير أنه لم يقم بعمل جدي في هذا السبيل حتى عام 1934م؛ إذ طلبت إليه مجلة الرسالة أن يكتب فصلاً حول السيرة لينشر في عددها الممتاز الذي تصدره في مستهل كل عام هجري عن الهجرة... وأخذ يكتب سيرة الرسول في أسلوب مسرحي نشر في فبراير عام 1936م"[3].
مدرسة الدفاع عن السيرة النبوية، أو المدرسة العقلية الاصطلاحية
هذه المدرسة كان لها الحظ الوافر من الدفاع عن سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيان حقيقة الإسلام والرد على مطاعن المستشرقين، وما يثيرونه من أباطيل حول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- والتشكيك في مدى اتصاله بالوحي وسماوية الرسالة الإسلامية؛ وكان السبب الأول لتأليف هذه الكتب في السيرة النبوية تلك الحملة الشرسة التي أطلقتها أوروبا للتبشير والدعوة إلى تنصير العالم الإسلامي، وذلك بعد احتلاله والتحكم في مقدرات شعوبه المغلوبة على أمرها، وكذلك دراسات المستشرقين الطافحة بالحقد على الإسلام ورسوله.
وقد تبنت هذه المدرسة الرد العلمي على أمثال هؤلاء المتجاهلين المتغابين، وما يثيرونه من طعون وشبهات، وهي في الحقيقة نابعة من حقد رهيب على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان للإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني فضل السبق في هذا الميدان وتابعهم في ذلك تلاميذهم في العالمين العربي والإسلامي.
وأشهر أعلام هذه المدرسة:
• الإمام محمد رشيد رضا (1282-1865هـ = 1354-1935م)، وكتابه: الوحي المحمدي، وكتاب: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
• الأستاذ محمد فريد وجدي (1878– 1954م)، وكتابه: السيرة المحمدية تحت ضوء لفلسفة والعلم الحديث. - مجلة الأزهر، الجزء السابع من المجلد الحادي عشر، مقالة بعنوان: "السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة".
• الإمام محمد أبو زهرة (1315-1394 = 1898 – 1974م)، وكتابه: "خاتم النبيين".
• مالك بن نبي (1323-1393هـ = 1905-1973م)، وكتابه: "الظاهرة القرآنية".
• محمد أبو شهبة (1914-1983) وكتابه: "السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة".
مدرسة فقه السيرة، أو المدرسة الحركية
في الحقيقة أن المدرسة الحركية امتداد طبيعي لأفكار المدرسة العقلية الإصلاحية (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا) وليس سرًّا أن المدرسة الحركية قد خرجت من عباءة جماعة الإخوان المسلمون، وهي جماعة تأثرت بأفكار الإمام الشهيد حسن البنا (1906-1949) -مؤسس جماعة الإخوان المسلمين- ولقد احتفت هذه المدرسة احتفاءً خاصًّا بالسيرة النبوية، وبيان الجانب الفقهي والحركي منها؛ نظرًا لأنها تمثل الجانب العملي من السنة، وفيها تتجلي شخصية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كداعية إلى الله وقدوة حسنة وقائد، وداعيًا إلى الله وبشيرًا ونذيرًا، وفيها التطبيق العملي الحي للمبادئ القرآنية، وفيها يتجسد القرآن حيًّا، وفيها نبض الحياة بمواقفها الصعبة؛ الفرح والحزن، أوقات الشدة وأوقات اللين، النصر والهزيمة.
وتميزت هذه المدرسة بالمنهج التحليلي؛ حيث يقوم الباحث بإيراد نصوص السيرة وأحداثها، ثم دراستها وتحليلها ومحاولة النظر في فقهها واستنباط الفوائد والدروس والعبر منها، وهو ما يعبر عنه في أحيان كثيرة بفقه السيرة، ويدخل في ذلك ما كان شاملاً للسيرة أو لجزء أو أجزاء منها.
كما تميزت هذه المدرسة بسعة اطلاعها، وعظم ثقافتها، وانفتاحها ومحاولاتها للتجديد، وسهولة العبارة وجمال الأسلوب؛ فعرضوا السيرة في أجمل بيان ومنطق عقلاني يحترم، لم يعتمدوا على كتب السيرة للأقدمين فحسب؛ بل زادوا على ذلك استفادتهم من كتب الفقه والحديث وشروحه؛ حتى إننا نجد من بين مراجعهم ومصادر بحثهم: فتح الباري لابن حجر، وشرح النووي لصحيح مسلم، وتفسير القرآن للطبري وغيره، ومقدمة ابن خلدون؛ فضلاً عن كتب التاريخ الإسلامي العام، وكتب علم النفس والاجتماع، والإدارة والسياسة والاستراتيجيات العسكرية.
لقد حاولت هذه المدرسة إعادة قراءة السيرة النبوية لاستخراج الدروس العملية التي تصلح كعلاج لمواطن الضعف والخلل في جسد الأمة العربية والإسلامية.
ولا يعيب هذه المدرسة إلا أنها لا تعتني بتخريج الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف، واكتفوا بعزو الحديث إلى من أخرجه؛ لقد بذلت هذه المدرسة جهدًا ضخمًا في تأويل أحاديث ضعيفة؛ بل وأحيانًا تكون موضوعة، ومحاولة استخراج فائدة أو تحليل نص لإسقاطه كمبرر على فعل ما يخص الجماعة، وفي المحصلة يخرج كل هذا من النطاق الشرعي الذي لا يستفاد منه بشيء إلا القليل النادر.
والناظر في عمل الأستاذ الغضبان على ما فيه من فوائد جمة ودلالة على سعة علمه وكثرة اطلاعه يدرك مدى الجهد المبذول في هذه المؤلفات؛ ولكن يعوزه الاعتناء بالحديث لأنه قد وقع فيما ذكرناه من نقد؛ لذا تعرضت هذه المدرسة للنقد الشديد خاصة من الجماعة السلفية، وقد بلغ نقدهم حد التجريح والسخرية؛ بل بلغ حد تبادل السباب والاتهام بالعمالة والموالاة.. وإلى غير ذلك من الاتهامات الشنيعة المتداولة في كل محفل.
ومن أشهر أعلام هذه المدرسة:
• الإمام حسن البنا وكتابه: "نظرات في السيرة"، وأصل هذا الكتاب محاضرات ودروس سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور.
• الإمام محمد الغزالي، وكتابه "فقه السيرة".
• الدكتور مصطفي السباعي وكتابه "السيرة النبوية دروس وعبر"، وأصل هذا الكتاب محاضرات ألقيت على الطلاب في الجامعة بدمشق، وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب فإن مؤلفه ركز على النظر الدعوي لهذه السيرة؛ ولا ريب أن السيرة هي قصة الدعوة بكل أبعادها، وقصة الداعية الأول في شخص محمد صلى الله عليه وسلم، «لم يسرد السيرة سرد المؤرخين، ولم يجادل في جوانبها فعل الفقهاء والمتكلمين.. وإنما نظر إليه أولاً -وقبل كل شيء- بعين الداعية الخبير، الذي يرى سيرة النبي العظيم الأسوة الحسنة لكل الدعاة والمصلحين»[4].
• سعيد حوى (1935-1989م): (الأساس في السيرة وشيء من فقهها، الرسول).
• علي محمد الصلابي (السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث).
• محمد سعيد رمضان البوطي 1929-... م (فقه السيرة النبوية).
• منير محمد الغضبان 1942-... م صاحب (المنهج الحركي للسيرة النبوية، فقه السيرة النبوية)، وما زال عطاء هذه المدرسة مستمرًّا.
المدرسة السلفية وتصحيح السيرة النبوية
تبنت المدرسة السلفية منهج تصحيح روايات السيرة النبوية وتحقيقها على قواعد المحدثين والمحققين -هذا العمل الشاق- فعمدت هذه المدرسة إلى تنقية وغربلة كتب السيرة من الإسرائيليات والروايات الموضوعة؛ فحاولوا كتابة السيرة النبوية وتطبيق قواعد وشروط المحدثين لقبول الحديث في نقد روايات السيرة النبوية وقبول رواياتها؛ فأخضعوا السيرة لعلوم الحديث كـ(علم الإسناد والجرح والتعديل) وغيرها من علوم الحديث، وبذلك تلافت العيوب التي وقعت فيها المدرسة الحركية، فعلوم الحديث قد استقرت أسسها؛ وهي مفاهيم واضحة وأسس مستقرة ومبادئ راسخة، وعلم قد بانت معالمه وأصوله وفروعه.
وأشهر أعلام هذه المدرسة:
• محمد رزق الطرهوني في كتابه: (صحيح السيرة النبوية)، (صدر منه جزأين الأول عام 1410هـ، والثاني 1414هـ).
• وصالح العلي، وكتابه: "صحيح السيرة".
المدرسة التاريخية الحديثة
وأشهر من يمثل هذه المدرسة في العصر الحديث والداعي لها هو علي الطنطاوي، ومحمد الخضري في كتابه: (نور اليقين)، وهو سيرة مختصرة تفي بالغرض الذي أُلِّفَت له، وقد اتخذ الخضري منهجًا معتدلاً في كتابه السيرة، واتسم بحثه بالموضوعية.
وعبد الوهاب النجار، ومحمد حسين هيكل (حياة محمد)، والدكتور حسين مؤنس، ومن أشهر مؤلفاته في السيرة: (دراسات في السيرة النبوية، دستور أمة الإسلام، المغازي والكتب والوفود، طريق النبوة والرسالة).
• أكرم ضياء العمري (المجتمع المدني في عهد النبوة، خصائصه وتنظيماته الأولى، محاولة لتطبيق قواعد المحدِّثين في نقد الروايات التاريخية).
المدرسة الموسوعية
أشهر أعلام هذه المدرسة:
• شبلي النعماني -العلامة المحقق- يعتبر كتابه: سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- دائرة معارف في السيرة النبوية، وقد نُشِرت منه ستة مجلدات ضخمة، لا يقل المجلد منها عن 700 صفحة من القطع الكبير، ومات العلامة المحقق شبلي النعماني دون أن يكمل كتابة السيرة.
كان من أبرز أعمال الأستاذ العلامة سليمان الندوي إكماله لكتاب: سيرة النبي، الذي بدأ تأليفه أستاذه العلامة المحقق شبلي النعماني.
• ولسليمان الندوي كتاب آخر اسمه: الرسالة المحمدية، وهذا الكتاب يعتبر أول كتاب تم تأليفه في علم أصول السيرة، فإذا كان كتاب الرسالة للإمام الشافعي يعتبر الكتاب المؤسس لعلم أصول الفقه؛ فإن العلامة سليمان الندوي بتأليفه كتاب: الرسالة المحمدية يعتبر أول من أسس علم أصول السيرة، إذا جاز لنا هذا التعبير.
المدرسة العسكرية الإسلامية
اهتمت هذه المدرسة بدراسة الجانب العسكري وما نتج عن هذه الاستراتيجية العسكرية الجهادية القتالية من فنون القيادة والإدارة والسياسة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزواته ومعاهداته وتتبعه في حربه وسلمه.
وأبرزت هذه المدرسة فلسفة القتال في الإسلام وأهدافه، والذي لم تنحصر في الجانب القتالي والجهادي فقط؛ بل أوضحت النظرة الواسعة والأهداف الكبرى التي تعدت النظرة الضيقة للحرب والفتوحات.
كما اهتمت بإبراز الجانب القيادي للرسول صلى الله عليه وسلم.
أشهر أعلام هذه المدرسة:
• عبد الحي الكتاني (1305-1382هـ= 1888-1962م) محدث ومؤرخ ورحالة مغربي صاحب كتاب: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، وهو أشهر كتب السيرة النبوية الذي يهتم بدولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونظامها، وهو موسوعة في كل ما يجب معرفته عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، والحياة فيه.
ولقد اتخذ الكتاني من كتاب: تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله للعلامة أبي الحسن علي بن ذي الوزارتين المعروف بالخزاعي (710-789هـ) أصلاً له؛ حيث اختار العلامة الكتاني نصوصًا من كتاب التخريج، وجعل تحتها خطًا لتمييزها عما أضافه هو إليها، ثم استدرك عليه كثيرًا من الأبواب والتفاصيل.
يقول الأستاذ إحسان عباس محقق كتاب التخريج: «ولا ريب في أن ما أضافه الكتاني مفيد في معظمه، وإن كان في جوانب منه تزيد لا تخفى»[5].
وقد لاحظ محقق كتاب نظام الحكومة النبوية الأستاذ قلعه جي استرسال الكتاني في بعض الأحيان، وإسهابه كثيرًا في بعض المواضيع؛ فأجاز لنفسه حذف الزائد من الكلام مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية، وذلك احترامًا منه لقيمة الكتاب، ومن اشتماله على ما لا فائدة فيه لقارئه.
• محمود شيت خطاب (الرسول القائد، وقواد النبي صلى الله عليه وسلم، جيش الرسول، دروس في الكتمان).
• وكتب الأستاذ محمد أحمد باشميل سلسلة (من معارك الإسلام الفاصلة)، حيث أفرد عددًا من غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- (غزوة بدر الكبرى، غزوة أحد، غزوة الأحزاب، غزوة بني قريظة، صلح الحديبية، غزوة خير، فتح مكة، غزوة حنين، غزوة تبوك) بمؤلف مستقل؛ وذلك مع إشارة إلى ما في تلك الغزوات من قضايا وفوائد نحن أحوج ما نكون إليها في حياتنا المعاصرة.
• ومحمد حميد الله الحيدري، صاحب كتاب: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، وموسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم، إعداد مجموعة من المختصين بإشراف صالح بن عبد الله بن حميد، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملوح، وهي موسوعة جامعة لكل شمائل وأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- 1418هـ.
• كما كان للأستاذ محمد نوح اهتمام خاص بالجانب العسكري في السيرة النبوية، ومن أشهر كتبه في هذا المجال: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، المدرسة العسكرية الإسلامية، محمد المحارب، الاستراتيجية العسكرية الإسلامية.
• وقد أفرد الشيخ محمد سيد طنطاوي -شيخ الأزهر- السرايا الحربية في العهد النبوي ببحث متميز وجديد.
وهذه المدرسة امتداد لمدرسة المغازي القديمة؛ فهي تتخذها أساسًا لها، وأحد أهم مصادرها، وإن كان التفصيل واستقلال الكتابة للغزوات دون غيرها -من جوانب السيرة- أكثر مما كان يفعله السابقون.
الجانب التربوي من السيرة النبوية
للدكتور منير محمد الغضبان (1942-... م) دور كبير في الترويج لهذه المدرسة؛ فأصَّل لهذا اللون من الكتابة في السيرة النبوية، فكتب المنهج التربوي للسيرة النبوية التربية الجهادية، المنهج التربوي للسيرة النبوية التربية القيادية، المنهج التربوي للسيرة النبوية التربية الجماعية).
وللأستاذ عبد الحميد جاسم البلالي كتاب: "وقفات تربوية من السيرة النبوية"، وقد حوى هذا الكتاب 33 وقفة تمثل عناوين مستنبطة من أحداث السيرة ومضامينها.
السيرة النبوية في القرآن الكريم
إن القرآن الكريم من أهم وأصدق مصادر السيرة النبوية، فالقرآن الكريم رسم صورة واضحة، وأمينة لشخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله وحالاته.
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم أحد مصادر الأصلية للسيرة النبوية، فإن أحدًا من العلماء لم يهتم باستخلاص هذه السيرة من مجمل الكتاب العظيم وتفصيلها، وهو منحى جديد في دراسة السيرة النبوية جدير بالاهتمام.
إن الواقعة التاريخية تستمد علو درجتها، ومدى قوتها وصدقها إذا وجدت لها سندًا من آيات القرآن، لقد كان كُتاب السيرة النبوية يستشهدون بالآيات على صدق ما يثبتونه من أحداث وروايات كابن هشام، وغيره.
إن القرآن الكريم ليس كتابًا في السيرة، إلا أنه تناول قصص الأنبياء وسيرتهم، ودعوتهم قومهم، وما لاقوه منهم من عناد واستكبار، ولم تكن هذه القصص والأخبار ببعيدة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي وثيقة الصلة بها غير منفصلة عنها.. خاصة إذا علمنا أنها كانت لإيناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعدم وحشته من جفاء قومه وقسوتهم، وعدم استعجاله لثمرة دعوته.
وقد تعرض الوحي لقضايا سابقة للبعثة النبوية، كما اتصل الوحي القرآني بالكثير من أحداث وقضايا السيرة النبوية، كما تعرض الوحي لقضايا سابقة للبعثة النبوية، فأشار القرآن الكريم إلى حال العرب في الجاهلية، فتحدث القرآن عن الأمة الأمية في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
وتحدث القرآن عن طفولة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاله قبل النبوة، فتحدث عن يُتْمِه في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 7-9].
وتحدث القرآن الكريم عن أمِّيَّته صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
وبعثته، وحديث القرآن عن بدء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
وفتور الوحي في قوله {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3].
وقد ورد في القرآن الكريم كل ألوان السيرة التي عكف المؤرخون والأدباء والشعراء عليها، فنجد في القرآن المغازي، والشمائل، والمعجزات، وجوانب من حياة النبي الخاصة.
وتحدث القرآن الكريم عن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فورد فيه ما يقارب 280 آية، وهي تساوي نسبة 4،65% من كتاب الله تعالى، فتحدث القرآن عن غزوة بدر الكبرى، وغزوة أحد، وغزوة الأحزاب، وقد وصف القرآن الكريم حال المسلمين في تلك الغزوة فقال عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11]، وغزوة تبوك سورة التوبة: 41–66 وغيرها.
وصور القرآن الكريم حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما لاقاه من أذى، وتعذيب في سبيل نشر العقيدة الإسلامية.
كما شمل حديث القرآن قضايا الجهاد، ومواجهة الخصوم والأعداء.
واحتوى القرآن على شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم:
ولقد أجمل القرآن شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأثنى الله عز وجل أحسن الثناء على أخلاق رسول الله فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ورحمته، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
وحياؤه، قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53].
عقله، قال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22].
واحتوى القرآن كذلك على خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم:
ومنها على سبيل المثال: أن أمته خير الأمم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
ختم الرسالات به، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
نصره بالرُّعب، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
الإسراء والمعراج، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
صلاة الله وملائكته عليه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
إعطاؤه الكوثر، قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1].
ومن أشهر كتب هذا اللون الجديد في كتابة السيرة النبوية:
• محمد عزة دروزة: (سيرة الرسول كما وردت في القرآن الكريم، صورة مقتبسة من القرآن الكريم، عصر النبي وبيئته قبل البعثة).
• عبد الصبور مرزوق: السيرة النبوية في القرآن الكريم.
اشترك بهذا البحث الأمانة العامة للرابطة في المؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية الذي عقد بمدينة الدوحة عام 1400هـ.
• محمد الراوي: الرسول في القرآن الكريم.
• عبد الكريم زيدان: المستفاد من القصص القرآني للدعاة.
المصدر: الألوكة.
[1] محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة – الإسكندرية، ط5: 1994م،1/302.
[2] نفسه.
[3] إسماعيل أدهم، إبراهيم ناجي: توفيق الحكيم.
[4] مصطفي السباعي: السيرة النبوية دروس وعبر، ص 5 وما بعدها.
[5] الخزاعي: تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، 1985م، ص15.
التعليقات
إرسال تعليقك