جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
ارتبط تاريخ إنشاء وانتشار المحاكم الإسلامية في الصومال بأمرين أساسيين، فما هما؟ وكيف نشأت المحاكم الإسلامية؟ وكيف تم التمكين لها؟
ارتبط تاريخ إنشاء وانتشار "المحاكم الإسلامية" في الصومال بأمرين أساسيين:
الأول: هو رغبة الصوماليين وحرص الكثيرين منهم علي تطبيق الشريعة الإسلامية.
الثاني: يتمثل في بحث رجال الأعمال والقبائل عن قوة عسكرية تحمي تجارتهم وهيبتهم القبلية وتوقف حالة الفوضى في البلاد، ولذلك حظي طلاب العلوم الدينية والشيوخ علي دعم كبير من رجال القبائل خصوصا قبيلة (الهوية)، من رجال الأعمال لأن الاستقرار معناه رواج استثماراتهم.
ومع أن أوساط بحثية غربية تروج لمقولة أن قوات المحاكم الإسلامية هي صنيعة رجال الأعمال والمستثمرين الصوماليين فقط ، فالصحيح أنه لولا التزام هذه القوات وغالبية الشعب الصومالي بالدين وقناعتهم بالفكرة الإسلامية وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ما كتب النجاح لهذه القوات في حربها ضد قرابة عشرة فصائل من أمراء الحرب السابقين ، ولا رسخت اقدامها في الصومال للحد الذي جعل الصوماليين ينعمون لأول مرة بعيد فطر خال من العنف ، ودفع وكالة "رويتر" في تقرير لها من الصومال يوم 30 أكتوبر 2006 للحديث عن انتعاش الاستثمار في الصومال حاليا بفضل سيطرة الإسلاميين.
ولا ننسي في هذا الإطار أن المحاكم الإسلامية نشأت نشأة دينية في البداية واستمرت تحارب لبقائها وتوسع نفوذها ، وعندما رأي رجال الأعمال والمستثمرين تغلغل نفوذها ونجاحها في تحقيق الاستقرار في المناطق التي سيطرت عليها ، وبدون مقابل من "الإتاوات" التي كانوا يدفعونها سابقا لأمراء الحرب بدءوا يمولون هذه المحاكم حتي أنهم تعهدوا مؤخرا بدعمها ضد قوات الغزو الأثيوبية لأن عودة الحرب سيؤدي لحالة فوضي جديدة وضياع استثمارات كثيرة .
في عام 1991، عقب سقوط حكومة سياد بري بالصومال وانتشار حالة من الفوضى، حاول العالم الأزهري الصومالي الشيخ محمد معلم حسن إنشاء محكمة شرعية بمنطقة "طورطيجلي" جنوب مقديشو بالتعاون مع شيوخ القبائل للفصل بين المتخاصمين بالاحتكام إلى الشريعة، غير أن الجنرال الراحل محمد فارح عيديد -الذي كان يسيطر على جنوب العاصمة آنذاك، وخلفه ابنه حسين عيديد وزير الداخلية بالحكومة الفيدرالية الحالية- أحبط هذه المحاولة، لأنه اعتبرها محاولة لإضعافه .
وفي بداية عام 1994 جرت ثاني محاولة فردية لتأسيس محكمة شرعية على أسس عشائرية بالشطر الشمالي من العاصمة، وعين الشيخ علي محمود (طيري) رئيسا لها، حيث استطاعت بسط نفوذها على أجزاء واسعة من شمال العاصمة مستعينة بالميليشيات التي كونتها والتي جاء أغلبها من العشائر التي تفتقد للأمن ، ونجحت المحاكم بالفعل في فرض النظام بعدما نفذت أحكام رادعة من الرجم إلي القصاص والإعدام.
وفي عام 1996 بدأت المحاكم تظهر بقوة كنظام قضائي استحدثه رجال الأعمال في العاصمة وبتمويل منهم، بالتنسيق مع رؤساء العشائر علي خلفية مطلب تأمين مصالحهم الاقتصادية وتوفير السلع والخدمات للشعب الصومالي من جانب ، والسعي نحو فرض الأمن والنظام من جانب آخر ، وفي عام 1997 ظهرت المحاكم الإسلامية في مقديشو لأول مرة ، وكانت أشبه بوزارتي عدل وداخلية، وذلك بعد فشل مبادرات فردية لإقامة محاكم بمناطق متفرقة في عامي 1991 و1994 ، بحيث كونت هذه المحاكم التي تستند إلى قاعدة الشريعة الإسلامية ميليشيات في كل قبيلة بالعاصمة لتقوم بدور وزارة الداخلية حيث نفذت عمليات مشتركة لإرساء الأمن في محاولة للقضاء على حالة الفوضى التي شهدتها البلاد في غضون الحرب الأهلية، وهو ما أكسبها نفوذا ومصداقية كبيرة لدى الصوماليين.
والمشكلة أن التصعيد الخارجي والغزو الأثيوبي يشجع ضمنا التيار الأكثر تشددا ويضعف نفوذ التيار المعتدل، بيد أن زعيم الحرب القوي آنذاك "علي مهدي محمد" دخل في صراع مع المحاكم وتمكن من القضاء علي نفوذها القومي وحبسها في الإطار المحلي فقط عبر تفكيك أجهزتها القضائية والتنفيذية (الميليشيات)، مستعينا بدعم الحكومة الإثيوبية ، ولكن المحاكم ظلت موجودة ضمنا داخل كل قبيلة علي المستوي المحلي لحل الخلافات بين أبنائها ، قبل أن تعود وتنتشر تدريجيا مرة أخري.
مع تصاعد أعمال العنف والفوضى عام 2001، وتضرر رجال الأعمال بقوة وبداية تمويلهم لقوات المحاكم ، عادت الميليشيات لتلعب دورا عسكريا لفرض النظام ، ونجحت في تنفيذ عمليات مشتركة شاركت فيها الميليشيات التابعة لها في كل قبيلة بالعاصمة، حتى وصل نفوذها إلى جنوب مقديشو.
ومع استمرار الصراع بين أمراء الحرب وعدم اعترافهم بحكومة الرئيس صلاد حسن الانتقالية التي تمخضت عن قمة جيبوتي وتفشي الفوضى عقب سقوط هذه الحكومة مرة أخري ، تم في عام 2005 تأسيس (المجلس الأعلى لاتحاد المحاكم الإسلامية) بمقديشو، وانتخب الزعيم الشاب الشيخ شريف شيخ أحمد رئيسا له، بحيث أصبحت العاصمة مقديشو تضم ما لا يقل عن 11 محكمة شرعية تنتمي إلى تحالف معروف باسم المجلس الأعلى للمحاكم الشرعية بالصومال.
وقد اتبع الاتحاد هذه المرة سياسة عدم الصدام بأمراء الحرب لحين التمكين وتكوين جيش قوي من الميليشيات الإسلامية المدعومة من القبائل والعشائر التي تبحث عن الهدوء والاستقرار ، حتى نجح في تشكيل قوة قوامها أكثر من خمسة آلاف مقاتل مسلحين بشكل جيد، وتزايد عددها مع انتشار حالة التدين في المنطقة ودخول العديد من الشباب المتدين تحت أمرة هذه القوات بشكل غير رسمي خصوصا أنها قوات شبه شعبية يسهل تجميعها أو تسريحها.
كما زاد من قوة هذه المحاكم ما تسرب عن دعم الأمريكان لأمراء الحرب السابقين الذين نشروا الفوضى في البلاد ، ما أثار حفيظة الأهالي الذين ذاقوا ويلات الحرب علي يد القوات الأمريكية التي تدخلت في الصومال في الفترة من 2002 حتى 2004، فضلا عن استشعار الأهالي الهدوء والنظام الفعلي في ظل سيطرة المحاكم.
قوات المحاكم .. وطالبان !
ومع أن المحاكم الإسلامية في الصومال تتشابه من حيث النشأة والتكوين مع المحاكم الشرعية لحركة (طالبان) في أفغانستان التي ظهرت علي المسرح السياسي هناك في حقبة التسعينيات، فهي تميزت عن طالبان في أمرين : (الأول) أن غالبية المنتمين إليها هم من غير الطلبة وإنما من الغيورين علي الفكرة الإسلامية ومن أنصار التيارات الإسلامية المختلفة مثل التنظيم الصومالي القديم (الاتحاد الإسلامي)، و(الثاني) أنهم ممن تعلموا علي يد علماء وشيوخ معتدلين، ما ميزهم عن طلاب (طالبان) الذين نشئوا علي خلفية فكرية مختلفة.
بل أن هناك فارقا جوهريا وهاما بين الحركتين يتمثل في استفادة المحاكم من أخطاء طالبان وعدم دخولها في معارك وهمية أو فورة حماس مع قوي صومالية وإقليمية في معارك قبل التمكين وضمان السيطرة والتفاف أنصار حولها ( 20 ألفا من الصوماليين قاموا ببيعة علنية أمام الشيخ شريف شيخ أحمد رئيس اللجنة التنفيذية للمحاكم الإسلامية على أن يجاهدوا في سبيل الله ضد القوات الأثيوبية المتمركزة في بعض مناطق الصومال يوم الجمعة 27-10-2006).
وهناك سبب آخر لانتشار نفوذ المحاكم وسيطرتها علي أجزاء كبيرة من البلاد ويختلف أيضا عن طالبان ، تمثل في صورة تنوع مصادر الدعم الإقليمي والخارجي والداخلي لها بعدما بدأت تحتكم للشريعة قانونا في قضايا السرقة والنهب وقطع الطرق والاختطاف والاغتصاب وغيرها من الجرائم الجنائية (وهو ما يشابه طالبان في مكافحة تلك الجرائم)، خاصة في ظل غياب مؤسسات الدولة، فبالإضافة لما يتردد عن تمويل قادم من الخليج العربي من جمعيات وأفراد أو من رجال أعمال وتجمعات صومالية هناك ، هناك دول جوار ترغب في أن تقوي الدولة الصومالية ولا تقع فريسة لجارتها أثيوبيا التي لها مطامع فيها .
الأصول الفكرية للمحاكم الإسلامية في الصومال
تعددت الاجتهادات بشأن الأصول الفكرية لقوات المحاكم ومنابعها الفكرية ، فالبعض أتهمها بأنها امتداد لتنظيم (الاتحاد الإسلامي) ، الذي كان موجودا علي الساحة الصومالية منذ أوائل التسعينيات وله فكر أيديولوجي يستهدف إقامة دولة إسلامية ، وتردد أن قياداته كانت علي صلة بأسامة بن لادن، وأنه قام بزيارة للصومال ووفر دعما له، والبعض الآخر ربطها مباشرة بفكر القاعدة وأسامة بن لادن ، والبعض الثالث تحدث عن أصول فكرية معتدلة استنادا لشيوخ الصومال وعلمائها الذين يقفون خلف هذه المحاكم .
ويبدو من خلال استعراض وقائع تاريخية أن قوات المحاكم تتميز أكثر بالاعتدال والوسطية أو علي أقل تقدير تضم خليطا من المعتدلين وغيرهم ويمكن أن نؤيد ذلك بالوقائع التالية :
1- حول ما يقال عن انتماء أفرادها إلي قوات (الاتحاد الإسلامي) القديمة ، هناك من يؤكد من المثقفين الصوماليين أن هذا التنظيم انهار منذ زمن ولم يتبق منه سوي أفراد وأفكار ، بعدما تعرض لضربات متلاحقة، أولها من الجنرال محمد فارح عيديد الأب، الذي تحالف في بداية الأمر مع الاتحاد ضد احدي قوي الجوار ( إثيوبيا )، ولكنه انقلب عليه عندما استشعر خطر قوته المستقبلية علي مكانته ونفوذه ، وثانيها من الجنرال عبد الله يوسف، الرئيس الحالي للصومال إبان توليه منصب رئيس إقليم بونت لاند في أوائل التسعينيات، حينما سعي الاتحاد الإسلامي الي السيطرة علي ميناء بوصاصو في الإقليم ، وثالثها عندما اجتاحت إثيوبيا إقليم جدو الواقع علي الحدود بين البلدين، وقامت بتصفية قواته، وتشتتت عناصره وتفرقت علي القبائل التي ينتمي إليها كل منهم، ولم يتبق الا أفراد بصفتهم الشخصية دون التنظيمية، وربما يكون من بينهم من انخرط في ميليشيات المحاكم الإسلامية الحالية كأفراد أو قيادات .
2- المحاكم الإسلامية في أصلها عبارة عن محاكم قبلية ينضوي تحتها أفراد مختلفين من قبيلة "الهوية" ، ورغم وجود 14 محكمة منها حاليا ، فالمرجعية في أغلبها للعشيرة أو القبيلة وأحكام الشريعة ، ما يصعب مسألة سيطرة فكر واحد عليها.
3- بعد شريط بن لادن الأخير الذي تحدث فيه عن الوضع الصومالي ومدح "المحاكم الشرعية" داعيا لها بالانقضاض والهجوم على الحكومة وقتل الرئيس الصومالي عبد الله يوسف ، خرج تصريحان متناقضان عن المحاكم، الأول صدر من رئيس اللجنة التنفيذية الشيخ شريف شيخ احمد – نشره موقع "بونت لاند بوست"- انتقد فيه بن لادن ووصف تدخله بالقضية الصومالية بأنه أمر لا يعنى المحاكم ووصف نصيحته بالهجوم على مقر الحكومة بالأمر الغير المقبول، والثاني تصريح من الشيخ حسن ظاهر عويس رئيس مجلس شورى المحاكم - أورده موقع "هرسيد نت" - امتدح فيه بن لادن ووصفه بأنه "صاحب الضمير الحي" , وقال : "بن لادن يشعر بالظلم الذي يقع على المحاكم الإسلامية ويتألم مما يحصل للشعب الصومالي ونحن نشاطره الرأي فيما قاله عن قيام دولة إسلامية في الصومال وهو ما نسعى إليه".
4- هناك من يقول أن هناك فكران يتصارعان في الصومال وينعكسان علي المحاكم ، (الأول) هو فكر السلفية الجهادية وتمثله في الصومال "حركة الاتحاد الإسلامي"، او "الاعتصام الإسلامي" حسب الاسم الجديد ، ومن زعمائه الشيخ حسن ظاهر عويس وهو عقيد سابق في الجيش الصومالي وسبق أن قاد عام 1992 حملة للسيطرة على إقليم "بونت لاند" (خمسة محافظات شمال شرق الصومال) ، وبينه وبين الرئيس الحالي تاريخ صراع طويل ، ويقال أن فريقه يضم صوماليون تدربوا في أفغانستان ، ومن بين رجالات التيار الجهادي هذا الشيخ حسن تركي وهو مدرج في قائمة الإرهاب الأمريكية، والشيخ على عبد الله . ويحمل هذا التيار أفكارا تتشابه مع أفكار تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن،ويسعون الى إقامة (دولة إسلامية) وتحكيم شرع الله على ارض الصومال ،وتوسيع رقعة الجهاد لتشمل دول الجوار الصومالي ، وإخراج الأجانب أو الكفار من القرن الأفريقي.
أما التيار الثاني الذي تضمه المحاكم فهو تيار أهل السنة والجماعة، ويمثله حركة إسلامية صوفية معتدلة تضم ألوانا متعددة من التيارات الإسلامية ، وهو – عكس التيار الجهادي – لا يعادي الحكومة الحالية ويتعاون معها ولا يرفع السلاح في وجهها ، ويتزعم هذا التيار في داخل المحاكم القائد الشاب الشيخ شريف شيخ احمد رئيس المجلس التنفيذي، ومن قياداته الشيخ عبد القادر على عضو مجلس الشورى، وهذا التيار في مجمله معتدل وقد علا صوتهم العقلاني في المرحلة الاولى من صراع المحاكم مع امراء الحرب الا ان هناك من يري أن بوادر التأمر الخارجي ضد الصومال والتدخل الأمريكي والإثيوبي ، أضعف دور هذا الجناح المعتدل وظهر الجناح أو التيار الجهادي ليقود معركة الحشد ضد إثيوبيا وأمريكا .
تاريخ المحاكم الإسلامية ونشأتها يشير بالتالي الي وجود نوع من التعددية داخل هذا الكيان ما بين أطراف سلفية جهادية تسعي لتوسيع دائرة الحرب داخليا وخارجيا ، وأخري معتدلة تري التدرج في التمكين ، والسعي للاصلاح الداخلي وتوفير الاستقرار وتنمية الاستثمارات الأجنبية لتوفير الرخاء للصوماليين.
والمشكلة أن التصعيد الخارجي والغزو الأثيوبي يشجع ضمنا التيار الأكثر تشددا ويضعف نفوذ التيار المعتدل ، وهنا تبدو خطورة أو مخاطر أن تنعكس هذه الخلافات الداخلية داخل المحاكم علي توجهات الحركة ، بحيث يأتي انهيارها داخليا قبل أن يكون خارجيا ، وهي معادلة صعبة في ظل نشأة المحاكم ذات الطبيعة التعددية القبلية ، فلو استمر اعتدال الحركة وتوفيرها الاستقرار الداخلي فسوف يستمر دعم رجال الأعمال لها ، ولو انتقلت لطور الصراع داخليا وخارجيا وضاع دورها الحقيقي في توفير أجواء الاستقرار ، فقد تنزلق لهاوية عدم الاستقرار ويرفع عنها الممولون الدعم وتتكالب عليها القوي الخارجية
رغم مرور أكثر من عشر سنوات من صيغة اللاحكومة واللادولة في الصومال جاء مؤتمر"عرتة" (بجيبوتي في 2-5-2000م) وتنصيب حكومة للبلاد ، ورغم تصاعد الآمال بهدوء الأوضاع في البلاد واستقرارها وعودتها لممارسة دور إقليمي نشط، فإن الواقع السياسي يشير فيما يبدو إلى عكس ذلك، حيث تصاعدت من جديد حدة التوترات الداخلية بين الفصائل الصومالية المعارضة لصيغة عرتة والحكومة الانتقالية، بل وبين حلفاء الأمس في إطار مؤتمر عرتة في ظل الاتهامات المتصاعدة من جانب البعض بخروج الحكومة عما اتفق عليه في ذلك المؤتمر. وإلى جانب ذلك لعبت القوى الإقليمية دورها في مساندة هذا الطرف أو ذاك الأمر الذي أعاد من أجواء الصراع التي كانت قائمة، وتبدّى ذلك في نشوب بعض المعارك بين الفصائل الصومالية من جديد لا سيما في الجنوب.
فالإدارة الانتقالية التي تشكلت بعد مؤتمر عرتة لم تكن قادرة على بسط سيطرتها على البلاد. وكان مؤتمر عرتة قد أعطى لهذه الحكومة الانتقالية الجديدة - باعتبارها حكومة مركزية بعد الحرب الأهلية - مهلة ثلاث سنوات من أجل استعادة كيان الدولة، وإعادة إعمار الصومال، وتصطدم هذه الحكومة في جميع محاولاتها لتحقيق أي مصالحة وطنية مع أمراء الحرب، الذين يحاولون إجهاض كل المحاولات الحكومية، ويريدون أن يظل الحال كما هو بدون أية حكومة مركزية، لما أسفر عنه ذلك الوضع من شبكات مصالح داخلية وإقليمية.
ويعزو البعض فشل الحكومة في مواجهة قوى التمرد المعارضة إلى عدة أسباب:
1- ضعف صيغة عرتة التي قامت على إرضاء أكبر عدد ممكن من الفصائل والزعامات، الأمر الذي جعل الحكومة أسيرة لتلك الصيغة الهشَّة، علاوة على أن أي خروج عن تلك الصيغة يمثل تهديدًا جديًّا بانهيارها، وهو ما يفسِّر عجز الحكومة عن إرسال قوات حكومية كافية للمناطق الجنوبية في ظل خشية حلفاء "عرتة" من أن يكون ذلك مقدمة لبسط هيمنة قبيلة صلاد وفصيلها على الجنوب باستخدام الجيش "الوطني" (قوامه 13.000 جندي)، الأمر الذي يعكس استمرارية النظرة القبلية حتى بين أنصار صيغة "عرتة".
2- الدعم الأثيوبي الكيني لفصائل المعارضة. فعلى الرغم من تصريح مساعد وزير خارجية أثيوبيا أن بلاده تحاول بذل كل الجهود لتلطيف الأجواء وتقريب المسافة بين الحكومة المؤقتة وقادة الفصائل الصومالية للتوصل إلى حل، بدعوى أن أمن الصومال واستقراره هو استقرار لأثيوبيا؛ لأن وجود حكومة مركزية قوية في الصومال قادرة على فرض سيطرتها على كل الأراضي، سيجعل "أديس أبابا" في مأمن من استغلال المعارضة المسلحة، إضافة إلى استخدام الموانئ الصومالية في حركة التصدير والاستيراد الأثيوبية، خاصة في ظل إغلاق الموانئ الإريترية في وجه التجارة الأثيوبية.. على الرغم من وجاهة ذلك التصريح ومبرراته، فإن الشواهد تشير إلى أن أثيوبيا حتى الآن تعتبر الحكومة الانتقالية مجرد فصيل من الفصائل الصومالية وليست معبَّرة عن كامل شعب الصومال، الأمر الذي انعكس في صورة توترات بين الجانبين واتهامات متبادلة بالتدخل في شؤون الطرف الآخر، حيث اتهمت حكومة الصومال أطرافًا إقليمية بدعم فصائل المعارضة في إشارة مباشرة إلى أثيوبيا، في مقابل إعلان أثيوبيا الضمني أن حكومة الصومال غير معبِّرة عن شعب الصومال وغير قادرة على بسط هيمنتها على كامل أراضيها.
3- ضعف الدور الدولي وقبله العربي والإسلامي، حيث توارت الأزمة الصومالية خلف الأحداث الدامية والطاغية على الساحة الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها أحداث فلسطين، ومؤتمر مكافحة العنصرية وتداعياتهما، وارتكان المجتمع الدولي إلى تحقق المصالحة الصومالية، دون الالتفات إلى أن تكون المصالحة الوليدة في حاجة إلى رعاية ودعم حتى تقوى على الوقوف والسير بمفردها، لا سيما في ظل تربص الكثيرين بهذه المصالحة، ورغبتهم في وأدها على نحو يؤدي إلى العودة من جديد إلى أجواء الحرب الأهلية، وأضواء المؤتمرات والمفاوضات، وما تسفر عنه من آلاف الدولارات لحساب هذا الزعيم أو ذاك من قادة الفصائل لضمان مشاركته في مؤتمرات المصالحة.
صعود نجم المحاكم الإسلامية وغيبة الدور العربي
فبعد مؤتمر "عرتة" وتخبط القيادات والتناحر بين أمراء الحرب أدي إلى بروز المحاكم الإسلامية كقوة جديدة في الساحة الصومالية، ألقت بظلالها على مجمل القضايا المحلية، والإقليمية، والدولية. أما محلياً فإن طرد أمراء الحرب من العاصمة مقديشو كان حدثاً تاريخياً لكل الصوماليين، وكل من يتابع مجريات الأحداث في القرن الإفريقي، منذ انهيار الحكومة المركزية الصومالية في 26/01/1991م، إذ غدت العاصمة منزوعة السلاح، وغدا أباطرة الحرب منهارين معنوياً، ومهزومين سياسياً، وإدارياً، واقتصادياً، وانتهى الشبح المخيف، إيذاناً بدخول مرحلة جديدة اختفت فيها مظاهر الفوضى والاقتتال في مقديشو.
أما إقليمياً فإن الدول المهتمة بالشأن الصومالي، على مختلف مشاربها،فكانت الدول العربية وخاصة السودان بالتنسيق مع الجامعة العربية، أول من وصل إلى العاصمة مقديشو، آملين فهم الأحداث ولعب دور في هذه المرحلة الإنتقالية الحرجة، كما كانت هيئة الإيغاد الإفريقية التي قدمت الدعم للحكومة الانتقالية، وتقديم الدعم العسكري لها في مواجهة المحاكم، وإجهاض النتائج الإيجابية التي تحققت على أرض الواقع بعد ستة عشر عاماً من الفوضى العارمة التي أهلكت الحرث والنسل.
أما دولياً فإن أمريكا شرعت في وضع إستراتيجية جديدة، حيال تعاملها مع الصومال الجديد بعد سيطرة المحاكم على مقديشو؛ إذ شكلت مجموعة الاتصال الدولي بالصومال في 15/6/2006م ،في حين اتخذت ايطاليا العضو البارز في المجموعة مواقف أكثر مرونة من الدول الغربية؛ إذ التقى مندوبها الخاص بالصومال مع رئيس مجلس الشورى للمحاكم الإسلامية، في شهر 7/2006م لكسر حاجز السياسة الأمريكية "أحادية الجانب" حيال الصومال، وتأكيد دورها في إطار تقصي الحقائق من القيادات الجديدة، في المرحلة المتجددة.
على كل حال جميع الجهات المعنية بالشأن الصومالي حاولت ما بوسعها لعب دور ما سواء كان سلبياً أو إيجابياً، في المسألة الصومالية بعد التطورات الأخيرة، بيد أن الدور العربي كان هو الذي تأقلم مع الأحداث الجديدة، بدون مقدمات، أو تعقيدات، بل كانت تلقائية، وودية، ومن منطلق حرصها على حماية الجسم الصومالي من التمزق والانهيار، وعدم تفويت الفرصة التاريخية التي لاحت في الأفق للشعب الصومالي، وفي الوقت الحالي أسرعت الجامعة العربية إلى تنظيم مؤتمر الخرطوم، في حين دق الأفارقة طبول الحرب؛ لأنهم لا يريدون للصوماليين إلاّ الحرب والخراب والدمار، وقد اقتصر الدور العربي في التنسيق وتهيئة الأجواء المناسبة، وتذليل العقبات، وإيجاد الوسائل التي تساعد على إنجاح المفاوضات؛ إذ كانت المفاوضات صومالية خالصة بالدرجة الأولى، وهو ما لم يحدث من قبل في أغلب المبادرات الرامية إلى حلحلة الأزمة الصومالية تحت رعاية الأفارقة، بل كان المشروع جاهزاً مسبقاً، وما على الفرقاء الصوماليين، إلاّ أن يقبلوا المقترحات ويوقّعوها، الأمر الذي كان يؤدي في كل مرة إلى الرجوع إلى نقطة البداية، وإلى مزيد من الانشقاقات داخل الفصائل المتناحرة.
الا أن محادثات الخرطوم لم تتعرض لأية ضغوطات من أي جهة كانت سواء كانت إفريقية أو غربية، أو غيرها؛ إذ أكد أحد أعضاء وفد المحاكم الإسلامية المشارك في محادثات الخرطوم من الجولة الثانية؛ إذ قال: "كانت محادثات صومالية بحتة، ولم تتعرض إلى أية ضغوطات".
إن مشاكل الدول العربية متعددة بلا ريب، فهناك فلسطين المحتلة أم القضايا، والعراق الذي يتعرض إلى تخريب شامل، ولبنان الذي يمر هو الآخر في مرحلة حساسة. كل هذه القضايا وعشرات القضايا الأخرى العالقة في الهواء تنتظر من الدول العربية أن تتحرك قبل فوات الأوان، وتقدّم مشاريع وطنية لحلها.
وبخصوص الشأن الصومالي نحن لم نسمع حتى الآن من أي دولة عربية تدعو إلى عقد قمة عربية بخصوص التطورات الأخيرة في الصومال، ومناقشة ملفاته الساخنة بصورة جدية، في حين نسمع بين الحين والآخر عقد قمم عربية هنا وهناك في العواصم العربية لقضايا أخرى لا تقل القضية الصومالية أهمية عنها، وحتى الكتاب العرب لم نسمع منهم من يدعو إلى رفع سقف الاهتمام العربي حيال الصومال، في حين نجد من يهاجم وبقسوة الانتفاضة الشعبية التي أزاحت أمراء الحرب من مقديشو، ألا يستحق الشعب الصومالي أن يجد الاهتمام الكافي من أشقائه العرب؟
وفي رأي المحللين السياسيين فإن الدول العربية تملك وسائل قوية تستطيع استخدمها في وجه الدول الإفريقية، وخاصة ما يسمى هيئة الإيغاد، لتحقيق مصالحة صومالية شاملة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- الدول العربية لم تشارك الحرب الأهلية في الصومال ولم تدعم فصيلاً ضد فصيل آخر، وهذا يرشح لها دور والوسيط النزيه في إنهاء الصراع الصومالي.
2- ثقة معظم الأطراف الصومالية بالدور العربي في شأنهم؛ إذ إن الجميع يؤمنون بأن العرب ليس لديهم أطاع سياسية وأمنية في الصومال، بخلاف بعض الدول الإفريقية، التي من الواضح أنها تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية في تدخلها للشأن الصومالي.
3- يمكن للدول العربية أن تستخدم نفوذها المالي والسياسي، لفرض أجندتها على الدول والمنظمات المحلية والعالمية، خاصة الإتحاد الإفريقي وإيغاد، ومعروف أن الدول العربية تدفع الملايين الدولارات إلى الدول الإفريقية، كمساعدات مالية أو قروض مؤجلة، ولا ضير أن يستخدم العرب نفوذهم المالي لتحقيق مكاسب سياسية، وإستراتيجية، وأمنية، كما تفعل الدول الغربية، التي لا تدفع دولاراً إلاّ إذا حققت من ورائه مكاسب سياسية، ولا يمكن أن يضحك علينا الضعفاء الذين نمد لهم يد المساعدة قبل الأقوياء.
4- بعض الدول العربية الواقعة جغرافياً في القارة الإفريقية وخاصة مصر، وليبيا، والسودان، تحتل موقعاً مهماً من الخريطة السياسية الإفريقية: سياسياً، وإستراتيجياً، وعسكرياً أيضاً، وفكرة إنشاء الاتحاد الإفريقي، الذي يعمل الآن، وبوتيرة متصاعدة،أُعلن عن ميلاده في مدينة سرت الليبية عام9/9/1999م
وأخيراً فإن جميع الوسائل مهيأة، وجميع الطرق معبدة لدور عربي بارز في الشأن الصومالي، فهل تستفيد الدول العربية من هذه الفرصة؟ أم أنها ستفوتهم كما فاتتهم عشرات الفرص الأخرى؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.
أين ذهبت المحاكم الإسلامية في الصومال؟
فبعد سيطرة "المحاكم الإسلامية" بشكل سريع على العاصمة مقديشو بعد سقوط النظام السابق، حظيت بقبول شعبي في أوساط الصوماليين من اجل تحقيقها الكثير من الانجازات الأمنية التي فشلت فيها الحكومة الانتقالية، وقبلها أمراء الحرب في البلاد، فكانت المفاجأة.. الرد الغربي العنيف عبر الجارة الافريقية إثيوبيا، وكان السقوط السريع، ونتج عن ذلك نتائج سلبية في مسيرة العمل الاسلامي، ليس في الصومال فحسب، بل على مستوى القرن الافريقي.
وحلل بعض السياسيين ذلك السقوط ببعض الاسباب الاستراتيجية.، منها عدم تقدير ردود الفعل الغربية، وعنف الجيش الاثيوبي الحكومي المزود بأحدث الاسلحة والعتاد العسكري ومن ورائه الدعم المادي واللوجستي من قبل امريكا والغرب فلا يتوقع أن تستطيع ميليشا المحاكم ذات الاسلحة الخفيفة مواجهة التفوق العسكري والتسليحي.
ويعتقد أن الاختراق العسكري من تنظيم القاعدة للمحاكم ساهم في وجود التناقض والاضطراب في الخطاب السياسي ففي الوقت الذي يدلي فيه رئيس المجلس التنفيذي للمحاكم تصريحات تدل على نضج سياسي واعتدال فكري فوجئ الجميع بمبادرة بعض قادة المحاكم بالإدلاء بتصريحات تدل على أن استراتيجيات تنظيم القاعدة قد تغلغلت في جسد المحاكم.
كما أن المحاكم لم تعط مجالا لفعاليات المجتمع الصومالي المختلفة من المثقفين والسياسيين وأعيان القبائل من المشاركة في صنع القرار، وكان من الممكن احتواء تلك الفئات وكسبها.
وكان للتوسع السريع نحو الاقاليم التي تتمتع بالاستقرار والهدوء الاثر السلبي تجاههم ومعلوم ما بين القبائل الصومالية من نزاعات وحسابات سياسية.
أضف إلى ذلك الفشل في تسوية المصالحة مع الحكومة الانتقالية واستغلال اعترافها الدولي، وكان بالإمكان ان يسهما معا في صياغة مستقبل الصومال الجديد، وتجنيب البلد ويلات التدخل الخارجي.
ولاشك أن كل تلك الأمور أدت الى نتائج سلبية للصومال عموما وأهمها وقوعها تحت الاحتلال الاثيوبي وترك المساحة للحكومة الانتقالية الضعيفة التي فقدت مصداقية شعبها، مما جعل الصوماليين يعقدون آمالهم في مؤتمرات ومبادرات مستقبلية لا احد يدري ما الذي سينتج عنها، بالإضافة الى عودة الحروب من جديد بعد أن كان الشعب الصومالي مرهقاً ومثقلاً في تلك الحروب طيلة ستة عشر عاما، وتدمير البنية التحتية للعاصمة الصومالية جراء الاشتباكات التي دارت رحاها، ومطاردة العلماء والدعاة وزجهم بالسجون جراء الاشتباكات التي دارت رحاها، ومطاردة العلماء والدعاة وزجهم في السجون بدعوى ما يسمى محاربة الإرهاب، وهروب التجار الصوماليين الى بلدان آمنة مجاورة خوفا من تعرض أموالهم للسلب والنهب وتصفيتهم جسدياً، واستهداف دماء الأبرياء باسم مقاومة المحتل، وإفساح المجال للمنظمات والهيئات المشبوهة التي تسعى لتغيير هوية الانسان الصومالي المسلم.
وكما جاء في الامثال (المال الذي يأتي سريعا يذهب سريعا)، ينطبق على الحكم ايضا، وهذه تحتاج الى وقفة تأمل وتأكد.. هل هم نجحوا فعلاً ام استدرجوا الى النجاح؟! وهل هم سقطوا أم وقعوا في الفخ؟! وما علاقة تنظيم القاعدة الذي يتسبب دائماً في خسائر عسكرية وسياسية وبشرية كبيرة وسريعة للمسلمين في كل مكان مقابل مكاسب قليلة جداً وتنتهي سريعاً جداً؟!
التعليقات
إرسال تعليقك