د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ظاهرة انتشار الفكر التصادمي، ومحاولة "تأصيل الصدام" وتشريعه، وإظهاره بمظهر أخلاقي، وذلك للأسف من قِبَل بعض كبار الكتَّاب والمفكِّرين في عالمنا
الفكر التصادمي
إننا نودُّ أن نُشير إلى ظاهرةٍ خطرةٍ أخرى؛ بل إنَّنا نعدُّها الأخطر في كلِّ ما ذكرناه من ظواهر تُؤَكِّد اندفاع العالم نحو الهاوية، ونقصد هنا ظاهرة انتشار الفكر التصادمي، ومحاولة "تأصيل الصدام" وتشريعه، وإظهاره بمظهر أخلاقي، وذلك للأسف من قِبَل بعض كبار الكتَّاب والمفكِّرين في عالمنا المعاصر!
نظرية "نهاية التاريخ"
وقد ساعدت الثورة الإعلاميَّة الكبرى والأحاديَّة القطبيَّة التي نحيا في ظلِّهَا على انتشار أفكار هؤلاء المنظِّرين الصداميِّين من الأميركيِّين -خاصَّةً- أو الأوربيِّين بشكلٍ عامٍّ، ومن أشهر هؤلاء المنظِّرين الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما[1] (Francis Fukuyama) الذي وضع نظريَّة بعنوان "نهاية التاريخ"، وشرحها في مقاله الشهير "نهاية التاريخ" بقوله: إنَّ ما نشهده الآن ليس نهايةً للحرب الباردة، أو مرور فترةٍ معيِّنةٍ لمرحلة ما بعد الحرب، وإنَّما نهاية للتاريخ، بوضع حدٍّ للأفكار الأيديولوجيَّة في التاريخ الإنساني، معلنة انتصار قيم الليبراليَّة الديمقراطيَّة الغربيَّة التي تمثِّلها بالطبع الولايات المتحدة الأميركيَّة[2].
وبناء على هذه القناعة لدى فوكوياما دعى الرئيسَ الأميركي السابق بيل كلينتون[3] إلى ضرورة التخلُّص من نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ووقَّع على خطاب مماثلٍ وَجَّهَهُ إلى الرئيس بوش[4] في أعقاب هجمات 11 سبتمبر؛ حيث كان فوكوياما مؤمنًا بضرورة التخلُّص من الأنظمة الاستبداديَّة بالقوَّة خاصَّةً في حالة الشرق الأوسط[5]!
نظرية "صدام الحضارات"
وعلى النهج الصدامي نفسه صار صامويل هنتنجتون أستاذ العلوم السياسيَّة الأميركي، الذي نشر في صيف عام 1993م مقالًا بعنوان: "صدام الحضارات" في مجلة الشئون الخارجية (Foreign Affairs) الأميركيَّة، فأثار جدلًا واسعًا، ثُمَّ نشر هنتنجتون هذه الفكرة في كتاب بعنوان "صراع الحضارات" نظريَّة جديدة للعلاقة بين الحضارات، وقد لاقى الكتاب شهرةً واسعة، فتُرجم إلى 33 لغة، ووُزِّعَ في مختلف أنحاء العالم[6].
واللافت في نظريَّة هنتنجتون ونظرته إلى حضارات العالم التي ترى أنَّ ما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات هو "الصدام"، وهذا الصدام أساسه الثقافة أو الهويَّة التي تحكم كلَّ حضارة، ويعتقد هنتنجتون أنَّ خريطة العالم بعد الحرب الباردة ستكون مرتبطة بالتفاعل بين سبع أو ثماني حضارات كبرى تشمل: "الحضارات الغربيَّة، الكونفوشيوسية، اليابانيَّة، الإسلاميَّة، الهنديَّة، السلافيَّة الأرثوذوكسيَّة، والأميركيَّة اللاتينيَّة، وربَّما الإفريقيَّة".
وستكون أهمُّ النزاعات الواقعة في المستقبل عند الحدود الثقافية الفاصلة بين هذه الحضارات، ويرى أنَّ هناك احتكاكًا يحدث الآن وسيزداد في المستقبل على طول تلك الحدود، التي تُعَدُّ -في رأيه- بمثابة نقاط لانفجار الأزمات والحروب الحضاريَّة!
ثمَّ يُبَيِّن هنتنجتون بشكلٍ واضحٍ أنَّ البؤرة المركزيَّة للصراع في المستقبل ستكون بين الغرب من جهة، والإسلام والكونفوشيوسية من جهةٍ أخرى؛ حيث سيعقدان ما سمَّاه "الترابط الإسلامي الكونفوشيوسي" ضدَّ قيم ومصالح الغرب[7].
ونحن نرى أنَّ فكرة صراع الحضارات –وأمثالها- من الأفكار التصادميَّة مثَّلت الأساس النظري لشرعنة عدوان الغرب بقيادة الولايات المتحدة على العالم الإسلامي[8].
أخطر النظريات
وأخطر من ذلك ما جاء به المفكر الفرنسي جون كريستوف روفان[9] (Jean Christophe Rufin) في كتابه "الإمبراطوريَّة والبرابرة الجدد"؛ حيث يُقَسِّم العالم إلى عالمٍ متحضِّرٍ وبرابرة متخلِّفِينَ، وهذا الحال مثل حال الإمبراطوريَّة الرومانيَّة القديمة، التي يصفها بأنَّها كانت عادلة ومتحضِّرة، وجيرانها من الشعوب السلافيَّة والبربريَّة يعيشون دون نظامٍ أو تحضُّر.. ثُمَّ ينتقل إلى واقعنا الحالي فيقول: إنَّ الغرب يُمثِّل روما المتحضِّرَة بينما سكَّان الجنوب؛ مثل: أميركا الجنوبيَّة وإفريقيا وجنوب آسيا، يُمَثِّلون البرابرة الهمج، ولضمان الحفاظ على الشمال الناهض المتقدِّم لا بُدَّ من وجود مناطق عازلة تفصله عن الجنوب المتخلِّف، وهذا ما تُمَثِّله بلاد الشمال الإفريقي في القارَّة الإفريقيَّة، وتركيا ودول القوقاز في آسيا، والمكسيك وكوبا في أميركا اللاتينيَّة، ولا مانع لديه من تقديم الدعم الغربي لهذه المناطق العازلة لتقوية وجودها، وبالتالي حمايته من الهمج المتخلِّفين[10]!
ولعلَّ هذا الطرح يُفَسِّر لنا أمورًا كثيرة نلمسها في واقعنا المعاصر؛ مثل: الدعم الأميركي لدول الشمال الإفريقي لا سيَّما مصر والمغرب، وكذلك يُفَسِّر سَرَّ الرفض الأوربِّي لضمِّ تركيا إلى دول الاتحاد الأوربِّي لتُصبح من دول الشمال، بينما أوربَّا تُريدها حاجزًا وعازلًا عن الدول المتخلِّفة –في رأي روفان- كما تُوَضِّح لنا فكرة روفان سِرَّ الدعم الغربي للكيان الصهيوني منطقةً عازلةً بينهم وبين الجنوب، بالإضافة إلى أنَّها تمتصُّ كلَّ التوتُّرَات والشحنات العدائيَّة الآتية من الجنوب المتخلِّف.
لقد نسي أو تناسى جون كريستوف روفان وأمثاله من أين أتته العلوم التي يتباهى بها الآن، لقد جاءت من دول الجنوب التي يصفها بالجهل، بل إنَّ الغرب لم يعرف علوم الأقدمين إلَّا عن طريق المسلمين؛ فحضارة اليونان لم تُعرف إلَّا من خلال الحضارة الإسلاميَّة وترجماتها[11]، ورأينا في هذا الفصل كيف حصل الغرب على المواد الخام التي بنى بها صناعته ونهضته، ومن أين أتى بالقوى العاملة -المسخَّرة- لخدمته، وكيف استعمر الشعوب وحال بينها وبين العلم، ثُمَّ ينعتها الآن بالجهل والتخلُّف، وكأنَّها وُلدت كذلك همجيَّة ومتخلِّفَة!
ويستطرد روفان في شرح رؤيته قائلًا: "إذا لم ينجح الغرب في التنظيم الديموجرافي لدول الجنوب عن طريق التنمية والتخطيط العائلي، فلا مانع من أن يلجأ إلى طرقٍ وحشيَّةٍ تكون خاصَّةً بالجنوب فقط ولا يُسمح بها في الدول المتقدِّمَة؛ فما دمنا فشلنا في مراقبة وتنظيم الزيادة الديموجرافيَّة، فلماذا لا نترك الكوارث الطبيعيَّة تفعل فعلها؟... مثل: الحرب، والمجاعات، والفيضانات، والزلازل، والأوبئة –وخاصَّةً السيدا[12]- لتتكفَّل بالقضاء على الفائض الزائد من السكَّان في الجنوب"[13]!
***
ونتيجةً لكلِّ العوامل التي مرَّت بها البشريَّة في تاريخنا القريب؛ من حروب استعماريَّة إجراميَّة، التي ما زالت آثار ظلمها تترك غُصَّة في حلق أبناء العديد من الدول، ذلك على المستوى الإنساني، ومن مظاهر التجبَّر التي تُمارسها القوى الكبرى الجديدة التي ورثت عصر الاستعباد والاستعمار، حيث نرى الهيمنة والاغترار بالقوة، ونرى السطوة الإعلاميَّة الجبَّارة، وكيفيَّة صناعة الأعداء، وتأجيج الصراعات المذهبيَّة والعرقيَّة والحدوديَّة لصالح أساطين تجارة السلاح في العالم..
كذلك مما نشاهده من عمليَّات بسط النفوذ السياسي؛ بل والاحتلال العسكري للمناطق الغنيَّة بالمواد الخام ومصادر الطاقة..
وعلى جانبٍ آخر نرى الأزمة المالية العالمية وتداعيَّاتها الضخمة على دول العالم أجمع الغنيَّة منها والفقيرة..
كلُّ ذلك وسط جوٍّ مشحونٍ بمشاعر يملؤها الإحباط واليأس من المستقبل، وبأفكارٍ صداميَّةٍ تُؤصِّل للعنف وتتخذه سبيلًا واحدًا للنجاة..
في النهاية:
نحن نتوقَّع أنَّ العالم مقبلٌ على انفجارٍ كوني جديد..
قد يسحق عددًا كبيرًا من البشر..
وقد تفقد البشريَّة تقدُّمها وتعود عشرات السنين إلى الوراء..
ومن ثَمَّ كانـت هـذه النــــظريَّة[14]..
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] فرانسيس فوكوياما: هو يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama (1952م-..)، كاتب ومفكر أميركي، من أصول يابانيَّة، يُعَدُّ من أبرز مفكري المحافظين الجدد، من كتبه: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، و(الانهيار أو التصدع العظيم).
[2] سوف يتم مناقشة هذا الموضوع بتوسُّع في فصل "وقفة مع الفكر الغربي الحديث" من الباب الثالث في هذا الكتاب.
[3] كلينتون: هو ويليام جيفرسون بيل كلينتُون William Jefferson "Bill" Clinton (1946م-..): رئيس الولايات المتحدة الأميركيَّة رقم (42)، انتُخب لفترتين رئاسيتين متتاليتين بين عامي 1993 و2001م، وفي عام 2004م، أصدر سيرته بعنوان: (My Life).
[4] جورج بوش الابن George W. Bush (1946 -.. ): رئيس الولايات المتحدة الثالث والأربعون، اتَّسمت فترة حكمه بالعدائيَّة والحرب الصليبيَّة على الإسلام، وفي عهده احتُلَّت أفغانستان والعراق ومساندته للصهيونيَّة في فلسطين.
[5] يُمكن الاطلاع على نصِّ الخطاب على هذا الرابط: www.newamericancentury.org/Bushletter.
[6] صحيفة صنداي تايمز الأميركيَّة، 29 ديسمبر 2008م: www.timesonline.co.uk.
[7] محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدولية، ص120، 121.
[8] انظر هذا الموضوع بتوسُّع في فصل "وقفة مع الفكر الغربي الحديث" من الباب الثالث في كتاب (المشترك الإنساني) للدكتور راغب السرجاني.
[9] جون كريستوف روفان Jean Christophe Rufin (1952م-..): طبيب ودبلوماسي ومفكر سياسي فرنسي، عمل سفيرًا لفرنسا في السنغال وجامبيا، وعمل مديرًا للصليب الأحمر الفرنسي، وأستاذًا في معهد الدراسات السياسية في باريس، من كتبه: (المتمردون في العالم).
[10] Jean-Christophe Rufin.L.Empire et les nouveaux barbares - Paris: J.C.Lattes.1991.
[11] للمزيد انظر: راغب السرجاني: ماذا قدم المسلمون للعالم.. إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية، مؤسسة اقرأ - مصر، ط1: 1430هـ=2009م.
[12] السيدا: من الأمراض البكتيريَّة الفتاكة.
[13] Jean-Christophe Rufin."Nord-Sud: C,est La nouvelle gerre froide," Match (Paris) (22aout 1991),P.5.
[14] نظرية المشترك الإنساني (نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب)، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك