التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
وصف القائد النمساوي الشهير أوجين دي سافو معركة زينتا مع العثمانيين بأنها كانت حمَّام دم مرعب، وتكونت فيها من جثث القتلى جزيرة يمكن الوقوف عليها، فما
على حين غِرَّة وغفلة من العثمانين دارت أحداث معركة زينتا، فانقسمت القوة العثمانية إلى نصفين وضعف أمرها أمام جيش النمسا، فوقعت بهم هزيمة ثقيلة راح ضحيتها الصدر الأعظم وبعض الوزارء، وعدد كبير من الجنود مابين قتيل وغريق.
أحوال الدولة العثمانية قبل معركة زينتا
بعد هزيمة العثمانيين من الجيش الأوروبِّي في معركة سلانكامين سنة (1102ه= 1691م)، استمرَّت الحروب في الأعوام التالية بين العثمانيِّين والجيوش الأوروبِّيَّة تتراوح ما بين انتصارات وهزائم بين الفريقين، واستمرَّ الأمر كذلك حتى تُوفِّي السلطان أحمد الثاني في سنة (1106ه= 1695م) وجلس مكانه على عرش الدولة العثمانية السلطان مصطفى الثاني وهو من أكفأ سلاطين بني عثمان وأكثرهم علمًا وثقافة [1].
كان السلطان مصطفى الثاني متَّصفًا بالشجاعة وثبات الجأش، ولذلك أعلن بعد توليته بثلاثة أيَّام رغبته في قيادة الجيوش بنفسه [2]، فعيَّن -أولًا- الماس محمد باشا صدرًا أعظم، وعلى الرغم من معارضة بعض رجال الدولة فقد خرج في حملته السلطانيَّة الأولى إلى النمسا في السنة نفسها التي تولَّى فيها السلطنة -أي سنة (1106ه= 1695م)- وفتح بعض القلاع، ثم عاد إلى إسطنبول بعد أن ألحَّ عليه بعض من حوله، ولكنَّه خرج إلى النمسا في حملته الثانية في السنة التالية -أي سنة (1107ه= 1696م)- واستطاع في هذه المرَّة الانتصار في معركة أولاش على ملك النمسا، وفي أعقاب هذه المعركة عاد إلى أسطنبول [3].
المسير إلى معركة زينتا
بعد هاتين الحملتين الناجحتين على النمسا قرَّر السلطان مصطفى الثاني الخروج في حملةٍ ثالثةٍ جديدة آملًا في تحقيق نصرٍ جديد[4]، فسار من أدرنة في سنة (1109ه= 17/ 6/ 1697م)، ووصل إلى بلجراد في 10 أغسطس من العام نفسه[5]، وفي بلجراد عقد مجلس للمداولة؛ فاستقرَّ الرأي على أن يسير الجيش إلى جهة طمشوار، ثم عبر نهر الطونة إلى يانجوه، وتقدَّم حتى وصل إلى مدينة زينتا الواقعة على نهر تيس[6]، في جنوب المجر، وقد اجتاز الجيش العثماني تسعة جسورٍ حتى وصل إليها[7]، وهناك نصبوا جسرًا ليعبروا إلى الضفَّة الأخرى[8].
تقلَّد البرنس أوجين دي سافو القائد الشهير قيادة الجيش النمساوي[9]، وجاء إلى زينتا وكان قد علم من أحد الأسرى -وهو يُدعى كوجوك جعفر باشا- أنَّ السلطان العثماني اجتاز نهر تيس، وأنَّ الجيش بكامله سوف يعبر خلال أيَّام[10]، فقرَّر أوجين دي سافو شنَّ مجموعةٍ من الهجمات لعرقلة خطِّ سير السلطان العثماني، ونجح بالفعل في الوصول إلى مدينة زينتا بجيشٍ ضخمٍ قبل العثمانيِّين[11].
أحداث معركة زينتا
استغلَّ قائد الجيش النمساوي أوجين دي سافو عبور الجيش العثماني على الجسر ولم يُفوِّت الفرصة التي سنحت له[12]، وقبل الغروب بساعتين[13] يوم (25 صفر سنة 1109ه= 12 سبتمبر سنة 1697م)[14]، فاجأ القائد النمساوي أوجين دي سافو الجيش العثماني أثناء عبوره لنهر تيس[15]، وقصف الجسر الذي يعبرون عليه بنار المدفعيَّة، فانهار الجسر من الناحيتين، وسقط في النهر آلاف الجنود العثمانيِّين.
والأنكى من ذلك أنَّ الجيش العثماني انقسم نصفين؛ نصفٌ على الضفة اليمنى للنهر بقيادة الوزير بيوك جعفر باشا، والنصف الآخر على الضفة اليسرى للنهر بقيادة الوزير أوغلو إبراهيم باشا، وهنا جرت المصيبة المسمَّاة زينتا بين الجيش النمساوي ونصف الجيش العثماني الذي تمكَّن من العبور، أمَّا النصف الآخر الذي لم يتمكَّن من العبور كان متفرِّجًا فقط، ولم يتمكَّن حتى من فتح النار؛ لأنَّ النار التي ستُفتح يُمكن أن تُصيب الطرفين بسبب تشابكهما[16].
كانت المعركة كما وصفها قائد الجيش النمساوي أوجين دي سافو: «حمَّام دمٍ مرعب، وهزيمة سريعة للأتراك، وتكوَّنت من القتلى جزيرةٌ يُمكن الوقوف عليها».
وفي المساء كان كلُّ شيءٍ قد انتهى، وعاد السلطان العثمان مصطفى الثاني إلى طمشوار ومنها إلى بلجراد ثم إسطنبول[17]، ولم يتمكَّن القائد النمساوي أوجين دي سافو من من مطاردة العثمانيين بسبب وجود النهر الذي يفصل بين الفريقين[18].
نتائج معركة زينتا
في هذه المعركة استُشهد عددٌ عظيمٌ من العثمانيِّين، ذُكِر أنَّهم خمسة عشر ألف شهيد[19]، كما ذُكِر -أيضًا- أنَّهم ثلاثة عشر ألف[20]، وتقول المصادر الأجنبيَّة: إنَّ عدد الذين استُشهدوا من العثمانيِّين في المعركة حوالي عشرين ألف شهيد، بينما غرق في النهر عشرة آلاف تقريبًا.
وقد استُشهد -أيضًا- في هذه المعركة الصدر الأعظم الماس محمد باشا وأربعةٌ من الوزراء[21]، وعشرةٌ من البشوات[22]، وقد نجا السلطان العثماني بأعجوبة[23]، ولولا وجوده على الضفة الأخرى لوقع أسيرًا في يد الأعداء، وبهذه الهزيمة ضاعت كافَّة قلاع بلاد المجر من العثمانيِّين، واستولى النمساويُّون على بلاد البوسنة[24].
بالإضافة إلى ذلك فَقَدَ العثمانيُّون كميَّةً كبيرةً من الأسلحة والنقود منها 9000 عجلةٍ حربيَّة، وما بين 60 و70 ألف جمل، و 1500 رأسٍ من الماشية (ثور)، و700 حصان، علاوةً على الختم الهاميوني وهو الختم الخاص بالصدر الأعظم الذي يحمل شعار السلطان، والذي لم يسقط من قبل في يد الأعداء[25].
أسباب الهزيمة في معركة زينتا
قال الله تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
ونحن من قديم الأزل نعرف أنَّ طاعة القائد من أهمِّ أسباب النصر، والاختلاف عليه يُؤدِّي بالجميع إِلى الهزيمة، وهذا ما حدث بالفعل بين جنود الإنكشاريَّة في معركة زينتا؛ فالجنود لم يُعاملوا الصدر الأعظم بمعاملة السلطان نفسه، بل بالعكس أَشْهَرَ الإنكشاريَّة الخناجر على الصدر الأعظم الماس محمد باشا وألقوا على عاتقه مسئوليَّة نسف الجسر، والذي ألقى هذه الفكرة في أذهان الجنود منافسوا الصدر الأعظم الماس محمد باشا الذين يُريدون التخلُّص منه، وبطبيعة الحال فإنَّه ليس من السهل الحرب بجيش بهذا الوضع، والهزيمة بهذا الشكل تكون منطقيَّة [26].
[1] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إستانبول، 2008، ص330، 331.
[2] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ= 1981م، ص308.
[3] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص331، 332.
[4] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية: ترجمة: ناهد إبراهيم الدسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، ص391.
[5] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سليمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا، إستنابول، 1/ 1988م، 1/ 575.
[6] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، مطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ، 1/ 610، 611.
[7] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[8] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، 1/ 611.
[9] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص308.
[10] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[11] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ص392.
[12] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[13] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ص391.
[14] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص308.
[15] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص308.
[16] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[17] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ص392.
[18] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 577.
[19] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، 1/ 611، وأحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص332.
[20] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[21] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ص392، ويلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[22] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، 1/ 611.
[23] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص332.
[24] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، 1/ 611.
[25] جون باتريك كينروس: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ص392، ويلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 576.
[26] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 577.
التعليقات
إرسال تعليقك