التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعَدُّ أورخان بن عثمان أحد العلامات البارزة في تاريخ العثمانيِّين؛ بل لولاه لكانت الإمارة العثمانية كغيرها من الإمارات التركيَّة الكثيرة المجهولة.
تُوفِّي عثمان بن أرطغرل سنة 1326م، وتسلَّم حكم الإمارة من بعده ابنه أورخان Orhan، وكان يبلغ من العمر ثمانية وأربعين عامًا آنذاك[1]، ويُعَدُّ أورخان أحد العلامات البارزة في تاريخ العثمانيِّين؛ بل يُمكنني القول: إنَّه لولا أورخان لما اشتهر عثمان، ولكانت الإمارة العثمانية كغيرها من الإمارات التركيَّة الكثيرة المجهولة، التي نشأت في الأناضول لعدَّة سنوات، ثم انتهى أمرها دون أن يسمع عنها أحدٌ من الناس، كإمارة قراسي، ومنتشا، وصاروخان، وغيرها من الإمارات الصغيرة.
فتح بورصا:
لقد استهلَّ أورخان حكمه عام 1326م بحدثٍ كبير، وهو فتح مدينة بورصا Bursa[2]، وكانت من أهمِّ المدن البيزنطيَّة في الأناضول، وأحدث هذا الفتح دويًّا كبيرًا في المنطقة بأسرها، ولفت أنظار الدولة البيزنطيَّة إلى النجم الجديد الذي ظهر في الأناضول؛ لكن البيزنطيِّين لم يكونوا في حالةٍ عسكريَّةٍ تسمح لهم بتوجيه جيشٍ من القسطنطينية لتخليص بورصا، فتُرِكَت المدينة لمصيرها، وأسرع أورخان بتحويلها لقاعدةٍ له، فصارت بذلك عاصمة العثمانيِّين لفترةٍ طويلةٍ من الزمن[3].
إزاء هذا التطوُّر لم يستطع الإمبراطور البيزنطي أندرونيقوس الثالث Andronicus III السكوت على هذا التفوُّق العثماني، فحرَّك جيشًا كبيرًا بقيادته شخصيًّا لقتال أورخان؛ ولكن هذا الجيش مُنِيَ بهزيمةٍ ثقيلةٍ في 10 يونيو 1329م في موقعة بيليكانون Pelekanon[4]، ممَّا أحدث مفاجأةً مدوِّيةً في الأناضول، واشتُهر أورخان بشكلٍ غير مسبوق.
أعطى هذا الانتصار أورخان هيبةً كبيرة، وهزَّ مشاعر الناس، من المسلمين وغير المسلمين؛ بل إنَّ كثيرًا من نصارى المنطقة تسارعوا في الدخول في الإسلام، خاصَّةً بعد رؤية الفارق الضخم في تعامل العثمانيِّين المسلمين معهم، واختلافه اختلافًا بيِّنًا عن تعامل الأمراء البيزنطيِّين أو الأوروبيِّين بشكلٍ عامٍّ، وهذا الدخول في الإسلام، والتكالب على الانضمام لهذه الدولة الجديدة، أعطاها كثافةً سكانيَّةً عالية، فتضاعفت في القوَّة في غضون فترةٍ محدودة.
استمرَّ أورخان في توسُّعه المتدرِّج، وكان منظَّمًا جدًّا في خطواته، فحرص على إعطاء الإمارة شكل الدولة المستقلَّة مع أنَّه لم يُعلن الاستقلال قط عن الدولة الإيلخانية في تبريز؛ ولكنَّه في الوقت ذاته أنشأ دارًا لصكِّ النقود، وسعى إلى سنَّ قوانين، وتنظيم أمور الزكاة والجزية، والعمل على تعمير المدن والقرى بالأتراك والمسلمين، والتواصل الجيِّد مع طوائف النصارى الكبيرة التي صارت تحت حكمه بعد فتح بورصا وما حولها من قرى[5].
تأسيس الإنكشارية:
واجه أورخان مشكلةً عسكريَّةً في أوائل سني حكمه، وهي عدم وجود مشاةٍ في جيشه؛ إذ كان الجيش يعتمد على الفرسان التركمان، وهذا أدَّى إلى أمرين سلبيَّين؛ أمَّا الأمر الأول فهو عدم القدرة على فتح القلاع والحصون دون وجود المشاة، والأمر الثاني هو صعوبة استدعاء الفرسان التركمان بشكلٍ دوريٍّ للقتال والفتح؛ إذ كانت لهم طموحاتهم الخاصَّة بتملُّك الأراضي، واستثمارها لأنفسهم، وكان أورخان قد اعتاد أن يُعطي الفرسان التركمان إقطاعيَّاتٍ من الأراضي المفتوحة كنوعٍ من الغنيمة التي تُقسَّم على الجيش المنتصر، وهذا أدَّى إلى رغبة هؤلاء الفرسان في البقاء لمدَّةٍ أطول في أرضهم بغية تنميتها واستثمارها.
كان حلُّ هذه المشكلة يكمن في تكوين جيشٍ نظاميٍّ محترفٍ يكون منقطعًا للجهاد، وتعتمد عليه الدولة في توسُّعاتها وحفاظها على أمنها الداخلي والخارجي، فجاءت فكرة تكوين جيش الإنكشارية، وكان هذا على الأغلب في سنة 1330؛ أي بعد أربع سنواتٍ من تسلُّم أورخان للحكم[6].
وكلمة الإنكشارية هي تحريف للكلمة التركية «يني ﭼري» وتعني الجيش الجديد[7]، وكانت فكرة تكوينه قريبةً من فكرة العباسيين، والطولونيين، والإخشيديين، والأيوبيين، في تكوين جيش من المماليك الذين يدينون بالولاء للدولة بشكلٍ عام، وللسلطان الحاكم بشكلٍ خاص، وتكون وظيفتهم الوحيدة هي الجهاد في سبيل الله.
كان أورخان يُدرك أنَّ الأتراك لن يقبلوا بفكرة الانقطاع عن الحياة الطبيعيَّة والتفرُّغ الكامل للقتال؛ فقرَّر أن يكون هذا الجيش معتمدًا على الأطفال غير المسلمين[8] الذين فقدوا عائلاتهم في الحروب، أو الذين أسروا في أثناء القتال، أو أولئك الذين تم شراؤهم من أسواق العبيد المنتشرة آنذاك، وكان أورخان يهدف إلى تربية هؤلاء الأطفال تربيةً إسلاميَّةً جهاديَّةً منذ صغرهم، فيُنشئون على حبِّ الدين، وفي الوقت ذاته يحترفون القتال ويتخصَّصون فيه، ممَّا سيجعل مهارتهم مختلفةً عن بقيَّة جيوش العالم التي تُجمع في وقت القتال فقط.
وكانت الفكرة طيِّبةً بشكلٍ عامٍّ؛ ولكنَّها كانت تحوي بين طيَّاتها مخالفةً شرعيَّةً كبيرة في كون قانون الإنكشارية كان يُلزم هؤلاء الجنود بعدم الزواج أبدًا[9]؛ ومِنْ ثَمَّ الانقطاع الكامل للقتال دون الانشغال بتكوين أسرة، أو رعاية زوجة وأطفال!
والحقُّ أنَّ هذا السلوك منهيٌّ عنه في الإسلام؛ فقد قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا..»[10]. والرهبانيَّة هي الانقطاع عن الحياة الطبيعيَّة، والتفرُّغ لغيرها من أمور الدين، كالجهاد أو العبادة؛ لأنَّ هذا يُنتج فردًا غير سويٍّ؛ حيث يتنازل عن احتياجاتٍ فطريَّةٍ أساسيَّةٍ في سبيل تحقيق غايةٍ أخرى، وهذا لا يستقيم حتى لو كانت الأهداف عظيمة، والغايات نبيلة، وهذه المخالفة الشرعيَّة هي التي أحدثت فسادًا في الإنكشارية في مستقبلها، مع إنَّها ظلَّت -ولفترةٍ طويلةٍ من الزمن- عماد الجيش العثماني، وأقوى الفرق العسكريَّة فيه، والسبب في نجاح كثيرٍ من الفتوحات الصعبة في أوروبا والأناضول.
والواقع أنَّه لا صحَّة لقصَّة مباركة مؤسِّس الطريقة الصوفيَّة البكتاشية حاچي بكتاش لهذه الفرقة العسكريَّة[11]، وإن كان هذا لا يمنع أنَّ تغلغل الطريقة البكتاشيَّة في الإنكشارية كان كبيرًا، ممَّا أسهم في الطبيعة الدينيَّة لهم، على الأقل في فترات تكوينهم الأولى.
وفي تطوُّرٍ مهمٍّ سنة 1331م استطاع أورخان أن يفتح أهمَّ مدينةٍ بيزنطيَّةٍ على الإطلاق في الأناضول، وهي مدينة نيقية Nicaea، والمعروفة الآن بمدينة إزنيك İznik[12]، وهي مدينةٌ تاريخيَّةٌ قديمة، وذات كثافةٍ سكانيَّةٍ عالية، كما أنَّها مطلَّةٌ على خليج إزنيك المتَّصل ببحر مرمرة، ما يعني تحَّول الإمارة العثمانية من إمارةٍ داخليَّةٍ محدودة الخطورة إلى إمارةٍ مطلَّةٍ على البحار المفتوحة، ممَّا يُعطيها قدرةً كبيرةً على التوسُّع، ويجعلها تُشكِّل خطرًا ملموسًا على قلب الدولة البيزنطيَّة المتمثِّل في القسطنطينية.
ثم حدث تطوُّرٌ جديدٌ في أحداث المنطقة غيَّر من مسار الدولة بشكلٍ واضح، وهو سقوط الدولة الإيلخانية سنة 1335م، واستغلَّ أورخان الحدث بسرعةٍ وأعلن استقلال الدولة العثمانية عن التبعيَّة لأيِّ أحد؛ بل أعلن نفسه وريثًا لعرش السلاجقة الذين سقطوا منذ 27 سنة، وكان هذا الإعلان هو الميلاد الحقيقي للدولة العثمانية، كما أنَّه كان يعني دعوة الإمارات التركيَّة الإسلاميَّة للانضمام إلى الدولة العثمانية كتابع، مثلما كان الحال مع دولة السلاجقة، ولا شَكَّ أنَّ هذا الإعلان من أورخان لم يجد قبولًا عند عموم الإمارات التركيَّة؛ حيث ترغب كلُّ إمارةٍ في الاستقلال عن غيرها مهما صغر حجمها، ولقد اكتفت بعض الإمارات بالصمت حيال هذا الإعلان؛ بينما أعلنت الإمارات القويَّة كبني قرمان رفضها لهذا الإعلان؛ بل التصريح بمعاداة بني عثمان[13].
كان إعلان أورخان هذا إعلانًا سياسيًّا على خلفيَّة انتصاره على إمبراطور الدولة البيزنطيَّة، وعلى خلفيَّة تنامي قوَّته، وتركيزه في رفع راية الإسلام أمام الأعداء التقليديِّين للمسلمين، وقد كان في الواقع إعلانًا منطقيًّا؛ حيث لم يكن من المقبول أن يبقى الأناضول ممزقًا إلى هذا العدد الكبير من الإمارات المستقلَّة، مضيِّعين بذلك فرصة الغلبة على الدولة البيزنطيَّة المنهارة.
ومع قوَّة أورخان المتنامية فإنَّه اكتفى بالإعلان السياسي، ولم يُطوِّره إلى إعلانٍ عسكري؛ بل ظلَّ محافظًا على علاقاته السلميَّة مع المسلمين على الرغم من رفضهم المعلن أو الصامت للانضمام إليه، وأكثر من هذا فقد صعَّد أورخان صدامه مع البيزنطيِّين ففتح مدينة نيقوميديا Nicomedia (الآن إزميد Izmit) سنة 1337[14]، وبذلك سقطت معظم المعاقل البيزنطيَّة المهمَّة في الأناضول.
عانت بذلك الدولة البيزنطيَّة من وجود أورخان القوي إلى جوارها، وازدادت معاناتها بوفاة إمبراطورها أندرونيقوس الثالث في عام 1341م؛ وولاية طفلٍ صغيرٍ عليها هو چون الخامس John V[15]؛ وذلك تحت وصاية أمِّه، ممَّا أحدث خللًا واضحًا في كيان الدولة استغلَّه أورخان بفتح بقيَّة الأراضي البيزنطيَّة جنوب بحر مرمرة؛ وذلك في الفترة بين سنتي 1342 و1345م[16].
ومع أنَّ أورخان أعلن في سنة 1335م أنَّه وريث الدولة السلجوقية، فإنَّ هذا الإعلان لم يؤتِ ثماره الحقيقيَّة إلَّا بعد عشر سنواتٍ كاملة! فقد استغلَّ أورخان صراعًا بين ورثة حاكم إمارة قراسي Karesi الواقعة في غرب الإمارة العثمانية، فتدخَّل لحسمه، وانتهى الأمر بضمِّ الإمارة التركيَّة إلى العثمانية[17]، وكان هذا الضم في عام 1345م[18]، وهي أوَّل أرضٍ مسلمةٍ تُضَمُّ إلى الإمارة العثمانية؛ ومع صغر حجمها فإنَّ الحدث كانت له آثارٌ كبيرةٌ على أرض الواقع!
كان أول الآثار الكبرى لانضمام إمارة قراسي للعثمانيين هو التأكيد المعنوي على وراثة آل عثمان للسلاجقة، وإذا كانت البداية من قراسي الصغيرة فهذا هو أوَّل الغيث، وسوف تكون هذه بدايةً لانضمام إماراتٍ تركيَّةٍ أخرى، فعادة ما يتردَّد الناس في فعل شيء ما، ثم يتدافعون لفعله عندما يرون البداية، وهذا ما سيحدث في قصَّتنا.
أيضًا حقَّق هذا الانضمام نموًّا عسكريًّا بارزًا للإمارة العثمانيَّة؛ إذ زادت قوَّة الجيش زيادةً مهمَّة؛ حيث انضمَّ إلى العثمانيين خمسةٌ وعشرون ألف مقاتلٍ محترف، فصارت قوَّة جيش العثمانيِّين تقترب من 115 ألف مقاتل[19]، بالإضافة إلى انضمام أسطول قراسي البحري إلى الإمارة العثمانية، وهذا الأسطول وإن كان صغيرًا، فإنه مثَّل النواة التي يمكن للعثمانيِّين أن يُطوِّروها مستقبلًا إلى أسطولٍ قويٍّ يُمكن أن يُحْدِث أثرًا ملموسًا في بحر مرمرة، وهذا ما رأيناه بعد سنواتٍ قليلةٍ جدًّا من انضمام قراسي للعثمانيِّين.
كان هذا الظهور العثماني اللافت دافعًا إلى حدوث تطوُّراتٍ عجيبةٍ في العلاقة بين الدولة البيزنطيَّة والعثمانيين! لقد كان هناك صراعٌ على العرش في الدولة البيزنطيَّة في هذا التوقيت، وانقلب أحد أبناء العائلة المالكة، وهو كانتاكوزين Cantacuzene، على الإمبراطور الطفل چون الخامس، وأخذ العرش لنفسه، وتلقَّب بچون السادس John VI؛ ولكنَّه لم ينجح في تحقيق الاستقرار لضعف قوَّته العسكريَّة، ففكَّر في الاستعانة بأورخان والعثمانيِّين! ولعلَّ هذه هي المرَّة الأولى في تاريخ الدولة البيزنطيَّة التي يُفكر فيها أحد القادة البيزنطيِّين الكبار في الاستعانة بالمسلمين لحلِّ مسألةٍ داخليَّة! طلب الإمبراطور البيزنطي الجديد كانتاكوزين چون السادس مقابلة أورخان؛ بل دعاه إلى القدوم إلى القسطنطينية، ولكنَّ أورخان لم يطمئنَّ إلى الذهاب إلى عقر دار البيزنطيِّين؛ بل طلب من الإمبراطور البيزنطي أن يأتي هو إلى الإمارة العثمانية، وقَبِل الإمبراطور البيزنطي! وتمَّ اللقاء المرتقب بين الزعيمين في أسكودار Üsküdar على البر الأناضولي في مواجهة القسطنطينية، وكان هذا في سنة 1347م[20].
طلب الإمبراطور البيزنطي بشكلٍ مباشرٍ من أورخان أن يدعمه عسكريًّا؛ وذلك عن طريق نقل قوَّاتٍ عثمانيَّةٍ إلى البرِّ الأوروبي، وسوف تدعم هذه القوات قوَّاتَ الإمبراطور في السيطرة على الوضع في القسطنطينية.
كان الطلب يُمثَّل حجر زاوية في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقبول هذه الاتفاقيَّة قد يفتح أبواب أوروبا أمام العثمانيِّين، وقد يُحقِّق ما عجز عنه المسلمون طوال القرون السبعة الماضية، وهو نشر الإسلام في القارَّة العجوز؛ لكن في الوقت نفسه قد يفتح أبوابًا من الصدام على العثمانيِّين لا طاقة لهم بها، فالأمر قد لا يتوقَّف على الدولة البيزنطيَّة؛ بل قد يُفْتَح الصراع مع القوى الأوروبية الأخرى في شرق أوروبا.
كانت خطوة حرجة للغاية! فماذا فعل أورخان؟!
لقد كان أورخان سياسيًّا قديرًا، ومحاربًا محنَّكًا، وموهوبًا في إدارة الأمور، وأهم من كلِّ ذلك كان موفَّقًا من الله في خطواته، مسدَّدًا في أقواله وأعماله، فاختار موافقة الإمبراطور البيزنطي على طلبه، معتبرًا ذلك استغلالًا لفرصةٍ قد لا تتكرَّر لعقودٍ قادمة.
حسب أورخان حساباته فوجد أنَّ اضطرار الإمبراطور البيزنطي إلى طلب المساعدة يعني ضعفًا كبيرًا في إمكانيَّات الدولة البيزنطيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ فعليه استغلال الفرصة للتغلغل في كيان هذه الدولة العتيقة، لعلَّ هذا يكون طريقًا لإسقاطها لاحقًا عندما تنتهي هذه الاتفاقيَّة، خاصَّةً وهو يعلم أنَّ الاتفاق مع الدولة البيزنطيَّة سيكون مؤقَّتًا لا محالة؛ وذلك لعمق الجروح بين المسلمين والبيزنطيِّين، وإذا كان كانتاكوزين چون السادس يقبل بالاتفاق الآن ويُعطي تنازلات، فإنَّ الأباطرة من بعده سيرفضون هذه الاتفاقيَّات والتحالفات، وسيعود العداء مجدَّدًا بين الفريقين، ومن هنا فالفرصة لن تتكرَّر غالبًا.
ومع أنَّ الفرصة رائعة بالنسبة إلى المسلمين فإنَّ أورخان لم يتسرَّع بالموافقة دون التوثُّق من حفاظ الإمبراطور البيزنطي على المعاهدة، وأخذ الضمانات الكافية لعدم الغدر به، وكان هذه الضمان عجيبًا؛ إذ كان زواجًا سياسيًّا مهمًّا! حيث تزوج أورخان من تيودورا Theodora ابنة الإمبراطور البيزنطي[21]! وهذه هي المرَّة الأولى في التاريخ التي يتزوَّج فيها أميرٌ مسلمٌ من ابنة إمبراطورٍ بيزنطي، وهي خطوةٌ تعني الكثير والكثير، فهي تعني أنَّ الدولة البيزنطيَّة قد وصلت إلى درجةٍ من الضعف لم تُسْبَق؛ لأنَّ قبول إمبراطورها بزواج ابنته الأرثوذكسيَّة من أميرٍ مسلمٍ أمرٌ كبيرٌ في تاريخ الدولة، ويعني كذلك رغبة الإمبراطور البيزنطي الجارفة في إتمام الاتفاقيَّة والحفاظ عليها بكلِّ ما أوتي من قوَّة؛ لأنَّه لن يزوِّج ابنته من أورخان إلَّا إذا كان سيقوم بكامل واجبات المصاهرة؛ لأنَّ أيَّ خللٍ بهذه الواجبات يعني انتقاصًا كبيرًا للإمبراطور، وهو أمرٌ غير مقبولٍ له، كما أنَّ هذا الزواج يعني أنَّ أورخان قد وصل إلى درجةٍ من القوَّة لم يصل إليها أيُّ أميرٍ تركيٍّ في الأناضول، وهذا قد يفتح له أبوابًا مغلقةً كثيرة، ولا يُستبعد أن يقبل بعض الأمراء الأتراك بما كانوا يرفضونه من قبلُ، وأعني بذلك الانضمام إلى الإمارة العثمانية تحت زعامة أورخان، فهو لم يَعُدْ مجرَّد أميرٍ تركيٍّ في الأناضول؛ بل صار صهر الإمبراطور البيزنطي الكبير، فضلًا عن وجود فرصة لأورخان بالتوسُّع في أوروبا على حساب القوى الأخرى، ممَّا سيُعطيه قوَّةً أكبر، ونفوذًا أوسع؛ هكذا تم الزواج، وتحقَّقت المساعدة العسكريَّة، وثبت چون السادس في كرسيه!
لقد كان هذا الزواج السياسي أمرًا مشتهرًا في أوروبا، وكان يُستخدم لتوثيق الاتفاقيَّات والمعاهدات الخطرة، التي يتعاهد فيها طرفان لا يأمن أحدهما الآخر بشكلٍ كبير، وكان مثل هذا الزواج معروفًا كذلك في الأوساط الإسلاميَّة، وفعله كثيرٌ من القادة المسلمين في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي؛ بل فعله رسول الله ﷺ بزواجه من جويرية بنت الحارث ابنة زعيم قبيلة بني المصطلق[22]، وفعله بزواجه من صفية بنت حيي ابنة زعيم يهود خيبر[23]، والمهم في الأمر أن يكون الزواج طبيعيًّا وحقيقيًّا، وليس مجرَّد عقود ورقيَّة لا قيمة لها.
لم يقف الأمر عند حدِّ استعانة الإمبراطور البيزنطي بأورخان في تثبيت ملكه في القسطنطينية؛ فقد طلب مساعدته مرَّةً ثانيةً في مواجهة السلاڤيين في أوروبا! والسلاڤ هم مجموعات عرقيَّة خاصَّة توطَّنت في أوروبا الوسطى، وانتقلت إلى أوروبا الشرقية، وكذلك إلى روسيا، وكانت أقوى ممالكهم في ذلك الوقت هي ممالك صربيا، وبلغاريا، والبوسنة، وكانوا في صدامٍ مستمرٍّ مع الدولة البيزنطية، وقد ظهر فيهم سنة 1331م.
ملكٌ عظيمٌ هو استيفان دوشان Stefan Dušan، الذي تولى حكم صربيا، وأسَّس مملكةً قويَّةً ما لبثت أن توسَّعت في المناطق حولها، حتى بلغ الأمر في سنة 1346م ذروته عندما اقتحمت قوات استيفان دوشان أملاك الدولة البيزنطية، وضمَّت إلى مملكة صربيا بلاد كوسوڤو، وألبانيا، ومقدونيا، وبلغاريا، ونصف اليونان الشمالي، وتلقَّب استيفان دوشان بالقيصر Tsar، وأصبحت صربيا في عهده إمبراطورية ضخمة، واستعدَّ لمهاجمة القسطنطينية، وكان الموقف في غاية الحرج بالنسبة إلى الدولة البيزنطية[24].
دفعت هذه الأوضاع المضطربة چون السادس إلى اللجوء لأورخان لمساعدته في حرب الصرب، على الأقل في الدفاع عن القسطنطينية؛ رأى أورخان أنَّ الصدام مع الصربيين لن يكون شاقًّا جدًّا؛ لأنَّ القوَّة الصربيَّة صارت موزَّعةً على كامل شرق أوروبا؛ فهناك قوات في صربيا نفسها، وهناك قوات في كوسوڤو، وألبانيا، وبلغاريا، بالإضافة إلى قواتٍ أخرى في اليونان؛ ومِنْ ثَمَّ فقتال السلاڤ في المناطق المحيطة بالقسطنطينية لن يكون صعبًا على أورخان، كما أنَّ خطَّ الرجعة له في الأناضول مفتوح، ولن يكون سهلًا على قيصر صربيا أن يعبر بحر مرمرة إلى الأناضول ليغرق في مستنقع حربي خطر بين المسلمين.
هكذا حسب أورخان الأمر، وقَبِل مساعدة الإمبراطور البيزنطي.
هكذا عبر الجيش العثماني إلى أوروبا لصدِّ هجوم سلاڤي على البيزنطيين[25]، وبعدها بقليل في السنة نفسها -أي في سنة 1347م- عبر عشرة آلاف جندي عثماني لصدامٍ جديد؛ بل تغلغل العثمانيُّون إلى سالونيك في اليونان بعشرين ألف جندي سنة 1349م لقتال الصربيين المهاجمين لبعض أملاك البيزنطيين[26].
كانت هذه التحركات العثمانية في أوروبا تتم بقيادة سليمان بن أورخان[27]، وهو ولي العهد الشاب الذي يُعَدُّ الغازي المسلم الأول الذي يخوض مثل هذه المعارك في الأراضي الأوروبية الشرقية، وكان مقاتلًا محترفًا، وفارسًا مقتدرًا، استطاع تحقيق عدد من الانتصارات على الجيوش الصربية الطامعة في بسط السيطرة على هذه الأماكن البيزنطية المهمَّة.
وفي سنة 1352م استطاع سليمان بن أورخان أن يُشتِّت جيش الصرب والبلغار المستهدِف للقسطنطينية[28]، وكان انتصارًا كبيرًا حقَّق الأمان للمدينة العريقة، وردَّ البيزنطيون الجميلَ للعثمانيين بإهدائهم قلعةً عسكريَّةً اسمها قلعة تشيمب Çimpe Castle على شبه جزيرة جاليبولي Gallipoli peninsula في الضفة الأوروبية المقابلة لمدينة جنق قلعة Çanakkale في الضفة الأناضوليَّة التركيَّة[29]، وكان هذا حدثًا كبيرًا للغاية؛ لأنَّ هذه هي أوَّل أرضٍ أوروبيةٍ يمتلكها المسلمون في شرق أوروبا، وكانت البداية لتوسُّعاتٍ كبيرةٍ ستحدث لاحقًا، وكانت هذه القلعة مهمَّةً جدًّا لأنَّها واقعةٌ على أضيق نقطةٍ في مضيق البوسفور؛ ومِنْ ثَمَّ فهي تُمثِّل حمايةً استراتيجيَّةً مهمَّةً للجيوش العثمانيَّة العابرة لهذا المضيق.
استمرَّت المعاهدة بين البيزنطيين والمسلمين سبع سنوات كاملة من سنة 1347م إلى سنة 1354م، وفي هذا العام الأخير نُحِّي الإمبراطور البيزنطي چون السادس، وتولَّى الإمبراطور چون الخامس القيادة من جديد[30]، وبطبيعة الحال فقد ألغى الاتفاقيَّة مع العثمانيين، وهذا أمرٌ متوقَّعٌ لأنَّ الاتفاقيَّة أُبرِمت في الأساس لدعم الانقلاب عليه هو شخصيًّا، ومن ثَمَّ عادت الأمور لطبيعتها الأولى؛ من حيث تجدُّد الصدام التقليدي بين المسلمين بقيادة العثمانيين، وبين البيزنطيين بقيادة چون الخامس.
لم يكن هذا التطوُّر السياسي في الدولة البيزنطية ضارًّا بالدولة العثمانية؛ بل كان مفيدًا للغاية! فانتهاء المعاهدة وتجدُّد الصراع حقَّق عدَّة منافع للعثمانيِّين!
لقد صارت الجيوش العثمانية الآن موجودةً في الأراضي الأوروبية، وقد امتلك العثمانيون في هذه السنوات السبع خبرة بالمناطق الجديدة التي دخلوها، كما امتلكوا قلعةً عسكريةً مهمَّةً في الساحل الأوروبي للدردنيل، بالإضافة إلى تمتُّع العثمانيين بمهاراتٍ بَحْريَّةٍ كبيرةٍ من خلال العبور المتكرِّر لبحر مرمرة في خلال هذه السنوات من الوفاق مع البيزنطيين، وليس هذا فقط؛ بل صار لدى العثمانيين المسوِّغ الشرعي لحرب السلاڤ بقيادة الصرب؛ ومن ثَمَّ صارت أراضي شرق أوروبا مفتوحة للعثمانيين إذا أرادوا التوسُّع فيها؛ لأنها مملوكةٌ لأعداء محاربين سواء كانوا من البيزنطيين أم من الصرب.
بعد استيلاء چون الخامس على الحكم في القسطنطينية وانتهاء المعاهدة بعامٍ واحدٍ، حدث أمرٌ آخر مهمٌّ، وهو الموت المفاجئ لقيصر صربيا استيفان دوشان في ديسمبر 1355م، في أثناء تدبيره لحملة صليبيَّة مع البابا لطرد العثمانيِّين من أوروبا[31]! لقد مات القيصر فجأةً وهو في السابعة والأربعين من عمره، وكان موته ضربةً قاضيةً للإمبراطورية الصربية التي ضعفت بشكلٍ كبيرٍ بعد موته، خاصَّةً أنَّ القيصر أوروش Uroš الذي تولَّى بعده كان ضعيفًا للغاية؛ بل صار معروفًا في التاريخ الصربي «بأوروش الضعيف» Uroš the Weak[32]! وكان هذا ترتيبًا ربانيًّا عجيبًا للدولة العثمانية، التي فُتِحَت لها أبواب أوروبا في ظروفٍ استثنائيَّةٍ لا تتكرَّر إلا كل عدَّة عشراتٍ أو مئاتٍ من السنين، وانظر إلى العوامل التي تضافرت معًا لتسهيل؛ بل ترسيخ، الوجود العثماني في أوروبا.
أولًا: ضعف بيزنطي ظاهر، وحرب أهلية بالقسطنطينية، وولاية الصغير چون الخامس، وثانيًا: ضعف الإمبراطورية الصربية، وعدم قدرتها على الحفاظ على أملاكها الواسعة في شرق أوروبا، وثالثًا: حالة من السخط الشعبي الأوروبي على الزعماء الأوروبيين بشكلٍ عامٍّ؛ لأنهم كانوا يُعاملون الفلاحين بطريقةٍ استعلائيَّةٍ متكبِّرة؛ بل كانوا يستعبدونهم بطريقةٍ وحشيَّة؛ وذلك لاستغلالهم في المعارك المتتالية التي عانت منها المنطقة في غضون السنوات الماضية، وكان البيزنطيون والسلاڤ متساويين في ذلك، فرغب أهل المنطقة في الخلاص منهما جميعًا، وكان البديل العثماني مناسبًا للغاية؛ حيث اشتهر العثمانيون -خاصَّة أورخان- بالتعامل الرحيم مع طوائف الفلاحين والبسطاء بشكلٍ عامٍّ.
دفعت هذه العوامل مجتمعة أورخان إلى اتِّخاذ قرار البقاء في أوروبا؛ ومن ثَمَّ بدأ في عملية فتح منظمة لمنطقة جاليبولي، وهي شبه جزيرة استراتيجية؛ إذ تُسيطر على الساحل الغربي من بحر مرمرة ومضيق الدردنيل، وتولَّى عملية الفتح سليمان بن أورخان، الذي حقَّق نجاحاتٍ باهرةً في هذا المجال؛ فاستطاع أن يفتح شبه الجزيرة كله[33]؛ بل يصل إلى نهر ماريتزا Maritsa[34] (معروف في المصادر التركية والعربية بنهر مريج)، وهو النهر الفاصل الآن بين الحدود التركية واليونانية، وهذا كلُّه مثَّل حصارًا خطرًا لمدينة القسطنطينية من غربها.
وفي سنة 1357م تُوُفِّيَ المجاهد سليمان بن أورخان بعد أن سقط من على جواده في إحدى حملاته، نسأل الله أن يُعطيه أجر الشهداء، وتولَّى ولاية العهد من بعده أخوه مراد بك، واستكمل فور ولايته دور أخيه بالسيطرة على شبه جزيرة جاليبولي[35]، ولم يكتفِ أورخان بهذا الفتح العسكري للمنطقة وكامل قلاعها؛ بل أرسل عددًا كبيرًا من الرعاة التركمان ليستوطنوا في شبه جزيرة جاليبولي[36]؛ وذلك للعمل على الاستقرار الأبدي في المنطقة، وتتريكها تتريكًا كاملًا.
وفي غضون هذه السنوات التي بزغ فيها نجم أورخان فاتحًا إسلاميًّا متميِّزًا، أسرعت إمارتان تركيتان جديدتان بالانضمام إلى الإمارة العثمانية، وهما إمارة چاندار أوغللري، التي يطلق عليها أومور بك أوغللري، وإمارة آخي في شرق الإمارة العثمانية[37]، والواقع أنَّ الإمارة الأولى كانت جزءًا من إمارة قزل أحمدلي في الشمال الشرقي من الإمارة العثمانية، ولم تكن لها أهميَّةٌ استراتيجيَّةٌ قصوى، لولا أنَّها فَتحت المجال للتمدُّد العثماني في منطقة الشمال، أمَّا الإمارة الثانية، وهي إمارة آخي، فهي على صغر حجمها كانت ذات أهميَّةٍ كبرى في هذه المرحلة التاريخيَّة من عمر الدولة العثمانية، ويرجع هذا إلى أمرين أساسيَّين؛ أمَّا الأول فهو وجود أهميَّةٍ استراتيجيَّةٍ كبرى لمدينة أنقرة الواقعة في حدود هذه الإمارة الصغيرة؛ وذلك لأنَّها تُسيطر على كلِّ محاور الطرق الداخليَّة للأناضول، وحيث إنَّ طبيعة الأناضول جبليَّةٌ بشكلٍ كبيرٍ، يُصبح المرور من خلال أنقرة أمرًا ضروريًّا لمن أراد أن يتحرَّك في الأناضول من الشرق إلى الغرب، أو من الشمال إلى الجنوب، أو عكس ذلك؛ ومِنْ ثَمَّ فانضمام هذه المدينة إلى الدولة العثمانية أعطاها أهميَّةً عسكريَّةً واقتصاديَّةً غير متناهية، وأمَّا الأمر الثاني الذي يُعطي أهميَّةً خاصَّةً لإمارة آخي؛ فهو أنَّها كانت قديمًا تتبع إمارة قرمان، فلا شَكَّ أنَّ هذا الانضمام الأخير سيُثير هذه الإمارة القويَّة بشكلٍ خاصٍّ، ومِنْ ثَمَّ صار متوقَّعًا أن نرى صدامًا قريبًا بين القرمانيين والعثمانيين، وهو ما كان أورخان يُحاول تجنُّبه قدر استطاعته؛ لكن هذه هي سُنَّة الحياة؛ حيث لا يقبل الأقوياء غالبًا الوجود إلى جوار بعضهم البعض دون مشاكسةٍ أو صراع.
هكذا كان أورخان يتحرَّك على محورين كبيرين في حياته: محور الأناضول والإمارات التركية، ومحور أوروبا بتحدِّياته الكبرى؛ سواء من الدولة البيزنطية، أو من الإمبراطورية الصربية، وكان ناجحًا في التعامل مع المحورين بذكاء وحسم وقوَّة، وكان محافظًا على قواعد الشريعة في كلِّ هذه العلاقات والمسائل، ممَّا أعطاه بركةً عظيمةً في خطواته، وكانت طموحات أورخان كبيرة في الجانب الأوروبي، ممَّا جعله يلتفت إليه بقوَّة في السنوات الأخيرة من حكمه، ووصل الأمر في سنة 1362م إلى ضرب حصار حول مدينة إدرنة في غرب القسطنطينية، وهذه المدينة تُعَدُّ من أهمِّ مدن شرق أوروبا، إن لم تكن أهمَّها على الإطلاق؛ لكونها تُسيطر على كلِّ الطرق العابرة لشرق أوروبا؛ ومِنْ ثَمَّ فهي تُعَدُّ المفتاح الحقيقي للقارَّة الأوروبية من شرقها؛ ومع الطموح الكبير لأورخان في فتح هذه المدينة الاستراتيجيَّة فإنَّه لم يتمكَّن من ذلك؛ حيث وافته المنيَّة وهو محاصرٌ لها، وكان ذلك في سنة 1362م، ليموت عن عمرٍ بلغ إحدى وثمانين سنة[38].
يُعَدُّ أورخان بن عثمان أحد أكبر رموز التاريخ العثماني؛ بل هو أحد أكبر الرموز في تاريخ المسلمين؛ فهو البطل الذي حقَّق أمجادًا كبرى للأمَّة دون أن يتنازل عن جزءٍ من دينه أو أخلاقه، فكان سياسيًّا مثاليًّا، نجح فيما فشل فيه كثيرٌ من القادة والسلاطين؛ لقد ترك أورخان دولةً محترمةً بلغت مساحتها 95 ألف كم2؛ أي حوالي ستة أضعاف المساحة التي تَسَلَّمها من أبيه، وهي دولةٌ قويَّةٌ تقف على مستوى الندِّيَّة؛ بل تتفوَّق على إمبراطوريَّاتٍ كبرى معاصرة؛ مثل: الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الصربية، ولم يعرف في حياته الهزيمة قط؛ ومع ذلك فلم يكن متكبرًا أو متعاليًا، لا على الأمراء والزعماء، ولا على الفلاحين أو العامة. -أيضًا- كان أورخان متوازنًا في حياته، فلم يكن مهتمًّا بالجوانب العسكرية والسياسية فقط مثل الكثير من الزعماء والقادة؛ إنَّما كان مهتمًّا كذلك بالنواحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية في بلده، وهذا التوازن هو ما أعطى الرسوخ والاستقرار للدولة، وكتب لها البقاء لعدَّة قرون بعد ذلك، ولقد ترك أورخان شعبًا كبيرًا في دولته بلغ ثلاثة ملايين نسمة[39]، وهو رقمٌ كبيرٌ جدًّا في هذا الزمن، ويُمكن إدراك قيمته إذا عرفنا أنَّ تعداد سكان دولةٍ عظيمةٍ في التاريخ كإنجلترا كان لا يتجاوز المليونين في ذلك الزمن! ومع هذا التعداد السكاني الكثيف فإنَّنا لم نسمع عن صراعاتٍ داخليَّة، أو اضطراباتٍ أهليَّة، ممَّا يُعطي الانطباع الواضح عن حسن الإدارة للقائد المحنَّك أورخان.
ويُعَدُّ أورخان هذا هو أوَّل سلطانٍ مستقلٍّ تمامًا في تاريخ العثمانيين؛ حيث كان أبوه وجدُّه تابعين للسلاجقة، ثم للإيلخانيين، ولم تستقلِّ الدولة العثمانية استقلالًا كاملًا إلَّا بعد سقوط الدولة الإيلخانية في سنة 1335م؛ أي في عهد أورخان؛ ومع ذلك فالدولة لا تُنْسَب إليه؛ بل تُنْسَب إلى أبيه عثمان، وأعتقدُ أنَّ ذلك يرجع إلى رغبة العثمانيين في مدِّ جذور العائلة إلى أبعد نقطةٍ ممكنة؛ فهذا يُعطيها أصالةً ومجدًّا؛ لأنَّ الدول الحديثة جدًّا لا يُنْظَر إليها نظرة العراقة والشرف، وفي رأيي أنَّه مع كامل تقديري وتوقيري لعثمان والد أورخان، فإنَّ الاسم الحقيقي للدولة العثمانية كان من المفترض أن يكون الدولة «الأورخانية»، لولا ما ذكرناه من رغبة العثمانيين في الوصول إلى الجدود الأعلى في العائلة.
عرف المؤرِّخون المنصفون قيمة أورخان بن عثمان، ولقد مدحه الصحفي الأميركي چيبونز Gibbons بقوله: «لم يكن أورخان شريرًا ولا قاسيًا ولا مخادعًا، وكانت له ثلاث خصائص رائعة تلك التي كانت علامة جميع الرجال الذين احتلوا مكانةً كبرى في التاريخ؛ وهي: وحدة الهدف، وطاقة لا تنضب، وقدرة غير محدودة لاستيعاب التفاصيل؛ يتلخَّص الغرض من حياته في الجملة التي نجدها على عملته: «أورخان بن عثمان حَفِظَ اللهُ دولته»[40].
رحم الله أورخان بن عثمان؛ فقد كان نعم الأمير، ونعم القائد، ولئن كانت مصيبة الدولة العثمانية كبيرة في فقد مثل هذا الرمز فإنَّ الله قد عوَّضها خيرًا بتَسَلُّم وليِّ عهده مراد الأول الحكم من بعده، فهذا البطل الجديد كان نعم الشبل من ذاك الأسد! ولئن كان أورخان قد أعطى الإمارة العثمانية شكلَ الدولة، فإنَّ مرادًا الأوَّل هو الذي جعل هذه الدولة دولةً ذات تأثيرٍ عالميٍّ ملموس، وسنرى من خطواته ما يجعلنا نجزم أنَّ تربية أورخان له لم تذهب هباءً منثورًا[41].
[1] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م.صفحة 3/10.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول،1988م، صفحة 1/93.
[3]سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/488.
[4] Finlay, George: A History of Greece from its Conquest by the Romans to the Present Time, B. C. 146 to A. D. 1864, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1877., vol. 3, pp. 424-425.
[5] جحا، شفيق؛ وعثمان، بهيج؛ والبعلبكي، منير: المُصوَّر في التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة عشرة، 1999م. صفحة 5/116.
[6] مقديش، محمود: نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، تحقيق: علي الزواري، محمد محفوظ، دار الغرب الاسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م. الصفحات 2/9، 10.
[7] حلاق، حسان؛ وصباغ، عباس: المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية ذات الأصول العربية والفارسية والتركية، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1999م. صفحة 26.
[8]فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 122، 123.
[9] Cleveland, William L. & Bunton, Martin: A History of the Modern Middle East, Westview Press, Uk, 2013., p. 43.
[10] أحمد (25935)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.
[11] 42. أحمد، علي خليل: الدولة العثمانية في سنوات المحنة، دار ومكتبة الحامد للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، الطبعة الأولى، 2011م. صفحة 39.
[12] فريد، 1981 صفحة 124.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/93.
[14] سرهنك، 1895 صفحة 1/488.
[15] Rosser, John Hutchins: Historical Dictionary of Byzantium, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, 2012., p. 260.
[16] أوزتونا، 1988 صفحة 1/94.
[17] 48. بيلديسينو، إيرين: البدايات عثمان وأورخان، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م.الصفحات 1/26، 27.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/94.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/97.
[20] Norwich, John Julius Viscount: Byzantium: The Decline and Fall, Viking, New York, USA, 1995., p. 18.
[21] Nicol, Donald MacGillivray: The Reluctant Emperor: A Biography of John Cantacuzene, Byzantine Emperor and Monk, c. 1295 – 1383, Cambridge University Press, 1996., pp. 77-78.
[22] أبو داود: كتاب العتق، باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة (3931)، وأحمد (26408)، وابن حبان (4054)، والحاكم (6781)، وحسنه الألباني، انظر: صحيح وضعيف سنن أبي داود (3931).
[23] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3964)، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365).
[24] Fine, John Van Antwerp: The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest, University of Michigan Press, Ann Arbor, Michigan, USA, 1994., p. 309.
[25] Soulis, 1984, p. 25.
[26] أوزتونا، 1988 صفحة 1/96.
[27] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2005., p. 16.
[28] أوزتونا، 1988 صفحة 1/96.
[29] Norwich, John Julius Viscount: Byzantium: The Decline and Fall, Viking, New York, USA, 1995., p. 320.
[30] هسي، 1997 صفحة 186.
[31] Deliso, Christopher: Culture and Customs of Serbia and Montenegro, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2009., p. 12.
[32] Ćirković, Sima M.: The Serbs, Translated: Vuk Tošić, Malden Blackwell Publishing, Malden, Massachusetts, USA, 2004., pp. 64-65.
[33] Finkel, 2005, p. 16.
[34] أوزتونا، 1988 صفحة 1/94.
[35] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/96، 97.
[36] 250. مصطفى، أحمد عبد الرحيم: في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، بيروت-القاهرة، الطبعة الثانية، 1406هـ=1986م. صفحة 47.
[37] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/94، 95.
[38] 50. آصاف، عزتلو يوسف: تاريخ سلاطين بني عثمان من أول نشأتهم حتى الآن، تقديم: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ=1995م. الصفحات 33، 34.
[39] أوزتونا، 1988 صفحة 1/97.
[40] Gibbons, Herbert Adam: The Foundation of the Ottoman Empire: A History of the Osmanlis Up To the Death of Bayezid I, 1300-1403, The Century CO, NewYork, USA, 1916., p. 109.
[41] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 80- 94.
التعليقات
إرسال تعليقك