التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تُعَدُّ الدولة العثمانية من الدول المعمِّرة جدًّا في الأرض. لقد عاشت الدولة أكثر من ستمائة عام، وهذه فترةٌ طويلةٌ جدًّا في أعمار الدول.. وبالطبع لها من
الدولة العثمانيَّة في الميزان
عادةً ما تكون هناك مشاعر حزنٍ عند كتابة خاتمةٍ تتناول تاريخَ دولةٍ إسلاميَّة. هذا شيءٌ طبيعيٌّ؛ فلا بُدَّ أن يشعر المسلم بالحزن عند قراءته لخاتمة دولة الأندلس، أو الدولة الأموية، أو الدولة السلجوقية، أو أيِّ دولةٍ قدَّمت شيئًا للأمَّة الإسلاميَّة. إنَّه الحزن الذي يُصيبنا عند موت أحد أحبابنا، حتى لو كان هذا الحبيب قد ترك لنا أولادًا عظامًا نتذكَّره بهم، حتى لو كان لهذا الحبيب أخطاء في حقِّنا أو حقِّ غيرنا، فهذه مشاعر إنسانيَّة لا يمكن أن نخرج عنها، والحقُّ أن الدولة العثمانيَّة قدَّمت الكثير للأمَّة، ولا مناص من الحزن العميق عند كتابة خاتمتها!
ومع ذلك يُخَفِّف من هذا الحزن إدراك السُّنَّة الإلهيَّة الماضية التي تقضي بالفناء على كلِّ البشر والأمم، مهما عَظُمَ قَدْرُهم، ومهما كان الناس في حاجةٍ إليهم. لقد انتهت فترة النبوَّة مع احتياج الناس بشدَّةٍ لها؛ لأنَّه لا بُدَّ لكلِّ مخلوقٍ من نهاية. قال تعالى مخاطبًا نبيَّه العظيم ﷺ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]. -أيضًا- انتهت فترة الخلافة الراشدة على عظمتها. كانت هذه الفترة على منهاج النبوَّة، وكان الله قادرًا على جعلها ألف سنة، لكنَّه قدَّر لها الانتهاء بعد ثلاثين سنةً فقط، ليُحَقِّق اللهُ السُّنَّة الثابتة: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]. إذن لا بُدَّ للدولة العثمانيَّة من سقوط، ومهما حاول المخلصون إصلاح أوضاعها فإنهم سيفشلون في النهاية لكي يُنْفِذ اللهُ قَدَرَه. مهما كان الطبيب ماهرًا لا بُدَّ للمريض في نهاية الأمر -مهما طال عمره- أن يموت! لذلك لم تنفع جهود سليم الثالث أو محمود الثاني، في إبقاء الدولة على الحياة قط؛ إنما شاء الله أن يجعل جهودهم سببًا في إطالة عمر الدولة العثمانية عدَّة عقود.
هناك عاملان آخران يُخَفِّفان من حزننا كذلك على نهاية الدولة العثمانيَّة؛ الأوَّل طول عمرها، والثاني أنها لم تمت بلا وريث؛ إنَّما تركت أولادًا كرامًا!
تُعَدُّ الدولة العثمانية من الدول المعمِّرة جدًّا في الأرض. لقد عاشت الدولة أكثر من ستمائة عام، وهذه فترةٌ طويلةٌ جدًّا في أعمار الدول. نعم لم تكن الدولةُ إمبراطوريَّةً في كلِّ هذه المدَّة، ولكنَّها عاشت في الوضع الإمبراطوري القوي أكثر من ثلاثة قرون، من 1451 زمن الفاتح إلى 1768 عند نهاية عهد الثبات النسبي، وهذه فترةٌ طويلةٌ كذلك. أكثر الدول الإسلاميَّة لم تعش مثل هذه المدَّة، فعلى سبيل المثال نجد أن الدولة الأمويَّة عاشت ثمانيًا وثمانين سنةً ميلادية فقط (من 662 إلى 750م) (92 سنة هجرية)، والدولة الأيوبية عاشت ستًّا وسبعين سنةً (من 1174 إلى 1250م)، والدولة السلجوقيَّة عاشت مائةً وسبعًا وخمسين سنةً (من 1037 إلى 1194م)، أمَّا المماليك فقد عاشوا مدَّةً طويلةً نسبيًّا؛ فقد استمرَّت دولتهم قرابة ثلاثة قرون (من 1250 إلى 1517م). أمَّا الدولة العباسيَّة، فعلى الرغم من أنها عاشت رسميًّا أكثر من خمسمائة سنة (من 750 إلى 1258م) فإنها لم تكن قويَّةً، وبحجمها الإمبراطوري، إلَّا مائةً وسبع سنوات فقط (من 750 إلى 857م). كل هذا يؤكِّد أن الدولة العثمانية قد عمَّرت طويلًا بشكلٍ غير تقليدي؛ بحيث لا يتعجَّب أحدٌ عندما يرى ضعفها عند سقوطها، فهذه أمراض الشيخوخة المزمنة!
لكنَّ هذا الحزن على سقوط الدولة العثمانيَّة لا بُدَّ أن يقودنا إلى التفكُّر في أسباب هذا السقوط. قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]. ليس معنى أنَّ الدولة العثمانيَّة عُمِّرت طويلًا أنَّها سقطت من مجرَّد الشيخوخة؛ فللشيخوخة أمراضٌ كثيرة، ولعلَّه لو عولجت هذه الأمراض مبكِّرًا لكان السقوط بطريقةٍ أفضل، فلقد رأينا الدولة تسقط سقوطًا مدوِّيًا؛ حيث تَفَرَّق دمها بين القبائل! جزءٌ مع بريطانيا، وجزءٌ مع فرنسا، وثالثٌ مع روسيا، ورابعٌ مع إيطاليا، فضلًا عن استقلال كياناتٍ أوروبِّيَّةٍ صغيرةٍ كثيرة؛ كاليونان، وبلغاريا، وصربيا، وغيرها. إنَّنا رأينا -على سبيل المثال- الدولة العباسيَّة ترث الدولة الأمويَّة بشكلٍ شبه كامل، فانهيار الدولة الأمويَّة لم يكن تفتيتًا لها كما حدث مع الدولة العثمانيَّة، وهذا ساعد المسلمين على الاستمرار أقوياء في العالم، ولو كانوا تحت قيادةٍ أخرى. -أيضًا- نجد مثالًا آخر عندما ورث المماليك الأيوبيين. لقد كانت دولة المماليك قريبةً جدًّا من الدولة الأيوبيَّة، فلم يحدث التفتيت الذي رأيناه في الدولة العثمانيَّة. والأمثلة المشابهة لما سبق كثيرة. إن هذه الملاحظات ينبغي أن تقودنا إلى التفكُّر في الأمر، والبحث في أسباب السقوط في الدولة، ولا شَكَّ أنَّنا سنخرج بدروسٍ قيِّمةٍ تُفيدنا في فهم حركة التاريخ. إنَّنا إذا نظرنا في تاريخ الدولة العثمانيَّة، خاصَّةً في النصف الأخير منه، لاحظنا أمورًا ستَّة كانت على رأس الأسباب التي أدَّت إلى انهيار الدولة وتفكُّكها، ولا شَكَّ أن هناك أسبابًا أخرى لا يستوعبها هذا التحليل، ولكن تبقى هذه الأمور الستَّة من أهمِّها في رؤيتي.
أوَّل هذه الأمور فشل الدولة العثمانيَّة في زرع الانتماء لها في نفوس الشعوب المنضمَّة إلى إمبراطوريَّتها. هذه في الواقع سمةٌ بارزةٌ في معظم الإمبراطوريَّات العالميَّة. فأغلب الدول المكوِّنة -مثلًا- للإمبراطوريَّة البريطانيَّة في زمان قوَّتها لا تشعر بالانتماء لبريطانيا. لا يشعر الهندي بالفخر لأنَّه ضمن الإمبراطوريَّة البريطانيَّة القويَّة، كذلك الكيني، والمصري، والجنوب إفريقي. كلُّ هؤلاء كانوا يشعرون أنَّهم «محتلُّون» من بريطانيا وليسوا جزءًا أساسًا فيها، فهم لا ينتمون إليها إنَّما يبحثون عن فرصةٍ «للتحرُّر» منها، وستأتي الفرصة حتمًا يومًا ما، وبمجرَّد ظهور الضعف على الإمبراطوريَّة سيبدأ التابعون في التحرُّر تباعًا. ما قلناه عن الإمبراطوريَّة البريطانيَّة نقوله كذلك عن معظم الإمبراطوريَّات العالميَّة؛ كفرنسا، وروسيا، وإسبانيا، والبرتغال، ويقال كذلك عن الإمبراطوريَّات القديمة؛ كالبيزنطيَّة، والفارسيَّة، والرومانيَّة، ونقوله -أيضًا- عن الدولة العثمانيَّة. تحلَّلت الإمبراطوريَّة البريطانيَّة مع الوقت تبعًا للسُّنَّة الكونيَّة الثابتة، ولم يبقَ منها إلَّا الدولة الأم التي كوَّنت الإمبراطوريَّة وهي بريطانيا. كذلك تحلَّلت الإمبراطوريَّة الإسبانيَّة وبقيت إسبانيا فقط، وتحلَّلت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة وبقيت إيران، وتحلَّلت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة وبقيت إيطاليا، و-أيضًا- تحلَّلت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة وبقيت تركيا.
الإمبراطوريَّات في معظمها تفشل في زرع الانتماء في أتباعها؛ لأنَّها لا ترتبط بهذه الأقطار الكثيرة إلَّا برباطين كبيرين: الجيش والمال! الرابط الأوَّل، وهو الجيش، يعني القوَّة. فالإمبراطوريَّة القويَّة «تُرْغِم» أتباعها على الانضمام إليها بفعل القوَّة العسكريَّة، وبدهيٌّ إنَّه عندما تضعف القوَّة العسكريَّة سيسعى المـُرْغَم إلى التحرُّر. الرابط الثاني هو المال -أي الجزية، أو الضريبة، أو الخراج- الذي تجنيه الإمبراطوريَّة من دولها التابعة، فإذا تحقَّق هذا كانت العلاقة بين الطرفين هادئة، وإذا قلَّ المال المـُتحصَّل من الدول التابعة تبدأ المشاكل في الظهور. إنَّ معظم شعوب الدول التابعة لا يرون من شعب الدولة الأم التي كوَّنت الإمبراطوريَّة إلَّا الجنود، والموظفين المختصين بجمع المال! إن الجندي وموظف الضرائب لا يقدران على زرع الانتماء في الشعوب! للأسف كان هذا هو حال الإمبراطوريَّة العثمانيَّة مع أتباعها! كان الأتباع لا يرون من الدولة العثمانيَّة سوى الفرقة العسكريَّة المكلَّفة بحماية الحدود، والموظفين الذين يأتون في كلِّ عامٍ مرَّةً يجمعون المال. هذا الكلام منطبقٌ على الدول التابعة سواءٌ كانت نصرانيَّةً أم مسلمة؛ فالمصريون مثلًا لم يروا من العثمانيِّين إلا فرقةً من جنودهم، وموظفي الضرائب الذين يأتون سنويًّا لاستلام الخراج، أمَّا طوال «القرون» التي كانت فيها مصر تابعةً للدولة العثمانيَّة فإن الدولة كانت تُدار بالمماليك، ولا علاقة لها بالعثمانيِّين الأتراك. ما قلناه عن مصر نقوله كذلك عن معظم الدول الإسلاميَّة التابعة للدولة العثمانيَّة؛ مثل العراق، أو الجزائر، أو اليمن، أو غيرها. يمكن أن تكون الشام استثناءً نسبيًّا؛ لأنَّها كانت تُدار بشكلٍ مباشرٍ من العثمانيِّين، ومِنْ ثَمَّ اختلط الشعبان الشامي والتركي إلى حدٍّ ما.
هكذا كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة تضمُّ عشرات العرقيَّات، وتتكلَّم عشرات اللغات، وتدين شعوبها بعدَّة أديان. لم يكن هناك انسجامٌ بين هذه التشكيلة غير المتناسقة من الشعوب، ولم ترتبط معظم هذه الشعوب «بتركيا» برابطٍ قويٍّ يزرع فيها الانتماء لها، ولهذا حدث التفكُّك الكبير عندما ضعف الجيش، ولم يعد قادرًا على «إرغام» الدول التابعة على البقاء في الإمبراطوريَّة.
الملاحظة التي تلفت النظر هي أن هذا التفكُّك لم يحدث مع دولة الخلفاء الراشدين عندما انتهت وورثتها الدولة الأمويَّة، كذلك لم يحدث مع الدولة الأمويَّة عندما انهارت وورثتها الدولة العباسيَّة، ولم يحدث -أيضًا- عند انهيار بعض الدول الإسلاميَّة الأخرى؛ مثل الدول الطولونية، أو الإخشيدية، أو السلجوقية، أو المماليك، بمعنى أنه بعد انهيار هذه الدول ظلَّ هناك كيانٌ كبيرٌ موَحَّدٌ ورثته دولةٌ جديدة بدماءٍ جديدة لتُكمل المسيرة، ولم يحدث التفكُّك الذي رأيناه في حالة الدولة العثمانية، فما السرُّ في ذلك؟!
السرًّ هو أن الخلفاء الراشدين زرعوا في الشعوب التي اندرجت تحت دولتهم الانتماء «للإسلام» لا للأشخاص أو العائلات، ومِنْ ثَمَّ كان بقاء هذه الشعوب في الإمبراطوريَّة مرتبطًا ببقاء الإسلام في عقيدتهم ووجدانهم، لا بقاء الجيش في أرضهم. ولا يظنَّن أحدٌ أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أرغموا أحدًا على الإسلام ليضمنوا ولاءه للدولة بعد ذلك، فإن هذا الإرغام هو أكثر الأمور المنفِّرة للناس، وإن بقاء الشعوب الكثيرة -في الجزيرة العربية، ومصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، وإيران- مسلمةً بعد زوال دولة الخلفاء الراشدين لأكبر دليلٍ على عدم إكراههم لأحد لتغيير عقيدته، وإلَّا لتَرَكَ الإسلام بمجرَّد ذهاب القوَّة. ما قلناه ينطبق على الدولة الأمويَّة كذلك، وإن كان بدرجةٍ أقل، كما ينطبق على دولٍ إسلاميَّةٍ عظيمةٍ أخرى في مراحل التاريخ المختلفة، كما ينطبق نسبيًّا على الدولة العثمانيَّة في أوَّل قرنين من عمرها. إن أقوى الانتماءات للدولة هي المرتبطة بالدين؛ لأن أغلى شيءٍ عند الإنسان هو عقيدته، وهذا ما يُفسِّر بقاء الشعوب مرتبطين حتى لو ضعفت عسكريًّا قوَّة الدولة الجامعة لهم. ليس هذا الأمر مرتبطًا بالمسلمين فقط، بل مع كلِّ الديانات. حدث ذلك مثلًا مع الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة عندما كان الدين الكاثوليكي هو الذي يجمعها، وحدث -أيضًا- مع اليهود حتى في غياب دولةٍ جامعةٍ لهم، بل يحدث مع الديانات غير السماويَّة، كما رأيناه في الهند، أو الصين، أو اليابان.
يمكن -أيضًا- أن تتجمَّع الشعوب سويًّا دون قلقٍ من انفراط العقد نتيجة تزكية عوامل أخرى، كالعرق مثلًا، ومن هنا كانت جهود روسيا وصربيا في تجميع العرقيَّة السلاڤيَّة، فإنه عند تقوية هذه الرابطة تظلُّ الشعوب وحدةً واحدةً حتى لو ضعفت القوَّة العسكريَّة الجامعة لهم. ومع ذلك فالعرق لا يجمع عادةً إلَّا عددًا محدودًا من الدول، وكذلك تفعل الروابط الأخرى؛ كاللغة، أو وحدة التاريخ، أو الموقع الجغرافي.
للأسف الشديد لم تستوعب الدولة العثمانيَّة هذا المعنى، فلم تسعَ إلى زرع الانتماء إلى الإسلام في نفوس الشعوب المرتبطة بها. احترمت الدولة العثمانيَّة خصوصيَّة الشعوب النصرانيَّة التي ضمَّتها إلى إمبراطوريَّتها فلم تسعَ إلى مفاتحتها في أمر الدين، واعتبرت ذلك من التسامح الديني، ومن اللطف في المعاملة، ولكن الواقع أن الأفضل كان ممارسة «الدعوة إلى الله»، دون إكراهٍ ولا إجبار. لا ينبغي للمسلم، وخاصَّةً إن كان قويًّا ممكَّنًا في الأرض كالعثمانيِّين، أن يكون سلبيًّا في هذا الشأن. كان ينبغي التعريف السهل السمح بدين الإسلام، ثم نُطبِّق القاعدة القرآنية العظيمة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]. لو آمنت هذه الشعوب بالإسلام لَمَا تركت الدولة العثمانيَّة عند ضعفها، بل على العكس كانت ستدعمها وتقوِّي من شأنها. من المؤكَّد أن الدين ليس العامل الوحيد للارتباط، بدليل أنَّ البوسنة وألبانيا لم يدعما الدولة العثمانيَّة عندما ضعفت مع أنهما مسلمتان، ولكنَّه من العوامل المؤثِّرة جدًّا دون شك.
الأنكى من ذلك أن الدولة العثمانيَّة دخلت بعض البلاد المسلمة أصلًا بطريقة الإرغام والقهر، لا بطريق الإسلام والعقيدة، وهذا أوغر صدور المسلمين في هذه البلاد، فلم يكن عندهم أيُّ مانعٍ في ترك الدولة العثمانيَّة عند أزمتها، بل ومحالفة أعدائها بغية «التحرُّر» منها! حدث ذلك مع المصريين مثلًا، وكذلك مع اليمنيين، والتونسيين، وغيرهم. لم يشعر سكان هذه الأقطار بارتباطهم بالدولة العثمانيَّة بسبب الإسلام؛ إنَّما شعروا أنَّ المسألة مجرَّد زيادة مساحة، وتكثير مال، وتعظيم سطوة، وهذا خطأ الدولة العثمانيَّة في المقام الأوَّل.
إذن كان فشل الدولة العثمانيَّة في زرع الانتماء في الشعوب التابعة لها من أكبر الأسباب لانهيار الدولة لاحقًا وتفتُّتها.
السبب الثاني من أسباب الانهيار هو عدم اهتمام الدولة العثمانيَّة بالعلم، بشقَّيه الشرعي والحياتي،
قال أحمد شوقي:
بِالعِلْمِ وَالمَالِ يَبْنِي النَّاسُ مُلْكَهُمُ لَمْ يُبْنَ مُلْكٌ عَلَى جَهْلٍ وَإِقْلاَلِ[1]
يؤمن كثيرٌ من القادة بأهميَّة المال، والجاه، والقوَّة، في بناء الأمم لكنَّهم لا يُعطون الأهميَّة نفسها للعلم، ولقد كان أمير الشعراء عميقًا في شعره عندما جمع العلم مع المال في مسألة بناء الأمم، بل قدَّم العلم على المال في البيت الشعري، وهذا مُستقًى من القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 1-7].
للأسف كانت الدولة العثمانيَّة متواضعةً للغاية في مسألة العلوم، ولم تُبْدِ اهتمامًا يُذكر بهذا الأمر المهمِّ إلَّا في عهد السلطان الفاتح، أمَّا بقيَّة الأمراء والسلاطين فلم يكن العلم يشغلهم إلَّا قليلًا. كانت الدولة غير متأثِّرةٍ بهذا النقص في قرونها الأولى لأنَّ العالم بشكلٍ عامٍّ كان يعيش في جاهليَّةٍ كبرى، لكن عندما بدأت النهضة العلميَّة في أوروبا بدأ الفرق يظهر تدريجيًّا بين الأوروبِّيِّين والعثمانيِّين، وكانت الأيَّام -باستمرارٍ- تُوسِّع الفجوة بين الأمم الأوروبِّيَّة والدولة العثمانيَّة، ممَّا وصل بالأخيرة في النهاية إلى التهاوي أمام سطوة الأمم المتعلِّمة! -أيضًا- كان ضعف العلم الشرعي سببًا في ارتكاب الدولة العثمانيَّة العديد من الأخطاء الشرعيَّة التي قادت في النهاية إلى ضعفها؛ كمنع آلات الطباعة من دخول الدولة، ثم السماح بها فقط لغير المسلمين، مع منع الطباعة باللغة العربيَّة، ومثل حبس أولياء العهد والأمراء، أو أحيانًا قتلهم، بحجَّة اتِّقاء فتنة التقاتل على السلطان، ومثل تصديق الفتاوى الساذجة التي دخل بها سليم الأول بلاد المماليك.
يمكن أن يكون السبب في قلَّة اهتمامهم بالعلم راجعًا إلى عدَّة أسباب؛ منها الاتِّجاه الصوفي الذي غلب على الدولة، وهو اتِّجاهٌ يهتمُّ بالروح على حساب العقل، والعزلة على حساب مجالس العلم، وهذا قد يكون مناسبًا لبعض الأفراد، لكنَّه لا يكون مناسبًا للدولة. -أيضًا- لم يكن المشايخ الصوفيَّة في معظم الأحيان -على الأقلِّ في الدولة العثمانيَّة- بالراسخين في العلم، فغلب ذلك القصور على الدولة كلِّها. من الأسباب -أيضًا- عدم اتقان اللغة العربيَّة ممَّا عزل العثمانيِّين عن مصادر ثريَّة للعلم كانت متوفِّرةً باللغة العربيَّة فقط. ومنها الحياة العسكريَّة التي عزلتهم عن الحياة المدنيَّة بتعقيداتها التي تحتاج إلى العلم، ويُؤكِّد هذه النقطة أن أهمَّ العلوم التي كان يحرص عليها العثمانيُّون كانت العلوم العسكريَّة لحاجتهم الماسَّة إليها في حروبهم. ومع ذلك فهذه الأعذار كلُّها غير مقبولة؛ فليس العلم بالأمر الذي يمكن أن يُتجاوز عنه!
السبب الثالث من أسباب ضعف الدولة العثمانية هو عدم قدرتها على تحقيق التوازن في أمورها العامَّة والخاصَّة، وفي حياة الحكَّام والمحكومين، وفي مؤسَّسات الدولة وبرامجها. كانت الدولة العثمانيَّة سياسيَّة عسكريَّة في المقام الأوَّل. كان تركيز السلاطين، والوزراء، وجهاز الدولة كلِّه تقريبًا على إعداد الجيوش، والمعارك، وقمع التمرُّدات. هذا أمرٌ طبيعيٌّ بالنسبة إلى دولةٍ لها أعداءٌ من كلِّ جانب. لم تكن هناك جبهةٌ هادئةٌ في كلِّ حدود الدولة، وفي كلِّ مراحل تاريخها. هذا التركيز على الحرب صَرَفَ أذهان القادة والحكومة عن باقي الأنشطة والمجالات التي ينبغي أن تهتمَّ بها الدولة. لم تتمكَّن الدولة من تحقيق التوازن بين السياسة وبقيَّة الاهتمامات، فأثَّر ذلك سلبًا على الأوجه الحضاريَّة المختلفة، سواءٌ على المستوى الاقتصادي، أم الاجتماعي، أم العلمي، أم الثقافي، أم الإعلامي، أم الترفيهي. هذا الافتقار إلى التوازن يُضْعِف المجتمع، ويؤثِّر على ثباته، خاصَّةً أن المجالات التي اهتمَّت بها الدولة -أي الأمور العسكريَّة والسياسيَّة- هي مجالاتٌ تحمل الكثير من التوتُّر والضغط، ودولةٌ بهذا الحال لا يمكن أن تبقى مستقرَّة. للأسف لم تكن الدولة العثمانيَّة متميِّزةً على الجانب الحضاري، ومع وجود الكثير من المؤلَّفات التي كُتِبَت في محاولةٍ لحصر بعض الإنجازات الحضاريَّة إلَّا أنَّها تبقى متواضعة، ولا تُقارن بإنجازات الأمم المعاصرة.
أمَّا السبب الرابع لضعف الدولة العثمانيَّة فهو «جمودها الفكري»! والواقع أنَّ هناك بعض الشعوب تجد صعوبةً كبيرةً في التغيير، ولا تتشجَّع على تجربة الجديد إلَّا بعد جهدٍ جهيد، ولا تملك روح المغامرة الدافعة إلى الابتكار، أو على الأقلِّ تجربة المبتكرات. كانت العرقيَّة التركيَّة من هذا النوع، ولكونها كانت غالبةً على شعوب الدولة، ومهيمنةً على حياتهم، فإنَّ الدولة كلَّها صُبِغَت بهذه الصبغة الجامدة. قد يكون هذا راجعًا للأصول البدويَّة التي ينتمي إليها الأتراك، وقد يكون راجعًا لما ذكرناه سابقًا من عدم اهتمام الدولة بالعلم؛ فإنَّ العلم يفتح الآفاق، ويُعَمِّق الرؤى، أمَّا الجهل فيدفع أصحابه إلى الحذر المبالغ فيه، وإلى الرتابة التي تمنع من الابتكار.
لم يكن هذا المرض مؤثِّرًا على الدولة في قرونها الأولى لأنَّ حركة العالم كلِّه كانت رتيبة، ولكن مع القرن السادس عشر بدأت الخطوات تتسارع، وكان كلُّ يومٍ يحمل جديدًا في الدنيا، وكثيرٌ من الابتكارات كانت جيِّدة، وبعضها كان سيِّئًا، وكان لا بُدَّ من فكرٍ متحرِّرٍ «ليُجَرِّب» هذا وذاك، ويطمئن بعد التجربة إلى صلاح الابتكار أو فساده، فلا يُوقِع أمَّته في أزمة، وفي الوقت نفسه لا يُضَيِّع عليها فرصة. كمثال على هذا يمكن أن ننظر إلى الاقتصاد. كانت المعاملات الاقتصاديَّة، والقوانين الماليَّة -في الدولة العثمانيَّة، والعالم كله- محدودةً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ثم بدأت في التطوُّر تدريجيًّا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم تسارعت جدًّا في القرن الثامن عشر، ثم قفزت قفزاتٍ واسعةً في القرنين التاسع عشر والعشرين..
لقد ظهرت البنوك، والشركات العالميَّة متعدِّدة الجنسيَّة، والبورصات، والسندات الماليَّة، وصارت هناك نظريَّاتٌ كثيرةٌ حول الديون، والبطالة، والتجارة العالميَّة، ومعدلات التضخم، وقياسات النموِّ الاقتصادي، وعلاقة كلِّ ذلك بمستوى الدخل، ورفاهيَّة العيش، وقوَّة الدولة. إنَّ الدولة التي تعيش بالقوانين الاقتصاديَّة للقرنين الخامس عشر والسادس عشر (التي صيغت أيَّام الفاتح والقانوني) لا يمكن أن تجد لها مكانًا في الدنيا في القرن التاسع عشر! وهذا الذي يُساعد في تفسير الانهيار الكبير الذي أصاب الدولة في هذه الحقبة، ولم يكن أمامها إلَّا استقدام «خبير» أجنبي ما بين الحين والحين ليُقدِّم الدولة بضع خطوات، وأحيانًا لا يكون الخبير بالأمانة الكافية، وبالتالي يدفع البلاد إلى ما يُحقِّق مصالح بريطانيا وفرنسا لا مصالح الدولة العثمانيَّة. إنَّ الاقتصاد مجرَّد مجال، وبقيَّة المجالات -مثله- تحتاج إلى تحرُّرٍ فكريٍّ كبير لكي تواكب النشاط العالمي. كان الجمود الفكري معوِّقًا لجوانب الإدارة، ودواليب الحكومة، وقوانين التجارة، والزراعة، والصناعة، ووسائل وطرق النقل، والبريد والاتصالات. حتى المجالات العسكريَّة -التي هي مجال التميُّز الرئيس للدولة العثمانيَّة- عانى من هذا الجمود الفكري، ولم يكن هذا على مستوى التسليح فقط، ولكن كذلك على مستوى طرق التدريب، وقوانين الحربيَّة، وتنظيم الجيش، وخطط المعارك. هذا درسٌ من أعمق الدروس التي ينبغي أن نستوعبها من تاريخ الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّ العالم صار متسارعًا جدًّا في زماننا الآن، وأيُّ جمودٍ فكريٍّ -من أيِّ درجة- سيُعَوِّق المسيرة.
نقطتان أخيرتان في مسألة الجمود الفكري ألفتُ النظر إليهما؛ الأولى بخصوص مقاومة الإصلاح، والثانية بخصوص موقف الشريعة من التجديد. أمَّا الأولى فهي أنَّ بعض السلاطين، كعثمان الثاني، وسليم الثالث، ومحمود الثاني، وكذلك بعض الصدور العظام، حاولوا كسر هذا السياج الفكري الذي وضعته الدولة العثمانيَّة حول نفسها، ولكنَّ تيَّار مقاومة الإصلاح كان أكبر منهم، وكان يُؤدِّي إلى عرقلة الجهود، أو نسفها، وأحيانًا كان يُؤدِّي إلى عزل المصلِح أو قتله! الوحيد الذي قاوم الجمود الفكري ونجح في ذلك دون أن يتعرَّض للأذى، كان السلطان محمد الفاتح، ويبدو أن فتحه للقسطنطينية في أوَّل عهده أعطاه حصانةً فعليَّةً ومعنويَّةً سمحت له بالتحرُّر الفكري دون أن يُعرقل خطواته أحدٌ، وقد قام محمد الفاتح بأمورٍ تجديديَّةٍ في دولته لو قام بها غيره لذبحوه ذبحًا! وعلى النقيض من ذلك أُصيب بداء النمطيَّة والجمود الفكري بعضُ السلاطين الذين نحسبهم من المخلصين، ولكن جمودهم منعهم من التفكير في أيِّ تجديد، وقاوموا بكلِّ جهدهم الإصلاحات الابتكاريَّة التي حاول الآخرون من المصلحين أن يفعلوها في الدولة، فكانوا بمقاومتهم لهذا الإصلاح يشعرون أنهم يُدافعون عن الدولة، ويحمونها من «شرور» العالم الحديث، وهم في الواقع كانوا يضرُّون بها أكبر ضرر! من أمثلة هؤلاء بايزيد الثاني الذي رفض دخول المطبعة إلى الدولة العثمانيَّة معتبرًا أن طباعة الكتب رجسٌ من عمل الشيطان ينبغي أن يحمي دولته منه، وعبد الحميد الثاني الذي ألغى البرلمان ظنًّا منه أنَّ هذا النظام لا يتوافق مع طبيعة شعوبنا، وكأنَّه قد كُتِبَ علينا -دون غيرنا- أن نُحْكَم بفردٍ واحد، لا يُشاطره أحدٌ الرأيَ، شريطة أن يكون عثمانيَّ الأصل! لا أشكُّ في الواقع في نيَّة أيٍّ من السلطانَيْن الأخيرين، وإن كان عملهما آذى الدولة، والأمَّة، إيذاءً كبيرًا، ولا سبب وراء فعلهما هذا إلَّا جمودهما الفكري!
أمَّا النقطة الثانية فهي أن الشريعة تحضُّ على تنمية العقل، وكثرة التفكر، وتجربة الجديد، والتعلُّم من الأخطاء، لكنَّها تضع في الوقت ذاته أطرًا ينبغي ألَّا يتجاوزها العاملون على الإصلاح، وتفرض بعض القيود القليلة التي لا ينبغي للشعوب أن تسعى «للتحرُّر» منها، فإنَّها ما وُضِعَت إلَّا للمصلحة، وهذه الأطر والقيود لا يعلمها إلَّا الراسخون في العلم في كلِّ مجال، وهذا يحتاج إلى تعاونٍ وثيقٍ بين العلماء الشرعيِّين وأولئك المتخصِّصين في كلِّ فرعٍ من فروع العلم. وإذا أخذنا مثال الاقتصاد الذي أشرنا إليه قبل ذلك، فلا بُدَّ لعلماء الدولة، وهم يُتابعون المبتكَر من آليَّات الاقتصاد العالميَّة، أن يكونوا مستوعبين تمامًا لمفاهيم الربا، والاحتكار، والتأمين، والتسعير، وأنواع البيوع، وغير ذلك من أمورٍ قد يكون الفرق بينها دقيقًا للغاية لا يراه إلَّا بارع!
السبب الخامس الذي أدَّى إلى سهولة تفكُّك الدولة العثمانيَّة هو الانعزاليَّة التي ميَّزت معظم فتراتها التاريخيَّة. تعيش قبائل الأتراك بشكلٍ عامٍّ حياةً منغلقة، على الأقل في هذه المراحل الأولى في التاريخ. من المؤكَّد أنَّ الحياة المدنيَّة الأوروبِّيَّة التي اختلطت بها قبائل الأتراك القادمة من وسط آسيا قد غيَّرت نسبيًّا من سلوكها، لكنَّ هذا التغيير -على وجه الحقيقة- لم يكن كبيرًا. هكذا كانت حياة البادية الصعبة التي عاشها الأجداد، ونقلوها إلى الأحفاد، فكأنَّها غيَّرت من جيناتهم، فصار اندماجهم مع المجتمعات الأخرى شيئًا عسيرًا، وعندما اعتنق الأتراك الإسلام -منذ قديم- حافظوا على انعزاليَّتهم، ولكنَّهم اعتبروا ذلك من الدين، ووصفوا مجتمعاتهم هذه بأنَّها «متحفِّظة»، فصار الاختلاط بالآخرين وأفكارهم يعني عندهم هجر الدين، أو التفريط في قواعده، مع أنَّ الرسول ﷺ يقول: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»[2]. الواقع أنَّ وراء هذه الانعزاليَّة داءٌ خطرٌ يبرز في بعض العرقيَّات أكثر من غيرها، وهو داء الاستعلاء! هذه تكون طبيعةً في بعض الأقوام، ويمكن أن يُهذِّبها الدين فيُوقفها عند حدِّ الاعتزاز بالدين، والثِّقة بالنفس، ولكنَّها إن لم تُهَذَّب صارت كِبْرًا، والكِبْرُ كما يقول الرسول ﷺ: «... الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»[3]، والكِبْرُ -في الواقع- مُنَفِّر، ومانعٌ للفرد من الاختلاط مع غيره. من المؤكَّد أنَّ الإسلام هَذَّب كثيرًا من طبائع الأتراك، لكن تبقى في النفوس بعض الآثار التي تُشْعِر التركي بأنَّه أفضل من غيره، وتجعله يأنف من أن يُقَلِّد غيره، ولو في الخير، وتدفعه إلى الحياة في مجتمعٍ منغلقٍ عن «الآخرين».
هذا المنهج الانعزالي كان من أسباب تفكُّك الدولة العثمانيَّة وانهيارها!
لقد دفع هذا المنهج الأتراك إلى تأسيس مجتمعاتٍ خاصَّةٍ بهم في البلاد التي يفتحونها، فلا يعيشون في المدينة أو القرية نفسها مع النصارى من البلغار، أو الصربيين، أو اليونانيين، أو غيرهم؛ إنما يعيشون في قراهم التي أسَّسوها، بل أحيانًا يؤسِّسون مدينةً كاملةً لهم لأجل ألَّا يختلطوا بغير الأتراك، مثلما أسَّسوا مدينة سراييڤو في البوسنة، أو الأشهر أن يختاروا أحياء معيَّنةً فيلتزمون بالسكنى فيها دون غيرها، كما فعلوا في بلجراد، وسكوبيه، وصوفيا، وغيرها. هذه الانعزاليَّة لم تُعْطِ الشعوب النصرانيَّة فرصة رؤية «شعب» مسلم؛ إنما كانوا يرون فقط «جنديًّا» مسلمًا، وبالتالي لم يتأثَّر كثيرٌ منهم بالإسلام، على الرغم من حكم العثمانيِّين لشرق أوروبا قرابة الخمسة قرون. هذا الانفصال كان وراءه أحيانًا هدفٌ نبيل، وهو عدم فرض نمطٍ إسلاميٍّ معيَّن على الشعوب النصرانيَّة، وإن كان قد فُهِمَ أحيانًا على أنه تكبُّرٌ من الأتراك، وغلظةٌ في التعامل، والغلظة تُفَرِّق الناس من حول الإنسان. قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]. عندما ضعفت الدولة العثمانية بدأت هذه المجتمعات -المنفصلة أصلًا عن الأتراك- تُطالب بالانفصال الرسمي، وفي مقابل الفعل الذي يبدو تكبُّرًا كان لا بُدَّ من ردِّ فعلٍ يوازيه من اعتزاز كلِّ قوميَّةٍ بنفسها في مقابل القوميَّة التركيَّة.
أيضًا كان الأتراك العثمانيُّون فاشلين إلى حدٍّ كبير في دبلوماسيَّتهم، فكانوا لا يستطيعون التعامل مع الحكومات الأخرى إلَّا من عَلٍ، وبعضهم -ممَّن لا يفهم الإسلام على وجه الحقيقة- يظنَّ أن هذا دليلٌ على عزَّة الإسلام، وعلوُّه على غيره، ومظهرٌ من مظاهر عظمة الدولة العثمانيَّة، والواقع غير ذلك! فأنا أرى هذا مظهرًا من مظاهر الجهل بالدين الإسلامي الذي حضَّ على إنزال الناس منازلهم. كان السلاطين العثمانيُّون «يأنفون» أن يُنادوا الأباطرة من الدول النصرانيَّة الأخرى بلقب إمبراطور، بل يُصِّرون في مخاطباتهم الرسميَّة على استخدام ألفاظٍ أقل، كالمـَلِك، أو الأمير، أو الحاكم، ويحتفظون لأنفسهم بلقب الإمبراطور أو البادشاه، ويجهلون -أو يتجاهلون- أن الرسول ﷺ عندما خاطب قيصر الروم على سبيل المثال كَتَبَ له: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»[4]. إن الذي اعتبره السلاطين آنذاك عزَّةً وقوَّة، وتابعهم في ذلك فريقٌ من المؤرِّخين غير الفاهمين لحقيقة الإسلام، أو بعض الباحثين عن أيِّ موطنٍ من مواطن العزَّة في زمنٍ يُعاني فيه المسلمون من تسلُّط الدنيا عليهم، إن هذا الذي اعتبروه عزَّةً ليس من الإسلام في شيء! بل هو أمرٌ مُنَفِّرٌ كان سببًا في كراهيَّة الناس للأتراك العثمانيِّين، بل لا أبالغ إن قلتُ: إنَّه كان سببًا في كراهيَّة الناس للإسلام ذاته! لأنَّهم لم يُفرِّقوا بين ما يفعله سلاطين المسلمين تبعًا لأهوائهم، وبين قواعد الإسلام التي تنهى عن ذلك. لذلك ليس غريبًا أن نجد ملوك النصارى يتعمَّدون في المعاهدات التي وقَّعتها الدولة العثمانيَّة في زمن ضعفها أن يفرضوا على السلطان العثماني أن يُخاطبهم بلقب إمبراطور، كما حدث في معاهدة كارلوڤيتز مع النمسا، ومعاهدة كيتشوك قينارجه مع روسيا، وهذا يُوضِّح مدى الأسى الذي أحدثه الدبلوماسيُّون العثمانيُّون في قلوب النصارى، والذي رُدَّ على الدولة العثمانيَّة مضاعفًا عندما انكسرت. وليس غريبًا أن نُشاهد مثل هذه المظاهر المتكبِّرة من الحكَّام العثمانيِّين مع الشعوب المسلمة كذلك وليس مع الشعوب النصرانيَّة فقط، فهذه الروح الاستعلائيَّة لم تكن تُفرِّق بين مسلم، ونصراني، ويهودي، وهذا في حدِّ ذاته كان داعيًا للشعوب أن تسعى للانفلات في أوَّل فرصة.
السبب السادس، وآخر ما أذكره من أسباب الانهيار، هو ضعف القيادة في النصف الثاني من عمر الدولة العثمانيَّة. لقد أسهبنا في التعليق على هذا السبب عندما كنا نتحدَّث عن كل سلطانٍ من سلاطين عهود الثبات والانهيار. الاستثناءات الجيِّدة قليلةٌ للغاية، وجودتها تكون بالمقارنة بأقرانها من سلاطين العهود المتأخِّرة، أمَّا مقارنتها بسلاطين الفترات الأولى، أو بالذي ينبغي أن يكونوا عليه، فهذا يُظهر ضعفهم مهما كانوا جيِّدين. السبب في ذلك سوء التربية! كان السلاطين الأوائل يحرصون على تربية أولادهم تربيةً جهاديَّة، وإداريَّة، ترفع من قدراتهم إلى الدرجة التي يمكن أن يقودوا بلادهم إلى كلِّ خير، أمَّا في العصور المتأخِّرة، فقد أبطل السلاطين هذه العادة، ولم يعد أولياء العهد والأبناء يتولون قيادة المدن والأقاليم كما كان في الماضي، بل حبس كلُّ سلطانٍ إخوانه، وأحيانًا قَتَلهم، لينفرد بنفسه على الكرسي دون منافسة، ثم تُقاد الدولة بعد موته بهذا الحبيس الذي لا يعرف شيئًا عن السياسة! هذا الأسلوب الغريب في إدارة الدولة قاد إلى كوارث حقيقيَّة، خاصَّةً في هذا النظام الملكي الصِّرْف الذي يكون فيه الرأي الأوَّل والأخير للسلطان وحده. قاد هذا الأسلوب الأوتوقراطي في الحكم لضعف الدولة، كما قَتَلَ الحماسة في قلوب الغيورين على الأمَّة؛ حيث علموا أنَّ طموحاتهم في الإصلاح، ورغباتهم في التغيير، ستقف عاجزةً عند عتبات السلطان، خاصَّةً إذا كان السلطان فاقدًا للموهبة، عديمًا في التجربة!
هذه هي الأسباب الكبرى التي قادت إلى انهيار الدولة العثمانية، وتفكُّكها.
وإذا كان من الطبيعي عند حديثنا عن انهيار الدولة وسقوطها أن نتحدَّث عن أمراضها ومشاكلها، فإننا ينبغي ألَّا ننسى أن نتحدَّث عن أمجاد هذه الدولة وفضائلها!
هل نسينا محمد الفاتح، أو سليمان القانوني، أو أورخان، أو مراد الأول؟ هل نسينا ثلاثة قرون من المجد كان قَدَرُها أن تُقْرَأ في البداية فتتعرَّض للنسيان، أو للانتقاص، وذلك عند قراءة مظاهر الضعف الطبيعيَّة التي تُصيب مَنْ يصل إلى هذه الشيخوخة المتقدِّمة؟ إنَّنا لا يمكن أن ننسى للدولة العثمانيَّة فضائل كانت لها على المسلمين، بل على البشريَّة بشكلٍ عام، وسأذكر منها في هذه الخاتمة عشر فضائل على سبيل المثال!
الأولى: حفاظ الدولة العثمانيَّة على إسلاميَّتها بشكلٍ واضحٍ في كلِّ فتراتها. كان هذا باديًا في قوانينها، وعهودها، ومعاركها، وكذلك في مساجدها، ومدارسها، ومؤسَّساتها. نعم كان هذا باديًا على المستويين الداخلي والخارجي. هذا الوضوح للإسلاميَّة كان يٌبْقِي ذكر الإسلام في الدنيا بشكلٍ كبير، فإذا ما تحقَّق النصر نُسِب إلى الدين، وإذا ما تحسَّنت معيشة الناس رَبَط الجميع ذلك بالارتباط بالإسلام، وفي هذا دعوةٌ غير مباشرةٍ للشعوب، كما أنَّه تثبيتٌ لقيمة الدين في قلوب المسلمين. ولقد أدرك الأوروبيون ذلك تمامًا، فكانت حروبهم -على الأقلِّ في العهود الأولى- ضدَّ الدولة العثمانيَّة من منطلق الدين، وقام البابا الكاثوليكي بعدَّة حملاتٍ صليبيَّةٍ صريحةٍ ضدَّهم، وهيَّج عليهم أمم أوروبا جميعًا، وأثار فرسان القديس يوحنا الصليبيين، بل وأبدى رغبةً واضحةً في التعاون مع الأرثوذكس -على كراهيَّته لهم- من أجل الهجوم على المسلمين. كلُّ هذا لوضوح الإسلاميَّة عند العثمانيِّين. وعلى الرغم من اتجاه أوروبا إلى العلمانيَّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعدم إثارة الدوافع الدينيَّة في حروبهم، فإن الجنرال البريطاني إدموند اللنبي Edmund Allenby قال في وضوحٍ عندما دخل القدس عام 1917م: «الآن انتهت الحروب الصليبيَّة»[5]! أمَّا القائد الفرنسي هنري جورو Henri Gouraud فحرص عند دخوله دمشق منتصرًا عام 1918م على الذهاب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، ليقول كلمته المشهورة: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»[6]! إن القائدَيْن، الإنجليزي والفرنسي، ما زالا يتذكران دينيَّة الصراع، وليس هذا إلَّا لوضوح إسلاميَّة الدولة العثمانيَّة حتى اللحظات الأخيرة في عمرها، وهذه في الواقع فضيلةٌ عظيمة. إنَّنا سنُدرك قيمة هذه الفضيلة عندما نُقارن حال الدولة العثمانيَّة بحال كثيرٍ من الدول الإسلاميَّة في العالم، والتي يُمثِّل المسلمون الأغلبيَّة الكاسحة من سكانها، ومع ذلك لا يُتَذَكَّر الإسلام أبدًا عند ذكر اسمها!
الثانية: من فضائل الدولة العثمانيَّة الكبرى حرصها على تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، وهذا من أهمِّ أهداف الدولة المسلمة. كان السلاطين الأوائل منضبطين بالشريعة دون وجود قانونٍ متكاملٍ يحكم دولتهم، ثم وضع السلطان العظيم محمد الفاتح قانون الدولة العثمانية المعروف بقانونامه، وهو مستقًى بالكامل من الشريعة الإسلاميَّة، ثم طوَّر سليمان القانوني هذا القانون، وزاد في بنوده وأبوابه، وكان حريصًا كذلك على الالتزام بالقرآن والسُّنَّة في هذا القانون. ظلَّ هذا القانون الأخير يحكم الدولة العثمانيَّة إلى عام 1826م، حين وضع محمود الثاني قانونها الجديد في الفترة التي عُرِفَت بالتنظيمات، وهو القانون الذي ظلَّ يحكم الدولة إلى نهايتها، مع تطويراتٍ طفيفة، ومن جديد حرص محمود الثاني -ومَنْ جاء بعده- على الالتزام بالشريعة في القانون. لا يمنع أن تكون هناك بعض المخالفات الشرعيَّة التي وُضِعَت في القانون نتيجة الجهل، أو نتيجة اعتماد رأيٍ مرجوح، أو نتيجة هوًى أو ضعف، ولكن في النهاية كان المعلَن هو تطبيق الشريعة، ولا يمنع -أيضًا- أن تكون هناك مخالفاتٌ في التطبيق من بعض السلاطين، بل من كثيرٍ منهم، لكنَّهم لم يجرءوا على القول بأنَّهم يُخالفون الشريعة عمدًا، أو أنَّ الشريعة لا تُناسب دولتهم وزمانها، بل كانوا يُظهرون التأويل لأعمالهم، أو يستخفون بها، وهذا لمعرفتهم أن الشعب لن يقبل مخالفات الشريعة. لقد كانت المظاهرات تقوم في الدولة العثمانيَّة إذا شعر الناس أن السلطان أو جهاز الدولة يُخالف الشريعة الإسلاميَّة، وكان شيخ الإسلام، ورجال الدين بشكلٍ عام، يتمتَّعون بمكانةٍ راقيةٍ في الدولة، ويمتلكون سلطةً واسعة، ويمتلكون -أيضًا- قدرةً كبيرةً على التأثير في الرأي العام، وما ذلك إلَّا لتطبيق الدولة للشريعة، ولشعور الشعب برضوخ قادتهم لحكم الإسلام.
الثالثة: إبقاء شعيرة «الجهاد في سبيل الله» قائمةً في الأرض. هذه من أعظم فضائل الدولة العثمانيَّة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول اللهِ ﷺ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ». قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟» قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟»[7]. إن الجهاد عبادةٌ عظيمة، ولا يكون الجهاد إلَّا في وجود دولةٍ ترعاه، وحاكمٍ يأمر به، ويحضُّ عليه، ولكي يُصبح الجهاد جهادًا شرعيًّا آخذًا شكل العبادة لا بُدَّ أن يكون «في سبيل الله»، ولا بُدَّ كذلك أن يكون من أجل قضيَّةِ حقٍّ شرعيَّة، وكانت الدولة العثمانيَّة توفِّر هذا الأمر في معظم فترات تاريخها. عندما سقطت الدولة العثمانيَّة ضعفت هذه العبادة في الأرض بشكلٍ كبير. نعم ما زال «القتال» موجودًا، لكنَّه كثيرًا ما يفتقد معنى الجهاد وشروطه؛ فلا هو من أجل الله، ولا هو منضبطٌ بضوابط الشريعة، فلا نقدر على وصفه بالجهاد. قال أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»[8].
الرابعة: ينبغي ألَّا ننسى أنَّ الدولة العثمانيَّة هي التي أسقطت أحد أشرس الأعداء التاريخيِّين للمسلمين، وهي الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. لقد حارب البيزنطيون المسلمين منذ عهد رسول الله ﷺ. كانت أولى معارك البيزنطيِّين مع المسلمين هي موقعة مؤتة في العام الهجري الثامن (629 ميلادية)، ومن يومها والمعارك لا تتوقَّف مع الدولة البيزنطيَّة، إلى درجة أن عُرِفَ في تاريخ المسلمين حملات الصوائف والشواتي؛ أي حملة الصيف والشتاء للجهاد، وكانت هذه الحملات في الأغلب مع الدولة البيزنطيَّة! هذا يعني أن القتال معهم كان سنويًّا، وليس مرَّةً واحدةً في السنة بل مرَّتين! إن القتال بين المسلمين والبيزنطيين زاد حتى صار «عادةً» للفريقين! ظلَّ هذا الأمر على عهده قرونًا متتالية. حدث القتال مع البيزنطيين في عهد النبوَّة، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي زمن الدولتين الأموية، والعباسية، ثم في زمن السلاجقة. في كلِّ هذه المراحل لم يتوقَّف البيزنطيون عن إيقاع الأذى بالمسلمين، وكم من الدماء سالت، وكم من الأموال بُدِّدَت، وكم من الحرمات استُبيحت، ولم يُوقِف هذا النزيف من الأرواح، والأموال، والحرمات، إلَّا الدولة العثمانية! جعلت هذه الدولة الجهاديَّة قضيَّة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قضيَّة عمرها، فبدأ عثمان مؤسِّسها جهادًا ضدَّها، ولم يتوقَّف هذا الجهاد قط في حياة كلِّ مَنْ تبعه من حكام الدولة، حتى شاء الله أن تكون نهاية الدولة البيزنطيَّة من الأرض على يد السلطان الفاتح الذي أفناها، وفتح القسطنطينية في عام 1453م، ممَّا يعني أن الدولة العثمانية قاتلت البيزنطيين أكثر من قرنٍ ونصف من الزمان حتى تمكَّنت من كسر هذا العدوِّ المزمن، والتقليدي، للأمَّة الإسلاميَّة! لقد كان حدثًا كبيرًا كبيرًا! ويكفي لتوضيح حجمه أن نرى تبشير رسول الله ﷺ به حين قال: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»[9]. ولنلحظ في هذه البشرى كيف لم يكتفِ الرسول ﷺ بمدح محمد الفاتح رحمه الله قائد الجيش؛ إنما مدح الجيش العثماني الذي يُرافقه، وهذا يدلُّنا على قيمة هذه الدولة التي حقَّقت هذا الإنجاز في عين رسول الله ﷺ. إنه ليس أمرًا عاديًّا أن يمدح رسول الله ﷺ جيشَ دولةٍ ستأتي بعده بثمانية قرون! إن هذا من أكبر الأدلَّة على فضل هذا الجيش، والدولة التي ينتمي إليها.
الخامسة: لم يكن فضل الدولة العثمانيَّة متوقِّفًا فقط على إيقاف الخطر البيزنطي الذي ظلَّ مهدِّدًا الأمَّة الإسلاميَّة أكثر من ثمانية قرون؛ إنما زاد فضلها حتى أوقفت الخطر الصليبي القادم من غرب أوروبا كذلك! لقد عانت الأمَّة الإسلاميَّة كثيرًا من الحملات الصليبيَّة التي حرَّكها الباباوات الكاثوليك من غرب أوروبا إلى الشام، ومصر، وتونس، فيما عُرِفَ بالحروب الصليبيَّة. كانت هذه الحروب عبارةً عن ثماني حملاتٍ متتالية على مدار مائةٍ وأربعٍ وسبعين سنة، من عام 1096م إلى عام 1270م[10]. في هذه الحملات أقام الصليبيون أربع ممالك في الشام، وظلَّت هذه الممالك أكثر من قرنين من الزمان. في هذه الفترة كانت معاناة المسلمين عظيمة، وانتُهكت الحرمات بما فيها حرمة القدس، والمسجد الأقصى، ثم شاء الله أن يتحرَّر المسلمون من هذا الهمِّ بجهود الزنكيين، والأيوبيين، والمماليك. كان من الممكن لهذا المسلسل المؤلم أن يستمرَّ لولا ظهور الدولة العثمانيَّة التي شغلت أوروبا كلَّها بجهدها وجهادها. لم يعد لشرق أوروبا، ولا لغربها، عملٌ إلَّا حرب هذه الدولة العنيدة، واستراح بذلك مسلمو العالم في ظلِّ وجود العثمانيِّين! كانت الدولة العثمانيَّة هي «الدرع» الذي تلقَّى ضربات الصليبيين الشديدة، وكانت هي السور العالي الذي احتمى المسلمون وراءه عدَّة قرون. دليل ذلك أن الحملة الصليبية الأخيرة، وهي الحملة الثامنة، وكانت على تونس، كانت في سنة 1270م[11][12]؛ أي قبل تأسيس الدولة العثمانيَّة بثلاثين عامًا فقط! ثم مع سقوط الدولة العثمانيَّة كانت الحملات الصليبيَّة الحديثة التي احتلَّت كلَّ دول العالم الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين! هذا يعني أنَّ القرون الستَّة التي عاشتها الدولة العثمانيَّة كانت سِتْرًا للمسلمين من حملات أوروبا المدمِّرة. -أيضًا- كانت الدولة العثمانيَّة هي المـُخَلِّص للأمَّة الإسلاميَّة من فرسان القديس يوحنا، وذلك بإقصائهم من جزيرة رودس إلى جزيرة مالطة (1522م)، وذلك بعد تضحيَّاتٍ لا يمكن تقديرها! الكلام نفسه يُقال على جهد العثمانيِّين في إنقاذ المسلمين من خطر المملكة الصليبيَّة في قبرص (1573م). حقًّا، لقد كان دور «الدرع» من أعظم أدوار الدولة العثمانيَّة!
السادسة: من أعظم فضائل الدولة العثمانيَّة فضيلة «النَّخْوَة»! لا يمكن أن ينسى المسلمون وقوف الدولة العثمانيَّة إلى جوار المسلمين في أزماتهم الكبرى، لن ينسى المسلمون وقوف العثمانيِّين مع أهل الأندلس في حروبهم الأخيرة ضدَّ صليبيي إسبانيا، ولا وقوفهم مع أهل الجزائر في حروبهم ضدَّ إسبانيا وفرنسا، ولا وقوفهم مع المغاربة ضدَّ البرتغاليين في وادي المخازن، ولا وقوفهم مع الهنود المسلمين ضدَّ الغزو البرتغالي، ولا وقوفهم مع أهل إندونيسيا ضدَّ الغزو الهولندي. كانت هذه النخوة من منطلقٍ إسلاميٍّ بحت؛ لأنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تفعله وهي تحت ضغطٍ كبير، فعلى الرغم من انشغالها في حروبٍ مع المجريين، والنمساويين، والبنادقة، وغيرهم، لم تتوقَّف عن خدمة المسلمين طالما في قدرتها قوَّة، وهذه حقًّا من أعظم مكارمها.
السابعة: كما صدَّت الدولة العثمانية هجمات البيزنطيين، وأوروبا الغربيَّة، وفرسان القديس يوحنا، ومملكة قبرص، صدَّت كذلك الهجمة الشيعيَّة الشرسة التي مارستها الدولة الصفويَّة الشيعيَّة المتشدِّدة ضدَّ العالم الإسلامي. إن قصَّة الدولة الصفوية منذ نشأتها عام 1501م إلى سقوطها في عام 1736م، ما هي إلَّا قصَّة صراعٍ مع الدولة العثمانيَّة. أزهق الصفويون -بلا مبالغة- أرواح الملايين من المسلمين السُّنَّة؛ في إيران، والعراق، والأناضول، ولولا العثمانيِّين لتعدَّى خطرهم إلى الشام، والجزيرة العربية، ولا يُسْتبعد أن يمتدَّ هذا الخطر إلى مصر، وشمال إفريقيا. إن المسلمين لم ينسوا الدولة العبيديَّة (المسماة بالفاطميَّة)، التي سيطرت على شمال إفريقيا، وامتدَّت إلى مصر، ثم الشام، وكان من الممكن أن تكون قصَّة الدولة الصفويَّة تكرارًا لقصَّة العبيديين، لولا صلابة الدولة العثمانية. وظلَّت الدولة العثمانية سدًّا منيعًا في وجه الهجوم الشيعي بعد سقوط الدولة الصفويَّة، والذي كان متمثِّلًا في دولتي الإفشاريين، والزنديين، كما مرَّ بنا. هذا إذن ليس حفظًا للأنفس، والأرض، والمال، فقط؛ إنَّما هو حفظٌ لعقيدة المسلمين كذلك.
الثامنة: من أعظم فضائل الدولة العثمانيَّة زرع شعور «العزَّة» عند المسلمين في الأرض! إن شعور العزة دافعٌ لكلِّ خير، وشعور المهانة محبِطٌ كلَّ الإحباط، والمسلمون يُنْتِجون، ويُبْدِعون، ويتقدَّمون، طالما أنهم يشعرون بالعزَّة، ولا يُشترط لهذه العزَّة أن تتحقَّق بنصرٍ مباشرٍ على العدو، أو بموقفٍ صلبٍ يقفه أهل القطر المسلم المعيَّن؛ إنما يتحقَّق بنصرٍ للمسلمين في أيِّ مكان، وبموقفٍ يقفه قطرٌ إسلاميٌّ في الشرق أو الغرب، خاصَّةً إذا كان هذا الموقف المجيد باسم الإسلام. هكذا حقَّق العثمانيُّون العزَّة للمسلمين في الدنيا بأسرها؛ في الشام، ومصر، وشمال إفريقيا، وفي العراق، واليمن، وفي الهند، وإندونيسيا، كلُّ ذلك بانتصاراتهم في شرق أوروبا، بعيدًا عن هذه البلاد بمئات وآلاف الأميال. هذا هو المجد حقًّا! كان المسلمون يحتفلون بنصر العثمانيِّين دون أن يدري بذلك العثمانيُّون أنفسهم. كانت الاحتفالات تُقام في القاهرة، ودمشق، وصنعاء، وبغداد، والجزائر، وتونس، وذلك عندما تُحقِّق الدولة العثمانية نصرًا عظيمًا، ولقد كانت هذه الانتصارات العظيمة كثيرة! لا ينسى المسلمون انتصارات ماريتزا (1371م)، وفتح صوفيا (1385م)، وكوسوڤو الأولى (1389م)، ونيكوبوليس (1396م)، وڤارنا (1444م)، وكوسوڤو الثانية (1448م)، وفتح القسطنطينية (1453م)، وفتح طرابزون (1461م)، وفتح بوخارست (1462م)، وفتح البوسنة (1463م)، وفتح نجروبونتي (1470م)، وفتح القرم (1475م)، وفتح ألبانيا (1478م)، وفتح أوترانتو بجنوب إيطاليا (1480م)، وتشالديران (1514م)، وفتح بلجراد (1521م)، وفتح رودس (1522م)، وموهاكس (1526م)، وفتح بودابست بالمجر (1541م)، وفتح قبرص (1573م)، ووادي المخازن (1578م)! هذه مجرَّد أمثلة لانتصارات العثمانيِّين، ولنا أن نتخيَّل شعور العزَّة عند المسلمين في بقاع الأرض وهم يسمعون بأنباء هذه الانتصارات المجيدة.
التاسعة: من فضائل العثمانيِّين القصوى أنهم أوضحوا -في كثيرٍ من مراحل تاريخهم- مدى التسامح الديني عند المسلمين، وأوضحوا الفرق بين الشريعة الإسلاميَّة في حفظها لحقوق غير المسلمين، والقوانين الوضعيَّة التي احتكمت إليها الأمم المختلفة. لقد عاشت الشعوب النصرانية في ظلِّ الدولة العثمانيَّة فيما أسماه المؤرِّخون «السِلْمَ العثماني» Pax Ottomana[13]. هذا السِلْم العثماني كان يشمل الحرِّيَّة الدينيَّة في أقصى صورها، حتى بلغ العثمانيُّون فيها أن جعلوا النصارى واليهود يحتكمون إلى شريعتهم في الأمور الجنائيَّة والمدنيَّة، وليس في الأمور الدينيَّة والاجتماعيَّة فقط، طالما أنَّه ليس هناك طرفٌ مسلمٌ في القضيَّة[14]، فإذا كان هناك مسلمٌ في القضيَّة كان التحاكم العادل في المحاكم الشرعيَّة المسلمة، مع حساسيَّةٍ مفرطةٍ لتجنُّب ظلم غير المسلمين في المحكمة. -أيضًا- سُمِح لغير المسلمين بالتملُّك، وحرِّيَّة الحركة والتنقُّل، والسكنى في أفخم الأماكن، والتعليم في أفضل صوره، والوصول الكامل لكلِّ خدمات الدولة. إن أفضل وسيلةٍ لمعرفة قيمة السلوك العثماني في التعامل مع غير المسلمين هي المقارنة مع الإمبراطوريَّات الأخرى في تعاملها مع الشعوب المختلفة المندرجة تحت حكمها. هذه المقارنة كانت تدفع الشعوب إلى تفضيل حكم الدولة العثمانية المسلمة على حكم الأمم الأخرى ولو كانوا نصارى، ولقد فضَّل أهل القسطنطينية الأرثوذكس حكم العثمانيِّين على حكم الكاثوليك اللاتين، وفضَّل أهل البوسنة الفرنسيسكان حكم العثمانيِّين على حكم الصرب الأرثوذكس، وفضَّل الصرب الأرثوذكس حكم الدولة العثمانيَّة على حكم المجر الكاثوليكية، بل فضَّل المجريون الكاثوليك حكم العثمانيِّين على حكم النمساويين مع أنهم كاثوليك مثلهم.
هذه كلُّها كانت شهاداتٍ واقعيَّةً لسماحة الإسلام؛ إذ لم يفعل العثمانيُّون ذلك إلَّا بدوافع دينيَّة، فكانت هذه من أعظم أنواع الدعوة للإسلام، ومن أبلغ الطرق للتعريف به.
العاشرة: على الرغم من قصور العثمانيين الشديد في عمليَّة «الدعوة إلى الله»، وإهمالهم غير المقبول لتعريف الناس بالإسلام بشكلٍ مباشر، فإنَّهم أوصلوا الدين إلى عدَّة شعوب، ممَّا أدَّى إلى إسلام ثلاثةٍ منهم؛ وهي شعوب البوسنة والهرسك، وألبانيا، وكوسوڤو، فضلًا عن الذين اعتنقوا الإسلام من الشعوب الأخرى، كشعوب بلغاريا، وصربيا، واليونان، ورومانيا، والمجر، وغيرها. قال رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»[15]. والعثمانيُّون لم يُدْخِلوا رجلًا أو رجالًا في الإسلام؛ إنَّما أدخلوا أممًا كاملة! دخلت كوسوڤو في الإسلام في أواخر القرن الرابع عشر. الآن (عام 2020) تبلغ نسبة المسلمين في كوسوڤو حوالي 95% من السكان البالغ عددهم ما يزيد على 1.9 ملايين نسمة. -أيضًا- دخلت البوسنة في الإسلام أواخر القرن الخامس عشر، وتبلغ نسبة المسلمين فيها حوالي 50.7% من السكان البالغ عددهم تقريبًا 3,8 ملايين نسمة. أمَّا ألبانيا فقد تأخَّر إسلام أهلها إلى القرن السابع عشر مع أن الحكم الإسلامي كان فيها منذ القرن الخامس عشر، وتبلغ نسبة المسلمين فيها 56.7% من السكان البالغ عددهم ما يزيد على 3 ملايين نسمة. هذا فضلًا عن 33.3% من سكان مقدونيا (يزيدون على مليوني نسمة)، و19.1% من سكان الجبل الأسود (تقريبًا 609 آلاف)، و10.7% من سكان چورچيا (حوالي 4 ملايين)، و7.8% من سكان بلغاريا (تقريبًا 7 ملايين)، و3.1% من سكان صربيا (من 7 ملايين)، وأقلَّ من 0.1% من سكان أرمينيا (من 3 ملايين) ، و1.8% من سكان قبرص (من 1.2 ملايين)، و1.5% من سكان كرواتيا (من 4.2 ملايين)، و2% من سكان اليونان (10.6 ملايين)، و0.3% من سكان رومانيا (من 21.3 ملايين)، وأقلَّ من 0.1% من سكان المجر (حوالي 9.7 ملايين)، و0.6% من سكان مولدوڤا (من 3.3 ملايين)[16][17]، وكلُّ ذلك بالإضافة إلى الذين أسلموا من أهل الأناضول، والذين لا نستطيع حساب عددهم لتقادمه، ولكونه حدث على الأغلب في فترات الدولة الأولى التي لم تشهد إحصاءاتٍ دقيقة. هذه كلُّها إحصاءات وقتنا المعاصر، فكيف إذا أدخلنا في حسابنا المسلمين من هذه البلاد على مدار القرون الماضية، وكذلك المسلمين الذين سيولدون في هذه البلاد إلى يوم القيامة! إن عقيدة هؤلاء جميعًا، وعباداتهم، ومعاملاتهم، في ميزان العثمانيِّين الفاتحين، فأيُّ خيرٍ أعظم من هذا؟!
هذا هو التوازن الذي نريده في تقييم الدولة العثمانية العظيمة التي عاشت أكثر من ستَّة قرون. نذكر فضائلها إلى جوار مساوئها، ونتعرَّف على إسهاماتها إلى جانب أوجه القصور فيها، ونفهم أسباب قوَّتها، وعلوِّ شأنها، وعظمة مجدها، بجانب فهمنا لأسباب أمراضها التي أدَّت إلى سقوطها. ومع ذلك فمجمل التقييم أنَّها دولةٌ عظيمةٌ كانت لها أيادٍ بيضاء على المسلمين وغير المسلمين، واستطاعت أن تحفر اسمها في سجلِّ التاريخ بحروفٍ بارزة، ولن يفتأ المسلمون يفتخرون بماضي هذه الدولة العريقة، وبمجدها التليد! وهذا أمرٌ لم يُنكره المنصفون من المؤرِّخين غير المسلمين.
يقول المؤرِّخ الفرنسي روبير مانتران Robert Mantran: «انتهت الدولة العثمانية إلى الزوال، غير أنها أخذت مكانها في تاريخ العالم القديم، الذي كانت القوَّة الأولى فيه على مدار قرون، وهو ما يُفسِّر أشكال الغيرة والحقد وحركات الانتقام وزعزعة الاستقرار، ثم التدمير الذي كانت هدفًا له»[18]. يقصد مانتران أن قوَّة الدولة العثمانيَّة الفائقة هي التي أثارت مشاعر الحقد والغيرة عند القوى الأوروبِّيَّة، فأدَّت إلى هذه الحروب المتواصلة لتتخلَّص من الدولة التي سبقتهم على مدار قرون.
ويقول المؤرِّخ الروسي نيكولاي إيڤانوڤ Ivanov Nikolai: «شكَّلت الدولة العثمانيَّة أوَّل وأكبر دولة إسلاميَّة استندت فعلًا إلى مبادئ الشريعة الإسلاميَّة، مع استثناء التجربة التاريخيَّة قصيرة الأمد إبَّان الدولة الإسلاميَّة في عصر الخلفاء الراشدين، عندما كانت الدولة الإسلاميَّة لا تزال في طور التكوين»[19].
أمَّا المؤرِّخ الأميركي، والمجري الأصل، جابور أجوستون Gábor Ágoston فيقول: «بنى العثمانيُّون واحدةً من أعظم الإمبراطوريَّات وأطولها عمرًا، وأكثرها تعدُّدًا للأعراق والديانات»[20].
إن الشهادات العظيمة في حقِّ الدولة العثمانيَّة لا يستوعبها مثل هذا المقال، وإنَّ على المسلمين أن يقرءوا تاريخهم بعناية، وأن يقوموا بتحليله بعمق، والاستفادة منه بوعي، وتعليمه لأبنائهم وذويهم، وشرحه لأهل الأرض جميعًا؛ فهذا التاريخ الإسلامي هو تاريخ أمَّةٍ وصفها الله عز وجل بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].
وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم[21].
[1] شوقي، أحمد: الشوقيات، دار الكتب العلمية، بيروت، 2015م. صفحة 1/145.
[2] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2507)، وابن ماجه: كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (4032) عن ابن عمر ب واللفظ له، وأحمد (23147)، قال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وصححه الألباني في الصحيحة (939).
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (147) عن عبد الله بن مسعود t واللفظ له، والترمذي (1999).
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي ﷺ إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله (2782) عن عبد الله بن عباس ب، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773).
[5] الطرشة، عدنان: نهاية الأمم: سنة الله في إزالة الأمم من نهاية قوم نوح إلى نهاية أمة المسلمين، مكتبة العبيكان، الرياض، 2006م.صفحة 558.
[6] زهر الدين، صالح: الإسلام والاستشراق، دار الندوة الجديدة، 1991م.صفحة 286.
[7] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب في فضل الجهاد والسير (2633)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (1878).
[8] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (123)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (1904).
[9] أحمد (18977)، والحاكم، 1990 (8300)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني، 1983 (1217)، وقال البوصيري: رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل، ورواته ثقات. البوصيري، 1999 صفحة 8/106، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والبزار والطبراني، ورجاله ثقات. الهيثمي، 1994 الصفحات 6/118، 119.
[10] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.الصفحات 15/19، 235.
[11] روسو، ألفونص: الحوليات التونسية منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، نقلها عن الفرنسية ونقحها وحققها وضبطها بأمهات المصادر التونسية وقدم لها بدراسة نقدية: محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي–ليبيا، 1989م. صفحة 79.
[12] المطوي، محمد العروسي: الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثانية، 1982م. صفحة 136.
[13] Forbes, Nevill: Bulgaria and Serbia, In: Forbes, Nevill; Hogarth, David George; Mitrany, David & Toynbee, Arnold J.: The Balkans: A History of Bulgaria, Serbia, Greece, Rumania, Turkey, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1915., p. 47.
[14] آيدين، محمد عاكف: النظم القانونية في الدولة العثمانية، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. 1/497-507.
[15] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3973)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب t (2406).
[16] https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook.
[17] تقديرات نسب المسلمين في أرمينيا، ورومانيا، والمجر، ومولدوڤا من تقديرات عام 2014 لمركز بيو للبحوث: Pew Research Center
https://www.pewforum.org/2014/04/04/religious-diversity-index-scores-by-country/
[18] مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (أ). صفحة 1/14.
[19] إيڤانوڤ، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516 – 1574، راجعه وقدم له: مسعود ضاهر، نقله إلى العربية: يوسف عطا الله، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م. صفحة 8.
[20] Ágoston, Gábor: Introduction, In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (A).p. xxvi.
التعليقات
إرسال تعليقك