التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كيف كانت العلاقة بين الدولة العثمانية ودولة المماليك؟ وماذا تعرف عن ذلك؟
توقَّفتُ أمام حادثةٍ من حوادث عام 1465م أثارت اهتمامي، وأخرجتْ إلى الوجود مسألةً ينبغي مناقشتها بوضوحٍ وشفافية، وهي مسألة العلاقة بين العثمانيِّين والمماليك.
والحادثة قام بها فرسان القديس يوحنا القاطنون في جزيرة رودس؛ حيث اعترضوا قافلةً لجمهوريَّة البندقية تحمل تجَّارًا مغاربة قادمين من مصر، وتابعين لدولة المماليك، وقاموا بنقل هؤلاء التجَّار المسلمين كرهائن في جزيرة رودس، وقد أثار هذا الحادث دولة المماليك المصريَّة، وقاموا كردِّ فعلٍ سريعٍ باحتجاز كلِّ البنادقة الموجودين في الشرق (مصر والشام)، بل هدَّدوا بدخول أسطولهم البحري إلى جانب العثمانيِّين في حربهم مع البنادقة، وأثار هذا التهديد مخاوف البنادقة فحرَّكوا بسرعة أسطولًا كبيرًا بقيادة رئيس أساطيلهم في البحر الأبيض -وهو چاكوبو لوريدان Jacopo Loredan- إلى جزيرة رودس لإنقاذ الرهائن المغاربة، وكادت تحدث حربٌ مهلكةٌ بين أقوى أسطولين صليبيَّين في بحر إيجة، لولا أنَّ فرسان القديس يوحنا آثروا السلامة، وأطلقوا الرهائن![1].
لقد لفت نظري أنَّ غضب المماليك كان موجِعًا للبنادقة، إلى الدرجة التي دفعتهم إلى المغامرة بتحريك أسطولهم الرئيس إلى حربٍ صعبة؛ حيث اشتُهر فرسان القديس يوحنا بالبأس الشديد، واشتُهرت جزيرة رودس بالحصانة الفائقة، لكن يبدو أنَّ خسائر البنادقة بتوتُّر علاقاتهم مع المماليك كانت أشدَّ عليهم من خسائرهم إذا حاربوا أشقَّاءهم في العقيدة، فرسان القديس يوحنا!
لقد كانت هناك مصالح تجاريَّة واسعة النطاق للبنادقة مع دولة المماليك، فالأمر لا يتوقَّف على التجارة بين البندقية ومصر أو الشام؛ إنَّما كانت التجارة الوسيطة أكبر من ذلك بكثير؛ وأعني بها وجود المماليك كوسيط بين تجارة الشرق الأدنى في الهند وإندونيسيا وتجارة الغرب في أوروبا، ووجود البنادقة كوسيط بين تجارة المماليك أنفسهم والغرب الأوروبي والإسلامي (الأندلس والمغرب)، فهي تجارةٌ عالميَّة بمعنى الكلمة، وهذا كلُّه كان يكتسب أعلى جوانب الأهميَّة لعدم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا في هذه الفترة، فلم يكن هناك من سبيلٍ إلى الهند وكنوزها وتوابلها وحريرها إلَّا عن طريق دولة المماليك المسيطرة على مصر والشام، فكان غضب المماليك نذيرًا بخنق الاقتصاد البندقي، وبالإضافة إلى ذلك فهناك التهديد المملوكي بدخول الحرب إلى جانب العثمانيِّين؛ فالبنادقة بصعوبة -حتى هذه اللحظة- يُحافظون على التعادل في المعارك الدائرة بينهم والدولة العثمانيَّة، بل إنَّ الكِفَّة تميل إلى العثمانيِّين، فكيف لو دخل المماليك بثقلهم إلى جانب الدولة العثمانيَّة؟
هذه الحسابات دفعت البندقية إلى المخاطرة بدخول حربٍ (نصرانيَّة – نصرانيَّة) في سبيل إرضاء المماليك!
أَلَا يلفتُ هذا النَّظرَ إلى قصور العلاقات العثمانيَّة المملوكيَّة، وإلى ضياع فرصٍ كثيرةٍ على المسلمين من جرَّاء عدم التعاون الحقيقي بين الدولتين؟!
والواقع أنَّ تحليل هذا الأمر يحتاج منَّا إلى مراجعةٍ تاريخيَّةٍ سريعةٍ لطبيعة العلاقة بين المماليك والعثمانيِّين لنصل إلى هذه المحطَّة التي نحن بصدد فهمها..
ظهرت دولة المماليك على الساحة الإسلاميَّة عام (648هـ= 1250م)، واحتضنت الخلافة العباسية في القاهرة بداية من عام (659هـ= 1261م)، واكتسبت بذلك صفة القيادة للعالم الإسلامي، وخاصَّةً أنَّ آثارها الجهاديَّة كانت عظيمةً للغاية؛ إذ إنَّها خلَّصت المسلمين من أكبر خطرين هدَّدوا عُقر دارهم؛ وهما: الخطر المغولي، والخطر الصليبي في الشام.
ظهرت دولة العثمانيِّين بعد دولة المماليك بحوالي خمسين سنة، وتحديدًا في عام (699هـ= 1300م)، ولكنَّها لم تبلغ شأنًا يجعلها معروفةً في العالم الإسلامي إلَّا في عهد مراد الأول، الذي بدأ حكمه في عام (763هـ= 1362م)، أي بعد أكثر من مائة عامٍ من وجود دولة المماليك؛ حيث حقَّق مراد الأول انتصارات كبيرة في أوروبا، وهذه الانتصارات أسعدت المماليك لأنَّها في المقام الأوَّل دولةً جهاديَّةً إسلاميَّةً تسعد بتحقيق انتصارٍ إسلاميٍّ على هذا المستوى، كما أنَّ هذه الانتصارات الإسلاميَّة العثمانيَّة شكَّلت حاجز صدٍّ مهمٍّ للقوى الصليبيَّة الأوروبيَّة، ممَّا وفَّر الأمان للشرق الإسلامي.
وهذه السعادة المملوكيَّة تكرَّرت في عهد بايزيد الأول الصاعقة، وخاصَّةً بعد انتصاره المهيب على قوى الصليبيين المجتمعة في موقعة نيكوبوليس عام (798هـ= 1396م)، ممَّا دفع السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق إلى الاحتفال في القاهرة بالنصر العثماني، بل خلع الخليفة العباسي لقب «السلطان» على الأمير العثماني «بايزيد الأول»، وكان هذا تطوُّرًا إيجابيًّا جدًّا في العلاقة بين الفريقين[2].
للأسف بعد هذا التطوُّر ساءت العلاقات بين الدولتين في النصف الثاني من فترة حكم بايزيد الأول؛ عندما تعدَّى على حدود دولة المماليك في الأناضول واستولى على ملطية التابعة للمماليك عام (801هـ= 1399م)[3][4].
عادت العلاقات إلى الصفاء بين الدولتين في عهد مراد الثاني العثماني (والد محمد الفاتح)، وخاصَّةً في عهد السلطان الأشرف برسباي المملوكي (825- 841هـ= 1422- 1438م)، وكذلك في عهد السلطان الظاهر سيف الدين چقمق (842- 857هـ= 1438- 1453م)، ثم احتفال السلطان الأشرف سيف الدين إينال عام (857هـ= 1453م) بنصر محمد الفاتح في القسطنطينية.
ولاستكمال الصورة في عهد الفاتح، وفي الفترة التاريخيَّة التي نحن بصدد تحليلها الآن، فإنَّ العلاقات العثمانيَّة المملوكيَّة ظلَّت على هذا «الصفاء» معظم عهد محمد الفاتح (855- 886هـ= 1451- 1481م).
لكن هل هذا «الصفاء» هو كلُّ ما نتمناه من علاقة المماليك والعثمانيِّين؟!
إنَّ هذا «الصفاء» كان يعني تبادل الهدايا، وإرسال رسائل الودِّ، وتوافد السفراء حاملين التهنئة بولاية السلطان، أو لإبراز مظاهر الفرح بنصر، وذلك كما ورد في كتب المؤرِّخين لهذه الفترة[5][6][7].
ألم يكن هناك فرصةٌ لشيءٍ أكبر من هذا «الصفاء»؟!
هل عجز الفريقان عن الاتِّفاق على تكوين جيشٍ مشتركٍ لفتح رودس، وإقصاء فرسان القديس يوحنا عن المنطقة بعد أن آذت جيوشها كلَّ الأساطيل التجاريَّة في المنطقة؟
ألم يكن منطقيًّا أن يشترك الأسطولان المملوكي والعثماني في حرب البندقية التي أنهكت الجيوش العثمانيَّة في اليونان، خاصَّةً بعد انضمام البندقية إلى الحلف الصليبي الذي كوَّنه البابا بيوس الثاني؟ ألم تكن هذه حربًا صليبيَّةً صريحة؟! أو على الأقل تضغط دولة المماليك على البندقية اقتصاديًّا -كما فعلت في مسألة الرهائن المغاربة- لكي تُخفِّف الضغط على العثمانيِّين؟ إنَّ الخطأ ليس مملوكيًّا فقط؛ بل كان على الفاتح أن يسعى لتكوين حلفٍ مع المماليك، سواءٌ بالعاطفة الإسلاميَّة المنطقيَّة، أو عن طريق تقديم مصالح وامتيازات تجاريَّة كما فعل مع جمهوريَّة فلورنسا الإيطاليَّة.
إنَّنا لم نشهد تبادلًا تجاريًّا عظيمًا بين الدولتين، ولم نشهد القوافل تتحرَّك من الأناضول إلى الشام أو العكس.
إنَّنا لم نشهد كذلك تبادلًا مخابراتيًّا نرى له آثارًا على أرض الواقع تنفع أحد الطرفين، مع أنَّ علاقات كلِّ طرفٍ كبيرةٌ على المستوى العالمي، ويُمكن أن تكون مؤثِّرةً للغاية في الصدامات أو العلاقات الدبلوماسيَّة للدولتين مع دول العالم، وخاصَّةً الدول الصليبية.
الحقُّ أنَّ هذه التساؤلات تحتاج إلى إجابة! فقوَّتان بهذا الحجم والثقل ينبغي ألا تبقى العلاقات بينهما على هذا المستوى، خاصَّةً في وجود قائدٍ عظيمٍ كالفاتح، الذي كان معاصرًا لقادةٍ عظامٍ في الدولة المملوكيَّة، أمثال: سيف الدين إينال (857- 865= 1453- 1461م)، وسيف الدين خشقدم (865- 872هـ= 1461- 1467م)، ثم الأهم سيف الدين قايتباي (872- 901هـ= 1468- 1496م).
ما تفسير هذا الفتور في العلاقة؟!
قد يكون هذا الفتور راجعًا أوَّلًا إلى النموِّ المطرد للقوَّة العثمانيَّة، ووصولها إلى حدِّ التنافس مع دولة المماليك الكبرى صاحبة التاريخ العظيم؛ فالسنوات الأولى للدولة العثمانية كانت تُمثِّل حياة إمارةٍ مجتهدةٍ تُحاول أن تجد لها مكانًا في الأناضول المحدود، أو حتى في جزءٍ من شرق أوروبا، وتُحقِّق بعض الانتصارات على إمبراطوريَّةٍ منهارةٍ في أطوارها الأخيرة، أمَّا في عهد مراد الأول وما بعده تحوَّلت الدولة العثمانيَّة إلى دولةٍ فاعلةٍ في الساحة الأوروبيَّة والعالميَّة، وصارت انتصاراتها مدوِّية على عدَّة أقطارٍ أوروبيَّةٍ مشهورة، وكان سقوط القسطنطينية في يدها هو الحدث الفارق الذي لفت إليها أنظار الدنيا، سواءٌ من المسلمين أم من غير المسلمين؛ لأنَّ محاولات فتح القسطنطينية كانت متكرِّرة من المسلمين على مدار ثمانية قرون، وقد فشلت فيها الدول الإسلاميَّة الكبرى في التاريخ؛ كالدولة الأموية، والدولة العباسية، ودولة السلاجقة، فكان النصر العثماني لافتًا للنظر بشكلٍ لا يُمكن تجاهله، وهنا ظهرت الدولة العثمانيَّة «كمنافسٍ» قويٍّ لدولة المماليك، التي لم تعد هي محطُّ أنظار الأمَّة كما كانت في عقودها الأولى.. لقد نظر المسلمون بعين الرجاء إلى المماليك ليُخلِّصوهم من التتار المجرمين، فكانوا على قدر المسئوليَّة، ونظروا إليهم ليُخلصوهم من الصليبيين الذين استوطنوا فلسطين ولبنان وسوريا لعدَّة عقود، وأعيوا الرموز الإسلامية الكبرى مثل: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، فكان المماليك على قدر المسئوليَّة أيضًا، ونجحوا في تحرير الوطن الإسلامي كلِّه، فكانوا المنقذ الذي لا وجود لبديلٍ له، أمَّا الآن فالبديل موجود، بل مُقدَّم ولامع، وهذه طبيعة الأحوال؛ إذ إنَّ نموَّ الدولة العثمانيَّة كان مصاحبًا لانزواء دولة المماليك، وكما يقول ربُّ العالمين: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، فهذا التنافس على قيادة الأمَّة الإسلاميَّة -حتى ولو لم يكن معلنًا- أدَّى إلى فتورٍ بين الشقيقتين، وعدم رغبةٍ في التعاون الصريح، حتى لو كان كلُّ طرفٍ في أشدِّ الحاجة إلى الطرف الآخر.
وقد يكون هذا الفتور في العلاقات راجعًا ثانيًا إلى التعارض المباشر للمصالح المادِّيَّة الآنيَّة والمستقبليَّة، والموقف الذي رصدناه وعلى أساسه قمنا بهذا التحليل، يُفسِّر ذلك؛ وأعني به موقف القافلة البندقية التي احتجزها فرسان القديس يوحنا.
إنَّ الفوائد الماليَّة الكبيرة التي كانت تُحصِّلها دولة المماليك من البندقية لا يُمكن التضحية بها بسهولة؛ فأيُّ تجارةٍ تمرُّ عبر مصر والشام تدفع ضرائب كبيرةً لدولة المماليك، ولو أدار المماليك ظهورهم للبنادقة وقفت هذه التجارة برمَّتها؛ لأنَّ الوسيط الوحيد القادر على نقل هذه البضائع إلى أوروبا هو الأسطول البندقي نفسه، ولهذا فإمَّا التعاون مع البنادقة أو رفض مرور البضائع الهنديَّة والآسيويَّة عبر الأرض المملوكية. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإنَّ خسارة المماليك لن تكون ماليَّةً فقط؛ بل قد تكون سياسيَّةً وعسكريَّةً أيضًا؛ لأنَّ البندقية ومَنْ وراءها مِنْ تجَّار وملوك أوروبا قد لا يقبلون هذا التوقُّف لنهر الأموال القادم من الهند وآسيا، وقد يدفعهم هذا إلى تكرار الحملات الصليبيَّة التي عانت منها الأمَّة الإسلاميَّة كثيرًا، التي لم تخرج من الأراضي المسلمة إلَّا بعد قرنين كاملين من الزمان، فهل تُغامر دولة المماليك بتضييع العلاقات الحسنة مع أوروبا الغربيَّة، وتعريض نفسها لخطر الحملات الصليبيَّة في مقابل التعاون مع الدولة العثمانيَّة؟ إنَّه أمرٌ يحتاج إلى موازناتٍ كثيرة، وأعتقد أنَّه لا سبيل لقبول مثل هذه التضحيَّات إلَّا أن يكون العامل الإيماني والأخروي مرتفعًا للغاية، ليس عند الحاكم المملوكي فقط، ولكن عند منظومة الدولة ككل؛ أعني الأمَّة بقادتها وعلمائها وتجَّارها وشعبها؛ لأنَّ المعاناة الناتجة عن ترك هذه المصالح المادِّيَّة، وإيثار التعاون الخطر مع العثمانيِّين، قد تكون كبيرة للغاية.
هذا من جانب المماليك بطبيعة الحال، أمَّا من جانب العثمانيِّين فهم لم يطلبوا من المماليك قطع العلاقات مع البنادقة، ولم يطلبوا كذلك مددًا عسكريًّا يُساندهم، فلماذا لم يحدث هذا الطلب؟! والإجابة يُمكن أن تكون أنَّهم يقرأون الواقع، ولا يُريدون التقدُّم بطلبٍ مرفوضٍ سلفًا، ممَّا قد يُعرِّض العلاقات العثمانيَّة المملوكيَّة لتوتُّرٍ لا داعي له، وإمَّا أن يكون لسببٍ آخر غير معلن، ولعلَّنا نتعرَّض لمثل هذا السبب الخفي في السطور القادمة!
وقد يكون الفتور الذي في العلاقات راجعًا ثالثًا إلى الخوف غير المعلن لكلِّ فريقٍ من الآخر! فطبيعة الدولتين المملوكيَّة والعثمانيَّة طبيعة عسكريَّة، والميول التوسُّعيَّة عند الفريقين موجودةٌ دون جدال، فأين ستتوسَّع كلُّ دولة؟ إنَّ مساحة التمدُّد الطبيعيَّة للدولة العثمانيَّة تشمل شرق الأناضول والشام، هذا هو الامتداد الطبيعي لدولة تُسيطر على الأناضول، أمَّا دولة المماليك فإنَّ مساحة التمدُّد الطبيعيَّة لها تشمل الأناضول كلَّه.. هذه هي الحقيقة التاريخيَّة والجغرافيَّة.
إنَّ كلَّ الدول التي سيطرت على الشام حاولت التمدُّد في الأناضول، وهذا يشمل دولة الخلافة الراشدة، والدولة الأمويَّة، والدولة العباسية، وكذلك الطولونيَّة، والإخشيديَّة، والأيوبيَّة، وفي الوقت نفسه فإنَّ من يُسيطر على الأناضول يسعى للتمدُّد في الشام، وهذا رأيناه مع الدولة البيزنطيَّة، وكذلك مع دولة سلاجقة الروم، وإذا رجعنا في التاريخ أبعد من ذلك فإنَّ الحقيقة ذاتها لن تتغيَّر.
إِذَنْ من المتوقَّع إذا أرادت الدولة العثمانية أن تتوسَّع أن تتَّجه أنظارها إلى شرق الأناضول، الذي يشمل إمارات تَدِين بالولاء لدولة المماليك، مثل إمارة بني رمضان، وإمارة ذي القادر، وقد يتطوَّر طموح العثمانيِّين فينظروا إلى الشام.
أمَّا المماليك فإنَّهم لا شَكَّ يُريدون التمدُّد أكثر في القطاع الشرقي من الأناضول الذي لم تُسيطر عليه الدولة العثمانية بعد، بل إنَّ دولة المماليك كانت تنظر بتوجُّسٍ شديدٍ إلى العلاقة بين الدولة العثمانيَّة وإمارة قرمان؛ لأنَّ إمارة قرمان كانت تربطها علاقات ودٍّ، بل تبعيَّة، للمماليك[8]، والآن صارت تابعةً للدولة العثمانيَّة، بل إنَّ التطوُّر الأخير بوفاة إبراهيم بك، وإقصاء إسحاق ابنه عن الولاية، ووضع أحمد التَّابع للدولة العثمانيَّة على رأس الإمارة بالقوَّة، يُنذر بانضمام الإمارة بشكلٍ كاملٍ إلى العثمانيِّين، ممَّا يعني تلاقي حدود الدولتين العثمانيَّة والمملوكيَّة.
هذا التجاور ولَّد مخاوف كثيرة عند الطرفين، وهذه المخاوف بدورها تُولِّد كراهية، أو على الأقل قلقًا بين الفريقين، وهذا يجعل العلاقات متوتِّرة، وقد لا يستقيم في هذه الظروف إقامة تحالفٍ عسكريٍّ يُؤدِّي إلى قوَّة أحد الطرفين، بينما يرى كلُّ طرفٍ أنَّ إضعاف الطرف الآخر مصلحةٌ ينبغي السعي لها، أو على الأقل الرضا بها.
وقد يكون هذا الفتور في العلاقات راجعًا رابعًا إلى نقطةٍ نفسيَّةٍ خطرة لها مشاهدات في التاريخ تُؤيِّدها؛ وهي النظرة الدونيَّة التي ينظر بها كلُّ طرفٍ إلى الآخر، نعم هو لا يعلن هذه النظرة، ولا يُصرِّح بها في كلماته أو رسائله، لكن المواقف العمليَّة لكلِّ طرفٍ تشهد بذلك.
العثمانيُّون ينظرون نظرةً دونيَّةً إلى المماليك؛ فهم يرونهم عبيدًا شركسيِّين لا ينحدرون من العائلات الشريفة الكبرى في الأتراك، بينما ينحدر العثمانيُّون من أوغزخان، وهي أعلى العائلات التركيَّة قاطبةً، وغير ذلك، فإنَّ الأتراك هم الوارثون الطبيعيُّون للسلاجقة، والسلاجقة هم أسياد الأتابكة الزنكيين، الذين هم أسياد الأيوبيين، الذين هم بدورهم أسياد المماليك! هذه النظرة الاستعلائيَّة كانت موجودة عند كثير من السلاطين العثمانيين. نعم لم تكن هذه النظرة بارزةً عند محمد الفاتح، الذي كان يتميَّز بروحٍ إسلاميَّةٍ نقيَّةٍ تمنع مثل هذه الرؤى الجاهليَّة، ومع ذلك فهناك من المؤرِّخين الأتراك مَنْ ينسب هذه الروح إلى محمد الفاتح أيضًا دون تردُّد؛ لأنَّه يرى أنَّها في كلِّ العثمانيِّين، أو في كلِّ الأتراك، وليست في جيلٍ معيَّن، أو في طائفةٍ من طوائفهم[9].
والواقع أنَّني أرى أنَّ هذه النظرة الاستعلائيَّة موجودة في معظم سلاطين الدولة العثمانيَّة، وكذلك في معظم وزرائها وأمرائها وقادة جيوشها، بل لعلَّها في معظم الشعب ذاته، وهي طبيعةٌ تكون موجودةً في بعض الشعوب والأعراق أكثر من غيرها، وهي بارزةٌ في الشعب التركيِّ بشكلٍ كبير، وهذه الطبيعة كانت سببًا في فشل الدبلوماسيَّة التركيَّة في معظم فترات الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّهم لا يستطيعون التعامل مع الشعوب الأخرى تعامل الندِّ أو الصديق؛ إنَّما يُفضِّلون تعامل السيِّد مع العبد، أو على الأقل الرئيس مع المرءوس، وهذا يظهر بوضوحٍ في رسائلهم وحواراتهم مع قادة الدول الأخرى، ولا شَكَّ أنَّ هذه الملامح الاستعلائيَّة لم تكن بارزةً تمامًا في زمان الدولة الأوَّل قبل التوسُّع والتضخم؛ إنَّما برزت بجلاءٍ عندما تنامت قوَّتهم، خاصَّةً في زمن سليم الأول (918- 926هـ= 1512- 1520م) وما بعده.
هذا الكلام وإن كان فيه شيءٌ من القسوة، إلَّا أنَّ له أدلَّته التاريخيَّة والواقعيَّة المتوافرة.
هذا من جانب العثمانيِّين..والمماليك كذلك كانوا ينظرون إلى العثمانيِّين نظرةً دونيَّة!
لقد ظلَّ المماليك القوَّة الأولى في العالم الإسلامي أكثر من قرنين من الزمان، وهذه فترةٌ ليست قليلة؛ إنَّ هذا استمرَّ منذ نشأتهم عام (648هـ= 1250م)، وإلى زمن محمد الفاتح الذي أسقط القسطنطينية عام (857هـ= 1453م)، حتى بعد بروز العثمانيِّين كقوَّةٍ موازيةٍ كان المماليك يشعرون بأفضليَّتهم لعوامل عدَّة لا تتوفَّر للدولة العثمانيَّة..
فدولة المماليك تحتضن الخلافة العباسية، وهذه الخلافة، ولو كانت صُوريَّة لا حكم لها، إلَّا أنَّ لها مكانةً كبيرةً في قلوب المسلمين تجعلهم ينظرون إلى المماليك -رعاة هذه الخلافة- نظرة تقديرٍ كبيرة، وتجعل المماليك ينظرون إلى أنفسهم نظرة سيادةٍ منطقيَّة.
ودولة المماليك ترعى وتحكم المدن المقدَّسة الثلاثة في الإسلام، مكة والمدينة والقدس، وهذا ليس أمرًا عاديًّا؛ فكلُّ المسلمين في العالم بأجمعه يذهبون إلى هذه المدن الثلاث بدوافع دينيَّة صرفة، فصار الحاكم لهذه المدن مقدَّمًا بالتبعيَّة عند جمهور المسلمين، وتُعطيه قدسيَّةً يراها القريب والبعيد، ويراها المسلم وغير المسلم، وهذا بدوره يرفع من قدر المماليك، ويُعطيه بعدًا دينيًّا لا يتوفَّر لغيرهم.
ودولة المماليك تحكم مصر والشام والحجاز، وهذه هي بقاع الإسلام الأصليَّة بكلِّ التاريخ العظيم فيها، فهذا الميراث العظيم من الأحداث والذكريات والمساجد والآثار تحت حكم قادة المماليك، وهذا لا شَكَّ يُعطيهم قدرًا من الأهميَّة لا يُضاهَى.
ودولة المماليك تحكم عددًا كبيرًا جدًا من مسلمي العالم؛ لأنَّ الكثافة السكانيَّة في مصر والشام والسودان والحجاز كبيرة، بينما تحكم الدولة العثمانيَّة قطاعات كبيرة من أوروبا الشرقيَّة، وهي قطاعاتٌ نصرانيَّة في معظمها، ولا توجد كثافةٌ سكانيَّةٌ مسلمةٌ إلَّا في الأناضول، حتى الأتراك المسلمون في هذه المناطق لم يدخلوا الإسلام إلَّا في عهد السلاجقة، وهو عهدٌ بدأ بعد الهجرة بقرونٍ أربعة؛ أي أنَّ مسلمي مصر والشام يسبقونهم في الإسلام بهذه الفترة الطويلة، وهذا العمق التاريخي له أهميَّته، خاصَّةً عند المقارنات.
وأخيرًا، فدولة المماليك غنيَّةٌ بعلمائها في الفقه والشريعة؛ وذلك لموقعها الجغرافي والسياسي، حيث يُوجد العلماء بكثافةٍ في مصر والشام، بعكس الدولة العثمانيَّة التي كانت تُعاني فقرًا واضحًا في هذا الجانب العلمي، وفوق ذلك فإنَّ دولة المماليك كانت ترعى العلماء من كافَّة المذاهب، وكان بها المدارس الفقهيَّة الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية. بينما كانت الدولة العثمانيَّة حنفيَّة في الأساس، وهذا التنوُّع الفقهي وكذلك التوافر الغني لكافَّة العلماء، أعطى دولة المماليك مكانةً إسلاميَّةً لا تُقارن، وكانت دولتهم قبلة طلاب العلم من كلِّ مكانٍ في الدنيا، بعكس الدولة العثمانيَّة التي لم تُوَفِّر مثل هذه البعثات ولا المدارس.
هذه كلُّها عوامل جعلت المماليك ينظرون إلى العثمانيِّين كتابع، وكانوا يرون أنَّهم لا يستحقُّون لقب «سلاطين»، الذي ينبغي أن يبقى محصورًا فيهم لا في غيرهم؛ لِمَا يُعطيه من صفة السيادة على الغير، والقيادة لمن هو دونهم.
هذا هو واقع النظرة المتبادلة بين الفريقين!
وهو في الحقيقة واقعٌ مرٌّ، وقد حذَّر منه رَسُولَ اللهِ ﷺ مرارًا..
روى ابن عمررضي اللله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فتح مكة، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ»، قَالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13][10].
هذه المعايير التي يتحدَّث عنها رَسُولَ اللهِ ﷺ مهمَّةٌ للغاية في ضبط علاقة الأفراد والأمم بعضها ببعض، وهي مجال اختبارٍ كبيرٍ للمجتمع، وآثار مخالفة هذه المعايير ضخمةٌ على الأمَّة، وإذا برز تعظيم الآباء والجذور والأعراق في علاقة الناس فإنَّه يقودهم إلى الصدام والتَّصارع، ولا يقولنَّ أحدٌ أنَّ هذا لا يكون في زمن عظماء مثل: الفاتح أو قايتباي؛ فإنَّه حدث في زمن رَسُولِ اللهِ ﷺ نفسه، وكادت تحدث معارك بين القبائل المختلفة لولا تذكير رَسُولِ اللهِ ﷺ الناسَ بربِّهم وإسلامهم وعقيدتهم..
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ب، قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ -قَالَ سُفْيَانُ: مَرَّةً فِي جَيْشٍ- فَكَسَعَ[11] رَجُلٌ مِنَ المـُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنصار، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا للأنصار، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنصار. فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»[12].
هكذا يُمكن للأمر أن يتطوَّر، والتعاظم بالآباء، والمنصب، والوضع الاجتماعي، والتاريخ، كلُّها أمورٌ تقود إلى الشِّقاق والخلاف، ولا بُدَّ أن يتواصل المسلمون ويتراحمون بناءً على تقواهم ودينهم، وهذا هو الذي يُمكن أن يجمع صفَّهم، ويُوحِّد قواهم.
لم يحدث الشقاق بصورةٍ فعليَّةٍ بين المماليك والعثمانيِّين في زمن الفاتح، ولكن عدم الاهتمام بمتابعة مثل هذه الأمور وتوقُّع نتائجها، سيقود البلدين إلى صداماتٍ مستقبليَّة، وستكون لها نتائجٌ كارثيَّة، وهذا ما يجعل لدراسة التاريخ أهميَّةً كبرى؛ حيث نرى تطوُّر الأشياء، فنتعلَّم كيف ندرأ الفتنة قبل حدوثها.
وقد يكون الفتور في العلاقات بين الدولتين راجعًا خامسًا إلى روح «الفرديَّة» التي تُعاني منها بعض الشعوب، وتتمثَّل في عدم القدرة على «العمل في فريق»، وهذه مسألةٌ تربويَّةٌ تتربَّى عليها بعض الشعوب دون غيرها، وللأسف فإنَّ نزعة «الفرديَّة» كانت بارزةً في الشعوب التركيَّة، كما أنَّها بارزةٌ أيضًا في الشعوب العربيَّة، ولذلك تجد أنَّ اتِّحادهم لا يستمرُّ كثيرًا، ويميلون إلى تكوين الكيانات المنفصلة، ويقبلون الاستقلال عن بعضهم البعض بسهولة حتى لو كانت هناك خسائر مادِّيَّة لهذا الاستقلال والانفصال.. هذه حقيقةٌ تاريخيَّةٌ لها شواهدها الكثيرة، وهي للأسف مستمرَّةٌ إلى زماننا الآن؛ حيث نرى النزعة «الفرديَّة» متجذِّرة في مجتمعاتنا المسلمة، خاصَّةً في منطقة الشرق الأوسط والأناضول بشكلٍ كبير، وهذا لا شَكَّ يُضعِفُ الكيان الكلِّيَّ للأفراد والمجتمعات والأمَّة ككل.
هذه النزعة الفرديَّة لم تُمكِّن دولتي المماليك والعثمانيِّين من الانصهار سويًّا في تحالفٍ قويٍّ يُؤثِّر في العالم كلِّه، فعملت كلُّ دولةٍ بمعزلٍ عن الأخرى، بينما كنَّا نرى الحملات الصليبيَّة تأتي الواحدة تلو الأخرى، وهي مكوَّنةٌ من عدَّة شعوبٍ يتكلَّمون لغاتٍ مختلفة، ويتبعون مذاهب متعدِّدة، ولكن جمعتهم مصلحةٌ واحدةٌ مشتركة، وكانت تغلب عليهم «روح الفريق»، فقَبِلوا العمل المشترك، وحقَّقوا نجاحات كبيرة.. هذه نقطةٌ سلبيَّةٌ في تاريخ المسلمين بشكلٍ عامٍّ، وفي تاريخ العثمانيِّين بشكلٍ خاص؛ حيث ندر أن نرى لهم تحالفًا حقيقيًّا مستمرًّا يُؤدِّي إلى نتائج فاعلة في الأحداث.
وأخيرًا وسادسًا، قد يكون الفتور في العلاقات بين الدولتين راجعًا إلى قَدَرِ الأمَّة الإسلاميَّة أن يظلَّ بأسها بينها شديدًا! نعم نحن نجتهد في دفع الصدام بين المسلمين، ولكنَّه واقعٌ لا محالة.. قد يتضاءل نسبيًّا في زمن الصالحين، ولكنَّه يعود للنشاط عندما يفتر الإيمان، ويتناسى المسلمون المعاني الأخرويَّة التي ينبغي أن تحكم حياتهم..
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ ﷺ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا»[13].
وهناك رواياتٌ كثيرةٌ في هذا الاتجاه، وهي مسألةٌ مهمَّةٌ للغاية ينبغي أن ينتبه لها المسلمون؛ حيث كان ضحايا الحروب الأهليَّة والصراعات الداخليَّة بين المسلمين أكبر أحيانًا من ضحاياهم أمام أعدائهم من خارج أمَّتهم!
عمومًا، كانت هذه هي الأسباب التي تُفسِّر الفتور بين الدولتين الكبيرتين: المماليك والعثمانيِّين، ولئن كان الصدام لم ينشب بينهما في هذا الزمن الذي حكم فيه صالحون، فإنَّ ترك النار تحت الرماد دون اهتمامٍ كافٍ كان سببًا في خروج هذه النار بعد قليلٍ من موت الصالحين! الذي أراه أنَّه كان على الفاتح وسيف الدين إينال، أو قايتباي، إقامة علاقات تحالفٍ قويَّةٍ فاعلةٍ تسمح بالعمل الإيجابي المشترك الذي يدفع شرور الأعداء، كما يدفع شرور البغاة من المسلمين، الذين سيستغلُّون لاحقًا هذا التوتُّر بين الدولتين في إشعال حروبٍ قد تكون مُهْلِكة[14].
[1] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 277.
[2] إبراهيم بك حليم تاريخ الدولة العثمانية العلية (التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية) - بيروت، لبنان : مؤسسة الكتب الثقافية، 1988م صفحة 48.
[3] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، المترجمون تحقيق: محمد عبد القادر عطا. - بيروت، لبنان : دار الكتب العلمية، 1997م ، 1997م صفحة 6/4.
[4] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في تاريخ مصر والقاهرة - مصر : وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، ۱۹۳۹م صفحة 12/179.
[5] المقريزي، 1997م الصفحات 7/330، 399، 453.
[6] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور، المترجمون محمد مصطفى. - فيسبادن : فرانز شتاينر، 1975م الصفحات 2/245، 246، 316.
[7] ابن تغري بردي، ۱۹۳۹م الصفحات 16/70، 71.
[8] المقريزي، 1997م صفحة 3/79.
[9] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/157.
[10] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله r، باب ومن سورة الحجرات (3270)، ابن حبان، 1993م (3828) واللفظ له، قال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، وصحَّحه الألباني، 1995م (2803).
[11] الكسع هو ضَرْبُ الدُّبُرِ بِالْيَدِ أَوْ بِالرِّجْلِ. ابن حجر العسقلاني، 1960م صفحة 8/649.
[12] البخاري: كتاب التفسير، باب قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (4622)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمـًا أو مظلومًا (2584)، واللفظ له.
[13] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمَّة بعضهم ببعض (2890)، وأحمد (1574)، وأبو يعلى، 1984م (734).
[14] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 459- 469.
التعليقات
إرسال تعليقك