ملخص المقال

17 من محرم 645هـ = 24 من مايو 1247م: سفارة مسيحية من البابا "إنوسنت الرابع" إلى المغول، تعرض التعاون معًا في القضاء على المسلمين.
عندما تولَّى الخاقان الجديد كيوك بن أوكيتاي حُكْم التتار قرَّر أن يُوقِف الحملات التوسُّعيَّة؛ وأن يتفرَّغ لتثبيت الأقدام في أجزاء المملكة الواسعة، وكانت مدَّة حكمه سبع سنوات من سنة 639 إلى سنة 646هـ، ولم يدخل التتار في هذه السنوات السبع أيَّ بلد جديد.
لمـَّا رأى الصليبيُّون في غرب أوروبا هذا النهج غير التوسُّعي عند كيوك تجدَّدت آمالهم في التعاون معهم ضدَّ المسلمين، فأرسل البابا الكاثوليكي إنوسنت الرابع من روما سفارةً برسالةٍ إلى كيوك في منغوليا في سنة 643هـ -والمسافة بين روما وقراقورم عاصمة منغوليا 12 ألف كيلو متر ذهابًا فقط- يعرض عليه التوحد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، ولم يكن من همِّ هذه السفارة مطلقًا أن ترفع الظلم عن نصارى أوروبا وروسيا، فهذا لم يكن في اعتبار البابا الكاثوليكي بالمرَّة؛ لأنَّ معظم البلاد الأوروبية وروسيا التي سقطت كانت بلادًا أرثوذكسيَّة، فلمَّا وصل الوفد الصليبي الكاثوليكي إلى قراقورم سلَّم رسالة البابا إنوسنت الرابع إلى كيوك بن أوكيتاي خاقان التتار، فلمَّا قرأ كيوك رسالة البابا وجد أنَّ البابا بالإضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضدَّ المسلمين فهو يدعوه إلى اعتناق النصرانيَّة؛ أي: أن البابا إنوسنت الرابع القضيَّة عنده عقائديَّة، فهو يُحارب من أجل مبدأ.
فاعتبر خاقان التتار هذا تعدِّيًا خطرًا من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان أعظم دولة في الأرض في ذلك الزمن أن يُغيِّر من ديانته؟ مع أنَّ الديانة النصرانيَّة كانت قد بدأت تتغلغل في البلاط المغولي.
فاعتبر هذا تعدِّيًا كبيرًا جدًّا على خاقان التتار، فردَّ السفارة الصليبيَّة ورفضها إلَّا أن يأتي أمراء الغرب الأوروبي جميعًا -إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها- إلى منغوليا؛ لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، ثم بعد ذلك يتعاونون ويتفاهمون، فرفض ملوك أوروبا هذا الطرح، وبذلك فشلت السفارة الأوروبية الأولى.
لكن البابا الكاثوليكي إنوسنت الرابع لم ييأس، فأخذ يبحث في قادة الجيش التتري في مناطق العالم المختلفة على من عنده رغبة وحميَّة في غزو العالم الإسلامي، فوجد ضالَّته في قائد المنطقة الغربيَّة من دولة التتار "بيجو" الذي هو كان متمركزًا في ذلك الوقت في منطقة أذربيجان وفارس، وكان من أشهر القادة التتريِّين في سنة 645ه، فأرسل البابا إنوسنت الرابع رسالةً جديدةً إلى "بيجو" في فارس بعد السفارة الأولى بسنتين، وكان عنده حبٌّ شديدٌ للعدوان والهجوم، وكان يتوسَّع في أراضي المسلمين، وتلقَّى ترحيبًا كبيرًا جدًّا من بيجو، وتوقَّع بيجو أنَّ هجوم الصليبيِّين على الشام ومصر سوف يُشغل المسلمين في هذه المناطق عن الدفاع عن الخلافة العباسيَّة، وبذلك يستطيع أن يتقدَّم داخل أراضي العراق، ولكنَّه لم يكن عنده الصلاحيَّات الكافية لإجراء المعاهدات والمفاوضات مع إنوسنت الرابع أو غيره، فاتَّصل بـ كيوك، ولكنَّه كان ما زال على رأيه في عدم التوسُّع، ومصرًّا على قدوم ملوك أوروبا إلى قراقورم لتقديم فروض الولاء والطاعة، ففشلت -أيضًا- هذه السفارة الثانية.
وفي هذا الوقت كان لويس التاسع ملك فرنسا يُجهِّز الحملة الصليبيَّة المشهورة على مصر، والمعروفة بالحملة الصليبية السابعة، وكان متمركزًا في جزيرة قبرص؛ لتجميع الجيوش الفرنسية وغيرها لغزو بلاد الإسلام، وذلك في سنة 646 من الهجرة، يعني: بعد سنة من السفارة الصليبية إلى بيجو، ولم ينقطع أمله بعد في التعاون مع التتار، فأرسل سفارةً صليبيةً ثالثة من قبرص إلى منغوليا لـ كيوك يعرض عليه من جديد التعاون، وزوَّد هذه السفارة بالهدايا الثمينة وغيرها، فوصلت هذه السفارة إلى العاصمة التترية قراقورم، فوجدت أنَّ كيوك قد مات سنة 646، وتولَّى الحكم بعده أرملته أوغول قيميش؛ لأنَّ أولاده الثلاثة كانوا صغارًا جدًّا لا يصلحون للحكم، فتولَّت الوصاية عليهم، وبالتالي تولَّت حكم التتار ثلاث سنوات من سنة 646هـ إلى سنة 649هـ، فتوجَّهت السفارة الصليبيَّة الثالثة المرسلة من لويس التاسع إلى ملكة التتار، فاستقبلتها بحفاوة، ولكنَّها اعتذرت عن إمكانيَّة التعاون مع السفارة الصليبيَّة؛ لأنَّها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت كيوك، بالإضافة إلى أنَّ عامَّة قادة جيوش التتار وقادة المدن لم يكونوا موافقين بسهولة على أن يحكم دولة التتار امرأة؛ فدولة التتار تعتمد في الأساس على البطش والإجرام والقوَّة، وكانت الأوضاع غير مستقرَّة في منغوليا وفي غيرها من البلاد، فمطلوب أن يتولَّى القيادة رجلٌ حازم، فردَّت السفارة الصليبيَّة الثالثة وعادت دون نتيجةٍ تذكر.
ومع ذلك أصرَّ لويس التاسع على الحرب وغزا بالفعل مصر ونزل سنة 647ه في دمياط واحتلَّها، وبدأت الحملة الصليبية السابعة...