جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
تم التوصل لاتفاق بين شمال وجنوب السودان بعد تصاعد وتيرة الحرب الإعلامية إلى درجة التهديد بالحرب.. فما هي الأسباب التي دفعت إلى التهدئة؟
بعد تصاعد وتيرة الحرب الإعلامية بين شمال وجنوب السودان إلى درجة حديث الرئيس السوداني عمر البشير على أن نُذُر الحرب باتت أقرب من نذر السلام، وبعدما قال وزير خارجيته علي كرتي: إن حكومته تملك ما سماه الخطة "ب"، وكروت لا تحصى ولا تعد للضغط على جوبا، والتي تركز على الضغط الاقتصادي ودعم المتمردين الجنوبيين.
نقول: بعد هذا كله توصل الجانبان في أديس أبابا بوساطة إفريقية إلى اتفاق لوقف العدائيات، وعدم دعم المعارضة الموجودة في الدولة الأخرى، والتمهيد لبحث القضايا الشائكة وفي القلب منها قضية النفط، التي فشل الطرفان في التوصل الي اتفاق بشأنها الشهر الماضي في أديس أبابا -أيضًا- وبوساطة إفريقية؛ بسبب رفض حكومة الجنوب المقترحات المقدمة في هذا الشأن.
كل هذا يطرح تساؤلين اثنين؛ الأول: ما هي الأسباب التي دفعت كلا الطرفين إلى التهدئة بعد لهجة التصعيد الإعلامي، والتي توحي بوقوع حرب وشيكة بينهما؟ ثم هل سيصمد هذا الاتفاق أم لا؟
أسباب التصعيد بين شمال وجنوب السودان
قبل أن نتحدث عن اسباب التهدئة قد يكون من المفيد الحديث أولاً عن أسباب التصعيد من كليهما؛ إذ يلاحظ أن دولة الجنوب بداية لم تلوح بالحرب، وإنما أعربت عن خشيتها من ألاّ يؤدي التوصل لاتفاق إلى نزاع، وهو ما أكده سلفاكير، وأوضحه بعد ذلك نائبه الدكتور رياك مشار، في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 6 فبراير، أي بعد تصريحات البشير بيومين، حيث قال:
"لن نخوض حربًا مع الشمال، ليس خوفًا، ولكن لأن هذا هو المنطق، وصوت العالم كله مع السلام.. لماذا نلجأ إلى الحرب وفي أيدينا طريق السلام عبر الحوار؟!". وقال: "برنامجنا هو السلام مع الشمال، وسنعمل على ذلك"، معتبرًا أن إيقاف النفط من قبل حكومته لا يعني الدخول في المواجهة مع دولة السودان.
ومع ذلك، فإن هناك عدة أسباب تقف وراء التصعيد الجنوبي، لعل أبرزها ما يلي:
1- محاولة إظهار القوة في مواجهة الشمال، وتأكيد إمكانية خوضهم الحرب في مواجهة الخرطوم، وهو ما أكده كير بعد ذلك، فضلاً عن بداية تجييش الجيش الجنوبي، تحسبًا لأي تهور شمالي.
2- يرتبط بالنقطة السابقة؛ إذ إن الهزائم العسكرية التي تعرضت لها الحركة الشعبية فرع الشمال في كل من أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والتي كانت تحارب بالوكالة عن الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب، ومن ثَمَّ أرادت جوبا التأكيد على أن هذه الهزائم لا تفتُّ في عضدها.
3- توجيه رسالة غير مباشرة لقوى التمرد الجنوبي والمدعومة من الخرطوم بأنها -أي جوبا- لن تسعى لدحر هذه القوات فقط، وإنما لدحر القوى التي تقف خلفها. فهناك سبع حركات مسلحة في ولايتي أعالي النيل وبحر الغزال الحدوديتين مع الشمال، ترفضان الانصياع لسيطرة الدينكا على مقاليد الأمور في الجنوب، وتحظيان بدعم الشمال.
4- محاولة الضغط على الخرطوم للتوصل إلى اتفاق فيما يتعلق ليس بالنفط الذي يبدو أن موقف الخرطوم قوي بالنسبة له على الأقل حتى هذه اللحظة لعدم وجود بديل؛ وإنما بالنسبة للقضايا المعلقة، لا سيما أبيي التي تكمن أهميتها بالأساس في مواردها النفطية.
أما إذا انتقلنا إلى أسباب تصعيد حكومة الخرطوم، فسنلاحظ وجود مجموعة من الأسباب التي تكمن وراء تصعيد البشير الأخير، ومن أبرزها:
1- رغبة نظام الخرطوم في إثبات قدرته على إدارة مقاليد الأمور بقوة، حتى بعد انسلاخ الجنوب عنه فعليًّا بموجب استفتاء يناير الماضي، والتأكيد على أنه إذا كان الجنوب قد انفصل بموجب اتفاقية دولية "اتفاقية نيفاشا"، فإن الخرطوم لن تفرط في أبيي والمناطق الأخرى "المهمشة"، أو حتى في النفط الذي يشكل جانبًا كبيرًا من موارد السودان (70% من احتياطيات النفط و45% من الموزانة).
2- توجيه رسالة غير مباشرة إلى حركات التمرد في دارفور، وكذلك تحالف كادوا -الذي يضم ثلاثًا من هذه الحركات، فضلاً عن الحركة الشعبية الشمالية بهدف إسقاط النظام بالقوة العسكرية- بأن النظام يرفض فكرة استخدام القوة لفرض الأمر الواقع، وبالتالي فإن الحوار السياسي هو الآلية الوحيدة للحديث عن الحقوق.
3- تحسين صورة النظام داخليًّا، في ظل استمرار الانتقادات الداخلية له من قِبل قوى المعارضة التي تطالبه بالرحيل، على غرار ما هو حادث في العديد من دول الجوار، وفي مقدمتها مصر وليبيا، وليس تونس منه ببعيد، فضلاً عن اتهامها له بالتفريط في الجنوب.
4- ابتزاز الجنوب من خلال إجباره على الموافقة على اتفاق توقيع النفط، لا سيما وأن هذا التصعيد جاء بعد فترة وجيزة من قرار جوبا وقف تصدير البترول عبر موانئ الشمال.
أسباب التهدئة بين شمال وجنوب السودان
وإذا كانت هذه هي أسباب التصعيد، فإن السؤال المطروح الآن عن أسباب التهدئة.
ونقول: إن هناك مجموعة من الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية التي دفعتهما نحو التهدئة، والتخلي عن خيار التصعيد والتلويح بالحرب.
فداخليًّا: يعاني كلا النظامين أوضاعًا سياسية وعسكرية، بل واقتصادية متدهورة، قد تجعل من الحكمة السعي لحلها بدلاً من فتح جبهة جديدة للقتال قد تسهم في زيادة إضعافهما. ولعل وقف جوبا تصدير النفط ألحق بكلا الجانبين خسائر كبيرة ،حيث يشكل النفط جانبًا كبيرًا من موارد السودان (70% من احتياطيات النفط و45% من الموزانة)، في حين يشكل قرابة 85% من موارد الجنوب.
وبالتالي كان لا بد من التوصل لاتفاق لوقف العنف وتخفيف حدة التصعيد كمقدمة لازمة لبحث قضية النفط، لا سيما وأن بدائل التصدير أمام جوبا سواء عبر ميناء ممباسا الكينية، أو عبر ميناء جيبوتي مرورًا بإثيوبيا ستستغرق بعض الوقت.
أما إقليميًّا، فإن دول الجوار ستتأثر هي الأخرى لا محالة بتداعيات هذه الحرب على كافة الأصعدة الاقتصادية والأمنية؛ فكينيا وإثيوبيا -وهما من حلفاء جوبا- ستخسران، وفق بعض التقارير الدولية، عدة مليارات، حال نشوب هذه الحرب؛ بسبب موجة النزوح واللاجيئن من ناحية، فضلاً عن تراجع التبادل التجاري معهما من ناحية أخرى.
وربما يفسر هذا أسباب لعب كلا البلدين -تحديدًا- دورًا مهمًّا في الوساطة بين الخرطوم وجوبا على هامش قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في أديس أبابا. كما أن مصر قد تتأثر سلبًا هي الأخرى في حالة اندلاع هذه الحرب؛ بسبب تدفقات اللاجئين والأسلحة الشمالية عبر أراضيها، فضلاً عن تراجع الاستثمار، ومعدلات التبادل الاقتصادي، ومن ثَمَّ ستسعى هي الأخرى للعب دور الوساطة. وربما كان هذا أحد أهداف زيارة وزير الخارجية المصري لجوبا والخرطوم الشهر الماضي.
أما دوليًّا، فإن الأوضاع الاقتصادية الراهنة التي تمربها الدول الكبرى، سواء الأوربية أو الولايات المتحدة، قد تجعل من الصعب عليها تحمل فاتورة الحرب بين الخرطوم وجوبا، لا سيما فيما يتعلق بدعم الجنوب.
كما أن استعداد أوباما لخوض جولة انتخابية رئاسية جديدة قد يحتم عليه اللجوء إلى التهدئة وعدم دعم جوبا، تمامًا كما حدث في الأزمة الإيرانية، والتوجه الأمريكي -بل والإسرائيلي- إلى التهدئة.
هل سيصمد الاتفاق بين شمال وجنوب السودان ؟
يمكن القول بأن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية هي التي دفعت -كما أشرنا آنفًا- إلى توقيع الطرفين للاتفاق الذي سيكون تمهيدًا لما بعده، ونقصد به التوصل إلى اتفاق بخصوص مرور نفط الجنوب عبر أراضي الشمال، ومقدار الرسوم التي ينبغي تحصيلها، بحيث إذا ما تم التوصل إلى صيغة مرضية بينهما، فقد يصمد الاتفاق بعض الوقت. أما إذا فشل الطرفان على غرار ما حدث الشهر الماضي، فقد يتم خرق الاتفاق من جديد.
وبعبارة أخرى، فإن اللجوء إلى خرق الاتفاق لا يعد هدفًا في حد ذاته بقدر كونه أداة للضغط على الطرف الآخر فيما يتعلق بالقضايا الشائكة بينهما، وفي مقدمتها النفط والحدود والمياه والديون، بحيث اذا ما فشلا في التوصل لاتفاق بشأنها، فإن دعم المعارضة، أو القيام بمناوشات حدودية قد يكون هو السبيل. لكن يبقى شبح الحرب الأهلية "الدولية" بينهما مستبعدة إلى حد كبير؛ لعدم موائمة الظروف السابق الإشارة إليها، اللهُمَّ إلا إذا كانت هناك حسابات خاطئة في السياسة الخارجية لكل منهما.
ويبدو أن كليهما استفاد حتى هذه اللحظة من تجربة انفصال إريتريا عن إثيوبيا، حيث أدت السياسة المتهورة إلى نشوب الحرب بينهما، وما ترتب عليها من آثار سلبية يعانيان منها حتى هذه اللحظة. صحيح أن هذه الحرب نشبت بعد 5 سنوات من استقلال إريتريا (أي عام 1998م)، إلا أن هناك معاناة مستمرة بسببها الآن، وبحيث أصبح كلٌّ من نظامي أديس أبابا وأسمرة يعاني ليس على صعيد الداخل فحسب، وإنما على صعيد الخارج أيضًا. فهل استوعب شمال وجنوب السودان الدرس؟
المصدر: موقع علامات أون لاين.
روابط ذات صلة:
- النزاع في النيل الأزرق .. لماذا؟
- النزاع في أبيي .. طبول الحرب تدق
- انفصال الجنوب .. أنقذوا باقي السودان !
- جنوب السودان .. والمخططات الصهيوأمريكية
- دولة جنوب السودان.. تحديات الداخل أخطر !!
- سلفاكير وإسرائيل.. في مواجهة السودان ومصر
التعليقات
إرسال تعليقك