التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يتحدث الدكتور سهيل طقوش عن إرهاصات المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين وهي موقعة الجمل، والأسباب التي أدت إليها، والاستعدادات من كلا
لقد ظهرت معارضة سياسية قوية فور استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ حيث رفض معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما مبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة واتخذ من الشام مقرًا للمعارضة السياسية وجيشها وسيلة لها متخذًا مسألة المطالبة بدم عثمان سببًا هامًّا لتلك المعارضة، في الوقت نفسه ظهرت معارضة في المدينة متمثلة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والزبير وطلحة رضي الله عنهما، وقد نتج عن تلك المعارضة كما استعداد تام من كل الأطراف للاقتتال وذلك بعد فشل المفاوضات في تقريب الأطراف وإقناع كل طرف بصواب رأيه للطرف الآخر، ومن هنا كانت أول مواجهة مسلحة بين المسلمين.
سيطرة قوى التحالف على البصرة
كان وضع المتحالفين في مكَّة مضطربًا؛ إذ لم يكن ملائمًا لحركةٍ تحتاج إلى عناصر للصمود يُمكن أن تُوفِّرها هذه المدينة؛ لأنَّ الفتوح أفرغتها من العناصر البشريَّة التي استقرَّت في الأمصار، واحتاجوا إلى دعمٍ أقوى لم يتوفَّر لهم في الحجاز، فقرَّروا البحث عن مكانٍ أكثر ملاءمة وأكثر بعدًا عن نفوذ الخليفة الذي لن يجد صعوبةً في القضاء على حركتهم في هذا المكان[1]، وجرى نقاشٌ حادٌّ حول اختيار المكان الذي سيذهبون إليه، ويدلُّ ذلك على أنَّ المتحالفين لم يملكوا الرؤية السياسية الواضحة، وبدا عليهم الارتباك بشأن الخطوة التالية ممَّا أتاح للناشطين من الأمويين توجيههم وفق مصالحهم.
لقد اقترحت عائشة رضي الله عنها المسير إلى المدينة لقتال الغوغاء، فعارض أنصارها ذلك لعدم مقدرتهم على مواجهتهم بفعل الفارق العددي بين الفريقين، "فإنَّ من معنا لا يُقرنون لتلك الغوغاء التى بها"[2]. واقترحوا عليها الذهاب إلى بلاد الشام بهدف طلب المساعدة من أهلها، فرفضت اقتراحهم قائلةً: "فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ يُدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم"[3]. وتدخَّل عبد الله بن عامر الحضرميِّ رضي الله عنه فقال: "قد كفاكم الشام من يستمر في حوزته"[4]. وهذه إشارةٌ إلى نجاح معاوية t في إدارة بلاد الشام، وأنَّهم لن ينالوا ما يُريدون، وهو أولى منهم بما يُحاولون؛ لأنَّه ابن عمِّ عثمان رضي الله عنه، وهو غيورٌ على سلطته بحيث لا يُمكنه التساهل بأيِّ تدخُّل، واقترح طلحة والزبير رضي الله عنهما الذهاب إلى الكوفة "فنسدُّ على هؤلاء القوم المذاهب"[5]؛ إذ لطلحة رضي الله عنه فيها شيعة، وتدخَّل عبد الله بن عامر الحضرمي رضي الله عنه مجدَّدًا وأقنعهما بالمسير إلى البصرة؛ إذ للزبير فيها من يهواه ويميل إليه، وإنها تحتفظ بودٍّ معيَّنٍ تجاه عثمان رضي الله عنه على الرغم من مبايعة البصريين عليًّا رضي الله عنه، وإنَّه يحتفظ فيها بعلاقاتٍ وصنائع[6]، والواضح أنَّ الأمويين أرادوا إبعاد قوى التحالف عن بلاد الشام لتجنيبها معركةٍ كانت آتية، وطلب طلحة والزبير من عائشة رضي الله عنهم أن تشخص معهما إلى البصرة لإقناع البصريين بالانضمام إلى حركتهما "اشخصي معنا إلى البصرة، فإنَّا نأتي بلدًا مضيَّعًا سيحتجون علينا فيه ببيعة عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكَّة، ثُمَّ تقعدين، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تُريدين وإلَّا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد"[7]. وهكذا استقرَّ الأمر على الذهاب إلى البصرة لحثِّ أهلها على مساعدة قوى التحالف في معاقبة قتلة عثمان رضي الله عنه، والمعروف أنَّ بعض من اشترك في قتل عثمان رضي الله عنه تفرَّقوا في الأمصار بعد مبايعة عليٍّ رضي الله عنه.
لم تستطع قوى التحالف حشد قوةٍ كبيرةٍ في الحجاز؛ فقد اقتصر المنضمون إليهم على سبعمائة رجلٍ من أهل المدينة ومكَّة، لكن انضمَّ إليهم بعض المؤيدين حتى بلغوا ثلاثة آلاف[8]، ففاجأوا حذر عليٍّ رضي الله عنه، وسبقوه إلى العراق الذي اختاروه أرضًا للمواجهة، وعسكروا في المربد وهو ساحة البصرة الخارجية، حيث جرت محاوراتٌ طويلةٌ كان على قادة التحالف تبرير تحرُّكهم من خلالها، فتكلَّم طلحة رضي الله عنه أوَّلًا، فاسترجع موضوع العدوان على عثمان رضي الله عنه وعلى البلد الحرام، وضخَّم فضيحة الإثم وطالب بدم عثمان رضي الله عنه؛ لأنَّه حدٌّ من حدود الله؛ إذ في ذلك إعزازٌ لدينه وسلطانه، ولن يتمَّ إصلاح هذه الأمة إلَّا بتنفيذ ذلك. فالواضح إذًا أنَّ المرجعية إسلامية؛ لأنَّ الله أمر بقتل كلِّ قاتل، وهذا واجبٌ قرآنيٌ مفروضٌ على كلِّ مسلم، وهو -أيضًا- واجبٌ سياسي؛ لأنَّ المسلمين سيستعيدون -من خلال القصاص- وحدتهم وتماسكهم وقوَّتهم، وتكلَّم الزبير رضي الله عنه بمثل ذلك[9]، وكانت مسألة السلطة العليا مغيَّبة، فلم يُعلنا خلع عليٍّ رضي الله عنه كما لم يُعلنا نفسيهما خليفتين، واكتفيا بدورهما كمنصفين يهدفان إلى إصلاح الأمَّة، وتكلَّمت عائشة رضي الله عنها كذلك، فاسترجعت الموضوعات السابقة، وطلبت منهم المساعدة لمعاقبة قتلة عثمان رضي الله عنه حسب الشرع[10].
يبدو أنَّ المجابهة الكلامية كانت لغير مصلحة الوالي؛ إذ انسحب قسمٌ من المقاتلة الذين كانوا معه وانضمُّوا إلى قوَّات التحالف، والواقع أنَّ المجتمع البصريِّ كان منقسمًا آنذاك إلى قسمين:
الأوَّل: التزم القتال مع عليٍّ رضي الله عنه، وساند الوالي عثمان بن حنيف رضي الله عنه وعلى رأسه حكيم بن جبلة رضي الله عنه من بني عبد القيس[11].
الثاني: تعاطف مع المتحالفين وانضمَّ إلى صفوفهم[12].
لقد قرَّر الوالي عثمان بن حنيف رضي الله عنه التمسُّك بولائه لعليٍّ رضي الله عنه، فجيَّش الناس وعبَّأهم حوله، وحاول منع دخول قوى التحالف إلى البصرة بقوَّة السلاح، لكنَّ موقفه كان ضعيفًا بفعل انقسام المجتمع البصريِّ حول نفسه، كما أنَّ المحاورات التي دارت في المربد كانت تنتشر من خلال الاهتياج والاضطراب والتعبئة الشعبية[13]، وتحوَّلت المجابهة الكلاميَّة إلى مواجهةٍ عسكريةٍ مسلَّحة حيث جرت اشتباكات في دار الرزق -إحدى ساحات البصرة- وقع فيها قتلى وجرحى[14]، ثُمَّ أُعلنت هدنة، ووُجِدت صيغة وفاق تتعلَّق بإرسال رسولٍ إلى المدينة للتحقُّق ممَّا إذا كان طلحة والزبير رضي الله عنهما قد بايعا عليًّا رضي الله عنه كما يزعمان بالإكراه والقوَّة، فإذا كان الأمر صحيحًا فما على الوالي إلَّا أن يُخلي لهما السَّاحة، وإذا لم يكن صحيحًا فما عليهما إلَّا الرحيل[15].
هكذا نُقلت القضية -بشكلٍ مفاجئ- إلى مجالٍ آخر؛ مجال السلطة الشرعية ووجوب طاعتها، لكنَّ عليًّا كان قد غادر المدينة قبل أن يصل الرسول إليها؛ كان في ذي قارٍ بين الكوفة والبصرة ساعيًا إلى استقطاب مقاتلة الكوفة إلى جانبه، ولتكوين جيشٍ لنفسه، فوبَّخ عامله في رسالةٍ بعثها إليه؛ لأنَّه انساق إلى هذه المكيدة، ودافع الوالي عن تصرُّفه بأنَّه يُريد كسب الوقت منتظرًا قدومه شخصيًّا للدفاع عن سلطته وعن وحدة المسلمين، وأنَّه تأخَّر فى القدوم ولم يكن لديه القوَّة الكافية لطرد المتحالفين من البصرة، ومع ذلك فقد جرى اقتحام البصرة وقُتل الكثير من المسلمين، وهنا نجد توسيعًا رهيبًا لمفهوم القتلة بحيث شمل كلَّ الذين اقتحموا المدينة[16]، وسوف تُؤدِّي هذه الأحداث إلى التصلُّب في المواقف وإلى الحرب الأهلية، ممَّا جعل قبائل برمَّتها تنفر من قضيةٍ كانت تبدو مبرَّرةً في البداية، فقد رفضت قبيلة بني سعد من تميم -وهي عثمانيةٌ في الأصل- تسليم أحد أبنائها؛ وهو حرقوص بن زهير أحد المشتركين في اقتحام المدينة ومقتل عثمان بن عفان، وبتأثيرٍ من رئيسهم الأحنف بن قيس قرَّروا الانسحاب من المعركة، ووقفوا على الحياد في النزاع الذي كانت تلوح تباشيره، وغضبت عبد القيس التي لم تنكث بيعتها لعليٍّ رضي الله عنه بعدما فقدت الكثير من أبنائها، وخرجت من البصرة مع كثيرٍ من البكريين لكي تنضوى تحت لواء عليٍّ رضي الله عنه[17]، فكانوا ستة آلاف رجل جاهزين للحرب.
الواقع أنَّ هذه الدعوة الإصلاحية المرتبطة بمقتل عثمان رضي الله عنه ما كان لها أن تخترق المجتمع البصرى بهذه السهولة، حيث الفرز قام على أساسٍ قبليٍّ في توزيع القوى التي راعت مصالحها الخاصَّة قبل الانخراط في هذا الاتجاه أو ذاك، ومن هذه الرؤية فإنَّ السيطرة على البصرة لم يكن بالأمر اليسير على المتحالفين. وأثبتت عائشة رضي الله عنها مقدرة التفوُّق حيث وضعت حدًّا للجدل، ونجحت في شقِّ صفوف الكتلة المؤيِّدة للوالي الذي أظهر ضعفًا استحقَّ عليه لومًا شديدًا من الخليفة[18].
تسارعت الأحداث، وأفلت زمام الأمور من يد الوالي، وتدخَّلت أطرافٌ ليس لها شأنٌ في الصراع؛ حيث شهر الزط[19] والسيابجة[20] السلاح في وجوه المتحالفين، وانتهى الأمر بسيطرة المتحالفين على البصرة، وقُبض على عثمان بن حنيف رضي الله عنه وزُجَّ في السجن قبل أن يُطلق سراحه بعد تدخُّل عائشة رضي الله عنها، وطورد الأشخاص الذين اشتركوا في غزو المدينة وقتل عثمان رضي الله عنه، وكانت الوقعة في "24 ربيع الآخر 36هـ= 20 أكتوبر 656م"[21].
لم تكن السيطرة على البصرة نهاية المطاف بالنسبة لقوى التحالف؛ إذ لم يكن الهدف الأساس الاستيلاء على مصر من الأمصار، بل تطبيق أحكام الدين على الشريف والوضيع، كما أنَّهم أرسلوا رسلًا إلى أهل الشام وأهل الكوفة وأهل اليمامة وأهل المدينة يحثونهم على الإسراع في تطبيق حدود الله على القتلة، وعلى عدم مساعدة أولئك الذين يحمونهم ويُدافعون عنهم[22]؛ أي عدم مساعدة عليٍّ رضي الله عنه، وهذا خروجٌ واضحٌ على السلطة الشرعية، وقدَّموا أنفسهم كحماةٍ للدين، وكمنفِّذين لأحكامه متجاوزين اختصاصات الخليفة، وبالتالي فإنَّهم كانوا أصحاب قضيةٍ سياسيةٍ مغلَّفةٍ بإطارٍ دينيٍّ تستهدف الأمَّة كلَّها، قد تُؤدِّي لو نجحت إلى اعتلاء السلطة العليا، لكنَّهم ظلُّوا محصورين ضمن نطاق البصرة التي لم يُساندهم كلُّ أهلها، حتى إنَّ معظم الذين ساروا وراءهم واتَّبعوهم بايعوهم فقط على المهمَّة المحدَّدة التي كانوا قد أخذوها على عاتقهم.
سيطرة علي علي الكوفة:
قرَّر عليٌّ رضي الله عنه مغادرة المدينة بصورةٍ نهائية ممهِّدًا لذلك باتصالاتٍ مكثَّفةٍ مع قبائل الكوفة[23]، لتكون الأخيرة مقرًّا له؛ فهي في نظره مستقرُّ أعلام ورجال العرب[24]، وقد اتخذ هذا القرار من واقع استحالة البقاء في الحجاز الذي أفرغته الفتوح من طاقاته البشرية والاقتصادية، وانتقال محاور الصراع الأساسية إلى مناطق الأطراف البعيدة عنه، فخرج من المدينة في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الآخر عام 36هـ، وخرج معه وجوه المهاجرين والأنصار بالإضافة إلى بقايا البصريين والكوفيين في المدينة؛ أي من قتلة عثمان رضي الله عنه، أمَّا المصريون فقد عادوا إلى مصرهم، وكلَّما توغَّلنا في الزمان نُلاحظ إلحاقًا متزايدًا علي العدد الكبير من الصحابة الخارجين معه، أو المنضمِّين إليه لاحقًا للاشتراك في معركة الجمل، ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممَّن شهد بيعة الرضوان[25]، نظرًا لما يكسبه تأييدهم من ضمانةٍ معنويةٍ كبيرةٍ في مواجهة عداوة أو ابتعاد أكثرية المهاجرين، والتباس القرَّاء، وكراهية القرشيين المتحالفين مع الأمويين، والنفوذ الكبير لعائشة رضي الله عنها، وسيُشكِّل خروجه نقطة تحوُّلٍ فاصلةٍ في تاريخ صدر الإسلام والدولة الإسلامية؛ لأنَّه يتضمَّن الخروج النهائي لمؤسسة الخلافة من الجزيرة العربية[26].
يمَّم عليٌّ رضي الله عنه وجهه شطر العراق وعسكر حول مكَّة، ثُمَّ حطَّ رحاله في الربذة حيث بلغته تفاصيل ما جرى في البصرة، كما استقبل فيها عامله مغلوبًا مطرودًا، فأبدى ارتياحه بأنَّ خصومه لم يقصدوا الكوفة[27]، ويبدو أنَّه لم يكن على علمٍ بتطورات الموقف فيها، ثُمَّ توجَّه إلى ذي قارٍ بين الكوفة والبصرة فيما وراء الفرات، واتخذها قاعدةً لتجمُّع قوَّاته واستنفار الكوفيين وأرسل رسلًا إلى الكوفة من أجل ذلك، وكتب إليهم يقول: "... فإنِّي اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودَّتكم وحبِّكم لله عزَّ وجلَّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحقَّ وقضى الذي عليه". "... إنِّي أخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا للدين أعوانًا وأنصارًا، وأيِّدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخوانًا، ومن أحبَّ ذلك وآثره فقد أحبَّ الحقَّ وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحقَّ وغمصه"[28].
كان رجل الكوفة المهم آنذاك واليها أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، ويتمتَّع بنفوذٍ كبيرٍ فيها؛ لأنَّ الكوفيين قد اختاروه ليحلَّ محلَّ الوالي الأموي، وفرضوه على هذا النحو على عثمان رضي الله عنه، واجتهد كثيرًا لتهدئة غليان الكوفة، وهكذا طرح نفسه كوسيط وكرجل الإجماع، وتبنَّته الكوفة واعترفت به أميرًا عليها، وربَّما اكتسب ذلك النفوذ من واقع سيرته؛ فقد كان المرشد الكبير الهادي إلى القرآن. وشكَّل ثنائيًّا مع ابن مسعود رضي الله عنه. وعندما انتخب عليٌّ خليفةً رغب في خلعه كما أشرنا، لكنه لم يستطع، غير أنَّ أبا موسى رضي الله عنه اضطر تحت ضغط قوًى شديدة أن يُبايع عليًّا رضي الله عنه ووراءه كلُّ المدينة، إنَّه تناقض المجتمع الكوفي المتمسِّك بأميره، والمحتوي في آنٍ على قوى مؤيِّدةٍ لعليٍّ رضي الله عنه، وهو تناقضٌ مقبلٌ على الانفجار[29].
تحفَّظ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تجاه دعوة عليٍّ رضي الله عنه، وتبعه الكوفيون، ممَّا اضطرَّ عليًّا إلى إرسال الرسل إليه بشكلٍ متواصل، طالبًا منه تجهيز الرجال، لكنَّه كان يبدي معارضةً مطلقة، ويُواجه طلبه برفضٍ قاطعٍ ضاغطًا بكلِّ ثقله لكي يُثني الكوفيين عن الوقوع في ما كان يعدُّه بمثابة فتنة "صمَّاء عمياء"[30]، وقد مثَّل عقبة كأداء ومشكلة حقيقية بالنسبة لعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان عليه تذليلها.
لقد طلب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه من الكوفيين أن يغمدوا سيوفهم ويقبعوا في بيوتهم إلى أن تتجدَّد الوحدة وتزول الفتنة، كان يُريد تجنيب أهل الكوفة هذا الشر الذي هو الحرب الأهلية بين المسلمين وزرع بذور السلام[31].
نجح أبو موسى الأشعري أن يُدخل في ضمائر الكوفيين أفكاره السلمية، بحيث لم يتمكن عليٌّ رضي الله عنه من تجنيد أكثر من تسعة آلاف مقاتل من أصل أربعين ألفًا، وتجنَّب زعماء القبائل الاشتراك في الحرب الأهلية، مثل: الأشعث بن قيس، وجرير بن عبد الله البجلي، كذلك فإنَّ الذين كانوا متواجدين في الكوفة لن يشتركوا فيها أيضًا، مثل: سعد بن قيس زعيم همدان، وشبث بن ربعي أحد رؤساء تميم، وساند بعضهم عليًّا مثل عدي بن حاتم، ومخنف بن سُلَيْم.
تمكَّن عليٌّ رضي الله عنه -على الرغم من الانقسام الداخلي في الكوفة- من السيطرة على المدينة، وجرى تجاوز أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بعد أن أرسل ابنه الحسن رضي الله عنه، فعزله وطرده من الكوفة، وكوَّن لنفسه جيشًا بلغ تعداده عشرين ألفًا[32]، استند بشكلٍ أساسٍ على عناصر كوفية، فهل ربط علي مصيره بالكوفيين عرضًا أم بحكم الواقع؟ تُوحي روايات المصادر بنوعٍ من اللامبالاة في علاقات عليٍّ t بالكوفيين، وبخاصَّةٍ أنَّ هواهم كان مع ابن الزبير رضي الله عنهما، وأنَّهم تمسَّكوا بواليهم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وعندما علم عليٌّ رضي الله عنه بذهاب خصومه إلى البصرة أعلن تفضيله الكوفة، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمصار لم يكن لها مرشَّحٌ محدَّدٌ مسبقًا، كما لم يكن لها رأيٌ واضحٌ ومحدَّد[33]، وكَمُنَ سرُّ نجاحه في موقعه الشرعيِّ كخليفةٍ وإمام، كما كان له فى الكوفة أنصار نشطون وأتباعٌ أكثر رصانة انضموا إليه عن رجاحة عقل، وبوصفه أقلَّ ضررًا[34]، والتفَّت حوله الجماعةُ الأولى من القرَّاء السابقين الذين تضخَّم عددهم، الذين لم يتغير رؤساؤهم؛ الأشتر النخعي، وزيد بن صوحان، وعدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، والمسيب بن نجبة. وقد اشتركوا في غزو المدينة وحُسبوا في عداد قاتلي عثمان t، وبالتالي كان يُلاحقهم العقاب الانتقامي من جانب أولئك الذين كانوا يُطالبون بالقصاص لدم عثمان رضي الله عنه، وفي طليعتهم عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، إنَّهم سياسيون ربطوا مصيرهم بمصيره[35].
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] الطبري: ج4 ص452، وبيضون: ص60.
[2] المصدر نفسه: ص450.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] الطبري: ج4: 452.
[8] المصدر نفسه
[9] المصدر نفسه: ص463، 464، وجعيط: ص150.
[10] المصدر نفسه: ص464.
[11] المصدر نفسه: ص466، 470، 474، 475.
[12] المصدر نفسه: ص464، 465.
[13] جعيط: ص150.
[14] الطبري: ج4 ص466.
[15] المصدر نفسه: ص466، 467.
[16] جعيط: ص151.
[17] الطبري: ج4 ص472، 489.
[18] بيضون: ص64.
[19] الزط: اسم قوم، هم الغجر، هاجروا من الهند إلى فارس، ومنها انتشروا في آسيا وانتقلوا
إلى أوروبا.
[20] السيابجة: اسم قوم، انتشروا على سوالح الخليج العربي قبل ظهور الإسلام، وكثيرًا ما
يُذكرون مع الزط.
[21] الطبري: ج4 ص474.
[22] المصدر نفسه: ص472، 473.
[23] تاريخ خليفة بن خياط: ص108.
[24] الطبري: ج4 ص459.
[25] تاريخ خليفة بن خياط: ص108.
[26] جعيط: ص153.
[27] الطبري: ج4 ص479، 480.
[28] المصدر نفسه: ص477، وغمصه: تهون به.
[29] جعيط: ص159.
[30] الطبري: ج4 ص481-484.
[31] المصدر نفسه.
[32] المصدر نفسه: ص505.
[33] جعيط: ص159.
[34] الطبري: ج4 ص488.
[35] جعيط: ص162.
التعليقات
إرسال تعليقك