الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الرايات والأعلام في العهد النبوي والخلفاء الراشدين لها دور كبير وهام، فكان لها دور حربي وميداني، ورموز هامة في المعارك، فما شكل رايات النبي؟ ومن أشهر من
الرايات والأعلام في البحث التاريخي
يُعتبر موضوع الرايات والأعلام بأنواعها المختلفة في التاريخ العسكري الإسلامي من المواضيع الطريفة والشاقَّة في آنٍ واحد؛ طريفةٌ لأنَّها تعبر عن طبيعة الفرق وشخصيَّاتها، وطموح زعمائها، ولعلَّه في كثيرٍ من الأحيان يمدنا بدلالات عما يختلج في نفوس أتباع هؤلاء من آمالٍ يحلمون بتحقيقها في المستقبل.
وموضوع الرايات من جهة أخرى شاق وشائك في الوقت نفسه، ولا يزال الغموض يكتنفه؛ لقلة وندرة الأخبار التي تمدُّنا تفسير سبب اختيار لونٍ دون آخر، أو توضِّح رمزيَّته، ولعلَّ غموض الروايات ونذرتها هي السبب في قلَّة استقصاء الباحثين في الموضوع من ناحية، وإلى تباين وتضارب آراء الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذا الموضوع من ناحيةٍ ثانية.
وهناك ملاحظة مهمة في هذا الشأن؛ وهي أنَّ الفرق والدعوات الإسلامية تبنَّت ألوانًا معيَّنةً لشعاراتها تمييزًا لها عن غيرها من الفرق الأخرى، ومن أجل أن تُبرِّر اختيارها لهذا اللون أو ذاك وضعت أحاديث أو اخترعت روايات فحواها، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل هذا اللون رايةً له أو فضَّل ذلك على غيره. فقد رُوِي أنَّ اللون الأسود والأبيض كانا من ألوان رايات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما ذُكر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم فضَّل كذلك الأصفر والأخضر.
الأهمية الميدانية للرايات والأعلام
"الراية" و"اللواء" لفظان مترادفان يعنيان شيئًا واحدًا وهما قديمان قِدَم الحرب نفسها؛ لأنَّهما صاحباها من البداية وعاشا في خضمِّها منذ أول اشتباكٍ وقع بين جمعين، وكانت الغاية من استعمالها جمع الشمل وتوحيد الكلمة، هذا فضلًا عن أنَّهما الرمز الذي يُلاذ به ويُلتفُّ حوله، فإذا رُفِعا رُفِعت الرءوس وغلا في النفوس الاندفاع للمعركة، وعلى الرغم من كونهما خرقا على عصي أو رماح، فهما أهيب في القلوب وأهول في الصدور وأعظم في العيون.
وقد سجَّل التاريخ في ثناياه نماذج من قصص البطولة النادرة لأولئك الأبطال الذين حملوا محافظين بها على الرغم من الأخطار التي تحدق بهم، يُدافعون عنها بكلِّ ضراوةٍ ويبذلون دونها الأرواح فتتهاوى جثتهم تحت أرماحها لتظل الراية خفاقة ويبقى اللواء مرفوعًا، لذلك كانت أنظار المقاتلين إلى صاحب الراية؛ لأنَّ سقوطه يعني سقوطها، فإذا وقع أصابهم الذعر وتملَّكهم الفزع والخوف وغشيتهم رهبة الهزيمة، ولقد كان للعرب قبل الإسلام رايات مختلفة تُرفع وقت الحرب لتُنظِّم القتال تحتها وتتجمَّع حولها، فهي شارة القيادة ورمز الجيش.
المصطلحات اللغوية للرايات
وقد تضمَّن الشعر الجاهلي إشارات كثيرة إلى الراية واللواء والعلم والعقاب والعصبة والخال، كما خلفت كتب التاريخ واللغة والحديث بهذه التسميَّات (المصطلحات)، بيد أنَّ الشيء الذي يستوقف الباحث في هذه المسألة هو الخلط الشديد والواضح في استعمالها، والملابسات التي تكتنفها، ويبدو أنَّ منشأ هذه الظاهرة اللغوي لم تكن قصرًا على القدماء فحسب؛ بل امتدَّت عدواها حتى بالنسبة إلى المعاصرين، والباحثين المحدثين، بحيث لا نجد في بحوثهم ودراستهم تحديدًا أو توضيحًا للفرق بينهما.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما أورده "ابن منظور" في كتابه: (لسان العرب) في مادة "لوى"، أنَّ اللواء العَلَم والجمع ألوية وألويات جمع الجمع، قال: جمع النواصي ألوياتها، وفي الحديث لواء الحمد بيدي يوم القيامة. اللواء: الراية ولا يمسكها إلَّا صاحب الجيش، قال الشاعر:
غداة تسابلت من كل أوب *** كتائب عاقدين لخم لوايا
قال: وهي لغة لبعض العرب نقول: احتميت احتمايا.
والألوية، كما عرفها "الرازي" في معجمه (الصحاح) هي: "المطارد وهي دون الأعلام والبنود"، وفي الحديث: "لكل غادر لواء يوم القيامة"؛ أي العلامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء شهرة مكان الرئيس. أمَّا "ابن سيده" في معجمه (المخصَّص) فقد ذكر أنَّ الغاية: الراية وقد غييت غاية، عملتها، وأغييتها، نصبتها، والعلم الراية والجمع أعلام وكذلك العقاب وهي أنثى وقيل هي العلم الضخم. وأشار القلقشندي في (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) إلى أنَّ الأعلام هي الرايات التي خلف فوق السلطان.
وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أنَّ هناك نصوصًا كثيرةً تناولت هذا الموضوع، لكن المجال لا يتَّسع لذكرها جميعًا لذلك نكتفي بهذا القدر الذي لمسنا فيه مدى الخلط بين هذه المصطلحات والغموض الذي يُحيط بكلِّ كلمةٍ من كلماتها.
رمز في المعركة
لعبت الرايات منذ القدم دورًا في تاريخ الشعوب والأمم، لاسيَّما فيما يتعلَّق بحياتها في الحرب والسلم، حيث كانت "تعقدها في مواطن الحرب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء".
كانت الراية أو اللواء، هي الرمز الأساس لفرق الجيش الإسلامي، ولذلك كان يحملها القائد أو الأمير المباشر للمعركة أو مساعده، وغالبًا ما كان يعهد بحمل الراية إلى من عُرِف بالشجاعة وروح التضحية وهو قبل المعركة يرشد الجند إلى المسالك، أمَّا في الحرب فيضمن التفاف الجيش حوله، وجرت العادة أنَّ الطرف المعادي يُوجه ضرباته إلى حامل الراية قبل غيره، حتى يُثبِّط من عزيمة الجيش ويعمل بذلك على اختلاف صفوفه؛ لأنَّ ذلك يُحدث زعزعة في النفوس وإحباطًا في المعنويات.
دور الراية الحربي
عرَّف الجاحظ الرايات، فقال: هي "خِرَقٌ سودٌ وحمرٌ وصفرٌ وبيض". ويفهم من عبارة هذا الكاتب أنَّ الرايات في الأصل ما هي إلَّا قِطَع من القماش أو الكتَّان ذات مقاسات مختلفة، وكان لكل دولةٍ رايتها التي تتميز بها عن غيرها باللون وفي بعض الأحيان بالشكل.
ويبدو من دراسة التاريخ العسكري للمسلمين أنَّ الراية كانت تربط في طرف الرمح ويحملها قائد الجيش كما سبق أن ذكرت قبل قليل، ونظرًا إلى الدور الحربي الذي تلعبه الرايات في تاريخ الصراع بين الشعوب خصوصًا أثناء المعارك القتالية الفاصلة، فقد علَّق عليها المسلمون أهميَّةً خاصَّةً منذ فجر الإسلام وبداية حركة الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين، حيث استعملوها كوسيلة للنداء في بعض معاركهم الحاسمة.
نذكر من بين هذه المعارك معركة "فتح نهاوند" سنة 21 هـ، التي تروي كتب التاريخ أنَّ فاتحها "النعمان بن مقرن" قال لجنوده: "إنِّي هازُّ لوائي ثلاث هزَّات، فأمَّا أول الهزة الثانية، فلينظر الرجل بعدها إلى سيفه (أو قال شسعه)، وليتهيَّأ وليُصلح من شأنه، وأمَّا الثالثة، فإذا كانت إن شاء الله فاحملوا لا يلوينَّ أحدٌ على أحد". ومن غير شكٍّ أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا أرادوا الهجوم سرًّا وبغير جلبة تُنبِّه العدو، وقد تواصل استعمال هذه الإشارات في العصر الثاني والثالث، وتواصل استعمال الرايات عند المسلمين في العصور التالية، فتكررت ضروب الألوية، وتنوَّعت أشكالها، وتعدَّدت ألوانها وأطوالها وسُمِّيت بأسماء مختلفة.
راية الأمان
كما هو الشأن في حالة الأعلام والرايات عند الأمم والشعوب وقت المعارك والحروب، كان لراية الأمان أهميةٌ كبيرة في وقف القتال ومنح الأمان، وهكذا كانت راية السلم والأمان عند المسلمين عبارة عن رقعة بيضاء من الكتان مجردة من الشعارات، تنكس عند إعلان الأمان كما يتضح من عبارة الطبري التي يصف فيها قتال السفن حيث يقول: "وكانوا وقت الحرب إذا استأمنت شذاة من شدوات العدو، كان أهلها ينكسون علمًا أبيض يكون معهم".
وتأكيدًا لما ذكر الطبري، يروي صاحب كتاب (وفيات الأعيان) في ترجمة القائد جوهر الصقلي من خير دخوله مصر ما نصه: "فعاد إليه بأمانهم وحضر رسوله ومعه بند أبيض وطاف على الناس يؤمنهم ويمنع من النهب". وعلى إثر ذلك هدأت المدينة، وسكن الناس، وخاصَّةً بعد أن طاف صاحب الشرطة السفلى بصحبة رسول جوهر يحمل علمًا أبيضًا.
ويتبيَّن ممَّا سبق أنَّ رايات الأمان كانت بيضاء كما هي اليوم، ولكن قد يكون تنكيسها علامة الاستئمان، أمَّا اليوم فيكون برفعها، وإلى جانب هذه الوسيلة، كانت هناك طرق أخرى يستعملونها عوض الرايات البيضاء بالمنكسة، فيلجأ أحيانًا إلى وسيلة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، من ذلك أنهم يرفعون على الرماح المصاحف الشريفة طلبًا للأمان، كما حدث في صدر الإسلام في حرب صفين التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عام (36هـ=657م)، فقد أمر أصحابه برفع المصاحف على الرماح.
البوق
تُعتبر آلة البوق من شارات الملك لا تقل أهمية عن الراية نفسها في الحروب وقد تحدث ابن خلدون عن دورها فقال: "فمن شارات الملك اتِّخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون .. وأنَّ السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب؛ فإنَّ الأصوات الهائلة لها تأثيرٌ في النفوس، ويقول كذلك: "ولأجل ذلك تتَّخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلًا ولا بوقًا، يحذق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون، فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة، وقد رأينا في حروب العرب من يتغنَّى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه، وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف، ويتغنى فيحرك بغنائه الخيال الرواسي، ويبعث على الاستقامة من لا يظن بها، ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت".
واستعمل البوق لجمع الجنود، وتنبيههم، وكذلك لبدء الهجوم، والظاهر أنَّ هذه الآلة لم تستعمل في العصر الأول وإنَّما طبقت في القرن الثالث الهجري؛ أي العصر العباسي الثاني، بدليل أنَّ الموفق طلحة أمر جنوده في حرب الزنج سنة 270هـ ألا يزحف إلا إذا حرك علمًا أسود كان قد نصبه ونفخ في بوق، وهو ما أشار إليه ابن الأثير بقوله: "ولم يزل الموفق يُقاتلهم على مكرهم حتى تهيَّأ له فيه ما أحبه في خلقه، فلمَّا فرغ منه عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر، وتقدَّم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي بالخبيث (أي صاحب الزنج) من ناحية دار السهلي وخرق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل وأمره بالجد في قتال بالخبيث، وأمر الناس ألَّا يزحف أحد حتى يُحرِّك علمًا أسود كان نصبه على دار الكرماني، وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت ...، ولم يعلم سائر العساكر بذلك لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم بعضًا، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضًا".
وهذا حسب ما ذكره صاحب كتاب (نفح الطيب) يبدو من التاريخ العسكري للمرابطين أن البوق استمرَ عندهم كوسيلةٍ حربية؛ حيث كانوا يضربون في الطبول وينفخون في الأبواق. ومهما يكن أمر البوق ودوره في تاريخ الصراع بين الدول المختلفة فقد اختفت من قاموس الحرب في المغرب الإسلامي بعد ذلك، فما يُؤسَف له أنَّه تصل إلينا إشارات عن استعمالاتها في العصور التالية خصوصًا عند الموحدين الذين تخلوا عنها نهائيًّا واستبدلوها بالطبول التي لقيت عناية وإقبالًا شديدين عندهم وعند خلافاتهم من المرينيين، ولا يزال البوق إلى اليوم في الجيوش الحديثة يُعرف باسم (البوري).
وللوقوف على التطوُّر الذي عرفته الرايات في تاريخ المغرب الإسلامي العسكري، لابُدَّ من استعراض مراحل تاريخها بدءًا بعهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومن بعدهم الأمويِّين والعباسيِّين.
اللواء أو الراية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
كان الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون، يقودون الجيوش ويصحبونها إلى ساحات الوغى لرفع معنويات المقاتلين وإثارة الحماس في نفوسهم إلى الجهاد في سبيل الله، ولكن مع اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية، وتعقد إدارتها، أصبح وقت الرسول الكريم لا يسمح له بالخروج في بعض الأحيان، فكان يختار عند ذلك قائدًا مستوفيًّا لمؤهِّلات القيادة، ويُعيِّنه لقيادة الجيش، ويعقد له لواء على رمحٍ طويل ينشره أثناء السير إلى المعركة.
وأول ظهور اللواء في الإسلام كان عند دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدينة "يثرب"؛ حيث حلف أنصاريٌّ أنَّه لا يدخلها إلَّا اللواء مرفوعًا أمامه، فنزع عمامته ونشرها على رمحه وسار به أمام موكب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عيَّن قائدًا على سريَّةٍ للقيام بمهمِّةٍ نصحه وأفهمه أهدافها وأوصاه بجيشه وسكان المناطق المتجهة إليها، فكان إذا ما انتهى من ذلك عقد له اللواء، ولعلَّ أوَّل لواء حقيقي عُقِدَ في العهد النبوي سُلِّم لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في السنة الأولى في غزوة "ودان" التي تعرف -أيضًا- بالأبواء، ولم يحدث فيها قتال مع قريش، وكان لواء حمزة أبيض، وقيل حمله أبو مرشد رضي الله عنه.
وهكذا نلاحظ أنَّ الألوية والرايات كان يُعلَّق عليها أهمية كبيرة قبل انطلاق الجيش والسرايا إلى الحرب وأثناءها، ففي غزوة بدر الكبرى حمل اللواء "مصعب بن عمير" رضي الله عنه، وراية المهاجرين "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه وحمل أنصاري راية الأنصار، ومن المحتمل كانت الرايتان سوداوين.
أمَّا في غزوة أُحُد فقد حمل اللواء "مصعب بن عمير" رضي الله عنه كذلك، فلمَّا قُتِلَ حمله "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه ، وبعد واقعة "أُحُد" استعد بنو أسد لغزو المدينة، فوجَّه إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريَّةً بقيادة أبو سَلَمَة رضي الله عنه الذي عَقَد له اللواء، وعند افتتاح أحد حصون خيبر عَقَد النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم رايةً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ظلَّ يُؤدِّي هذه المهمَّة إلى جانب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك خلال فتح سائر حصون خيبر، وبالإضافة إلى ذلك فقد أُسندت إليه مهمَّة حمل الراية في غزوة بني قريظة.
وتبدو أهميَّة الراية في معركة مؤتة، التي واجه المسلمون فيها بجيشٍ صغيرٍ من قوَّات الروم وأنصارهم من العرب، عندما عيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة قادة يتولَّون حمل الراية على التوالي كلَّما استشهد واحد، خلفه الذي يليه، بدأ الهجوم باندفاع زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو يحمل راية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صفوف العدو، وقاتل المسلمون معه قتال الأبطال حتى استُشهد، فتسلَّم الراية خلفه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى استُشهد أيضًا، ثم تسلَّم الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وفي غزوة "تبوك" حمل الراية "أبو بكر" رضي الله عنه.
ونستخلص من دراستنا للتنظيمات العسكريَّة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ اللواء كان يركز في مسجد الرسول أو أمام دار القائد، وكانت هذه العلامة -أي تركيز اللواء في المسجد النبوي أو أمام باب القائد- دلالةً قاطعةً على حالة التأهُّب والاستعداد للحرب.
ففي السنة الأخيرة من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفي زمن مرضه، عقد لواءً لأسامةٍ رضي الله عنه باتجاه البلقاء، وقد اجتمعت جيوش أسامة رضي الله عنه في مكانٍ يُعرف باسم الجرف قرب المدينة، وبدأ الاستعداد للرحيل، إلَّا أنَّ موت الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الخطة تتأثَّر بهذا النبأ؛ ذلك أنَّ أسامة رضي الله عنه لمـَّا سمع بموت الرسول الكريم عاد باللواء وهو علامة القيادة، ورَكَزَه أمام مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلَّ اللواء معلَّقًا أمام المسجد حتى خلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رأس الدولة الإسلامية الناشئة، فأعاد اللواء إلى مكانه الأول أمام بيت أسامة رضي الله عنه، وهذا يعني بطبيعة الحال التأهُّب من جديد للخروج إلى المعركة تحت قيادة أسامة رضي الله عنه.
ويتبيَّن ممَّا تقدَّم استعراضه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كانوا يعقدون اللقاء للقادة المتميِّزين في المسجد النبوي أو أمام دار القائد أو في أيِّ مكانٍ فسيحٍ خارج المدينة؛ حيث يجتمع حوله الجند، أمَّا بالنسبة إلى ألوان الرايات والألوية في صدر الإسلام، فالثبت أنَّها كانت بيضاء، بدليل أنَّ لواء الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته الأولى أبيض اللون، كما هو الشأن في غزوة ودان وبدر الأولى وبني قينقاع وبواط، ولكن في غزوة بدر الكبرى، فكان على رأس جيش الرسول صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ومعه رايتان سوداوان، كانت إحداهما من مرطٍ لعائشة رضي الله عنها، وتُسمَّى العقاب.
ونستخلص من ذلك أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اتَّخذ لونين رئيسين لتمييز ألويته هما: الأبيض والأسود. ويجب ملاحظة أنَّ الألوان في تلك الفترة لم تكن تُمثِّل شعارًا، لكن رموز وشارات لها أهميَّتها ودورها في التاريخ العسكري الإسلامي عامَّةً.
الرايات والأعلام في عهد الخلفاء الراشدين
ومهما يكن من أمر فالذي لا جدال فيه، أنَّ الخلفاء الراشدين قد استعملوا الرايات نفسها عند خوض المعارك، سواءٌ داخل الجزيرة العربية أو خارجها، من ذلك مثلًا أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الرِّدَّة عقد أحد عشر لواءً بحسب الفرق العسكرية التي أرسلها إلى مختلف مناطق شبه الجزيرة، وخلال الحروب التي خاضها المسلمون بالشام في عهد أبي بكر رضي الله عنه -أيضًا- كان قد عقد لواء ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وحمله معاوية رضي الله عنه قبل أن يتولَّى خالد بن الوليد رضي الله عنه القيادة العامَّة، كما أوصى القادة أن يعقدوا لكلِّ قبيلةٍ لواء، وهكذا عندما اقترب خالد بن الوليد رضي الله عنه من دمشق عند ثنية العقاب نشر راية سوداء كانت للرسول صلى الله عليه وسلم.
وصارت الرايات من مستلزمات الحروب لأهميَّتها كوسيلةٍ للتفاهم بين أفراد الجيش الواحد، ولذلك انتشر استعمالها في فتوح المسلمين بالعراق والشام ومصر والمغرب، لذلك كانت تتَّجه الأنظار مباشرة إلى حملة الرايات، خصوصًا عند بدء الصدام في المعارك؛ حيث يتولَّى حامل الراية الإعلان عن الهجوم بالتكبير وقد يُكرِّر التكبير مرَّاتٍ ثلاثة، يستعدُّ الفرسان في التكبيرة الأولى على جيادهم، وفي التالية يُشهرون أسلحتهم، وفي الثالثة يحملون كتلةً واحدةً على العدو.
واستمرَّ هذا الأسلوب التاكتيكي يُمارَس في جميع الحروب الإسلامية بلا استثناء، ونذكر في هذا الشأن ما حدث في "صفين"؛ حيث شاركت قبيلة بكر إلى جانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأسند قيادتها إلى حضين وكانت له راية سوداء وجعل كلَّ ألوية بكر تحت رايته.
___________________
المصدر: صالح بن قربة: الرايات والأعلام في التاريخ العسكري الإسلامي، مجلة دعوة الحق - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية المغربية، العدد (370)، أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر، 2002م.
مصادر ومراجع البحث:
أ - المصادر:
1- ابن أبي زرع، (علي بن محمد بن حمد بن عمر الفاسي)، الأنيس المطرب بروض القرطاس في اختيار ملوك الغرب وتاريخ مدينة فاس، نشر تورنبغ، 1843م.
2- ابن الأثير الجزري، (علي بن أحمد بن أبي كرم)، الكامل في التاريخ – الجزء الثاني، بيروت 1965م، القاهرة.
3- ابن حيان الأندلسي، المقتبس في تاريخ الأندلس، القسم الرابع.
4- ابن خلدون، (عبد الرحمن)، المقدمة (تحقيق عبد الواحد علي وافي)، 4 أجزاء. القاهرة، لجنة البيان العربي 1966م.
- 5- ابن خلكان، أبو العباس أحمد بن إبراهيم)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. القاهرة، 1948م، ج1.
6- ابن سعد، (أبو عبد الله محمد بن سعد بن منبع البصري)، الطبقات الكبرى، ج1، بيروت، دار صادر 1957م.
7- ابن سيده المخصص، ج1، بيروت، دون تاريخ، طبعة المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر.
8- ابن صاحب الصلاة، (عبد الملك)، تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين، (تحقيق الهادي التازي)، بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر 1964م.
9- ابن عبد ربه، (أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي)، العقد الفريد، (تحقيق سعيد العريان) القاهرة المكتبة التجارية الكبرى 1953م.
10- ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في تاريخ الأندلس والمغرب، الجزء 1، نشر وتحقيق كولان، ليفي بروفنصال، بيروت 1948م.
11- ابن مسكوية، تجارب الأمم، الجزء الخامس.
12- ابن منظور، (جمال الدين محمد)، لسان العرب الجزء 15، بيروت، ط. دار صادر للطباعة والنشر والتوزيع 1956م.
13- ابن هشام، (ابن عبد الملك)، السيرة النبوية، الجزء الثاني. القاهرة 1936م.
14- أبو المحاسن، (ابن ثغري بردي)، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، الجزء الثاني، القاهرة.
15- البكري، (أبو عبد الله عبد العزيز)، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب. (نشر وتحقيق دوسلان)، باريس 1956م.
16- البلاذري، (أحمد بن يحيى بن حابر)، فتوح البلدان - شركة إحياء الكتب العربية.
17- الجاحظ، (عمر بن بحر ابن محبوب أبو عثمان)، البيان والتبيين – الجزء الثالث، القاهرة، مصر 1956م.
18- الرازي، (الشيخ محمد بن أبي بكر عبد القادر)، الصحاح، بيروت ط: دار الحداثة 1982م.
19- الطبري، (محمد بن جرير)، تاريخ الرسل والملوك - الجزء الثاني.
20- القلقشندي، (أبو العباس أحمد)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، الجزء الثالث. القاهرة، الطبعة الأميرية، 1915م.
- مآثر الأناقة في معالم الخلافة، الجزء الثاني، (تحقيق عبد الستار أحمد فراج)، بيروت عالم الكتب، 1964م.
21- المقدسي، (أحمد بن سهل البلخي)، البدء والتاريخ، الجزء الرابع – باريس، نسخة مصورة، 1899م.
22- المقري، (أحمد بن محمد المقري التلمساني)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، الجزء الأول (تحقيق إحسان)، بيروت، دار صادر 1382هـ=1966م.
23- المقريزي، (تقي الدين أبو العباس)، كتاب السلوك
ب – المراجع:
1 – إبراهيم الشريف، (أحمد): الدولة الإسلامية الأولى.
2- أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلامي، الإسكندرية، نشر مؤسسة الشباب الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع 1983م.
3- أمين الخولي، الجندية والسلم.
4- آدم ميز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة الجزائر – ديوان المطبوعات الجامعية، 1984م.
5- استنغهاوزن، (رتشارد)، فن التصوير عند العرب، ترجمة عيسى سلمان وسليم طه التكريتي، بغداد 1974م.
6- جمال بن سرور، الحياة السياسية في الدولة العربية خلال القرنين الأول والثاني بعد الهجرة، القاهرة. دار الفكر العربي، 1966م.
7- جورجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي - الجزء الأول.
8- حركات إبراهيم، المغرب عبر التاريخ، الدار البيضاء، دار السلمى، دون تاريخ.
- السياسة والمجتمع في عصر الراشدين، الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت، 1985م.
9- رشيد الجميلي، تاريخ العرب، بيروت 1982م.
10- صالح بن قربة، التنظيمات العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجزائر، 1985م.
11- عبد العزيز الدورى، تاريخ العراق الاقتصادي.
12- عبد العزيز سالم، تاريخ الدولة العربية، بيروت 1971م.
13- عمر فروج، تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية، بيروت (دار العلم للملايين)، 1970م.
14- علي حسن إبراهيم، مصر في العصور الوسطى، القاهرة، دار السعادة بمصر، 1964م.
15- عنان عبد الله: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس، القسم الثاني، القاهرة، دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.
16- فريال داود المختار، المنسوجات العراقية الإسلامية، بغداد، وزارة الإعلام 1976م.
17- محمد مكية، تراث الرسمي البغدادي، بغداد، وزارة الإسلام، بدون تاريخ.
18- الغلابي، أصحاب بدر، بدون تاريخ.
19- د. فاروق عمر، الألوان ودلالتها السياسية في العصر السياسي الأول، مجلة كلية الآداب- جامعة بغداد - عدد 14، 1970-1971م.
20- نوري القيسي، اللواء والراية، مجلة الأقلام العراقية، العدد 1، 1964م.
1- AMADER de Los Rios. R ;
Trofeos Mitares de la reconquista en Senas
2- DEBREUIL, les Pavillons Musulmans (Héspéris. H. 1960- PP584.549.
3- Huilgas, Musulmanes de Real mon.
4- Srejeant , R.B, Material for Ahistory of Islamic textiles Vol 9.1942. Pp 71-72.
La grande Encyclopedie, le coroissant. T 13, Paris (s.d) Pp. 463-464.
التعليقات
إرسال تعليقك