التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان السلطان محمد الفاتح متوازنًا في رعايته لشئون الدولة، بمعنى أنَّه كان مهتمًّا في كل الجوانب الاقتصادية والعلمية والاجتماعية وغير ذلك من جوانب...
انطلاقًا من فهمنا روعة جمْع الفاتح رحمه الله بين المـَلَكَات القياديَّة للجيوش والمعارك والقدرات الإداريَّة الرائعة كرجل دولة، أحبُّ أن أتناول في هذا المقال الحديث عن توازن الفاتح في إدارته لدولته، وشموله لكلِّ جوانب الحياة فيها. إنَّ الحديث عن جهاد الفاتح وعسكريَّته، وكذلك الحديث عنه كرجل دولةٍ قد يُعطينا الانطباع أنَّ عمل الفاتح وإبداعه كان في المجالين العسكري والسياسي فقط، خاصَّةً أنَّ المعارك والمعاهدات السياسيَّة في حياته كانت كثيرةً للغاية، ممَّا قد يُوهِم أنَّ الجوانب الأخرى في الدولة لم تأخذ الاهتمام الكافي منه خلال فترة حكمه، التي امتدَّت ثلاثين سنة، ولكنَّ الواقع أنَّ الفاتح رحمه الله كان متوازنًا في رعايته لشئون الدولة، بمعنى أنَّه كان مهتمًّا، بل مُبدعًا، في الجوانب الأخرى، كالجوانب الاقتصاديَّة، والعلميَّة، والتعليميَّة، والاجتماعيَّة، وغير ذلك من جوانب، بل كان فوق كلِّ ذلك مهتمًّا بالجوانب الجماليَّة والشكليَّة في دولته، ممَّا يجعله بحقِّ أحد أهمِّ أمراء النهضة في تاريخ الإنسانيَّة.
وإنِّي أحبُّ أن أبدأ الحديث في هذه النقطة بذكر فقرةٍ جميلةٍ كتبها المؤرِّخ النمساوي القدير، الذي قضى جُلَّ حياته في الحفاظ على المخطوطات العثمانيَّة الأصليَّة، بول ويتيك Paul Wittek، فبعد أن استعرض المؤرِّخ النمساوي استعراضًا سريعًا تاريخ الدولة العثمانية، وذكر أنَّ جُلَّ اهتمام السلاطين الذين سبقوا محمد الفاتح كان في الجهاد فقط، تكلَّم عن فترة محمد الفاتح، وأنَّه حقَّق أجرأ أحلام الأمَّة الإسلاميَّة بفتح القسطنطينية، وأنَّه صار أعظم مجاهديها، ثم قال: «مع أنَّ محمدًا الفاتح كان مجاهدًا أكثر من جدِّه العظيم (يقصد بايزيد الأول) فإنَّه كان قادرًا على إحداث التوافق والتوازن بين نزعاته الجهاديَّة وثقافته الإسلاميَّة العالية. بهذه السياسة الرائعة أصبح الفاتح هو المؤسِّس الحقيقي للإمبراطوريَّة العثمانيَّة. ما ورثه الفاتح من آبائه كان دولةً عظيمةً مع قدرٍ كافٍ من القوَّة، لكنَّها لم تكن إمبراطوريَّة، ولا قوَّة تتمتَّع بشكلٍ حضاريٍّ خاصٍّ بها. حوَّل الفاتح هذه الدولة إلى قوَّةٍ مهيمنةٍ على قسمٍ كبيرٍ من العالم دون مقاومةٍ محتملة، وقوَّةٍ مؤثِّرةٍ في كلِّ جيرانها سواءٌ في أوروبا أم في آسيا، ولا يستطيع كلُّ هؤلاء الجيران أن يقوموا بأيٍّ من مشاريعهم دون عمل حساب هذه الإمبراطوريَّة. لقد نجح الفاتح نجاحًا يُثير كلَّ إعجاب؛ حيث لم يتوقَّف عمله عن النموِّ لمدَّة قرنين كاملين، ثم قاوم الانهيار لمدَّة قرنين آخرين، وذلك كله بسبب قدرة محمد الفاتح على تحقيق التناسق بين النزعة الجهاديَّة، والحضارة الإسلامية الراقية. إنَّه كان ذلك الرجل المتحمِّس جدًّا لنصرة النهضة، المتحضِّر، المفكِّر الحر، المعجب بكلِّ تقدُّمٍ ظهر في عصره. إنَّه ذلك الرجل الذي دعا بلليني Bellini (الفنان الإيطالي) لبلاطه، الذي جمع رسومات كبار الفنَّانين الإيطاليِّين، الذي طلب من جمهوريَّة راجوزا أن تدفع جزيتها من الأعمال العلميَّة التي تظهر في إيطاليا. إنَّه ذلك الرجل الذي أخذ خطوةً حاسمةً تجاه إنشاء دولةٍ إسلاميَّةٍ ذات ثقافةٍ عالية، ودولةٍ دينيَّةٍ تعتمد على رجال الدين، ولكن في الوقت نفسه ظلَّ محتفظًا بالشكل الجهادي للإمبراطوريَّة، الذي ظلَّ بفضل جهده مستمرًّا للأبد»[1]!
هذه هي شهادة المؤرِّخ النمساوي بول ويتيك، وهي شهادةٌ لها قيمةٌ خاصَّةٌ مختلفةٌ عن بقيَّة شهادات الكتَّاب الغربيِّين، وذلك لاعتبارين مهمَّين: أمَّا الاعتبار الأوَّل فهو أنَّ بول ويتيك نمساوي، وكانت النمسا من أشدِّ أعداء الدولة العثمانيَّة ضراوةً في معظم مراحل تاريخها، فكانت هذه الشهادة منه دليلًا على صِدْقها، وصِدْق المؤرِّخ نفسه، والاعتبار الثاني هو أنَّ هذه الشهادة جاءت في كتاب بول ويتيك المسمَّى «صعود الإمبراطوريَّة العثمانيَّة» «Rise of the Ottoman Empire»، وهو كتابٌ ظهر في الثلاثينيَّات من القرن العشرين؛ أي بعد سقوط الدولة العثمانيَّة بسنواتٍ قليلةٍ جدًّا؛ أي أنَّ الكتاب ظهر بعد تجلِّي كلَّ مظاهر الضعف في الدولة، وبعد اختفائها من على الساحة الأوروبِّيَّة، فتأتي هذه الشهادة لتتحدَّث عن فترةٍ مجيدةٍ من فترات الإمبراطوريَّة في وقتٍ كان يسعى جميع الأوروبيِّين لتحطيمها وإلغائها من ذاكرة أوروبا المسيحية.
يظهر لنا في هذه الشهادة ثلاثة أمور في غاية الأهميَّة تُفسِّر عظمة الفاتح في رؤية بول ويتيك: الأمر الأوَّل هو تميُّز الفاتح في ميدان الجهاد حتى عدَّه المؤرِّخ أفضل المجاهدين المسلمين في كلِّ تاريخهم، والأمر الثاني هو توازن الفاتح وشمول رؤيته لكلِّ مناحي الحضارة، فليست الدولة في رؤيته قتال ومعارك وانتصارات فقط؛ إنَّما هي حضارة وثقافة وتفوُّق في كلِّ المجالات، أمَّا الأمر الثالث فهو ربط الفاتح لكلِّ هذه الأمور بالدين؛ فدولته دولةٌ دينيَّةٌ تعتمد على الشريعة الإسلاميَّة، ويأخذ فيها علماء الدين مكانةً مرموقةً حقيقةً وليست شكليَّة.
ولنأخذ في هذه النقطة فكرةً سريعةً عن اهتمام الفاتح ببعض جوانب الدولة الأخرى، غير الجوانب العسكرية والسياسية..
على المستوى الاقتصادي مثلًا كيف كانت الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح رحمه الله؟
يأخذ بعض المؤرِّخين الانطباع أنَّ الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح كانت تُعاني من مشاكل اقتصاديَّة كبرى، وذلك لكثرة الإنفاق في المجالات العسكريَّة، ولبعض المشاهدات الأخرى في الجانب المالي، والتجاري، ولكن الحقيقة غير ذلك.
نعم كان الفاتح يُنفق على الجيش والمعارك إنفاقًا غير محدود، فهذه كانت إحدى أكبر أولويات الدولة في ذلك الوقت، خاصَّةً أنَّنا رأينا عددًا كبيرًا من الأعداء يتربصون بالدولة، وكل هؤلاء الأعداء على درجةٍ كبيرةٍ من التمكُّن والقدرة، وكان الفاتح يُقاتلهم بجيوشٍ ضخمةٍ تحتاج إلى دعم، وتموين، وسلاح، ويحتاج الفاتح إلى تصنيع مدافع كبيرة، وإلى شراء بارود، وإلى إنشاء أساطيل بحريَّة، وإلى بناء قلاع وحصون، وإلى إصلاح طرقٍ يُمكن أن تستوعب حركة الجيوش العملاقة، كما يحتاج إلى إنفاق أموالٍ كبيرةٍ على البحوث العلميَّة العسكريَّة، وعلى شراء الأبحاث التي تظهر في دول أوروبا الأخرى، بل على إغراء المهندسين الأوروبيِّين أنفسهم للقدوم والحياة في الدولة العثمانيَّة، وكذلك يحتاج إلى شراء معلومات استخباراتيَّة يعرف بها دقائق السياسة الأوروبِّيَّة.
إنَّنا نتحدَّث عن ميزانيَّة حربٍ كبيرة، ولم يكن هذا أمرًا مؤقَّتًا محدودًا بسنةٍ أو سنتين، إنَّما كان مستمرًّا في كامل فترة حكم الفاتح.
ولعل بعض الأمثلة السريعة توضح لنا حجم هذا الانفاق الضخم..
في بند القلاع فقط بنى الفاتح عددًا كبيرًا منها في مختلف أنحاء الدولة العثمانية، آخذين في الاعتبار أن القلاع تبنى عادة في مناطق جغرافية وعرة، حيث تكون في أعلى الجبال، أو على ضفاف البحر في مناطق التعرُّجات الشديدة، كما أنها تحتاج إلى مهندسين محترفين، وإلى عدد كبير من العمال، فضلًا عن توفير المواد اللازمة للبناء. بنى الفاتح قلعة عظيمة في مدينة بودجوريتسا Podgorica، وهي عاصمة جمهورية الجبل الأسود الآن[2]، وقلعة الباسان Elbasan في ألبانيا[3]، وقلعة جابيلا Gabela في الهرسك[4]، وقلعة إزمير Izmir البحرية في الأناضول[5]، وقلعة قرمان على جبال طوروس[6]، هذا بخلاف القلاع العظيمة على المضايق البحرية، وهي قلاع روملي حصار، وكِليد البحر، والقلعة السلطانية، فضلًا عن بنائه لقلعة عظيمة في القسطنطينية ذاتها، وهي قلعة الأبراج السبعة Yedikule Fortress[7].
هذا في بند القلاع فقط!
وفي بند الجسور المهمة التي تخدم حركة الجيوش الكبيرة بأحمالها الضخمة سنجد إنفاقًا غزيرًا كذلك، فعلى سبيل المثال بنى الفاتح الجسر المعروف باسم كادين موست Kadin Most على نهر ستروما Struma في منطقة كيستينديل Kiustendil ببلغاريا، وهو من أقدم الجسور الحجرية في بلغاريا، وكان هذا في عام 1470م[8]، ويعلِّق الدكتور واى فاه تشين Wai-Fah chen، وهو عميد كلية الهندسة جامعة هاواي Hawaii الأميركية، على روعة الجسر ومتانته بقوله: «الجسر مصنوع من الجرانيت الفاخر للغاية، وقد تحَّمل زلزالًا ضخمًا حدث في بلغاريا عام 1904م بقوة 7.8 ريختر، وهو واحد من أقوى الزلازل التي حدثت في تاريخ بلغاريا»[9]! وغني عن البيان أن هذا ليس الجسر الوحيد الذي بناه الفاتح من أجل العمليات العسكرية، إنما بنى غيره الكثير، مثل جسر الفاتح في سكوبيه Skopje بمقدونيا عام 1467م[10]، ومثل الجسور التي بُنيت على نهر ميلياتسكا Miljacka في سراييڤو Sarajevo، عام 1470م[11]، ولم تكن مشقة بناء هذه الجسور متعلِّقة فقط بمواد البناء، أو عدد العمال العاملين فيها، إنما أنفق الفاتح كثيرًا في استجلاب مهندسين بارعين من أنحاء أوروبا، وخاصة من إيطاليا، لتصميم هذه الجسور، وغيرها من المشاريع العملاقة، حيث أكَّدت الدراسات أن الجسور مبنية بتصميمات إيطالية حديثة لم تكن معروفة في هذا الوقت في الشرق بشكلٍ عامٍّ[12].
وبعيدًا عن مجالات البناء كان إنفاق الفاتح كبيرًا كذلك في المجالات العسكرية الأخرى، فعلى سبيل المثال كان الفاتح يشتري عملاء وجواسيس للقيام بأمور المخابرات في أوروبا، وكان هؤلاء الجواسيس يعملون في أخطر وأهم الأماكن القيادية هناك، وبالتالي كانوا يطلبون مبالغ باهظة من أجل نقل الأخبار، وعلى سبيل المثال فإن مخابرات الفاتح في البندقية كانت تنقل له أدق الأخبار، حتى قال الرواة: إن البنادقة لا يستطيعون تنظيف أسنانهم إلا بمعرفة الفاتح! ولكن في المقابل كان الثمن المدفوع من السلطان لهولاء الجواسيس عاليًا جدًّا، فقد كان له جاسوسان في البندقية، وكان يعطي الواحد منهما أربعة آلاف دوكا في السنة[13]! وهذا المبلغ أكثر من الجزية السنوية التي كانت تدفعها إمارة البغدان كلها!
هذه مجرد أمثلة على إنفاق الفاتح رحمه الله في مجال الحرب..
لا شَكَّ أنَّ التوقُّف عن مثل هذا الإنفاق في العصر الذي تلا عصر الفاتح؛ أي في عصر ابنه بايزيد الثاني، سوف يُوفِّر ميزانيَّةً ضخمةً للإمبراطوريَّة تحدث انتعاشًا اقتصاديًّا رائعًا، ولذلك فإنَّ الذي يُقارن بين اقتصاد الدولة في زمن الفاتح، واقتصادها في زمن بايزيد الثاني، سيجد أنَّه تقدَّم كثيرًا في زمن الأخير، ولكن هذه مقارنة ظالمة في الواقع؛ لأنَّ الحروب التي قلَّت في زمن بايزيد الثاني كانت بسبب قوَّة الدولة العثمانيَّة، التي صار أعداؤها يرهبونها ولا يُريدون إثارة غضبها أبدًا، ولم يكن هذا إلَّا بسبب الجهد الذي بذله الفاتح رحمه الله، والإنفاق الكبير الذي وجَّهه إلى تعزيز القوَّة العسكريَّة والسياسيَّة للدولة حتى تصل إلى هذه المكانة التي يهابها أعداؤها، فتَفَرُّغ الدولة في زمن بايزيد الثاني للأعمال الحضاريَّة والبُعْد عن مجال الحروب والجهاد، كان بسبب أنَّ الدولة قضت ما عليها في هذا الجانب في زمن الفاتح رحمه الله.
ومع ذلك فليس معنى هذا التحليل أنَّ الدولة في عهد الفاتح كانت ضعيفةً اقتصاديًّا، بل على العكس من ذلك تمامًا!
لنقرأ سويًّا ما كتبته المؤرِّخة الإنجليزية كارولين فينكل، وهي تصف جانبًا من جوانب الاقتصاد في عهد الفاتح رحمه الله.. تقول كارولين: «كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة التي صنعها محمد الفاتح كتلةٌ كبيرةٌ من الأراضي والبحار تتربَّع على القلب من عدَّة شبكاتٍ تجاريَّةٍ عظيمةٍ في هذا الوقت. كانت القسطنطينية البيزنطيَّة على وشك الاحتضار بعد أن هجرها سكانها في زمان البيزنطيِّين، فتحوَّلت إلى عاصمةٍ مزدهرةٍ لإمبراطوريَّةٍ واسعةٍ شملت البلقان كلَّه حتى ساحل الأدرياتيكي في الغرب، حتى خط الدانوب - ساڤا في الشمال، مع معظم الأناضول. صار ساحل البحر الأسود جبهةً آمنةً ليس بعده دولةٌ يُمكن أن تُهدِّد القوَّة العثمانيَّة. نعم كان الأعداء في الشرق والغرب يتربَّصون بالدولة لكن في داخل حدود دولة محمد الثاني كان السلام العثماني يُحْدِث أمنًا داخليًّا، ولا يتعكَّر إلَّا ببعض نشاطات قطْع الطريق المحلِّيَّة في بعض الأراضي، وأحيانًا بعض القرْصنة في البحار. كان التحكُّم في موانئ البحر الأسود سببًا في التحكُّم في التجارة في كلِّ الأراضي الداخليَّة خلف هذه الموانئ، فشمل ذلك ممالك بولندا، وليتوانيا، وموسكو، وإيران. كانت هذه الأماكن مهمَّةً لثراء چنوة والبندقية قبل الفاتح، أمَّا الآن فهي تصبُّ كلُّها في ازدهار الدولة العثمانيَّة. كان الحرير يأتي من المقاطعات الشماليَّة في إيران إلى مدينة بورصا العثمانيَّة، وهي أهمُّ مراكز التجارة العثمانيَّة في ذلك الوقت، ومن هذا المكان يتَّجه الحرير بعد ذلك إلى الولايات الإيطاليَّة، سواءٌ كمادة خام، أم كملابس مُصنَّعة في بورصا. أيضًا كان الإيطاليُّون يستوردون الموهير من إيران عن طريق بورصا، في مقابل أن يستورد الإيرانيُّون الملابس الصوفية من أوروبا، وكانت التوابل تأتي من الهند والبلاد العربيَّة لتنتقل من الدولة العثمانيَّة غربًا إلى أوروبا، أو تستعمل بواسطة العثمانيِّين أنفسهم»[14]!
انتهى كلام المؤرِّخة الإنجليزية كارولين فينكل!
وأيُّ شيءٍ أعظم من هذا التوصيف لهذا الرخاء والازدهار الاقتصادي!
صورةٌ أخرى من صور النهضة الاقتصاديَّة تنقلها المصادر التي تتحدَّث عن آثار ضمِّ القرم وتأمين موانئ البحر الأسود في زمن الفاتح رحمه الله، فقد وفَّرت هذه المناطق للدولة العثمانيَّة القمح، واللحوم، والملح، بأسعارٍ رخيصةٍ للغاية، وهذا كله انعكس على ديموجرافيَّة المدن العثمانيَّة وخاصَّةً إسطنبول؛ حيث ساعدت الأسعار الرخيصة على توافد السكان عليها، حتى صارت العاصمة العثمانيَّة هي أكثر المدن ازدحامًا بالسكان في القرن السادس عشر؛ أي بعد سنواتٍ قليلةٍ من جهد الفاتح وعمله[15].
صورة ثالثة من صور التقدم الاقتصادي في زمن الفاتح، وهي المتعلقة ببناء الأسواق الكبيرة المجِّمعة، والتي كانت تتم فيها عمليات التجارة العالمية الكبرى، وكانت هذه الأسواق تُعْرَف بالبدستان Bedesten، وهي كلمة فارسية بمعنى السوق، وقد أنشأ الفاتح العديد منها في ربوع إمبراطوريته، ففي إسطنبول أنشأ الفاتح البدستان المعروف بإسكي بدستان (البادستان القديم)، وتعلوه 15 قبة متساوية، توجد خلفها الحجرات، ومن الخارج تلتف الحوانيت حوله من جوانبه الأربعة[16]. وقد أنشأه الفاتح بعد الفتح مباشرة، ليكون مركزًا تجاريًّا كبيرًا وآمنا على طريق الأناضول – الروملي، ولمدينة إسطنبول كذلك، حيث استطاعت هذه السوق استيعاب الفعاليات التجارية الكبيرة آنذاك[17].
وأقام الفاتح أيضًا في إسطنبول بدستان جالاتا، والذي كان طوله في عهد الفاتح 1500 متر، وعرضه 1000متر، بينما أبعاده الحالية بطول 400 متر وعرض 350 متر[18]، وصندل بادستان، والذي تعلوه 20 قبة[19][20].
أما البدستانات خارج مدينة إسطنبول فهناك بدستان يلدم في مدينة بورصا، الذي مساحة دكاكين الحرفيين فيه 872 متر مربع، ومساحة الساحات الخارجية 2545 متر مربع، وعدد المخازن 32 مخزنًا، وعدد الدكاكين 68 دكانًا[21]، وبدستان سالونيك باليونان الذي بُني عام 860هـ/1455م، أو عام 864هـ/1459م، وبدستان سيريز باليونان أيضًا[22].
كما اهتم الفاتح أيضًا ببناء الأسواق المسقوفة التي كانت تحمي الناس أثناء التسوّق من حرّ الصيف وبرد الشتاء، ومنها سوق أولاد العجم، وسوق آيا صُوفيا، وسوق النحاسين، وسوق السمك، وسوق قروان سراي، وسوق قروان سراي في بودروم، وسوق الخراطين، وسوق الدباغين، وسوق باب جونجوز، وسوق بير خوجة، وسوق لونجه، وسوق باب الحطب «أوضون»، وسوق صلّح خانه، وسوق السروج «سرّاج خانه»، وسوق جامع ساري دمير، وسوق باب الطحين «أون»، وسوق بازار السلطان، وسوق أسكدار، وسوق يمش قاباني، وسوق السراي الجديدة، وكان مجموع دكاكين الأسواق التي تضمنتها وقفيات عهد السلطان محمد الفاتح في إسطنبول وحدها 2484 دكانًا[23]!
هذه في الواقع نهضة اقتصادية شاملة!
ويُقدِّر عالِم الاقتصاد التركي، والمتخصِّص في تاريخ الاقتصاد في الدولة العثمانيَّة، شوكت باموك Şevket Pamuk مقدار مخزون الفضَّة في عهد الفاتح بقدرٍ يتراوح بين ألفِ طنٍّ من الفضَّة وألفٍ وخمسمائةٍ[24]، وهذا رقمٌ كبيرٌ للغاية في هذا الزمن، علمًا بأنَّ أوروبا كانت تتعرَّض في ذلك الوقت لأزمةٍ عامَّةٍ في مخزون الفضَّة، وهي التي عُرِفت بأزمة «عجز الفضة» «Silver Famine»[25].
والفاتح هو أوَّل سلطانٍ يقوم بصكِّ العملات الذهبيَّة في الدولة العثمانيَّة، وكان هذا في عام 1479م[26]، وكانت الدولة العثمانيَّة قبل ذلك تعتمد على العملات الذهبيَّة المصكوكة في البندقية، أو بعض البلاد الأوروبِّيَّة الأخرى[27]. والفاتح أيضًا هو أول من قرَّر عمل ميزانية سنوية للدولة العثمانية، يتم فيها عرض موارد الدخل، وكذلك النفقات لكل عام[28].
وليس معنى هذا أنَّ الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح لم تواجه مشكلات اقتصاديَّة؛ فقد شهدت الدولة -وخاصَّةً في آخر عهد الفاتح مع ازدياد وتيرة الحرب مع البندقية وألبانيا- عدَّة أزماتٍ كبرى اضطرَّته إلى القيام ببعض الإجراءات الحاسمة لمواجهة هذه الأزمات، وقد سبَّبت هذه الإجراءات نوعًا من الاضطراب عند السكان وعند بعض المتضرِّرين، كما سبَّبت نوعًا من الاختلاف بين المؤرِّخين في تقويم هذه الأعمال، ويُمكن لنا في هذا الصدد الحديث عن أمرين دار حولهما جدلٌ واسع، سواء في أيَّام الفاتح، أم في كتب التاريخ حتى زماننا الآن! وهذان الأمران هما مصادرة الفاتح لبعض الأوقاف وضمِّها إلى خزينة الدولة، وتخفيض قيمة العملة الفضيَّة.
أمَّا الأمر الأوَّل، وهو مصادرة بعض الأوقاف، فصادر حوالي عشرين ألف قريةٍ كان السلاطين العثمانيُّون السابقون قد أوقفوها لأعمال الخير، فضمَّها الفاتح إلى أملاك الدولة ليتمكَّن من دفع استحقاقات الفرسان العثمانيِّين في الجيوش الكثيرة التي كانت تُحارب هنا وهناك[29]، والحق أنَّ ما فعله الفاتح في هذا الشأن لا يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلاميَّة؛ لأنَّ الأوقاف التي صادرها الفاتح لم تكن موقوفةً من قِبَل أفرادٍ عاديِّين، إنَّما كانت موقوفةً من قِبَل السلاطين السابقين[30]، ولم تكن مملوكةً بشكلٍ شخصيٍّ لهم؛ إنَّما كانت ملكًا للدولة، وقد أوقفها هؤلاء السلاطين لتحقيق منفعةٍ معيَّنةٍ في وقتٍ ما، وهذا النوع من الأوقاف ليس وقفًا حقيقيًّا؛ إنَّما يُسمِّيه الفقهاء «الإرصاد»[31][32][33]، وهذا الإرصاد يجوز للإمام أن يُخالفه، ويُغيِّر اتِّجاهه إلى مصلحةٍ أخرى، وهذا واضحٌ على الأخصِّ في المذهب الحنفي[34][35]، وهو مذهب الفاتح والدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ. وهناك مثال رائع يوضِّح أن الفاتح كان مُدرِكًا تمامًا للفرق بين الوقف والإرصاد، حيث أوقف هو بنفسه بعض المحال التجارية لأعمال الخير، فحدَّد في الوقفية أن المال الذي اشترى به هذه المحال هو ماله الخاص، وليس مال الدولة، وبالتالي فهذا وقفٌ وليس إرصادًا، وبذا لا يستطيع السلاطين القادمون أن يغيِّروا من الوجهة التي أراد الواقف أن تذهب إليها أرباح الوقفية، بعكس الإرصاد كما بيَّنا، ولقد قال الفاتح في هذه الوقفية: «أنا العبد العاجز السلطان محمد الفاتح، فاتح إسطنبول، أوقفت وقفًا صحيحًا بالشروط التالية: عدد 136 حانوتًا معلومة الحدود، وواقعة في «طاشلِق» بإسطنبول، كنت قد اشتريتها بمالي الخاص، عيَّنت شخصين على كل شارع في إسطنبول بالمال الذي يُتحصَّل من الوقفية، على أن يتجوَّل المذكوران في الشارع في أوقات معلومة من اليوم، ويكون في يد كل واحد وعاء فيه جص ورماد، يضعان منه لإزالة أثر البصاق، وليأخذ كل واحد منهما 20 أقجة يوميًّا، كما عيَّنتُ عشرة جراحين، وعشرة أطباء، وثلاثة مجبرين، حيث يخرجون هم أيضًا إلى شوارع إسطنبول في الأوقات المحددة، ويطرقون كل الأبواب، ويسألون عن المرضى، وإذا كان هناك مريض فليقوموا بتطبيبه، أو يذهبون به إلى دار العجزة مباشرة دون انتظار أي مقابل، وإذا حدثت أزمة في المواد الغذائية فليتم إعطاء أهل الأرباب مائة سلاح تركتها لمواجهة هذا، وليخرجوا إلى غابات البلقان، وليصطادوا الحيوانات الوحشية في غير وقت الحمل أو الولادة، وليأكل فقراء إسطنبول، وأسر الشهداء من المطعم الخيري الذي أسسته في كليتي، على ألا يخرج المذكورون بأنفسهم للحصول على الطعام، بل يُحْضَر إليهم في أوعية مغلقة دون أن يرى أي شخص الطعام وهو ذاهب إليهم، بل يتم ذلك في ظلمة الليل»[36]!
وبعيدًا عن تحليل المظاهر الحضارية الرائعة في الوقفية السابقة فإنه يلفت النظر فيها بوضوح معرفة الفاتح بمسألة الوقف الصحيح الذي يكون من مال السلطان الخاص، والإرصاد الذي يكون من مال الدولة، وللأسف فإنَّ غير المتعمِّقين في الفقه، مثل فرق الدراويش الصوفية الموجودة في زمن الفاتح، وخاصَّةً فرقة الهلواتيَّة (وهي المعروفة بعد ذلك في مصر بالخلوتيَّة)، ظنُّوا أنَّ هذه مخالفة شرعيَّة، واعترضوا عليها، بل دعاهم هذا الظنُّ إلى تكوين تنظيماتٍ سريَّةٍ تهدف إلى تغيير الوضع وإعادة الأوقاف إلى طبيعتها الأولى[37]، والواقع أنَّ ردَّ فعلهم هذا راجعٌ إلى جهلهم بالفقه الصحيح، الذي يسمح للسلطان بأن يُغيِّر هذا الإرصاد من منفعةٍ إلى منفعةٍ أخرى حسب مصلحة الدولة، وكانت مصلحة الدولة في هذا الوقت في دعم الفرسان الكثر الذين تحتاجهم الدولة في معارك لا نهاية لها، مع أعداءٍ يتربَّصون بالدولة ليل نهار.
هذا هو الأمر الأوَّل..
أمَّا الأمر الثاني فهو خفض قيمة العملات الفضيَّة، وقد تكرَّر هذا الأمر في السنوات العشر الأخيرة من حكم الفاتح ثلاث مرَّات[38]، ويرجع ذلك إلى احتياج الفاتح لسيولةٍ نقديَّةٍ لمواجهة الاحتياجات المتزايدة للنفقات في السنوات الأخيرة من حكمه، بالإضافة إلى أزمة «عجز الفضة» في أوروبا كما أشرنا من قبل[39]. ولم يكن الفاتح حريصًا على توفير الفضَّة من خلال هذا العمل فقط؛ بل حاول تقليل كميَّات الفضَّة المتاحة لصائغي الفضَّة، وللعاملين في المشغولات الدقيقة بشكلٍ عامٍّ[40]. نعم سيُؤدِّي هذا الخفض إلى تضخمٍ في النهاية، لكنَّه كان إجراءً مؤقَّتًا لمواجهة أزماتٍ كبرى تواجهها الدولة[41]، وعمومًا فإنَّ الحكم على هذا الموقف لن يكون صحيحًا إلَّا بالعودة لفهم الظروف الاستثنائيَّة التي تمَّت فيها هذه الإجراءات. يقول شوكت باموك: «خلال ثلاثين سنةً من الحكم بَنَى محمد الثاني إمبراطوريَّةً تتوسَّع باستمرار، لها جيشٌ كبير، ونظامٌ إداريٌّ منظَّم، وذلك من دولةٍ ناشئةٍ كانت تعتمد عل النِّيَّات الطيِّبة، والقوَّة البشريَّة المنتمية لأرستقراطيَّةٍ ريفيَّة. خلال هذه العمليَّة بدأت الحكومة المركزيَّة في السيطرة على القسم الأكبر من مصادر الدخل وموارده على حساب المقاطعات التابعة. هذا الاتِّجاه نحو المركزيَّة يُساعد على تفسير السياسات الماليَّة للفاتح، سواء في مسألة مصادرة الأوقاف، أم مسألة خفض قيمة العملة الفضيَّة»[42].
إنَّ هذا التفسير العميق من شوكت باموك يعني أنَّ الناقدين لهذه القرارات في زمان الفاتح كانوا لا يزالون يحكمون على الأمور بعقليَّةٍ قديمة ترجع إلى زمن القيادة السابقة التي كانت تُدير دولةً حدوديَّة يُمكن أن تنجح فيها الحياة البدائيَّة المعتمدة على الطاقات البشريَّة والنوايا الحسنة لأهلها، أمَّا إدارة إمبراطوريَّةٍ كبرى تتحكم في عدَّة دولٍ في آنٍ واحد، وتتعامل مع العالم أجمع، فهذا يحتاج إلى إجراءات لن يستوعبها إلَّا من عاش زمنًا في الإمبراطوريَّات، وفَقِهَ طريقة حكمها، وهذا في الواقع يُثبت أنَّ الفاتح رحمه الله كان سابقًا لعصره، ولم يكن من السهل على معاصريه أن يستوعبوا خطواته المتسارعة، بل إنَّ المؤرِّخين المحدثين الذين لم يُراعوا هذه الاختلافات المنطقيَّة بين إدارة الدولة الحدوديَّة وإدارة الإمبراطوريَّة المتوسِّعة سوف يقعون في المأزق نفسه، وقد يحكمون على الفاتح بالعنف في بعض الإجراءات، أو بالتعدِّي على الشريعة وقوانينها، ولكن عند التحليل العميق سيتبيَّنون حكمة الفاتح رحمه الله في معظم هذه الإجراءات، خاصَّةً أنَّ المحصِّلة النهائيَّة لهذه الأعمال كانت ناجحة، بدليل استمرار الإمبراطوريَّة في النمو والازدهار بشكلٍ مطَّرد.
لقد كان مجرَّد تحويل هذه الإمبراطوريَّة الضخمة إلى كيانٍ واحدٍ يستعمل عملةً موحَّدةً في كلِّ أطرافها عملًا صعبًا وشاقًّا؛ حيث إنَّ الدول التابعة لهذه الإمبراطوريَّة كانت تستعمل عملات كثيرة مختلفة، ومنها ما كان يرجع إلى عصر الدولة البيزنطيَّة، وأخرى يرجع إلى الإمارات التركيَّة بالأناضول[43]، ولقد احتاج هذا العمل عددًا كبيرًا من الموظفين مسحوا الإمبراطوريَّة كلَّها للبحث عن أيِّ عملةٍ غير رسميَّة، وتبديلها بالعملة الجديدة، حتى شمل هذا البحث السفن الراسية في الموانئ، والتجار العابرين من مكانٍ إلى مكان[44].
عمومًا، وختامًا للحديث عن الجانب الاقتصادي في دولة الفاتح رحمه الله يحسن بنا أن نختم بكلام عالم الاقتصاد التركي شوكت باموك، وهو يُحدِّد لنا مقدار الثروة في خزينة الدولة العامَّة عند موت السلطان الفاتح. يقول باموك: «في منطق الفاتح أنَّ الخزانة القويَّة للدولة هي وسيلةٌ من وسائل قوَّة واستقلاليَّة الحاكم، ولهذا حرصت الحكومة المركزيَّة على تجميع احتياطي مالي كبير في الخزانة، ولقد قامت الحكومة العثمانيَّة بعمل جردٍ لخزانة الدولة عند وفاة محمد الثاني عام 1481م فوجدت أنَّ الخزانة بها -إلى جانب أشياء أخرى- مائتان وأربعون مليون آقجة فضيَّة، بالإضافة إلى عملاتٍ ذهبيَّةٍ تُقدَّر قيمتها بمائة وأربع مليون آقجة، وهذه كميَّةٌ كبيرةٌ للغاية بالمقارنة بمقدار العملة المتداولة في الأسواق في هذه العصور»[45].
هذا هو الوضع عند وفاة محمد الفاتح رحمه الله، وبالنظر إلى كمَّ الأعمال المنجزة، وعدد المعارك الطاحنة، والحملات الضخمة التي تُشارك فيها الدولة، نُدرك أنَّنا أمام قوَّةٍ اقتصاديَّة متميِّزة، وأنَّ نجاح الفاتح في توفير هذا المخزون الاحتياطي على الرغم من استمرار الدولة في السير في طريقها دون توقفٍ لهو من أفضل صور الإبداع في حياة هذا الأمير العظيم.
***
لنأخذ جانبًا آخر في دولة الفاتح لنُدرك مدى شمول رؤيته، وتوازنه في حكم الإمبراطوريَّة، وهو الجانب العلمي.
من أبرز سمات الفاتح رحمه الله اهتمامه بالعلم والعلماء، وحرصه على توفير القواعد العلميَّة السليمة عند القيام بأيِّ عمل، وإذا كان هذا بارزًا بوضوحٍ في المجالات العسكريَّة، فإنَّه كان موجودًا كذلك، وبقوَّة، في المجالات الأخرى في الدولة، فالمنهج واحد، وطريقة التفكير ثابتة. تقول المؤرِّخة التركيَّة، والأستاذة بجامعة سام هيوستن الأميركيَّة، بينار إميرالي أوغلو Pinar Emiralioglu: «كان هدف محمد الثاني هو إنشاء إمبراطوريَّة تعتمد على رعاية العلوم والفكر، ولقد صارت القسطنطينية مركزًا عالميًّا نابضًا بالحياة، يجذب الفنَّانين والمفكرين من الشرق والغرب حيث يتبادلون الأفكار، ويسعون إلى الحصول على رعاية السلطان محمد الثاني»[46].
والواقع أنَّ تقديرنا للسلطان الفاتح رحمه الله سيزداد عندما نعلم أنَّ له الأسبقيَّة في هذا التوجُّه العلمي للدولة، حيث لم تكن مثل هذه الاهتمامات العلميَّة مهمَّة بالنسبة إلى السلاطين السابقين له، ولقد استمرَّت هذه النهضة العلميَّة بعده عدَّة عقود، ثم ما لبثت الدولة العثمانيَّة أن تركت هذا الاهتمام العلمي، ممَّا أثَّر سلبًا في مسيرتها، ومن هنا تتَّضح عظمة الفاتح في إدراكه لمفاتيح قوَّة الدولة وهيمنتها في هذا الوقت المبكر.
يقول المؤرِّخ التركي، والأستاذ بجامعة وينيبج Winnipeg الكنديَّة، أحمد چيهون Ahmet Şeyhun: «لم يبدأ الاهتمام بالنشاطات الفكريَّة والعلميَّة إلَّا في عهد محمد الفاتح، ثم استمرَّ هذا الاهتمام إلى نهاية عهد السلطان سليمان القانوني؛ أي إلى عام 1566م»[47].
لقد استفضنا قبل ذلك في الحديث عن اهتمامات الفاتح رحمه الله بالعلوم في المجالات العسكريَّة، وكذلك في المجالات الشرعيَّة الإسلاميَّة، والآن نلقي الضوء على اهتمامه بالجانب العلمي في بعض الجوانب الأخرى من الدولة..
على سبيل المثال يُمكن أن نُلقي نظرة على اهتمام الفاتح بعلم الجغرافيا، وأثر ذلك في إمبراطوريَّته الكبرى..
لقد اهتمَّت المصادر التي تبحث عن تاريخ العلوم الجغرافيَّة والخرائط بالجهد الذي بذله الفاتح رحمه الله في رعاية الجغرافيا ورسم الخرائط، ولقد كتبت المؤرِّخة الأميركيَّة كارين بينتو Karren Pinto، -وهي متخصِّصة في تاريخ الجغرافيا والخرائط، خاصَّةً ما هو متعلِّق بالشرق الأوسط- فصلًا كاملًا في كتابها عن الخرائط في العصور الإسلاميَّة عن محمد الفاتح ورعايته للعلوم الجغرافيَّة، وذكرت أنَّ هذا قد يكون راجعًا إلى أنَّه منذ طفولته وهو يهتمُّ بالأمور البصريَّة، ويحتاج إلى تصوُّر منظور حتى يُقْدِم على عمل خطوةٍ معيَّنة، وهذا دفعه إلى الاهتمام بعلوم الخرائط حتى كأنَّه يرى أرض المعارك وخطوات سير المعركة قبل أن تحدث[48].
يُعَدُّ محمد الفاتح أول قائدٍ مهمٍّ في العالم يستخدم الخرائط بشكلٍ عملي، وذلك لتحديد الاستراتيجيَّات العسكريَّة[49].
تقول الدكتورة الأميركية هيلين إيڤانس Helen Evans، والمسئولة عن قسم الفنون البيزنطيَّة في متحف الفنون بنيويورك، في كتابها عن التراث البيزنطي: «لم يكتفِ محمد الثاني المعروف بالفاتح بتعيين اليونانيِّين كمستشارين، بل حرص على جمع الوثائق اليونانيَّة واللاتينيَّة، وخاصَّةً عن التاريخ القديم، والعلوم الكلاسيكيَّة، والجغرافيا، مع اهتمامٍ خاصٍّ بهذا العلم الأخير. كانت الوثائق اليونانيَّة تشمل كتاب العالم اليوناني الشهير بطليموس Ptolemy، وهو من علماء القرن الثاني الميلادي، بالإضافة إلى كتبٍ أخرى كثيرة»[50].
وكان اهتمام الفاتح بخرائط بطليموس اهتمامًا كبيرًا، ولقد كان يقضي الشهور في دراسة هذه الخرائط مع صديقه الجغرافي البيزنطي چورچ أميروتزيس George Amirutzes، وهو جغرافيٌّ شهيرٌ من طرابزون[51]، ولقد كلَّف الفاتح هذا الجغرافي المتمكِّن بترجمة خرائط بطليموس إلى اللغة العربيَّة[52]، وكانت الترجمة إلى اللغة العربيَّة على الأغلب لأنَّها اللغة المستخدمة في المصادر العلميَّة المتاحة للدولة في ذلك الوقت؛ حيث لم تكن هناك مؤلَّفات باللغة التركيَّة إلَّا ما ندر، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ اللغة التركيَّة كانت تُكتب بحروفٍ عربيَّة، فيُمكن أن تكون الأسماء الجغرافيَّة على الخرائط واضحة للأتراك غير الناطقين بالعربيَّة.
لم يكتفِ الفاتح بالترجمة الحرفيَّة لخرائط بطليموس بل سعى إلى الأفضل، ومِنْ ثَمَّ كلَّف أميروتزيس بعملين آخرين كبيرين؛ أمَّا الأوَّل فهو تحديث الخرائط بحيث يُضاف إليها المعلومات التي استجدَّت عند الجغرافيِّين بعد عهد بطليموس، والثاني كان تركيب خريطة كبيرة للعالم مكوَّنة من خرائط متعدِّدة داخل كتاب بطليموس، بحيث تُعطي للفاتح رؤيةً شاملةً عن كلِّ مكانٍ في العالم في نظرةٍ واحدة[53].
والواقع أنَّ الدول الأوروبِّيَّة في هذا الوقت كانت هي الأخرى مهتمَّة بخرائط بطليموس، وتقوم بترجمتها إلى اللغة اللاتينيَّة، واللغات الأوروبِّيَّة الأخرى، ولكن عمليَّات التحديث التي أجراها الفاتح على هذه الخرائط أعطتها قيمةً خاصَّة، كما أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تمتلك أقدم نسخة أصليَّة لكتاب بطليموس، وقد وصلت إليها عند فتح القسطنطينية من مكتبة الدولة البيزنطيَّة نفسها[54].
وسَّع الفاتح من دائرة اهتمامه بالجغرافيا والخرائط فبدأ تقليدًا جديدًا صار متَّبعًا بعد ذلك في الدولة العثمانيَّة وهو مخاطبة رسَّامي الخرائط المشهورين في العالم، وخاصَّةً في إيطاليا، لإرسال النسخة الأولى من أعمالهم إليه، وهذا يشمل الخرائط المحلِّيَّة التي تصف مدنًا أوروبِّيَّة، أو أيِّ مكانٍ في العالم[55].
أثمرت جهود الفاتح في مراسلة كبار الخرائطيِّين في العالم عن نتائج باهرة، كان من أهمِّها استجابة عالِم فلورنسا الكبير فرانشيسكو بيرلينجيري Francesco Berlinghieri إلى طلب الفاتح، فصمَّم أطلسًا متميِّزًا يشمل عدَّة خرائط للعالم، كما يشمل خرائط لإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وفلسطين، ثم أرسل هذا الأطلس إلى السلطان محمد الفاتح مع كتابة إهداءٍ خاصٍّ له[56]! كان هذا أمرًا عجيبًا لفت أنظار المؤرِّخين، لأنَّ أوروبا كانت مليئة آنذاك -وخاصَّةً إيطاليا- بالأمراء الذين يُقدِّرون الأعمال الفكريَّة والأدبيَّة والفنِّيَّة، ومع ذلك فقد اختار بيرلينجيري أن يُهدي الفاتح أطلسه المتميِّز! تقول المؤرِّخة الإنجليزيَّة أنَّا كونتاديني: Anna Contadini: «اختار بيرلينجيري أن يُهدي أطلسه إلى السلطان محمد الثاني بدلًا من إهدائه إلى أحد أمراء النهضة الإيطاليِّين»[57]! ويذهب المؤرِّخ الإنجليزي چيري بروتون Jerry Brotton، وهو أستاذٌ متخصِّصٌ في دراسات عصور النهضة بجامعة ماري كوين اللندنيَّة، إلى أبعد من ذلك، فيقول: «لم يقم بيرلينجيري بإهداء كتابه المبتكر كما كان متوقَّعًا إلى أحد رعاة النهضة العديدين من أمراء إيطاليا في القرن الخامس عشر مثل لورينزو دي ميدتشي Lorenzo de' Medici (أمير فلورنسا التي ينتمي إليها ويعيش فيها، بيرلينجيري). بدلًا من ذلك اختار بيرلينجيري ألَّا يهدي مؤلَّفه إلَّا إلى السلطان العثماني محمد الثاني، المعروف بالفاتح، الذي يُسمَّى «سوط النصرانية» أو «عذاب النصرانية» « Scourge of Christendom»، الذي استولى على القسطنطينية عاصمة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة عام 1453م من الجيوش البائسة لأوروبا النصرانية. الذي يُثير الدهشة بصورةٍ أكبر -والكلام ما زال للمؤرِّخ الإنجليزي چيري بروتون- هو صيغة الإهداء الذي ما زال موجودًا في متحف توب كابي في إسطنبول، الذي جاء فيه: إلى محمد العثماني، الأمير اللامع، وسيِّد عرش الرب (يقصد -والله أعلم- أنَّ الله هو الذي وهبه هذا العرش)، الإمبراطور، والسيِّد الرحيم لكلِّ آسيا واليونان، أنا أهدي هذا العمل»[58]!
انتهى كلام المؤرِّخ الإنجليزي!
ويظهر فيه مدى الحسرة التي يتكلَّم بها المؤرِّخ على توجيه مثل هذا العمل الذي قام به أحد أشهر علماء النصارى إلى سلطان المسلمين، الذي أذاق النصارى الآلام والعذاب!
تُفسِّر لنا المؤرِّخة الأميركيَّة كارين بينتو هذا السلوك من علماء أوروبا بأنَّهم كانوا يُدركون مدى شغف الفاتح في الوثائق العلميَّة، وكانوا يُدركون كذلك كرمه الواسع في تقدير ثمن مثل هذه الوثائق[59].
وعلى الرغم من عدم رضا المؤرِّخ چيري بروتون عن إهداء الجغرافي الفلورنسي لكتابه إلى محمد الفاتح فإنَّه في موضعٍ آخر من الكتاب أثنى على جهود الفاتح لخدمة علم الجغرافيا، وذكر أنَّ السلطان شجَّع العلماء على إجراء البحوث لتحديث المصادر القديمة، وأثنى كذلك على ثراء الدولة وقدرتها على الإنفاق في مثل هذه الوجوه العلميَّة، وعلى امتلاك الدولة العثمانيَّة لعددٍ من المعارف القيِّمة[60]، وليس هذا فقط، بل علَّل اتِّجاه بيرلينجيري إلى إهداء السلطان الفاتح كتابه بأنَّ هذا كان لرغبة بيرلينجيري في الحفاظ على التواصل مع إسطنبول، التي تُمثِّل لعلماء إيطاليا أحد المراكز المتبقية في العالم لاستمرار عمليَّة التعلُّم، خاصَّةً أنَّ إسطنبول تربط بين التراث الكلاسيكي القديم، والمتمثِّل في الوثائق اليونانيَّة التي تمتلكها، وبين الواقع المعاصر في القرن الخامس عشر[61].
وسواء كان العلماء الغربيُّون يتَّجهون للفاتح، ويهتمُّون برعايته لعلومهم ومؤلَّفاتهم، من أجل الأموال التي يُنفقها بسخاءٍ في هذا الجانب، أم بسبب تحوُّل إسطنبول إلى مركزٍ علميٍّ مهمٍّ يتبادل فيه العلماء معلوماتهم، وتلتقي فيه علوم الماضي وعلوم الوقت المعاصر، سواء كان هذا أم ذاك، فإنَّ هذا دليلٌ على التفوُّق الحضاري للدولة العثمانيَّة في زمن السلطان الفاتح رحمه الله.
ومع كلِّ هذه النسخ التي أُتيحت لمحمد الفاتح من خرائط بطليموس إلَّا أنَّه لم يكن قانعًا بها فقط، بل كان يبحث عن كلِّ نسخةٍ جديدةٍ يُنتجها أحد علماء الجغرافيا الأوروبيِّين، ولقد سمع بوجود نسخةٍ ممتازةٍ لأحد خرائط بطليموس رسمها فنَّان فلورنسا الشهير فرانشيسكو دي لاباشينو Francesco di Lapacino، فأرسل في طلب شرائها، وتمكَّن من الحصول عليها[62].
وفي عام 1479م عندما جاء الفنان الإيطالي چنتيل بلليني Gentile Bellini إلى إسطنبول لتزيين قصر توب كابي، ولرسم صورةٍ رسميَّةٍ للسلطان محمد الفاتح، طلب منه الفاتح رحمه الله أن يرسم خريطةً دقيقةً للبندقيَّة Venice، ليكون الفاتح على معرفةٍ تامَّةٍ بهذه الجمهوريَّة ذات العلاقات المهمَّة مع الدولة العثمانيَّة[63].
وكان الفاتح رحمه الله مطَّلعًا على الحياة الأوروبِّيَّة ودقائقها، وكان يعلم أنَّ العلماء الأوروبيِّين لا يتحرَّكون فقط من أجل المال، وكذلك لا يُحرِّكهم العلم وحده، وإن كان المال والعلم من أعظم المطالب التي يسعى العلماء لتحقيقهما؛ وإنَّما كان فريقٌ من العلماء -وهو ليس بالقليل- يتحرَّك من أجل الشرف والمركز الاجتماعي المرموق، وكان هذا الشرف يتحقَّق في أوروبا عن طريق الألقاب والإنعامات التي يقوم بها الأمراء والملوك على هؤلاء العلماء والفنَّانين، ولهذا فقد استحدث الفاتح هذا
النظام في الدولة العثمانيَّة محاكيًا في ذلك النظام الأوروبي، وصار يعتمد بعض الألقاب الشرفيَّة المشابهة لألقاب الفرسان والنبلاء بأوروبا، وذلك ليُنعم بها على العلماء الأوروبيِّين نظير خدماتهم العلميَّة للدولة العثمانيَّة، ومن ذلك مثلًا ما أنعم به على الفنان الإيطالي چنتيل بلليني فأعطاه لقب «الفارس الذهبي وصديق القصر» «Golden Knight & Palace Companion»[64].
لم تكن هذه الألقاب التي يُنعم بها السلطان محمد الفاتح على علماء أوروبا وفنَّانيها أمرًا عاديًّا؛ إنَّما كان مقدَّرًا جدًّا، ولقد اهتمَّ فرانشيسكو سانسوڤينو Francesco Sansovino، وهو من أشهر المؤرِّخين البنادقة، بذكر هذه الألقاب التي أعطاها الفاتح لبلليني وغيره، وذكر أنَّ بلليني نفسه كان يكتب على لوحاته اسمه ومعه أنَّه أُعطي لقب «فارس» من السلطان العثماني[65].
لقد كان الفاتح -كما تقول المؤرِّخة التركيَّة بينار إميرالي أوغلو- رجل عصره[66]!
وكما اهتمَّ الفاتح رحمه الله بالخرائط المنتجة في أوروبا اهتمَّ كذلك بالخرائط المنتجة في العالم الإسلامي، ويبدو أنَّ الذي دفعه إلى الاهتمام بخرائط الجغرافيِّين الإسلاميِّين هو العالم الكبير علاء الدين على القوشجي[67]، والقوشجي من علماء سمرقند الكبار، وكان متخصِّصًا في الفلك والرياضيَّات وعلم الكلام، وكان مقرَّبًا من السلطان الفاتح[68][69][70]، ولقد استقرَّ في إسطنبول حتى وفاته[71][72].
ولعلَّ ما شجع الفاتح أيضًا على رعاية الأعمال الجغرافيَّة للمسلمين هو وصول نسخة من كتاب المسالك والممالك للعالم الجغرافي الشهير الإصطخري، وهو كتابٌ قيِّم، وكان من الكتب المهمَّة في هذه الفترة وما قبلها، ويُقال إنَّ الذي أهدى إليه الكتاب هو السلطان أوزون حسن، وذلك قبل حدوث الحرب بينه والسلطان الفاتح في 1473م[73].
اهتمَّ الفاتح برعاية بعض الجغرافيِّين المسلمين، وتكفَّل بنسخ عددٍ من الخرائط العربيَّة، وخاصَّةً تلك التي تحتوي على أشكالٍ ملونة، وكذلك عدد من المقالات المتميِّزة في علوم الجغرافيا، ووفَّر عددًا كبيرًا من هذه النسخ في دولته[74].
ومع اهتمام الفاتح بالمصادر العربيَّة والإسلاميَّة في الجغرافيا إلَّا أنَّه كان أكثر اهتمامًا بلا شَكٍّ بالمصادر اليونانيَّة والأوروبِّيَّة، والسرُّ في ذلك أنَّ المؤلَّفات اليونانيَّة القديمة، وخاصَّةً كتاب بطليموس، كانت مهتمَّةً إلى حدٍّ كبيرٍ بجغرافيا أوروبا والدولة الرومانيَّة بشكلٍ عامٍّ، وهي المناطق التي يعمل فيها السلطان الفاتح وجيشه، وكان كتاب بطليموس من الدِّقَّة بحيث لا يُمكن الاستغناء عنه لمن أراد أن يتحرَّك وفق معطياتٍ علميَّةٍ صحيحة. تقول الدكتورة الإسبانية ماريا سالا Maria Sala، وهي أستاذة الجغرافيا بجامعة برشلونة: «يُعَدُّ بطليموس وإسطرابون Strabo (وهو جغرافي يوناني كذلك) هما أصحاب الأثر المباشر في تشكيل مستقبل الجغرافيا الأوروبيَّة».. ثم تُسهب في الحديث عن بطليموس فتقول: «كان بطليموس يرى أنَّ الجغرافيا ينبغي أن تهتمَّ بالأرض كلِّها، ومِنْ ثَمَّ فهو يرى أنَّ استخدام الحسابات الرياضيَّة مهمٌّ جدًّا في الوصول إلى هذه الغاية، ولقد ألَّف بطليموس عملًا كبيرًا مكوَّنًا من ثمانية أجزاء وهو المعروف الآن «بجغرافيا بطليموس» «Ptolemy's Geography»؛ الجزء الأوَّل من هذا المؤلَّف يشرح أساسيَّات حساب الأبعاد على الأرض، وتقسيم الأرض إلى درجات، وطرق حساب الارتفاع والطول، وكذلك شرح طرق رسم الخرائط. أمَّا الجزء الثامن فيحتوي على خرائط كثيرة لأماكن متعدِّدة من العالم. أمَّا الأجزاء الأخرى فهي تحتوي على جداول تُحدِّد الارتفاعات والمسافات لأربعة آلاف مكانٍ في العالم»[75]!
كان من الواضح أهميَّة هذا العمل بالنسبة إلى الفاتح رحمه الله، ولذلك كان كلُّ هذا الجهد في دراسة العمل، وترجمته، والتواصل مع علماء العالم المتخصِّصين في الجغرافيا لتحديثه، والاستفادة منه على الوجه الأكمل، وكان هذا التواصل يُثمر نتائج رائعة، فعلى سبيل المثال كانت هناك بعض الأماكن التي ذكرها بطليموس في كتابه مبهمة بالنسبة إلى الفاتح، وكذلك بالنسبة إلى أميروتزيس العالم الجغرافي اليوناني الذي يُساعده، فجاءت نسخة عالم فلورنسا بيرلينجيري التي أهداها الفاتحَ، موضِّحةً لكثيرٍ من هذه الأماكن ممَّا أسهم في توضيح الرؤية بشكلٍ أكبر[76]، ومثالٌ آخر مهمٌّ هو أنَّ خرائط بطليموس لم تكن تشمل خريطةً للعالم؛ إنَّما كانت خرائط كثيرة لأماكن متفرِّقة من القارَّات المختلفة، فكانت فكرة الفاتح، ومعه أميروتزيس، أن تُرَكَّب من هذه الخرائط المتعدِّدة خريطةٌ واحدةٌ للعالم، وقد كان بالفعل، فكانت هذه أوَّل خريطةٍ للعالم، من عمل بطليموس[77].
لهذه الاعتبارات كان الفاتح رحمه الله مهتمًّا بالخرائط المصمَّمة في أوروبا عن تلك المصمَّمة في بلاد العالم الإسلامي، التي كانت تتفوَّق على مثيلاتها الأوروبِّيَّة في شرح الأماكن العربيَّة، وأماكن وسط آسيا، حتى شرق آسيا، ولكن هذه الأماكن لم تكن في دائرة اهتمام الفاتح في هذا الوقت، ولهذا جعل معظم دعمه في الاتِّجاه الأوَّل.
ومع ذلك فإنَّنا نلحظ عملًا باهرًا قام به الفاتح يدُّل على عمق نظرته، وبُعْد رؤيته، وهو أنَّه نسخ عددًا من كتب الجغرافيا الإسلاميَّة ووزَّعها على مساجد إسطنبول وبعض مساجد الدولة العثمانيَّة؛ وذلك لتكون متاحةً للشعب بهدف الثقافة العامَّة[78].
وتتعجَّب المؤرِّخة الأميركيَّة كارين بينتو من أنَّ الفاتح مع اهتمامه بالخرائط الأوروبِّيَّة إلَّا أنَّه عندما أراد أن يُتيح هذه الخرائط للجمهور أتاح لهم الخرائط الإسلاميَّة، مع أنَّها لم تكن بالدِّقَّة نفسها التي عليها خرائط الجغرافيِّين الأوروبيِّين[79]، والسبب -في رأيي- واضح؛ فالفاتح كان مهتمًّا في عمله وتحرُّكات جيشه بالخرائط الدقيقة التي يُمكن أن يبني عليها حساباته، وأن يضع عليها تحرُّكات الجيش، وأن يحسب بها الأوقات التي يُمكن أن يحتاجها في الحركة من مكانٍ إلى مكان، وغير ذلك من أمورٍ استراتيجيَّةٍ دقيقة، ولهذا فهو يلجأ إلى الخرائط التي تُحقِّق هذا الغرض بصرف النظر عن مؤلِّفها أو ناسخها، أمَّا العامَّة فهم لا يحتاجون إلى مثل هذه الحسابات المعقَّدة؛ إنَّما يحتاجون إلى ثقافةٍ عامَّةٍ خاصَّة بعلم الجغرافيا، وغيره من العلوم الأخرى، فآثر الفاتح أن ترتبط ثقافة شعبه بالأسماء الإسلاميَّة العظيمة مثل الإصطخري، والقزويني، وغيرهما من الجغرافيِّين الإسلاميِّين، ليُضيف بهذا العمل بُعدًا تربويًّا، ويدعم الهويَّة الإسلاميَّة عند شعبه، ويُشعره بالفخر لوجود مثل هذه الأعمال العلميَّة المنتجة بواسطة علماء مسلمين، خاصَّةً أنَّ الفوارق بين الأعمال الإسلاميَّة والأوروبِّيَّة لن تعني غير المتخصِّصين في شيء.
ويُدافع المؤرِّخ الأميركي چيانكارلو كاسالي Giancarlo Casale عن محمد الفاتح في انحيازه للمؤلَّفات الأوروبِّيَّة في مجال الجغرافيا، فيُؤكِّد أنَّ الفاتح فعل ذلك لأنَّ الجغرافيِّين الأوروبيِّين برعوا في شرح الأماكن التي يعيشون فيها، وهي مجال عمل الفاتح، وهي المناطق التي يسعى السلطان محمد الثاني لفتحها، ولو كانت فتوحاته في اتِّجاه المحيط الهندي لاعتمد على الكتب الجغرافيَّة للعلماء المسلمين مثل ابن ماجد وكتابه «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»[80].
فالمؤرِّخ الأميركي هنا لا يُقلِّل من شأن أعمال الجغرافيِّين الإسلاميِّين، بل يمدحها ويذكر أمثلة منها، ولكن يرى أنَّ تخصُّصَها لم يكن مفيدًا للفاتح في هذه المرحلة.
ومن أعظم الإنجازات التي شجَّع عليها الفاتح في مجال علوم الجغرافيا هو رسم صورة لمعالم القسطنطينية تشمل الإضافات العثمانيَّة التي تمَّت بعد الفتح الإسلامي، وهذا إنجاز فريد ومهم وله أبعاد عميقة؛ حيث تذكر المؤرِّخة التركيَّة بينار إميرالي أوغلو أنَّ صور القسطنطينية التي كانت منتشرة في أوروبا في ذلك الوقت كانت نُسَخًا من الصورة التي رسمها الرحالة والقس الإيطالي كريستوفورو بيونديلمونتي Cristoforo Buondelmonti في عام 1422م، وهي صورةٌ ليس بها أيُّ مَعْلَمٍ عثماني؛ حيث رُسِمت قبل الفتح الإسلامي بإحدى وثلاثين سنة، وقد تعمَّد الجغرافيُّون الأوروبِّيُّون في رسوماتهم للقسطنطينية بعد الفتح العثماني ألَّا يقوموا بأيِّ تحديثٍ في خريطة القسطنطينية، بل تركوا عَمْدًا وضع العلم العثماني على القسطنطينية في الخرائط الملاحيَّة، وكانوا يتركون عليها العلم البيزنطي، وكل هذا كنوع من عدم الاعتراف بفتح المسلمين للقسطنطينية، وإبراز الشعور بأنَّ هذا الفتح هو أمرٌ مؤقت، ولن تلبث أوروبا أن تستعيد العاصمة البيزنطيَّة، فدعم الفاتح رحمه الله بعض الجغرافيِّين لرسم خرائط مصورة للقسطنطينية تُبرز المعالم الجديدة التي أضافها العثمانيُّون في المدينة كقصر توب كابي، ومسجد الفاتح، وبعض المباني الأخرى، مع وضع العلم العثماني على الخرائط. كان هذا عملًا مهمًّا للغاية إذ تحقق به فوائد عدَّة؛ فهو أوَّلًا: يُحاكي المدن الأوروبِّيَّة الكبرى حيث كانت تتوفَّر لها خرائط تصويريَّة تشمل معالمها، فيكون تصوير القسطنطينية بالطريقة نفسها دليلًا على أنَّها لم تتخلَّف في عهد العثمانيِّين، إنَّما زادت تطوُّرا وحضارة، وثانيًا: فإنَّ الفاتح كان يُعِدُّ هذه الصور لكي يُرسل منها نسخًا كهدايا للزعماء المسلمين في العالم؛ كنوعٍ من إثبات إسلاميَّة المدينة، وإبراز أهميَّة مكانة الدولة العثمانية، وثالثًا: هو نوعٌ من المقاومة للغزو الفكري الذي يقوم به الجغرافيُّون الأوروبِّيُّون حيث يتجاهلون امتلاك العثمانيِّين للقسطنطينية، وينشرون هذا الفكر في مجتمعاتهم، ورابعًا: فإنَّ ظهور هذه الصور في أوروبا وفيها المعالم الكثيرة ونبض الحياة سيجعل صورة القسطنطينية تبدو في عيون الأوروبيِّين كمدينةٍ ترعى الثقافة والحضارة، ومِنْ ثَمَّ تُصبح قِبْلةً للعلماء والمفكرين، وهذا بدوره يُحقِّق فوائد كبرى دون شك[81].
لم يكن هذا التصوير للقسطنطينية أمرًا يسيرًا، ولم يكن بذل الجهد في رسم الخرائط للإمبراطوريَّة العثمانيَّة بحجمها الجديد أمرًا عاديًّا، بل هو أمر في غاية العمق والأهميَّة، وما أروع ما لاحظته المؤرِّخة الأميركيَّة بالميرا بروميت Palmira Brummett من أنَّ السلطان محمدًا الثاني كان يُدرك أنَّ رسم الخرائط، هو كالقصور والعملات، أحد البيانات البليغة لشرعيَّة الحكم ولتخويف الأعداء، ولتوضيح الطبيعة المتمدِّدة للهيمنة العثمانيَّة[82]. الذي تقصده المؤرِّخة الأميركيَّة هو أنَّ اختيار شكل القصر ومكانه وهيبته، وكذلك اختيار الألفاظ والتعريفات التي تُكتب فوق العملات الرسميَّة المصكوكة في الدولة يُعطي صورةً ذهنيَّةً عند الناس، فيُؤمنون بشرعيَّة الحكم وهيمنته، وهذا بدوره يُخيف الأعداء، وهو الدور نفسه الذي تُحدثه الخرائط والصور التوضيحيَّة، ولهذا فإنَّ الاهتمام بتوصيل هذه الصورة الذهنيَّة للناس، سواءٌ من حكَّام الدول المختلفة أم من الشعوب، يُحْدِث أثرًا بالغًا في تثبيت دعائم الحكم وإثبات شرعيَّته.
والواقع أنَّ ما ذكرته بالميرا بروميت في منتهى الأهميَّة، خاصَّةً في هذا الزمن القديم؛ لأنَّ الحقائق العلميَّة الجغرافيَّة لم تكن تامَّة الوضوح كما هو في عصرنا الآن، خاصَّةً في منطقة البلقان؛ حيث تكثر النزاعات، والحروب، وتغيير الانتماءات، والفتوح، والتَّبِعات، وغير ذلك من أمورٍ تُغيِّر الجغرافيا السياسيَّة بشكلٍ كبير، ولهذا فإنَّ المؤرِّخة البلغارية ماريا تودوروڤا Maria Todorova خصَّصت فصلًا كاملًا في كتابها عن تصوير البلقان لشرح الاختلافات في التَّسمية بين جهةٍ وأخرى، ودولةٍ وثانية، وعالِم جغرافيا وآخر، وأنَّ هذا كلَّه كان يخدم أغراضًا سياسيَّةً معيَّنة، فلم يكن بالتبعيَّة أن تكون حدود الدولة الحقيقيَّة هي ما وُجِد في الخرائط الرسميَّة؛ إنَّما يُمكن أن تكون هي الحدود التي «يتمنَّاها» الحاكم، أو هي أحيانًا تشمل الحدود التي يُريد أن «يتذكَّرها»، فالتي يتمنَّاها هي المناطق التي «ينوي» فتحها، والتي يتذكَّرها هي المناطق التي كانت تابعةً له أو لأحدٍ من آبائه وهو لا يُريد التفريط فيها أو نسيانها، وهذه الخرائط في كلِّ الأحوال لا تُعبِّر عن الواقع الذي يعيشه الناس، كما أنَّ كلَّ فريقٍ يُمكن أن يُسمِّي المدينة، أو النهر، أو حتى الدولة، بالأسماء التي يُريد لها أن ترسخ، ويُهمل الأسماء التي يُريد لها أن تموت، وهذا في منطقة البلقان كثيرٌ جدًّا، وكثيرًا ما تكون الأسماء التركيَّة للمناطق الجغرافيَّة بعيدةً كلَّ البعد عن الأسماء ذاتها باللغات الأخرى، أو في تعريف الدول الأخرى في المنطقة[83].
آخر ما نختم به هذه الفقرات التي تتحدَّث عن إنجازات الفاتح في مجال الجغرافيا هي ما ذكرته المؤرِّخة الأميركيَّة أنَّا كونتاديني من أنَّ هذه الجهود الضخمة قد أثمرت نتائج كبرى؛ فالخرائط الأوروبِّيَّة بدأت تعترف تدريجيًّا، ولو بشكلٍ جزئي، بوجود الإمبراطوريَّة العثمانيَّة على الخريطة الجيوسياسيَّة الأوروبِّيَّة والآسيوية، ولم يكن هذا محدودًا فقط في الخرائط والحدود إنَّما كان كذلك في طريقة رسم السلطان على الخريطة (وكان هذا متَّبعًا في بعض الخرائط)، فلم يعد السلطان العثماني يُرْسَم بشكلٍ حصريٍّ كرجلٍ حاقدٍ خبيثٍ كافر؛ إنَّما صار يُرْسَم بشكلٍ طبيعيٍّ كأيٍّ حاكمٍ من حكَّام أوروبا[84]!
لقد كان جهدًا رائعًا من الفاتح في هذا المجال المهمِّ من جوانب العلوم..
والواقع أنَّ القائد الذي يمتلك هذه الرؤية العلميَّة في المجالات الشرعيَّة، والعسكريَّة، والسياسيَّة، والجغرافيَّة، لا بُدَّ أنَّه يمتلكها في بقيَّة مجالات الدولة، ولئن كنَّا قد استفضنا نسبيًّا في المجالات التي أشرنا إليها فإنَّنا يُمكن أن نطَّلع على بعض المجالات الأخرى لنُدرك أنَّ هذا السلوك العلمي كان طريقةَ إدارة، ومدرسةً فكريَّةً ثابتة، ولم يكن أمرًا عشوائيًّا يتحقَّق في بعض المجالات ويُهْمَل في أخرى..
كان الفاتح رحمه الله مهتمًّا باستقطاب العلماء من البلاد المختلفة، وكان يُعطي أهميَّةً خاصَّةً لعلماء وسط آسيا، ولعلَّ السبب في ذلك هو كثرة الصراعات السياسيَّة في هذه المناطق، وخاصَّةً في فارس، وخراسان، وأذربيچان، وكانت هذه الصراعات تلمس العلماء، وقد يتعرَّضون لاضطهادٍ هنا أو هناك لكونهم محسوبين على أحد الفرق المتصارعة، أمَّا الدولة العثمانيَّة فكانت في زمن الفاتح مستقرَّةً داخليًّا إلى حدٍّ كبير، فكانت دعوة الفاتح تُمثِّل لهم عامل جذبٍ كبير[85].
ولم يكن الفاتح رحمه الله يستغلُّ حاجة العلماء إلى مكانٍ آمن فيتهاون في عطائهم، بل على العكس، لقد كان يجزل لهم العطاء، وفوق ذلك يُعطيهم من التشريف والمكانة ما يجعلهم يرغبون بإرادتهم أن يُكْمِلوا حياتهم في جواره ولو كانت بلادهم آمنةً مطمئنة، ولقد ذكر المؤرِّخ التركي طاشكبري زاده في كتابة القيِّم: «الشقائق النعمانيَّة في علماء الدولة العثمانيَّة» عددًا من العلماء الذين استقدمهم الفاتح من بلاد المسلمين، وخاصَّةً من وسط آسيا، وذكر كيف تعامل الفاتح معهم، ولنأخذ مثالًا على ذلك ما فعله الفاتح مع العالِم الشهير على القوشجي، وهو من كبار علماء الرياضيَّات والفلك، وله درايةٌ كذالك بعلوم التفسير واللغة، وكان القوشجي من علماء سمرقند، ثم رحل إلى كرمان ومنها إلى تبريز، ثم توجَّه إلى إسطنبول حاملًا رسالةً من السلطان أوزون حسن إلى الفاتح في محاولةٍ للصلح بين السلطانين، فانظر ماذا فعل الفاتح رحمه الله..
يقول طاشكبري زاده: «ولمـَّا أتى إلى السلطان محمد خان أكرمه إكرامًا عظيمًا فوق ما أكرمه السلطان حسن، وسأله أن يسكن في ظلِّ حمايته، فأجاب في ذلك، وعهد أن يأتي إليه بعد إتمام أمر الرسالة (أي كِتَابٍ مُؤَلَّفٍ في الرياضيَّات)، فلمَّا أدَّى الرسالة أرسل السلطان محمد خان إليه من خدَّامه، فخدموه في الطريق، وصرفوا بأمره إليه في كلِّ مرحلة ألف درهم، فأتى مدينة قسطنطينيَّة بالحشمة الوافرة، والنعم المتكاثرة، وحين قدم إليه أهدى إلى السلطان محمد خان عند ملاقاته رسالته في علم الحساب، وسمَّاها المحمديَّة (نسبةً إلى محمد الفاتح) وهي رسالةٌ لطيفةٌ لا يوجد أنفع منها في ذلك العلم، ثم إنَّ السلطان محمد خان لمـَّا ذهب إلى محاربة السلطان حسن الطويل (أوزون حسن) أخذ المولى المذكور معه، وصنَّف في أثناء السفر رسالةً لطيفةً في علم الهيئة (الفلك) باسم السلطان محمد خان، وسمَّاها الرسالة الفتحيَّة، لمصادفتها فتح عراق العجم، ولمـَّا رجع السلطان محمد خان إلى مدينة قسطنطينيَّة أعطاه مدرسة آيا صُوفيا، وعيَّن له كلَّ يومٍ مائتي درهم، وعيَّن لكلٍّ من أولاده وتوابعه منصبًا. يُرْوَى أنَّه لمـَّا نزل قسطنطينيَّة كان معه من توابعه مائتا نفس، ولمـَّا قَدِمَ إلى قسطنطينيَّة أوَّل قدومه استقبله علماء المدينة، وكان المولى خواجة زاده إذ ذاك قاضيًا بها...»[86].
يلفت النظر في كلام طاشكبري زاده أكثر من نقطةٍ مهمَّة، منها ما يلي:
1. إكرام السلطان الفاتح لعلي القوشجي كان أكثر من إكرام السلاطين الآخرين له، فهو ليس إكرامًا عاديًّا إنَّما زاد عن المعتاد.
2. السلطان هو الذي طلب من العالم أن يبقى في بلاده، ولم يكن العالم هو الذي يطلب اللجوء إلى السلطان، وهذا يحفظ ماء وجه العالم، ويُعطيه قدره، ويفتح له آفاق الإبداع.
3. أعطى الفاتحُ عليًّا القوشجي فرصةً لإتمام أحد بحوثه العلميَّة المتخصِّصة في مجال الرياضيَّات، ثم طلب منه أن يُقابله بعد الانتهاء من تأليفه، ولم يوُكِل مقابلته إلى أحد العلماء المتخصِّصين فقط، بل آثر أن يربطه به شخصيًّا، وفي هذا إجلالٌ للعالِم.
4. لمـَّا بلغ السلطان الفاتح أنَّ عليًّا القوشجي قد انتهى من تأليف الرسالة وصار جاهزًا لمقابلته، لم يأمره بالقدوم إليه؛ إنَّما أرسل إليه مجموعةً من خُدَّامه يخدمونه في الطريق، وهذا يُوضِّح مدى اهتمام الفاتح براحة العالم وتوقيره.
5. أمر الفاتح أن يُعطى علي القوشجي في كلِّ مرحلةٍ من مراحل السفر ألف درهم، والمرحلة تُوازي من خمسة وأربعين إلى خمسين كيلو مترًا، وكانت القوافل تستريح عند كلِّ مرحلة، فهكذا كلَّما قرَّرت القافلة الاستراحة أخذ علي القوشجي ألف درهمٍ لتكون عونًا له على شراء ما يحتاج في كلِّ محطَّةٍ من محطات السفر!
6. عندما وصل علي القوشجي إلى القسطنطينية أخرج الفاتح علماء المدينة، وعلى رأسهم القاضي خواجة زاده -وهو من كبار العلماء- لاستقبال علي القوشجي، وفي هذا تشريفٌ كبيرٌ له.
7. استقبل الفاتح العالم القوشجي بحفاوة، وقَبِل منه هديَّته (رسالة الحساب)، ونقل طاشكبري حوارًا لطيفًا دار بينه والقوشجي، سأله فيه الفاتح عن رأيه في خواجة زاده، وقد صحبه منذ وصوله إلى القسطنطينية حتى مقابلته للفاتح، فقال القوشجي: «لا نظير له في بلاد العجم والروم»، فقال الفاتح: «لا نظير له في العرب أيضًا»[87]! وفي الحوار ملاطفةٌ بين الفاتح والقوشجي، وإعلامٌ للقوشجي أنَّ الفاتح اختار له أعظم علماء الدولة العثمانيَّة لاستقباله.
8. اصطحب الفاتح معه في معركة أوتلق بلي مع أوزون حسن العلَّامة القوشجي، ولعلَّ السرَّ في اصطحابه في هذه المعركة بالذات هو معرفة القوشجي بكلا السلطانين: محمد الفاتح وأوزون حسن، وبالتالي يُمكن أن يكون له دورٌ في التواصل الدبلوماسي بين الطرفين إذا كان هناك احتياجٌ لهذا، ويُمكن أن تكون هناك أسبابٌ أخرى لاصطحاب القوشجي في هذه الحملة؛ منها أوَّلًا استغلال الفاتح لكلِّ أوقاته، وذلك بمصاحبة العلماء حتى وهو في طريقه للحرب، وثانيًا تأليف لقلب القوشجي لصحبته للسلطان شخصيًّا، وفي هذا دعمٌ له لاستمرار البقاء في الدولة العثمانيَّة، وثالثًا اختبار الفاتح للعالم القوشجي وتقديره لمواهبه وقدراته لكي يضعه بعد ذلك في المكان المناسب لإمكاناته، وهذا ما وضح لنا؛ إذ ذكر طاشكبري زاده أنَّه بمجرَّد عودته من الحرب عيَّنه مدرِّسًا بمسجد آيا صُوفيا، وهذه من أعلى الوظائف آنذاك، ويلفت النظر أيضًا بالمناسبة حسن استغلال القوشجي لوقت الرحلة؛ حيث ألَّف كتابًا كاملًا في علم الفلك، وهو الذي سمَّاه بالفتحيَّة، وأعتقدُ أنَّ هذه التسمية نسبةً إلى «الفاتح»، وليس إلى فتح عراق العجم كما يقول طاشكبري زاده؛ لأنَّ عراق العجم يشمل أصفهان والريَّ وقزوين، وكلَّها من مناطق إيران، وهذه المناطق لم يصلها الفاتح؛ إنَّما فُتحَت في عهد السلطان سليم الأول حفيد الفاتح.
9. خصَّص الفاتح راتبًا ضخمًا للقوشجي، وهو مائتا درهمٍ كلَّ يوم! ويقول المؤرِّخ التركي عبد الرحمن أتشيل Abdurrahman Atcil، والأستاذ بجامعة كوينز بنيويورك، أنَّ هذا الراتب كان كبيرًا للغاية، وكان أكبر من رواتب الأساتذة بكلِّيَّة الفاتح، وفي هذا إغراءٌ كبيرٌ للقوشجي لقبول البقاء في الدولة العثمانيَّة[88].
10. لم يكتفِ الفاتح بتعيين القوشجي في وظيفةٍ مرموقةٍ براتبٍ كبير، إنَّما اهتمَّ بأولاده وأتباعه كذلك؛ حيث أعطاهم وظائف مناسبة في الدولة، وهذا كله لا يُعطي القوشجي تشريفًا فقط؛ إنَّما يهبه الاستقرار النفسي والعائلي، ممَّا يدعم بقاءه عند الفاتح.
كل هذا الاحتياط بذله الفاتح من أجل تشجيع عالمٍ من علماء الرياضيَّات والفلك على البقاء في الدولة العثمانيَّة، وهذا يدلُّ على أمورٍ كثيرةٍ واضحة؛ منها المنهج العلمي الذي كان يُراعيه الفاتح في إدارة دولته، ومنها شمول نظرته وتوازنه في قيادة الأمَّة فلا يطغى جانبٌ على جانب، ولا تهمل إدارةٌ في سبيل إحياء إدارةٍ أخرى، ومنها كذلك وضوح ثراء الدولة وقوَّة اقتصادها حيث تُنفق الأمول الغزيرة لدعم العلماء مع كون الدولة منخرطة في حروبٍ شرسةٍ في الشرق والغرب، وما أبلغ هذا المثال السابق، مثال القوشجي، لتوضيح هذه النقطة، فعلى الرغم من ضخامة الحملة العثمانيَّة المتَّجهة إلى حرب أوزون حسن عام 1473م، وعلى الرغم من التجهيزات العظيمة، والنفقات الباهظة، في سبيل تحقيق النصر في مثل هذا الصدام المروع، إذا بالفاتح يُوجِّه جانبًا من ميزانيَّة الدولة -في التوقيت نفسه- لرعاية القوشجي وأولاده وأتباعه، وبهذا السخاء الذي لفت أنظار المؤرِّخين!
لم يكن هذا الاهتمام من الفاتح خاصًّا بالقوشجي فقط؛ إنَّما كان يفعله كلَّما وجد فرصةً لاستقطاب العلماء في أيِّ مجال، فقد فعل الشيء نفسه مع العالم الطبيب قطب الدين العجمي، الذي كان وزيرًا لبعض ملوك إيران، وبعد عدَّة مشاكل سياسيَّة رحل هذا العالم إلى إسطنبول للجوء إلى الفاتح رحمه الله. يقول طاشكبري زاده في وصف هذا الحدث: «واتَّصل بخدمة السلطان محمد خان، وأكرمه السلطان محمد خان غاية الإكرام، وعيَّن له كلَّ يوم خمسمائة درهم، وعيَّن له عشرين ألف درهم مشاهرةً (أي كلَّ شهر)، سوى ما أنعم عليه من الخلع والإنعامات، وعاش في كنف حمايته بعيشٍ أرغد، وكان يتوسَّع في مأكله وملابسه، ويتجمَّل في حواشيه وغلمانه، وكان يعرف علم الطب غاية المعرفة، وتقرَّب لأجله عند السلطان محمد خان، وحظي عنده غاية الحظوة»[89].
وذكر خير الدين الزركلي عالمـًا طبيبًا آخر هو محمد بن محمود الشرواني فقال عنه: «طبيبٌ مستعربٌ من أهل شيروان في بُخَارى، انتقل إلى القسطنطينية، وخدم بطبِّه السلطان محمد خان، وكانت له معرفةٌ بالتفسير، والحديث، وعلوم العربيَّة، وحجَّ وأقام بمصر مدَّةً قرأ فيها على بعض علمائها، وعاد إلى الروم (إسطنبول). له كتب، منها روضة العطر في الطب، وهو مجلَّدٌ ضخمٌ رأيتُه في مكتبة الڤاتيكان باللغة العربيَّة، ومنه نسخةٌ غير مسمَّاة، أو لعلَّها كتابٌ آخر باللغة العربيَّة في الطب أيضًا، رأيتُها في اللورنزيانة بفلورنسا، ولم تتيسَّر لي مقابلتها بالأولى»[90].
وقال طاشكبري زاده وهو يذكر العلماء الذين استقطبهم الفاتح رحمه الله: «ومنهم العالم الفاضل خواجة زاده، قرأ في بلاد العجم على علمائها، ثم ارتحل إلى بلاد الروم في أيَّام دولة السلطان محمد خان، ومات في أوائل سلطنة السلطان بايزيد خان. كان عالمـًا فاضلًا عارفًا بالعلوم كلِّها؛ من الحديث، والتفسير، والعربيَّة، والطب، والفنون العقليَّة بأسرها، وكانت له يد طولى في العلوم الرياضيَّة، ومعرفة الزيجات (في الفلك)، واستخراج التقاويم، ورأيتُ له رسالةً كبيرةً في علوم الرياضيَّات لحلِّ الإسطرلاب، والربع المجيب، والمقنطرات، ورأيتُ له رسالةً لطيفةً في معرفة الأوزان، وسمعتُ بعض أساتذتي أنَّه يقول في حقِّه: ما رأيت من العلوم كليَّاتها وجزئيَّاتها إلَّا وله فيها معرفةٌ تامَّة»[91]، وخواجة زاده من العلماء المعدودين الذين شهد لهم كثير من العلماء بالفضل والثناء[92].
وفي موضعٍ آخر يذكر طاشكبري زاده عالمـًا آخر هو الحكيم «عرب» فيقول عنه: «حصَّل علم الطب في بلاد العرب، ثم ارتحل إلى بلاد الروم، واتَّصل بخدمة الأمير عيسى بك ابن إسحاق بك Isa-Beg Ishaković الساكن ببلدة إسكوب، وأكرمه الأمير المذكور غاية الإكرام، ونال بسببه مالًا جزيلًا، وبلغ صيته في الطبِّ إلى السلطان محمد خان، فاستدعاه، وأكرمه، وعاش في كنف حمايته بعيشٍ واسع، وكان حاذقًا في الطب، كريم النفس، جوادًا، مراعيًا للفقراء والمساكين، نوَّر الله قبره، وضاعف أجره»[93].
فهذه جملةٌ من الأطباء والعلماء استقطبهم الفاتح رحمه الله، وشجَّعهم على البقاء في الدولة العثمانيَّة، واختيارها دون غيرها من الممالك والبلاد، وقد ذكرتُ في هذه الصفحات علماء المسلمين الذين جاءوا إلى الفاتح في هذه الفترة، ولم أذكر غيرهم من غير المسلمين، وهم كُثُر، ولم أتعمَّد الإحصاء؛ فإنَّ المصادر تحتوي على أسماء كثيرة لا يتَّسع المجال لذكرها.
وإذا كان العلماء القادمون من بلاد أخرى ينعمون بهذا الاهتمام الكبير من الفاتح بشكل خاص، ومن الدولة العثمانية بشكلٍ عامٍّ، فلا شك أن علماء الدولة أنفسهم كانوا على درجة كبيرة من التفوق والاستقرار، ولهذا ظهر في عهد الفاتح علماء متمكنون في كافة المجالات، فكان منهم عالمِ الرياضيات والفلك فتح الله بن أبي يزيد الشرواني، وكذلك سنان الدين بن خضر، والذي كان متميزًا، إلى جانب الرياضيات والفلك، في علوم الفلسفة، والفقه، والتفسير، وأيضًا خير الدين خليل بن إبراهيم عالمِ الرياضيات، وحسام الدين التوقادي عالم الفلك، وسنان الدين يوسف بن عبد الملك المتخصص في علوم الفلك بالإضافة إلى العلوم العقلية والنقلية، وبالي وهو من علماء الفلك، وكل هؤلاء العلماء لهم مؤلفات كثيرة في مجالات تخصصهم، وكانت مؤلفاتهم باللغات التركية، والفارسية، والعربية[94]؛ وبالإضافة إلى العلماء السابقين فهناك الأطباء الكثر البارعون في العلاج، وكذلك في التأليف، والترجمة، والتدريس، ومن أشهر أمثلة هؤلاء الطبيب شرف الدين صابونجي أوغلو، الذي قام بترجمة لكتاب الجراح الأندلسي الشهير الزهراوي، وهو كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف»، وترجمه تحت عنوان «جراحنامة خانية»، وحافظ في الكتاب على صور الآلات الجراحية كما رسمها الزهرواي، وأضاف عدة أوضاع للمرضى عند الجراحة والمداواة، مما جعل كتابه المترجم فريدًا في هذا المجال[95]، وتوجد نسخة مهمة من هذا الكتاب بخط الجراح شرف الدين نفسه، ومهداة إلى السلطان الفاتح، وتحتوي على مائة وأربعين صورة توضيحية للجراحات المختلفة، وهذه النسخة محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس Bibliothèque Nationale in Paris[96]، وبالإضافة إلى ذلك فقد ألَّف شرف الدين كتابًا خاصًّا به سمَّاه «مجرب نامة» ضمَّنه تجاربه العملية في العلاج، فصار من الكتب الإكلينيكية الأصيلة[97].
بالإضافة إلى رعاية العلماء والاهتمام بهم، وإسهام ذلك في إعطاء الصبغة العلميَّة المناسبة للدولة، فإنَّ الفاتح أضاف لإمبراطوريَّته إضافةً كبيرة؛ وهي إنشاء جامعةٍ علميَّةٍ كبرى، وهي جزءٌ من مجمَّع الفاتح الكبير (صورة رقم 12) الذي يضمُّ في مركزه مسجده الضخم.
وتوجد حول المسجد ثماني كليَّاتٍ متخصِّصةٍ في العلوم الدينيَّة والحياتيَّة، كما يضمُّ كذلك ثماني مدارس للتعليم الأَوَّلي بالإضافة إلى مستشفى كبير، ومكتبة عظيمة، ومطاعم خيريَّة، وأيضًا مدينة جامعيَّة لإقامة الطلبة الدارسين والوافدين من أماكن خارج إسطنبول[98]، وكانت هذه الكلِّيَّات تُعْرَف باسم «صحن الثمانية» لاشتمالها على ثماني مدارس متخصِّصة[99]، وهناك عدة نقاط مهمة أحب أن أشير إليها بخصوص هذه الكليات العظيمة. أوَّل هذه النقاط هي أنَّ هذه هي أوَّل كلِّيَّاتٍ في الدولة العثمانيَّة تجمع في منهجها بين العلوم الشرعيَّة؛ كالتفسير، والحديث، والفقه، وبين العلوم الحياتيَّة؛ كالطب، والرياضيَّات، والفلسفة، والجغرافيا[100]، فهذه إضافةٌ مهمَّةٌ جدًّا للفاتح في تاريخ الدولة العثمانيَّة، والنقطة الثانية هي أنَّ هذه الكلِّيَّات كانت تُدرِّس منهجًا ثابتًا يشمل علومًا معيَّنة، وبكيفيَّةٍ محدَّدة، ولم يكن يُتْرَك لأهواء أو رغبات كلِّ أستاذ، وكان هذا المنهج متميِّزًا، وقد اعتمدته عدَّة جامعات أوروبِّيَّة، في الوقت ذاته، ويقال إنَّ المسئول عن إعداد هذا المنهج كان العالم علي القوشجي، والمولى خسرو[101]، والأخير هو فقيهٌ حنفي، ومن كبار رجال الدين في عصر الفاتح، أمَّا النقطة الثالثة فهي أنَّ هذه الكلِّيَّات لم تكن تقبل الطلبة من أيِّ مكان؛ بل لا بُدَّ أن يكون الطالب قد قضى فترةً معيَّنةً في الدراسة والتدريب في بعض المدارس القويَّة المعترف بها لدى هذه الكلِّيَّات، وهذه المدارس الإعداديَّة كانت موجودةً في ثلاث مدنٍ فقط في الدولة العثمانيَّة، هي: إسطنبول، وأدرنة، وبورصا[102]، وبذلك يُضْمن مستوى المدارس المؤهِّلة لدخول هذه الكلِّيَّات، ويُضْمن مستوى الطلبة بشكلٍ عامٍّ، وأن يكون متناسقًا مع بعضه البعض، أمَّا النقطة الرابعة فهي أنَّه لم يكن يُسْمَح لأيِّ عالمٍ أن يقوم بالتدريس في هذه الكلِّيَّات المتميِّزة؛ إنَّما ينبغي أن يُثبت كفاءةً بالغة، بل كانت أحيانًا تُجرى المناظرات العلميَّة في حضرة الفاتح نفسه لكي يُختار أحد العلماء للتدريس في هذه الكلِّيَّات المهمة[103]، وتُبْدي المؤلِّفة الأميركيَّة هيلين سيلين Helaine Selin في موسوعتها عن تاريخ العلوم والتكنولوچيا في المجتمعات غير الغربيَّة إعجابها الشديد بالسلطان الفاتح الذي دعم الحركة العلميَّة في إمبراطوريَّته بشكلٍ غير مسبوق، ثم تتحدَّث عن الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في كلِّيَّات الفاتح الثمانية فتقول: «نتيجة الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي في عهد الفاتح، اتَّجه علماء العالم الإسلامي المتميِّزون وفنَّانوه إلى الاستقرار في عاصمة الإمبراطوريَّة، ولقد حمى العثمانيُّون العلماءَ المسلمين واليهود الذين هربوا من الاضطهاد من الأندلس وغيرها، وأكثر من هذا فإنَّ الأوقاف الإسلاميَّة ازدادت ثراءً ممَّا أسهم في تطوُّر الحياة العلميَّة والتربويَّة»[104]، أمَّا النقطة الخامسة والأخيرة في هذا الصدد فهي رائعةٌ حقًّا! وهي أنَّ الفاتح رحمه الله جعل المناصب الكبرى في الدولة لا يُتَحصَّل عليها إلَّا إذا أنهى المكلَّف بها دراسةً في هذه الكلِّيَّات، فيضمن بذلك مستوًى علميًّا متميِّزًا في قيادات الدولة، أمَّا المناصب الأكبر، وهي مناصب الوزراء وكبار القضاة، وخاصَّةً في المدن الرئيسة، فإنَّ صاحبها لا بُدَّ أن يكون قد قضى فترةً في «التدريس» في هذه الكلِّيَّات، فلا يُكتفى هنا بخريجي الكلِّيَّات؛ إنَّما لا بُدَّ أن يكون من أعضاء هيئة التدريس فيها[105]! ويُبْدي المؤرِّخ الأميركي كورنيل فليشر Cornell Fleischer انبهاره بهذا النظام العلمي فيقول: «كان خريجو كلِّيَّات الفاتح مؤهَّلين لشغل مناصب أعضاء هيئة التدريس أو القضاة حسب تخصُّصهم، وبالنسبة إلى المدرسين فيكون التدريس على الأغلب في واحدةٍ من مدارس الدولة المؤهِّلة للكلِّيَّات. ومن هذه المدارس يُمكن أن يُؤهَّلوا لمدارس أكثر أهميَّة، أمَّا القضاة فيُمكن أن يُنقلوا إلى قضاء إحدى المقاطعات، معتمدين في ذلك على ترتيبهم الوظيفي، وبعد أن يصيروا في القضاء يكون لهم ترتيبٌ وظيفيٌّ هناك أيضًا، وهكذا صار عندنا ترتيبًا وظيفيًّا تربويًّا لأعضاء هيئة التدريس، وترتيبًا وظيفيًّا قضائيًّا للقضاة، فإذا وصل الموظف إلى أعلى درجات هذا الهرم فإنَّه يُمكن من خلال أولئك الذين وصلوا إلى هذا المستوى أن يُختار أعضاء هيئة التدريس في كلِّيَّات الفاتح نفسها، أو يُختار القاضي للمدن التِّسعة الرئيسة في الدولة العثمانيَّة في زمان الفاتح، ثم من هذه المجموعة الأخيرة يُمكن أن يختار القاضي الرئيس للأناضول كلِّه، والقاضي الرئيس للروملي كذلك (قاضي آسيا، وقاضي أوروبا)، وكذلك شيخ الإسلام»[106]!
أليس هذا أمرًا رائعًا حقًّا؟!
هذه هي البيئة العلميَّة التي خلقها الفاتح في إمبراطوريَّته، التي انعكست على أوجه الحياة آنذاك، لأنَّه إذا كان الوزير المختص، أو القاضي للمدينة، أو القائد للجيش، قد مرَّ بهذه التجارب العلميَّة في حياته، وأخذ هذه البرامج التربويَّة المتميِّزة، فإنَّه لا شَكَّ سيحدث تغييرًا إيجابيًّا في المكان الذي يتولَّى إدارته وقيادته..
نعم كانت كلُّ القطاعات تعمل بطريقةٍ علميَّةٍ أكاديميَّةٍ متميِّزة..
عمل القطاع الصحي بكفاءة، وتدرَّب عددٌ كبيرٌ من الأطباء في المستشفى الذي أنشأه الفاتح في مُجَمَّعه، الذي أطلق عليه اسم «دار الشفاء»، وعالج كثيرًا من المرضى، ومن العجيب أن نعلم أنَّ هذا المستشفى ظلَّ يعمل بكفاءة إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ أي لمدة أربعة قرونٍ كاملة، ممَّا يدلُّ على أنَّه قد صُمِّم بطريقةٍ علميَّةٍ ممتازةٍ تسمح له بهذا البقاء الطويل دون تدهور[107].
وكان الفاتح حريصًا على تحديث المراجع العلميَّة للدولة في كلِّ المجالات، وقد طلب على سبيل المثال بشكلٍ رسميٍّ من حكومة جمهوريَّة راجوزا أن تُرسل له التعليقات اللاتينيَّة على كتاب القانون في الطبِّ لابن سينا ليستفيد الأطباء العثمانيُّون من التحديثات الأوروبِّيَّة لكتاب ابن سينا الشهير، وكان ذلك في عام 1465م[108].
وكما كان الفاتح مهتمًّا بالتحديث العلمي لمختلف المجالات كان مهتمَّا كذلك بالتراث القديم، ومرَّ بنا اهتمامه بترجمة كتب الجغرافيا القديمة ودراستها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ بل شجَّع الفاتح حركة الترجمة في دولته في كلِّ المجالات، حتى أبدى المفكر الأميركي ديمتري جوتاس Dimitri Gutas إعجابه الشديد بانفتاح السلطان محمد الثاني على الثقافات المختلفة فوصفه بأنَّه كان مشهورًا «بثقافته الشموليَّة»، وأنَّنا ينبغي أن نبحث في مقارنته بالخليفة العباسي المأمون بخصوص التَّشابه بينهما في كونهما من عظماء رعاة حركة الترجمة وإحياء العلوم القديمة[109].
وتُؤكِّد المفكرة الألمانيَّة سابين شميتكة Sabine Schmidtke على المقارنة نفسها بين الفاتح والمأمون في مجال العلوم والترجمة فتقول: «دعا محمد الثاني العلماء البارزين إلى عاصمته القسطنطينية من أجل إقامة مجتمع علمي، وإحياء الفكر الإسلامي. ولكونه مشبعًا بالطموحات الفكريَّة مثل الخليفة العباسي المأمون فإنَّه دعا إلى بلاطه مشاهير العلماء كعلاء الدين الطوسي، وعلي القوشجي، وأمر آخرين بكتابة كتبٍ جديدة، أو ترجمة الأعمال الكلاسيكيَّة القديمة»[110].
وتُرجع الدكتورة المصريَّة منى بكر -وهي مديرة مركز الترجمة والدراسات الدوليَّة في جامعة مانشستر بإنجلترا- هذا النشاط العلمي في عهد الفاتح رحمه الله إلى تميُّزه الشخصي في مجال اللغة والفكر، فتقول بعد أن استعرضَتْ بعض الجهود التي سبقت الفاتح: «كانت رغبة الفاتح في رعاية الترجمة ذات طبيعةٍ مختلفةٍ عن سابقيه. لقد كان متمكِّنًا من اللغتين العربيَّة والفارسيَّة، وكان على وجه الخصوص مهتمًّا بقراءة ومناقشة الأعمال اليونانيَّة المترجمة إلى هاتين اللغتين، ولقد أدرك الفاتح بلا شَكٍّ دوره كراعٍ للتبادل الثقافي وللمنح العلميَّة في العالم الإسلامي، وكان ذلك باللغة العربيَّة، التي كانت اللغة الأساسيَّة للتعلُّم والمعرفة»[111].
ولم يكن الفاتح رحمه الله يُريد أن يُقارن بين العلماء والمذاهب بطريقة عشوائيَّة أو انطباعيَّة؛ إنَّما أراد أن يكون ذلك بطريقةٍ أكاديميَّةٍ رصينة، وبمنهج علمي ثابت، خاصَّةً أنَّه على ضوء هذه المقارنة بين العلماء يكون -كما أشرنا قبل ذلك- اختيارهم كأعضاء هيئة تدريس في كلِّيَّات الفاتح، أو كوزراء أو قضاة، ولهذا تُورِد المصادر في هذا الصدد أمرًا رائعًا، وهو أنَّ الفاتح عَلِم أنَّ أفضل مَنْ يقوم بكتابة منهج علمي ثابت واضح للمقارنة بين طرق العلماء في البحث عن الحقيقة، وطرق المجادلة والمناظرة، هو العلَّامة الفارسي الكبير نور الدين چامي، وهو من أعظم علماء خراسان في ذلك الوقت، ومن أعظم شعراء الفارسيَّة، وله أكثر من خمسة وأربعين كتابًا في اللغة، والدين، والفلسفة، والصوفية[112]. راسل الفاتح نور الدين چامي، وطلب منه زيارة إسطنبول وهو في طريقه للحجِّ أوائل السبعينيَّات من القرن الخامس عشر، ولكن نور الدين چامي رفض القدوم إلى إسطنبول، ويُعلِّل المؤرِّخ الأميركي چون كيري John Curry السبب في الرفض بأنَّ نور الدين چامي كان يرى أنَّ البيئة العلميَّة في فارس أعلى بكثيرٍ من تلك الموجودة في الدولة العثمانيَّة في ذلك الوقت[113]، ومع ذلك فإنَّنا لا يُمكن أن نتغافل عن المشاكل السياسيَّة التي كانت بين فارس بزعامة السلطان أوزون حسن والدولة العثمانيَّة بزعامة الفاتح، التي انتهت إلى حربٍ كبرى بين الطرفين عام 1473م، ويبدو أنَّ نور الدين چامي كان مستقرًّا في فارس، وكانت له مكانةٌ متميِّزةٌ لا يُريد أن يتركها. ومع هذا الرَّفْض من نور الدين چامي فإنَّ السلطان الفاتح لم ييأس من محاولة الاستفادة من العالم الكبير، ولم يعدَّ رفضه إهانةً له؛ إنما قدَّر موقفه، وحاول معه بطريقةٍ أخرى؛ إذ أرسل له مبلغًا كبيرًا من المال وطلب منه أن يكتب الكتاب عنده في فارس، وأن يُرسله إليه في إسطنبول دون الحاجة إلى القدوم بنفسه[114]! ووافق العلَّامة الفارسي، وكتب كتابًا مهمًّا في هذا المجال هو كتاب: «الدُّرَّة الفاخرة في تحقيق مذاهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدِّمين»، وكان الكتاب باللغة العربيَّة، وتمَّت ترجمته لاحقًا إلى اللغة الفارسيَّة، وقد تُرجم كذلك في العصر الحديث إلى اللغة الإنجليزيَّة[115].
ونظَّم الفاتح رحمه الله مسابقةً علميَّةً تهدف إلى الموازنة والتحقيق بين عملين كبيرين من أعمال الفلسفة الإسلاميَّة، وهما كتاب «تهافت الفلاسفة» للإمام الغزالي وكتاب «تهافت التهافت» الذي كتبه الفيلسوف الأندلسي ابن رشد ردًّا على الغزالي، وقد فاز في هذه المسابقة العلَّامة العثماني مصطفى بن يوسف البرسوي، الذي اشتهر باسم خواجة زاده، وذلك عندما كتب مخطوطته الشهيرة «شرح تهافت الفلاسفة»[116]، ولم يكتفِ الفاتح بالعمل القيِّم الذي قام به خواجة زاده إنَّما كلَّف العالم الفارسي علاء الدين الطوسي[117] بكتابة عملٍ آخر يُحقِّق الفائدة نفسها ليستفيد العلماء المسلمون من هذه المناظرات العلميَّة المهمَّة، فكتب كتابه الشهير «الذخيرة»، الذي أعجب الفاتح، ولكنَّه كان في رأيه دون كتاب خواجة زاده، ولذلك أعطى كلَّ عالمٍ مبلغ عشرة آلاف درهم كمكافأةٍ، ولكنَّه مَنَحَ خواجة زاده نوطَ شرفٍ كدلالةٍ على فوزه في المسابقة[118].
هذه هي الدولة العلميَّة التي أنشأها الفاتح رحمه الله!
لهذه الجهود الضخمة في إحياء العلوم القديمة، وترجمتها، ومناقشتها، وتحليلها، يربط كثيرٌ من المفكرين والمؤرِّخين بين السلطان محمد الفاتح والنهضة الأوروبِّيَّة نفسها! فعلى سبيل المثال يقول المفكر الإنجليزي تيموثي دون Timothy Dunne، والأستاذ بجامعة كوينزلاند Queensland الأستراليَّة: «ينبغي أن نُلاحظ أنَّ إعادة اكتشاف العلوم القديمة، التي كانت في منتهى الأهميَّة لنشأة النهضة في أوروبا الغربيَّة، انتقلت عبر العالم الإسلامي، وقد لعب محمد الثاني بشغفه للمعرفة دورًا في هذا الانتقال. أكثر من هذا كان تقدير العمليَّة التعليميَّة، وتبادل العلماء بين الشرق والغرب حيويًّا للنهضة»[119].
فالمفكر الإنجليزي هنا يضع أيدينا على ثلاث إضافات للفاتح كانت إحدى أسباب النهضة الأوروبِّيَّة؛ الإضافة الأولى كانت ترجمة الكتب القديمة، والثانية تقدير العمليَّة التعليميَّة والمكافأة عليها، والإضافة الثالثة كانت تبادل العلماء بين الشرق والغرب ممَّا نفع كليهما بلا شك.
وفي الاتِّجاه نفسه يتحدَّث مفكر إنجليزي آخر هو چيرالد ماكلين Gerald Maclean، وهو أستاذٌ بجامعة إكستير Exeter بإنجلترا، فيقول: «منذ زمن محمد الفاتح والبلاط العثماني في إسطنبول متَّصلٌ بالبلاطات العظيمة في أوروبا في علاقةٍ تنافسيَّةٍ حضاريَّة، التي ربطت بشكلٍ وثيقٍ بين رعاية الفنون وعرضها وبين الاتِّفاقيَّات التجاريَّة، والمناورات السياسيَّة»[120].
الذي يقصده ماكلين في هذا التعليق هو محاولة كلِّ طرفٍ في أن يعلو على الطرف الآخر في جانب الحضارة ورعاية الفنون في علاقةٍ تنافسيَّةٍ واضحة، وأنَّ هذا كان يُستخدَم في العلاقات التجاريَّة، وفي السياسة كذلك، ولكنَّه في النهاية أسهمَ في النهضة ورعايتها.
ولم يكن الفاتح مهتمًّا بالجوانب العلميَّة عند كبار العلماء والفنَّانين فقط؛ إنَّما ذهب إلى أبعد من ذلك، واهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بأطفال الدولة العثمانيَّة، وخاصَّةً الموهوبين منهم، بحيث يُمكن أن ينشأ هؤلاء نشأةً علميَّةً صحيحةً تضمن لمستقبل الدولة الازدهار والنمو.
زادت المدارس الابتدائية بشكلٍ لافتٍ للنظر في عهد محمد الفاتح، وقُسِّمت إلى مستويات للتفرقة بين المدرسة والأخرى[121]، ويختلف العلماء في نوعيَّة المستويات وأسمائها، وهل وُضِعت هذه التسميات في عهد الفاتح أم في عهد سليمان القانوني، ولكن الأغلب أنَّها وُضِعت في زمن الفاتح، وطُوِّرَت بعد ذلك في عهد سليمان القانوني[122]، وعمومًا فإنَّ المحطَّة الأخيرة في هذا الترتيب هي دخول كلِّيَّات الفاتح الثمانية، وهذا يدعم أنَّ هذا النظام تكوَّن في عهد الفاتح. كان هذا النظام يتكوَّن من مدارس خارجيَّة، وهي المدارس الابتدائية الأولى، ومدارس داخليَّة، وهي المدارس الأعلى، وكانت الخارجيَّة بدورها تنقسم إلى عدَّة فئات؛ فأولها هي مدارس العشرين، التي يتقاضى فيها المدرس عشرين آقجة يوميًّا، ثم مدارس الثلاثين، فالأربعين، ثم أخيرًا الخمسين، وكلها مرتبطة في تسميَّاتها براتب المدرِّس، وهذا يُحدد أمرين: الأوَّل هو درجة المدرسة، فلا يدخل الطالب مدرسةً إلَّا إذا انتهى من التي قبلها، والثاني هي درجة المدرس نفسه؛ لأنَّ هذا يُحدِّد التسلسل الوظيفي للمدرس وانتقاله من مستوًى إلى آخر، ثم تأتي بعد ذلك المدارس الداخليَّة، وهي ثلاثة مستويات: الابتدائية، والإعداديَّة، والتعليم العالي[123]، ويُؤكِّد المؤرِّخ الإنجليزي ريتشارد رِب Richard Repp على أنَّه قبل الفاتح لم تكن هذه التسلسلات في نظام المدارس معروفة، ثم ساق عدَّة أدلَّةٍ تاريخيَّة تُؤكِّد حدوث هذا التسلسل في زمن الفاتح رحمه الله[124]. في نهاية المطاف، فإن مَنْ ينهي مدارس التعليم العالي يُمكن له أن يدخل المدارس الثمانية الأولى التابعة لكلِّيَّات الفاتح، ثم بعدها يُمكن دخول كلِّيَّات الفاتح كمرحلةٍ أخيرةٍ من مراحل التعليم[125].
هذا التسلسل الرائع كان النواة للعمليَّة التعليميَّة في الدولة العثمانيَّة لعدَّة قرونٍ بعد ذلك، والجدير بالذكر أنَّ المنهج العلمي الذي كان يُدرَّس في كلِّ مرحلةٍ من هذه المراحل كان معروفًا ومتَّفقًا عليه، ومتابعًا من قِبَل الحكومة[126].
وقبل أن نترك الحديث عن هذه العمليَّة التعليميَّة الراقية نُشير إلى إضافةٍ جديدةٍ من إضافات الفاتح في هذا المجال وهو «مدرسة القصر» «Palace School»، والواقع أنَّ مدرسة القصر قد وُجِدت في زمن مراد الثاني والد محمد الفاتح[127]، ولكن يرجع الفضل لمحمد الفاتح في توجيه هذه المدرسة لتخريج نوعيَّةٍ خاصَّةٍ جدًّا من الطلبة يُمكن لها أن تتولَّى مناصب الدولة الكبرى مستقبلًا، وكانت هذه المدرسة جزءًا من قصر توب كابي، وتحديدًا في الجناح الثالث منه[128]، وهناك تفصيلاتٌ كثيرةٌ جدًّا عن طريقة التدريس في هذه المدارس، ومنهجها، والاهتمام بها، وطريقة اختيار الطلبة فيها، وطرق تقويمهم، ووضعهم في المناصب التي تُناسبهم، وسأكتفي هنا بذكر ما ذكره القسُّ الإنجليزي كينيث كراج Kenneth Cragg وهو يصف بإعجاب طبيعة هذه المدرسة، ودور الفاتح في تطويرها..
يقول كراج: «واحدةٌ من الفوائد المهمَّة لحكم محمد الثاني كانت التوسعة العريضة لمدرسة القصر، كانت الحكومة المتنامية في الاتِّساع تحتاج بشكلٍ كبيرٍ إلى قياداتٍ إداريَّةٍ متميِّزة، ولمواجهة هذه المشكلة كانت الحكومة تختار الأطفال من سنِّ العاشرة إلى سنِّ الرابعة عشر من كلِّ مكانٍ في الإمبراطوريَّة، وبعد مسحٍ دقيقٍ لهم، يُعطى هؤلاء تربيةً وتعليمًا مدَّتة من عشرة أعوام إلى اثني عشر عامًا. كان منهج مدرسة القصر يشمل تعليم اللغات، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم، والرياضيَّات، والخدمات العسكريَّة، والقانون، والدين، واللياقة البدنيَّة، والتدريبات اليدويَّة، والسلوك الشخصي. كان خريجو هذه المدرسة مؤهَّلين لشغل المراكز القياديَّة المتعدِّدة في كلِّ أنحاء الإمبراطوريَّة، ولأنَّهم قَدِموا من كلِّ جزءٍ من أجزاء الإمبراطوريَّة كانوا مناسبين بلغاتهم وثقافاتهم للعودة إلى أماكن ولادتهم لخدمة الأمَّة التي أهَّلتهم بعنايةٍ لهذه المهمَّة (أي الأمَّة العثمانيَّة). كانت نوعيَّة هذه الكوادر القيادية -والكلام للقس الإنجليزي- قادرةً على تعزيز كفاءة الأمَّة لمدَّة مائة سنة قادمة»[129]!
لقد كان الفاتح يعمل على تطوير ونموِّ إمبراطوريَّته بطريقةٍ علميَّةٍ راسخة، ولم يكن هذا التطوير يهدف لقوَّتها عقد أو عقدين، أو حتى لكلِّ المدَّة التي سيحكمها الفاتح نفسه؛ إنَّما كان يهدف لدعم ثبات الإمبراطوريَّة قويَّةً لعدَّة قرون مستقبليَّة، وهذا هو الإنجاز الذي لا يُمكن أن يُنسى؛ فكثيرٌ من القادة والملوك كانوا عظماء في إدارتهم وقيادتهم، ولكن عظمتهم كانت محدودة بوجودهم، ومرتبطة بحياتهم، فإذا ماتوا اندثرت أعمالهم، وانهارت إمبراطوريَّتهم، أمَّا أن تقوم بأعمالٍ يبقى أثرها لأجيالٍ تالية كثيرة فهذه هي العظمة الحقيقيَّة. يقول المفكِّر الأميركي ديڤيد دامروش David Damrosch، والأستاذ بجامعة هارفارد: «في الواقع كان محمد الفاتح هو الذي رسَّخ الشخصيَّة المتميِّزة للإمبراطوريَّة العثمانيَّة، التي ظلَّت غير مهتزَّة لمدَّة أربعة قرون»[130]. وجاء في الموسوعة البريطانيَّة: «في الواقع لقد وضع محمد الثاني الأساس للحكم العثماني في الأناضول وجنوب شرق أوروبا، الذي سيعيش للقرون الأربعة القادمة»[131]. ويقول المؤرِّخ التركي أكمل الدين إحسان أوغلو Ekmeleddin İhsanoğlu: «خلال فترة حكم محمد الثاني صارت سياسات الدولة العثمانيَّة في شمالها، وجنوبها، وشرقها، وغربها واضحة، واستمرَّ هذا النهج لعدَّة قرون[132]، أمَّا المؤرِّخة الأميركيَّة شيلا بلير Sheila Blair فتقول: «كان العمل الحقيقي لمحمد الثاني أنَّه خلق نظامًا للحكومة استمرَّ مع تغييرٍ يسيرٍ لمدَّة تزيد على القرن، وشكَّل المـُثُل السياسيَّة العثمانيَّة إلى منتصف القرن التاسع عشر»[133].
لم تكن هذه الشهادات التي ذكرناها إلَّا أمثلةً لشهاداتٍ أخرى كثيرة يُؤكِّد فيها العلماء والمؤرِّخون على استمراريَّة عمل الفاتح بعد وفاته لعدَّة قرون، فهذا هو الأثر المجيد حقًّا.
***
وكانت شموليَّة الفاتح في قيادة دولته واهتمامه بالتوازن بين المجالات المختلفة، يدفعانه إلى الاهتمام بأمورٍ يعجب منها قرَّاء سيرته، ويعجب منها بصورةٍ أكبر معاصروه، الذين لم يكونوا قادرين على استيعاب أعماله في هذه الفترة الزمنيَّة المتقدِّمة في عمر البشريَّة.
كمثال على هذا الكلام اهتمام الفاتح رحمه الله بالحفاظ على البيئة!
إنَّ الحديث عن الحفاظ على البيئة قد يستغربه بعضهم في زماننا المعاصر، فكيف به في هذا الوقت المتقدِّم الذي نتحدَّث عنه؟!
يقول الدكتور الكندي فيكرت بيركس Fikret Berkes، وهو من كبار العلماء المتخصِّصين في بحوث المياه والمصادر الطبيعيَّة، في توصيفه لفكرة الحفاظ على البيئة في العصور الوسطى: «كانت رؤية الغربيِّين للإنسان على أنَّه خُلِق ليُسيطر على الطبيعة ويستخدمها وفق إرادته دافعةً لهم لاستغلال وتعديل النظام البيئي. هذه الرؤية بدأت في التغيير تدريجيًّا بدايةً من منتصف القرن التاسع عشر... ومع ذلك فهناك مجتمعات قديمة قدَّمت أنظمة للحفاظ على البيئة متوافقة مع النظريَّات المعاصرة في هذا الشأن»[134]، ثم ضرب الدكتور بيركس ثلاثة أمثلة على المجتمعات التي حافظت على بيئتها في العصور المتقدِّمة فكان هناك مثال من سويسرا، وآخر من اليابان، أمَّا الثالث فكان محمد الفاتح!
يقول الدكتور فيكرت بيركس: «أسَّس السلطان محمد الثاني النظمَ التي تُحافظ على مستجمعات المياه والأمطار (Watershed)، التي توجد في أحواض الأنهار التي تُغذِّي القسطنطينية، وذلك مثل منع الرعي الجائر، ومنع قطع الأشجار، كما حرصَ على استقرار ضفاف النهر، وإعادة الغطاء النباتي في مناطق مستجمعات المياه»[135]!
آخر ما أذكره بخصوص هذه الشموليَّة الرائعة في حياة الفاتح هو أنَّ اهتمام الفاتح بالأمور الجادَّة، مثل الأمور السياسيَّة، والعسكريَّة، والاقتصاديَّة، والعلميَّة، والدينيَّة، وغير ذلك من الأمور التي لا تقوم الحضارات إلَّا بها.. هذا الاهتمام بكلِّ هذه الجوانب الجادَّة لم يمنع الفاتح من الاهتمام بالنواحي الترفيهيَّة والجماليَّة في دولته؛ فلقد حرص على تجميل الإمبراطوريَّة ماديًّا ومعنويًّا في توازنٍ رائعٍ يُنبئ عن شخصيَّةٍ مرهفة، ومشاعر فيَّاضة..
مرَّ بنا أنَّ الفاتح حرص على تجميل قصر توب كابي على أعلى مستوى إلى الدرجة التي استدعى فيها الفنَّان الإيطالي چنتيل بلليني ليقوم بأعمال التجميل وفق أحدث المعايير الأوروبِّيَّة آنذاك، ونُضيف إلى ذلك بعض الأمور اللطيفة!
يصف المؤرِّخ اليوناني المعاصر للفاتح كريتوبولوس الحدائق التي أنشأها الفاتح حول قصر توب كابي بقوله: «صُمِّمت حدائقُ كبيرةٌ جدًّا وفي غاية الجمال حول القصر تذخر بأنواعٍ متعدِّدةٍ من النباتات والأشجار، وتُنتِج فاكهةً جميلة، وكانت مجاري المياه في الحدائق وفيرةً جدًّا، وكان بها مياه باردة، ونقيَّة، وصالحة للشرب، وكذلك بساتين ومروج واضحة. إلى جانب ذلك كانت هناك أسراب من الطيور، سواء من الطيور الداجنة، أم الطيور التي تُغنِّي، فكان تغريدها وزقزقتها تُسمع في كل مكان. وكانت هناك أنواعٌ مختلفةٌ من الحيوانات، بعضها أليف، وآخر بري يأكل هنا وهناك. أيضًا كانت هناك زخارف من أنواع متعدِّدة من التي يعتقد السلطان محمد الثاني أنَّها تجلب الجمال، والسعادة، والمتعة؛ لقد عَمِلَ السلطان كلَّ هذا بوفرة وعظمة بالغتين»[136]!
هل هناك أجمل من هذا التصوير؟!
لقد كان من الممكن أن يعتقد بعض القرَّاء أنَّ هذا انشغال بهذه المتع عن الواجبات المهمَّة للحاكم وللإنسان بشكلٍ عامٍّ في الدنيا، لولا أنَّنا ذكرنا ذلك بعد أن استعرضنا الجهود المضنية التي بذلها الفاتح في الجهاد، والبناء، والتعمير، والإصلاح، والعلم، وكافَّة وجوه العمل الجاد، فوضح لنا التوازن الرائع في حياته رحمه الله.
وعندما أراد الفاتح رحمه الله أن يبني مسجده بالقسطنطينية اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بتصميمه المعماري والجمالي، وقد وصف المؤرِّخ التركي طورسون بك البناء بقوله: «لقد جمع هذا المسجد كلَّ الفنون الموجودة في آيا صُوفيا، ولكنَّه ازداد ثراءً بأحدث التطويرات المتنمِّقة، التي لا تُضاهى في جمالها»[137].
ويُبدي عالم الاجتماع الفرنسي الكبير ميشيل كونان Michel Conan، والمتخصِّص في تاريخ المجتمعات، وخاصَّةً تاريخ وتطوُّر الحدائق، يُبدي إعجابه بالسلطان الفاتح فيقول: «بعد فتح القسطنطينية أمر الفاتح بإنشاء حديقة على البقعة التي كان يعسكر عليها أثناء حصار المدينة. بأمره زُرِعت اثنا عشر ألف شجرة صنوبر، بطريقةٍ جماليَّةٍ تُشبه رقعة الشطرنج، ولقد زرع السلطان بنفسه سبعًا من هذه الأشجار»[138]!
ويقول المؤرِّخ الأميركي هارولد كوك Harold Cook: «تُعَدُّ أكثر الحدائق اللافتة للنظر في العصور الوسطى تلك التي وُجِدَت في العالم الإسلامي، وخاصَّةً في فارس مثل أصفهان، والأندلس مثل قرطبة وغرناطة، وفي الإمبراطوريَّة العثمانيَّة بعد فتح القسطنطينية. لقد بنى السلطان محمد الثاني قصر توب كابي على أحد التلال السبعة بالمدينة، ولقد ضمَّ هذا القصر اثنتي عشرة حديقةً كاملة»[139].
أمَّا المؤلِّف الأميركي چيمس تويتشيل James Twitchell فيقول: «زُرِعت زهور التيوليب أوَّل مرَّة في حدائق السلطان محمد الثاني، وفي عهد سليمان القانوني أعطى سفير النمسا لدى الدولة العثمانيَّة بعض بذورها لأحد علماء النباتات النمساويِّين اسمه كارلوس كلوسيوس Carolus Clusius، الذي نجح في زراعتها في التربة الرطبة عند بحر الشمال في هولندا»[140]، ويهتمُّ الأوروبيُّون بشكلٍ خاصٍّ بزهرة التيوليب لرومانسيَّتها، ولذلك لا يتردَّد المؤرِّخ الأميركي دونالد كواترت Donald Quataert في أن يقول إنَّ إحدى إضافات الدولة العثمانيَّة لأوروبا هي تعريفها بزهرة التيوليب[141]!
وكان الفاتح مهتمًّا بتزيين قصره من الداخل بصورةٍ غير تقليديَّةٍ تُدخل السرور على الناظر إليها، ومن هذا مثلًا تزيينه للقصر بسجَّادةٍ كبيرةٍ رُسِمَت عليها خريطة بطليموس للعالَم بعد أن جمَّعها الجغرافي البيزنطي أميروتزيس[142].
لكلِّ هذه الاعتبارات يصفه المؤرِّخ الأميركي لويس ميتلر Louis Mitler بأنَّه كان من أمراء النهضة المثقَّفين، وكان راعيًا للفنون والآداب، وكان مُلمًّا باللغات والحضارة الغربيَّة[143]، ولهذا أيضًا عندما أراد سيجيسموندو مالاتيستا Sigismondo Malatesta -وهو أمير مقاطعة ريميني Rimini الإيطاليَّة- أن يتقرَّب إلى السلطان محمد الفاتح عام 1461م لأجل عدائه مع البندقية، أرسل رسالة توقيرٍ للفاتح يمدح فيها حملاته العسكريَّة، ويُشبِّهه بالإسكندر الأكبر، لكنَّ اللافت للنظر أنَّه أرسل هذه الرسالة مع فنَّان ونحَّات إيطالي شهير، وهو ماتيو دي باستي Matteo de' Pasti[144]، وذلك لعلمه أنَّ هذا الفنان يُمكن أن يتقرَّب بشكلٍ أفضل إلى الفاتح بحكم حبِّه للفنون والحضارة، وليس هذا فقط؛ إنَّما أرسل الأمير الإيطالي مع فنَّانه خريطةً كبيرةً دقيقةً للبحر الأدرياتيكي وكامل إيطاليا، وذلك لعلمه بحبِّ الفاتح لهذه الخرائط واللوحات[145]، وبينما كان ماتيو دي باستي في طريقه للقسطنطينية استطاع أسطول البندقية أن يُلقي القبض عليه، ويقوم بترحيله إلى البندقية، وبعد تحقيقٍ طويلٍ أُطلق سراحه[146]، وبشكلٍ أو آخر وصل الفنَّان الإيطالي مرَّةً أخرى إلى إسطنبول، ونحت ميدالية عليها صورة الفاتح، وهي موجودةٌ الآن بمتحف اللوفر بباريس[147]، وتذكر بعض المصادر أنَّ الفنَّان الإيطالي كان يحمل معه في الزيارة الأولى كتابًا ثمينًا عن الحروب الرومانيَّة اسمه «بخصوص المسائل العسكريَّة» «De re militari» للمؤلِّف الإيطالي ڤيچيتيوس Vegetius، وهو من علماء القرن الخامس الميلادي، ولكن قامت البندقية بمصادرة الكتاب، ومع ذلك فقد استطاع الفاتح أن يحصل على نسخةٍ أخرى من الكتاب القيِّم، وقد أرسلها له أحد علماء العسكريَّة الإيطاليِّين وهو روبرتس ڤالتورياس Robertus Valturius من ريميني أيضًا، وكانت هذه النسخة مطبوعة بالطباعة الحديثة في ڤيرونا Verona، وهي موجودةٌ الآن في متحف توب كابي[148].
إنَّه اهتمامٌ غزيرٌ بالفنون، وبالآداب، والعلوم، والجمال!.
وتذكر بعض المصادر كذلك أنَّ ملك نابولي فرديناند الأول أرسل هو الآخر للسلطان الفاتح أحد الفنَّانين الإيطاليِّين من فيرارا Ferrara، وهو النحَّات كوستانزو Costanzo، الذي صنع ميدالية عليها صورة الفاتح، وكان ذلك في عام 1478م؛ أي قبل احتدام الصراع بين الفاتح والملك الإيطالي[149].
ولم يكتفِ الفاتح بالعلماء والفنانين الإيطاليين والأوروبيين الذين يأتون إلى دولته، إنما اجتهد في إرسال بعض العثمانيين المسلمين إلى أوروبا في صورة بعثة علمية، وذلك لتعلم بعض الفنون التي لا يتقنها العثمانيون، فعلى سبيل المثال أرسل الفاتح أحد الرسامين العثمانيين، وهو سنان بك، إلى إيطاليا للوقوف على اتجاهات التصوير هناك، وبعد مدة عاد الفنان العثماني وقد أتقن الكثير من الطرق الإيطالية في الرسم، ولهذا الفنان لوحات محفوظة في متحف توب كابي، منها واحدة للسلطان الفاتح وفي إحدى يديه زهرة[150]!
هذه اهتماماتٌ كبيرةٌ من الفاتح بالفنون الجماليَّة المادِّيَّة من حدائق، وتشجير، وزخرفة، ورسم، ونحت، وغير ذلك من فنون وإبداعات..
وكان له كذلك اهتمامٌ بالنواحي الجماليَّة المعنويَّة؛ فقد كانت له -على الرغم من عسكريَّته وحروبه- مشاعر مرهفة حسَّاسة تتأثَّر بالشعر والأدب، وتهفو إلى سماعه، بل إلى تأليفه وإلقائه!
يقول المؤرِّخ الأميركي إيرا لابيدوس Ira Lapidus: «كان محمد الثاني راعيًا حرًّا للفنون، تعهَّد الشعر الفارسي، والرسم الأوروبي، وكان الأدباء العرب والفرس، والرسَّامون الإيطاليُّون، والشعراء اليونانيُّون والصربيُّون، مرحَّبًا بهم في بلاطه»[151].
ويقول عاشق چلبي في كتابه: «كان السلطان محمد الفاتح أوَّل من رتَّب من بين السلاطين العثمانيِّين ديوانًا فيه أجمل الغزليات، والقصائد، والقطع الشعريَّة»[152]، وكان الفاتح يكتب شعره تحت اسم «عوني» Avni، وهو أول سلطان في الدولة العثمانية يكتب شعره تحت اسم مستعار[153]، ويضم ديوانه حوالي ثمانين قصيدة باللغة التركية[154].
ويصف المؤرِّخ والشاعر التركي سوت يتكين Suut Yetkin الحياة الأدبيَّة في فترة الفاتح وابنه بايزيد الثاني بقوله: «كان محمد الثاني، وابنه بايزيد الثاني، ومعظم رجال الدولة في عهدهما، على درجةٍ عاليةٍ من الثقافة، ولهذا كانوا مسئولين عن افتتاح تلك الفترة المتألِّقة في تاريخ الأدب في تركيا (يقصد افتتاح القرن السادس عشر، الذي يُعَدُّ أزهى عصور الدولة العثمانيَّة في النواحي الأدبيَّة). كانت إسطنبول مليئةً بالشعراء، الذين يُمكن أن نذكر منهم أحمد بَاشا، والمتوفَّى عام 1486م، الذي كان عالمـًا مشهورًا كذلك»[155].
وكان الفاتح معجبًا جدًّا باللغة الفارسية، ويرى أنها مناسبة جدًّا لمعاني الشعر الرقيقة، ولذلك فقد عَهِدَ إلى الشاعر شهدي أن ينظم باللغة الفارسية قصيدة تصوِّر التاريخ العثماني، على غرار الشاهنامة للفردوسي[156]، وهو بذلك يحقق فائدتين: إثراء الحركة الشعرية والأدبية في الدولة، وتدوين وقائع التاريخ العثماني وحفظها. وكان الفاتح شديد التأثر بالشعر، ولقد نظم شاعر إيطالي اسمه فيليلف Philelphe قصيدة باللاتينية يلتمس فيها إطلاق نسوة من أقاربه وقعن في أسر الجيش العثماني، فأمر السلطان من فوره بإطلاق النساء دون فدية[157]، وهذا الاهتمام بالشعر دفع الفاتح إلى الاحتفاظ في بلاطه بثلاثين شاعرًا يتناول كل منهم راتبًا شهريًّا ثابتًا ألف آقجة[158].
ومن الأمور العجيبة في عصر السلطان الفاتح ظهور الشاعرات التركيَّات لأوَّل مرَّة! فقد ظهرت الشاعرة زينب خاتون كأوَّل شاعرةٍ تنظم الشعر التركي، وكذلك ظهرت ميهري خاتون، وهي شاعرةٌ متمكِّنةٌ كذلك، وهذا يدلُّنا على مدى انتشار الثقافة والتعليم في عهد الفاتح، خاصَّةً أنَّه كان على علم بهاتين الشاعرتين.
يقول المؤرِّخ الأميركي چون فريلي John Freely: «كتبت زينب خاتون ديوانًا باللغتين التركيَّة والفارسيَّة أهدته إلى السلطان الفاتح، أمَّا ميهري خاتون فكانت تُلقَّب بـ«صافو العثمانيِّين» Sappho of the Ottomans، وكانت تكتب قصائد الحب العذري»[159].
وصافو هي إحدى أشهر الشاعرات الإغريقيَّات، وعاشت قبل الميلاد بقرون، وكانت متمكِّنة للغاية، ومشهورة بكتابة شعر الحب العذري[160]، ولعلَّ هذا هو السبب في مقارنة ميهري خاتون بها.
أمَّا المجال الأخير الذي سنتناوله في إطار حديثنا عن شموليَّة الفاتح، وتوازنه في إدارة دولته، فهو اهتمامه رحمه الله بمجال الرياضة!
من أشهر الرياضات التي كانت منتشرة في المجتمع العثماني كانت رياضة الرماية، ومع أنَّ الرماية بالقوس والسهم كانت موجودة في عهد السلاطين العثمانيِّين الأوائل، فإنَّ الفضل يرجع إلى السلطان الفاتح في إنشاء أوَّل ميدان رماية في الدولة، وكان في إسطنبول، وكانت تُقام فيه المسابقات الرسميَّة، وكانت هناك مسابقة كبرى تعقد في يوم عيد الفطر، ويصطف جمهور كبير لمشاهدة هذه المسابقة[161].
وكان محمَّد الفاتح مهتمًّا على وجه الخصوص برياضة الطلبة في مدرسة القصر، فكانوا يمارسون تمارين اللياقة البدنيَّة، والتمارين الرياضيَّة على الأقدام، وكذلك على ظهور الخيل، ليزيد ذلك من قوَّتهم، ورشاقتهم، وكان الطلبة بشكلٍ عامٍّ خبراء في رمي السهام، وفي المبارزة بالسيف، وفي رمي الرمح، وفي ركوب الخيل[162].
أمَّا رياضة صيد الحيوانات البرِّيَّة والطيور فكانت مهمَّة للغاية، وخاصَّة لأمَّة تعيش كلَّ هذه المعارك، ويتدرَّب أفرادها على الرماية والجهاد؛ لأنَّ الصيد في الغابات لا يُوفِّر فقط مهارة التصويب، ودقَّة إصابة الهدف؛ إنَّما يُوفِّر كذلك القدرة على ترك الديار وراحتها، والعيش في ظروف بيئيَّة صعبة. وليس هذا فقط بل يُضيف المؤرِّخ الإنجليزي جيريمي بلاك Jeremy Black بُعدًا نفسيًّا مهمًّا يُفسِّر تكرار مشاهدة الملوك والأمراء والنبلاء في أوروبا كلِّها يُمارسون رياضة الصيد في البرية، مع خطورتها الشديدة، وشظف العيش فيها..
يقول جيريمي بلاك: «لم يكن الصيد مجرَّد قيادة حيوان للذبح، ولكنَّه كان رمزًا للقتال في شجاعة مع التأكيد على المخاطر، وتبرز اللوحات الفنِّيَّة التي تُسجِّل عمليَّة الصيد قصَّة الوحوش الضارية وهي تُهدِّد النبلاء الذين يقومون بعمليَّة الصيد، وتُصبح في النهاية تصويرًا لملوك الإنسان وهم ينتصرون على زعماء المملكة الحيوانيَّة، وهذه هي المعركة التي لا تظهر فيها شجاعة النبيل فقط؛ إنَّما تظهر كذلك قوَّة تَحَكُّمه في أعصابه، وقيادته المثاليَّة، وهي العوامل التي قادت إلى النصر»[163].
نعم.. لهذه الأسباب قلَّ أن تجد نبيلًا أو أميرًا لا يُمارس الصيد في هذه الحقبة، بل قلَّ أن تجد هؤلاء النبلاء لا يحرصون على اقتناء لوحاتٍ زيتيَّة، أو أحيانًا تماثيل منحوتة، تُبرز عمليَّة الصيد ونجاحها..
ولم يكن الفاتح بعيدًا عن هذه الصورة!
كان الفاتح يذهب إلى الصيد في مناطق خاصَّة شمال مدينة أدرنة، وكان يقضي هناك عدَّة أيَّامٍ في أحد البيوت الخشبيَّة التي بناها جدُّه مراد الأول منذ زمن، وأحيانًا كانت تطول به المدَّة عن ذلك، وكانت أعمال الدولة الإداريَّة التي تحتاج السلطان تتمُّ في هذا المكان، حتى عَدَّ بعضهم أنَّ عمليَّة الصيد هي جزءٌ من الواجبات الضروريَّة التي يقوم بها السلطان، ومِنْ ثَمَّ تأتي له الرسل، والوزراء، والقادة، في هذا المكان لئلَّا تتأخَّر أعمال الدولة[164].
وكما كان نبلاء أوروبا وأمراؤها يحتفظون بلوحاتٍ فنيَّةٍ تُسجِّل عمليَّات الصيد وخطورتها، كان الفاتح أيضًا يحتفظ بلوحةٍ فنِّيَّةٍ تبُرز عمليَّة الصيد في أدرنة[165].
ومع أهميَّة عمليَّة الصيد من هذا المنظور الذي ذكرناه لم يكن الفاتح مسرفًا فيه، بل كان يكره أن يتخصَّص رجالٌ من الجيش أو الدولة في هذه العمليَّة، ويَعُدُّونها وظيفةً لهم مدى الحياة؛ إنَّما كان يرى أنَّها هواية يُمكن أن تُصْرَف فيها بعض الأوقات، وينبغي ألَّا تُقضى فيها الأعمار.. إنَّها رؤيةٌ عميقةٌ للغاية.. لذلك سرَّح الفاتح حاشيةً كاملةً كانت تضمُّ سبعة آلاف رجلٍ ممَّن كانوا يعملون في الصيد بالصقور، ووجَّه فريقًا منهم إلى العمل كجنود في الجيش[166]. لم يقم الفاتح بتسريحهم من أجل أنَّهم لا يعملون إلَّا في أوقاتٍ معيَّنةٍ فقط خلال العام؛ ولكن لأجل أنَّه لا ينبغي لرجلٍ صالحٍ أن يفني عمره في مثل هذا الترفيه، فنحن أمَّةٌ جادَّةٌ فيها شيءٌ من اللهو واللعب الحلال من أجل الترويح، ولسنا أمَّةً لاهيةً تقوم ببعض الأعمال الجادَّة في بعض فترات حياتها.
هذا هو توازن الفاتح رحمه الله وشموليَّة فكره..
توازنٌ بين أعمال الآخرة، وأعمال الدنيا..
توازنٌ بين الجهاد والسياسة، وبين الاقتصاد، والتعليم، والصحة، وغير ذلك..
توازنٌ بين علوم الشريعة، وعلوم الحياة..
توازنٌ بين الجدِّ والترفيه..
إنَّها ليست حياة رجلٍ عسكريٍّ انقطع عن كلِّ شيءٍ إلَّا الجهاد؛ إنَّما هي حياة رجلٍ يفهم كيف يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فكان نموذجًا يُحتذى..
يُلخِّص كلَّ ما ذكرناه المؤرِّخ الكندي بول جريندلر Paul Grendler وهو يصف الفاتح بقوله: «إنَّ الأهمِّيَّة التاريخيَّة لمحمد الثاني مبنيَّة على أعماله الداخليَّة وسياساته كما هي مبنيَّة على إنجازاته العسكريَّة سواءً بسواء»[167]![168].
[1] Wittek Paul The Rise of the Ottoman [Book]. - London, UK : Routledge, 2012, pp. 122-123.
[2] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 2/665.
[3] Faroqhi Suraiya The Ottoman Empire: a short history [Book] / trans. Frisch Shelley Laura. - Princeton, New Jersey, USA : Markus Wiener Publishers, 2008, p. 43.
[4] أوزتونا، 1988م صفحة 2/683.
[5] أوزتونا، 1988م صفحة 2/717.
[6] أوزتونا، 1988م صفحة 2/750.
[7] Maclagan Michael The City of Constantinople [Book]. - Santa Barbara, CA, USA : Praeger Publishing, 1968, p. 189.
[8] Babinger, 1978, p. 464.
[9] Chen Wai-Fah and Duan Lian Handbook of International Bridge Engineering [Book]. - New York, USA : CRC Press, 2014, p. 278.
[10] محمد حمزة إسماعيل الحداد العمارة الإسلامية في أوروبا العثمانية- الكويت : مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، 1423هـ = 2002م، 2002م صفحة 1/259.
[11] Donia Robert J. Sarajevo: A Biograph [Book]. - Michigan, USA : University of Michigan Press, 2006, p.17.
[12] Pepper Simon Body, Diagram, and Geometry in the Renaissance Fortress [Book Section] // Body and Building: Essays on the Changing Relation of Body and Architecture / book auth. Dodds George and Tavernor Robert. - Cambridge, MA, USA : MIT Press, 2002, p. 123.
[13] Yurdusev Nuri A Ottoman Diplomacy: Conventional or Unconventional [Book]. - NewYork, USA : Palgrave Macmillan, 2004, p. 45.
[14] Finkel Caroline Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923 [Book]. - London UK : John Murray, 2005, pp. 128-129.
[15] İnalcık Halil and Quataert Donald An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300-1600 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press., 1994, vol. 1, p. 273.
[16] Cezar Mustafa Typical Commercial Buildings of the ottoman Classical Period and the ottoman construction system [Book]. - Istanbul : Turkiye Is Bankasi Cultural Publications, 1983, pp. 174-185.
[17] ناظم إينتبه مراكز النشاط الاقتصادي في الدولة العثمانية، ترجمة: أورخان محمد علي [مقالة] // مجلة حراء. ، 2017م صفحة 34.
[18] محمود السيد الدغيم المعمار العثماني في عهد محمد الفاتح: أبنية مدارس وأسواق [مقالة] // صحيفة الحياة، 2007م صفحة 21.
[19] Cezar, 1983, pp. 174-185.
[20] الحداد، 2002م، صفحة 1/263.
[21] الدغيم، 2007م صفحة 21.
[22] Cezar, 1983, pp. 192-194.
[23] الدغيم، 2007م صفحة 21.
[24] Pamuk Sevket A Monetary History of the Ottoman Empire [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2000, p. 241.
[25] Wickham Chris Medieval Europe [Book]. - London, UK : Yale University Press, 2016, p. 136.
[26] Cook M. A, studies in the economic history of the middle east [Book]. - London, UK : Routledge, 2015, p. 240.
[27] Howard Douglas A A History of the Ottoman Empire [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2017, p. 75.
[28] مباهات كوتوك أوغلي النظام المالي عند العثمانيين [مقطع من كتاب] // الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، نقله إلى العربية: صالح سعداوي / مؤلف الكتاب أكمل الدين إحسان أوغلي. - إستانبول : مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م صفحة، 1/627.
[29] İnalcık, et al., 1994, vol. 1, p. 127.
[30] أحمد آق كوندز و سعيد أوزتورك الدولة العثمانية المجهولة- إستانبول : وقف البحوث العثمانية، 2008م صفحة 187.
[31] محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الرهوني، عبد الباقي الزرقاني و محمد بن المدني كنون حاشية الإمام الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل وبهامشه حاشية المدني علي كنون- بولاق - مصر : المطبعة الأميرية، 1889م صفحة 7/131.
[32] الحصكفي: الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار، تحقيق: عبد المنعم خليل إبراهيم- بيروت - لبنان : دار الكتب العلمية، 2002م صفحة 340.
[33] ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار- بيروت - لبنان : دار الفكر، 1992م صفحة 4/195.
[34] قال ابن عابدين عن وقف السلطان من بيت المال: «بَعْدَمَا عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا عَلَى مَا كَانَتْ فَيَكُونُ وَقْفُهَا إِرْصَادًا وَهُوَ مَا يُفْرِزُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيُعَيِّنُهُ لِمُسْتَحِقِّيهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى وُصُولِهِمْ إلَى بَعْضِ حَقِّهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَتَجُوزُ مُخَالَفَةُ شَرْطِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُصُولُ الْمُسْتَحِقِّ إلَى حَقِّهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ مُفْتِي دَارِ السَّلْطَنَةِ: إنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ لَا يُرَاعَى شَرْطُهَا لِأَنَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ». ابن عابدين، 1992م صفحة 4/437.
[35] وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية -الكويت، 1983م صفحة 3/107.
[36] طوباش: العثمانيون – رجالهم العظام ومؤسساتهم الشامخة، مراجعة وتصحيح: محمد أوقومش/ المترجمون محمد حرب- إستانبول: دار الأرقم، 2013م صفحة 597.
[37] İnalcık, et al., 1994, vol. 1, p. 127.
[38] Howard, 2017, p. 75.
[39] Pamuk, 2000, p. 40.
[40] Imber Colin The Ottoman Empire 1300-1650 The Structure of Power [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 2009, p. 248.
[41] Howard, 2017, p. 75.
[42] Pamuk, 2000, p. 40.
[43] Tezcan Baki The Second Ottoman Empire: Political and Social Transformation in the Early Modern World [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2010, p. 89.
[44] Imber, 2009, p. 248.
[45] Pamuk, 2000, p. 42.
[46] Emiralioglu Pinar Geographical Knowledge and Imperial Culture in the Early Modern Ottoman Empire [Book]. - Surrey, England : Ashgate publishing, Limited, 2014, p. 71.
[47] Şeyhun Ahmet Islamist Thinkers in the Late Ottoman Empire and Early Turkish Republic [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2014, p. 180.
[48] Pinto Karen C Medieval Islamic Maps: An Exploration [Book]. - Chicago, USA : University of Chicago Press, 2016, pp. 219-232.
[49] Shefer-Mossensohn Miri Science among the Ottomans [Book]. - Austin Tx, USA : university of Texas press, 2015, p. 136.
[50] Evans Helen C Byzantium: Faith and Power (1261-1557) [Book]. - New York, USA : Metropolitan Museum of Art, 2004, p. 410.
[51] Pinto, 2016, p. 277.
[52] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 137.
[53] Contadini Anna and Norton Claire The Renaissance and the Ottoman World [Book]. - [s.l.] : Surrey, England, 2013. - Vols. Ashgate publishing, Limited., 2013, p. 15.
[54] Casale Giancarlo The Ottoman Age of Exploration [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2010, p. 20.
[55] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 136.
[56] Emiralioglu, 2014, p. 72.
[57] Contadini, et al., 2013, p. 16.
[58]Brotton Jerry Trading Territories: Mapping the Early Modern World [Book]. - London, UK : Reaktion Books Ltd, 1997, p. 90.
[59] Pinto, 2016, p. 228.
[60] Brotton, 1997, p. 34.
[61] Brotton, 1997, pp. 92-93.
[62] Bagrow Leo History of Cartography [Book]. - New Brunswick, N J, USA : Transaction Publishers, 2010, p. 210.
[63] Emiralioglu, 2014, p. 72.
[64] Contadini, et al., 2013, p. 16.
[65] Payne Alina Dalmatia and the Mediterranean: Portable Archaeology and the Poetics of Influence [Book]. - Ledien, the Netherlands : Brill, 2014, p. 204.
[66] Emiralioglu, 2014, p. 74.
[67] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 137.
[68] طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية - بيروت، لبنان : دار الكتاب العربي، 1975م الصفحات 97-99.
[69] حاجي خليفة سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، إشراف وتقديم: أكمل الدين إحسان أوغلي تدقيق: صالح سعداوي صالح، إعداد الفهارس: صلاح الدين أويغور- إستانبول – تركيا : مكتبة إرسيكا، 2010م صفحة 2/393.
[70] الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - بيروت، لبنان : دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، 2006م صفحة 534.
[71] Ágoston Gábor and Masters Bruce Alan Encyclopedia of the Ottoman Empire [Book]. - New York, USA : Infobase Publishing., 2010, p. 35.
[72] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 99.
[73] Emiralioglu, 2014, p. 73.
[74] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 137.
[75] Sala Maria geography [Book]. - oxford, UK : Eolss Publications, 2009, vol. 1, p. 80.
[76] Roberts Sean printing a mediterranean world florence constantinople and the renaissance of geography [Book]. - Cambridge, MA, USA : Harvard University, 2013, p. 30.
[77] Raby Julian Mehmed the Conqueror's Greek scriptorium [Journal]. - Washington, D.C. USA : Dumbarton Oaks Papers, Dumbarton Oaks, Trustees for Harvard University, 1983, p. 24.
[78] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 137.
[79] Pinto, 2016, p. 231.
[80] Casale, 2010, p. 22.
[81] Emiralioglu, 2014, pp. 73-74.
[82] Brummett, 2015, p. 40.
[83] Todorova Maria Imagining the Balkans [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 1997, pp. 21-37.
[84] Contadini, et al., 2013, p. 16.
[85] Atçıl Abdurrahman Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2017, p. 65.
[86] طاشكبري زاده، 1975م الصفحات 98-99.
[87] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 99.
[88] Atçıl, 2017, p. 65.
[89] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 135.
[90] الزركلي: الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين - [مكان غير معروف] : دار العلم للملايين، 2002م صفحة 7/88.
[91] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 135.
[92] هو مصطفى بن يُوسُف بن صَالح البروسوي الرومي الحنفي المعروف بخواجه زاده، الْمَشْهُور بالتحقيق وجودة التَّصَوُّر والذكاء المفرط وإفحام من يُناظره، مصلح الدين، قاض، من علماء الدولة العثمانيَّة. مولده ووفاته في بروسة وإليها نسبته، تعلَّم وعلَّم فيها، واتَّصل بالسلطان محمد خان فجعله معلِّمًا له، ثم عُيِّن قاضيًا للعسكر في أدرنة فقاضيًا بها ثم في القسطنطينيَّة، وبعد أن مات السلطان محمد ولَّاه السلطان بايزيد الفتوى في بروسة فاستمرَّ إلى أن تُوفِّي، وقد طار صيته وَكثر تلامذته، وصنَّف مصنَّفات مِنْهَا شرح الريحانة وحَاشِيَة على التَّلْوِيح وحاشية على المواقف وَلم تكمل، وكتاب التهافت وحاشية على شرح هِدَايَة الْحِكْمَة وَشرح الطوالع، وَمَات فِي سنة 893هـ= 1488م. الشوكاني، 2006م الصفحات 860-862، والزركلي، 2002م صفحة 7/247، وخليفة، 1941م صفحة 509.
[93] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 137.
[94] أكمل الدين إحسان أوغلي [وآخرون] الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، المترجمون نقله إلى العربية: صالح سعداوي. - إستانبول : مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م الصفحات 2/617-620.
[95] Turgut M. Illustrations of neurosurgical techniques in early period of Ottoman Empire by Şerefeddin Sabuncuoğlu [Book]. - [s.l.] : Acta Neurochirurgica, 2007, vol. 149 (10), pp. 1063–1069.
[96] محمد عبد العزيز مرزوق الفنون الزخرفيَّة الإسلاميَّة في العصر العثماني- القاهرة - مصر : الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، 1987م صفحة 195.
[97] إحسان أوغلي، 1999م صفحة 2/620.
[98] Ágoston, et al., 2010, p. 199.
[99] İnalcık, 2013, p. 139.
[100] Ágoston, et al., 2010, pp. 199-200.
[101] Kılıç Abdullah Magnificent Structures of philanthropy: the şifahanes of İstanbul [Book]. - İstanbul, Turkey : İstanbul Büyükşehir Belediyesi Kültür, 2009, p. 42.
[102] Fleischer Cornell H bureaucrat and intellectual in the ottoman empire [Book]. - Princeton, N J, USA : Princeton University Press, 1986, p. 26.
[103] Atçıl, 2017, p. 68.
[104] Selin Helaine encyclopedia of the history of science technology and medicine in non-western cultures [Book]. - NewYork, USA : Springer Science & Business Media, 2008, vol. 1, p. 1965.
[105] Atçıl, 2017, p. 69.
[106] Fleischer, 1986, p. 26.
[107] Selin, 2008, vol. 1, p. 1965.
[108] Schmidtke Sabine The Oxford Handbook of Islamic Theology [Book]. - Oxford, UK : Oxford University Press, 2016, p. 571.
[109] Gutas Dimitri Greek Thought, Arabic Culture [Book]. - London, UK : Routledge, 2012, p. 174.
[110] Schmidtke, 2016, p. 572.
[111] Baker Mona routledge encyclopedia of translation studies [Book]. - London, UK : Psychology Press, 2001, p. 575.
[112] Kalin Ibrahim, Ayduz Salim and Dagli Caner The Oxford Encyclopedia of Philosophy, Science, and Technology in Islam [Book]. - New York, USA : Oxford University Press., 2014, vol. 1, pp. 41-43.
[113] Curry John J Transformation of Muslim Mystical Thought in the Ottoman Empire [Book]. - Edinburgh, Scotland : Edinburgh University Press, 2010, p. 81.
[114] Necipoğlu Gülru and Julia Bailey Muqarnas: An Annual on the Visual Culture of the Islamic World [Book]. - Ledien, the Netherlands : Brill., 2005, vol. 22, p. 99.
[115] Kalin, et al., 2014, vol. 1, p. 43.
[116] Kaminski, 2017, p. 51.
[117] هو علاء الدين علي بن محمد الطوسي الحنفي، من أهل سمرقند، وكان من أعيان علماء الحنفية وفقهائها، أقام زمنًا في القسطنطينية، وأكرمه السلطان مراد العثماني ثم ابنه محمد ابن مراد، ومات في سمرقند سنة 877هـ= 1473م، ألف العلوم الجليلة ومنها كتاب الذخيرة، وحاشية على التلويح للتفتازاني في الأصول، وحواش على شرح المواقف، وحواش على حَاشِيَة شرح الْعَضُد، وحواش على حَاشِيَة شرح الْكَشَّاف، وحواش على حَاشِيَة شرح الْمطَالع، وكل تصانيفه مستحسنة مَقْبُولَة عند العلماء. ابن إياس، 1975م صفحة 3/88. وطاشكبري زاده، 1975م الصفحات 60-62، والزركلي، 2002م صفحة 5/9.
[118] Leaman Oliver The Biographical Encyclopedia of Islamic Philosophy [Book]. - London, UK : Bloomsbury Academic, 2015, p. 151.
[119] Dunne Timothy and Reus-Smitthe Christian globalization of international society [Book]. - Oxford, UK : Oxford University Press 2017, p. 81.
[120] Maclean Gerald Re-Orienting the Renaissance: Cultural Exchanges with the East [Book]. - NewYork, USA : Springer, 2005, p. 9.
[121] Selin, 2008, vol. 1, p. 1965.
[122] İhsanoğlu Ekmeleddin History of the Ottoman State, society and civilisation [Book]. - Istanbal, Turkey : Research Centre for Islamic History, Art and Culture, 2001, vol. 2, p. 375.
[123] İnalcık, 2013, p. 96.
[124] Repp Richard Some Observations on the Development of the Ottoman Learned Hierarchy [Book Section] // Scholars, Saints, and Sufis Muslim Religious Institutions in the Middle East Since 1500 / book auth. Keddie Nikki R. - los Angeles, USA : University of California Press, 1972, pp. 17-20.
[125] Fleischer Cornell H bureaucrat and intellectual in the ottoman empire [Book]. - Princeton, N J, USA : Princeton University Press, 1986, p. 26.
[126] İnalcık, 2013, p. 96.
[127] Ágoston, et al., 2010, p. 452.
[128] Kia Mehrdad The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2017, vol. 1, p. 150.
[129] Cragg Kenneth B Christians and Muslims: From History to Healing [Book]. - Boomington, IN, USA : iUniverse, 2011, p. 121.
[130] Damrosch David The Longman Anthology of World Literature [Book]. - London, UK : Longman, 2003, vol. 4, p. 166.
[131] Encyclopaedia Britannica The New Encyclopaedia Britannica: Micropaedia [Book]. - London, UK : Encyclopaedia Britannica, inc, 1993, p. 948.
[132] İhsanoğlu, 2001, vol. 1, p. 202.
[133] Blair Sheila, Bloom Jonathan and Blair Sheila S. Grove Encyclopedia of Islamic Art & Architecture [Book]. - NewYork, USA : Oxford University Press , 2009, vol. 1, p. 166.
[134] Freema Milton M R, Matsuda Yoshiaki and Ruddle Kenneth Adaptive Marine Resource Management Systems in the Pacific [Book]. - poststrasse, switzerland : Harwood Academic, publishers., 1991, p. 1.
[135] Freema, et al., 1991, p. 5.
[136] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954, p. 208.
[137] Boyar Ebru and Fleet Kate A Social History of Ottoman Istanbul [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, et al., 2010, p. 142.
[138] Conan Michel and Kress W. John Botanical Progress: Horticultural Innovation and Cultural Changes [Book]. - Washington, D.C, USA : Dumbarton Oaks., 2007, vol. 28, p. 64.
[139] Cook, 2007, p. 25.
[140] Twitchell James B. Living It Up Our Love Affair with Luxury [Book]. - New York, USA : Columbia University Press, 2002, pp. 206-207.
[141] دونالد كواترت الدولة العثمانية 1700-1922،المترجمون أيمن الأرمنازي. - الرياض، السعودية : العبيكان، 2004م صفحة 40.
[142] Bagrow, 2010, p. 217.
[143] Mitler Louis Ottoman Turkish writers: a bibliographical dictionary of significant figures in pre-Republican Turkish literature [Book]. - NewYork, USA : P. Lang, 1988, p.4.
[144] Brotton, 1997, p. 92.
[145] Woodward David Cartography in the European Renaissance [Book]. - Chicago, USA : University of Chicago Press, 2007, p. 619.
[146] Babinger, 1978, p. 201.
[147] Fehér Géza Turkish Miniatures from the Period of Hungary's Turkish Occupation [Book]. - Budapest, hungary : Corvina Press, 1978, p. 10.
[148] Hammer Paul E .J. Warfare in Early Modern Europe 1450–1660 [Book]. - NewYork, USA : Ashgate, 2007, p. 299.
[149] Cavallo Jo Ann The World Beyond Europe in the Romance Epics of Boiardo and Ariosto [Book]. - Toronto, Buffalo, London : University of Toronto Press, 2013, p. 12.
[150] مرزوق، 1987م صفحة 196.
[151] Lapidus Ira M A History of Islamic Societies [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 2002, p. 261.
[152] محمد حرب العثمانيون في التاريخ والحضارة- القاهرة : المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، 1994م صفحة 188.
[153] Sözen Metin Turkey, Crossroads of Civilisations [Book]. - Istanbul, Turkey : Creative Yayıncılık, 1993, p. 252.
[154] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 103.
[155] Yetkin Suut Kemal Turkish Architecture [Book]. - Ankara, Turkey : Ankara Üniversitesi Basımevi, 1965, p. 23.
[156] Dereksen David The crescent and the cross: the fall of Byzantium, May 1453 [Book]. - New York, USA : Putnam, 1964, pp. 151-152.
[157] Thuasne Louis Gentile Bellini et Sultan Mohammed II (in french) [Book]. - Paris, France : Ernest Leroux, 1888, p. 24.
[158] Thuasne, 1888, p. 25.
[159] Freely, 2009, p. 103.
[160] Rayor Diane j and Lardinois André Sappho: A New Translation of the Complete Works [Book]. - Cambridge : Cambridge University Press., 2014, pp. 2-9.
[161] Kia Mehrdad Daily Life in the Ottoman Empire [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2011, p. 255.
[162] Powell John Weapons & Warfare: Modern weapons and warfare (since c. 1500) [Book]. - N J, USA : Salem Press, 2010, p. 592.
[163] Black Jeremy War and the Cultural Turn [Book]. - cambidge, Uk : polity press, 2012, p. 50.
[164] Neci̇poğlu Gülru and Bailey Julia Frontiers of Islamic Art and Architecture [Book]. - Leiden, the Netherland : Brill., 2008, vol. 25, p. 301.
[165] Atasoy Nurhan and Çağman Filiz Turkish Miniature Painting [Book]. - Istanbul, Turkey : R. C. D. Cultural Institute., 1974, p. 45.
[166] إدوارد چيبون اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، الجزء الأول ترجمة: أبو درة, محمد علي; مراجعة وتقديم: أحمد نجيب هاشم، طبعة 1979م، والجزء الثالث: ترجمة: سالم, محمد سليم; مراجعة: أبو درة محمد علي، طبعة 1969م- المترجمون محمد سليم سالم و مراجعة: محمد علي أبو درة. - القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1969م صفحة 3/344.
[167] Grendler Paul F Encyclopedia of the Renaissance [Book]. - NewYork, USA : Renaissance society of Ameraica, 1999, p. 108.
[168] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 865- 909.
التعليقات
إرسال تعليقك