ملخص المقال
يُعد محمد الفاتح واحدًا من أفضل حكام المسلمين، جمع مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وجمال الأخلاق، حسن الإدارة، وشدة القتال، والقدرة على القيادة...
محمد الفاتح من حكَّام المسلمين في القرن التاسع الهجري، ومع ذلك وصل إلينا مدح الرسول صلى الله عليه وسلم له قبل وجوده بأكثر من ثمانية قرون، حيث قال: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
محمد الفاتح واحد من أفضل حكَّام المسلمين في كل العصور
أنا أعتبره نموذجًا للأمير
جمع مع سلامةِ العقيدة، وصحَّةِ العبادة، وجمالِ الأخلاق، حُسْنَ الإدارة، وشدَّةَ القتال، والقدرة على القيادة، وقوة التأثير في الناس.
كتبت عنه كتابًا في أكثر من ألف صفحة أحسب أني كنت مختصرًا فيه!
اخترت موقفين متقاربين في المضمون والوقت أثَّرا فيَّ إلى درجة كبيرة:
· عندما شاهد العَلَم العثماني يُرفرف فوق أحد أبواب القسطنطينية، علم أنَّ عمليَّة الفتح قد نجحت، فترجَّل عن حصانه، وخرُّ ساجدًا لله حمدًا له على هذا النجاح العظيم.
· ثم بعد الفتح سار بحصانه في الشارع المؤدِّي إلى كنيسة آيا صوفيا، وعندما وصل إلى بابها ترجَّل ثانية، وانحنى إلى الأرض ليأخذ حفنةً من التراب فنثرها فوق عمامته خضوعًا لله، وإظهارًا للتواضع له!
كيف دخل رسول لله صلى الله عليه وسلم مكَّة فاتحًا؟
يطأطئ راسه حتى تكاد تمس ظهر الراحلة
محاولات فتح القسطنطينية كثيرة منذ بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها
ليس فقط في حديث الأمير والجيش، ولكن في أحاديث أخرى:
روى أحمد عن أَبِي قَبِيلٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، وَسُئِلَ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ، قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا» يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ
هذا يعني أن محمدًا الفاتح لم يفتح فقط مدينة صعبة، إنما فتح مدينةً لم ينجح في فتحها عمالقة المسلمين على مرِّ القرون
الجيش الأول الذي حاول فتح القسطنطينية كان فيه عدد من الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري الذي دُفِن حول أسوار القسطنطينية، وكان بقيادة يزيد بن معاوية في زمن معاوية بن أبي سفيان، وهو جيش بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمغفرة: روى البخاري عن أُمِّ حَرَامٍ: أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ».
وتكررت المحاولات عبر العصور
هذا التكرار لعدم الفتح كان من الممكن أن يورث غرورًا عند الفاتح عند اتمامه للفتح، لكنه كان على قناعة كاملة بأن الفاعل هو الله، ولذا لم يدخله الغرور أبدًا، بل أراد بما فعل أمام قادته وجنوده أن يحفظهم من شعور الغرور هذا، ويكون لهم قدوة حسنة في هذا الصدد.
قبل الفتح لم يكن عند الفاتح شكٌّ في أن النصر سيأتي من عند الله في الوقت الذي يريد، لذا أراد أن يستنزله بالتقرُّب إليه سبحانه:
· في فتح القسطنطينية لم يتوقَّف الجنود عن التكبير
· ترديد بشكلٍ دائم، وبصوتٍ مرتفع، كلمة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فكان الأثر الذي تُحْدِثُه في أهل القسطنطينيَّة عظيمًا! يصف قسُّ جزيرة خيوس الچنوي ليوناردو هذه الصيحات بقوله: «لو استمعتَ لأصواتهم وهي ترتفع إلى عنان السماء فإنَّ ذلك سيُصيبكَ حتمًا بالشلل»[1]!
· قال الفاتح: «اجتهدوا غدًا في الصيام والدعاء، ليكون من قُدِّر له أن يدخل الجنَّة جاهزًا لمقابلة الشهداء من أجل الإيمان، وذلك في صباح الثلاثاء»!
· أمر السلطان أن يُصبح الجيش كلَّه يوم الاثنين 28 مايو صائمًا، وأن يستغلُّوا وقتهم طوال اليوم في الدعاء والابتهال إلى الله، كما أمر أن يكون هناك إفطارٌ جماعيٌّ لكلِّ فرقةٍ لتقوية الرابطة بين الجنود.
· أعلن أن الدولة لن تأخذ شيئًا من غنائم البلدة، بل هي كلها للجيش، فهو يُرَغِّب الجيش في القتال، ويعلن عن زهده في ثروات عاصمة البيزنطيين لقرون متتالية.
· وكان الشيخ آق شمس الدين قد أخبر السلطان بأنَّه رأى وقت الفتح، وحدَّده له، ولكن اقترب هذا التوقيت ولم يكن واضحًا أنَّ الجيش الإسلامي سيدخل المدينة، فأرسل السلطان الفاتح إلى الشيخ أحد وزرائه، وهو أحمد باشا ولي الدين!
يقول الوزير: «رفعت أطناب الخيمة ونظرت، فإذا هو ساجدٌ على التراب، ورأسه مكشوفٌ، وهو يتضرَّع ويبكي، فما رفعت رأسي إلَّا قام على رجله وكبَّر، وقال: الحمد لله، منحنا الله تعالى فتح القلعة، فنظرت إلى جانب القلعة، فإذا العسكر قد دخلوا بأجمعهم، ففتح الله تعالى ببركة دعائه»! ليس هذا فقط، ولكن كان الشيخ آق شمس الدين قد أخبر هذا الوزير أنَّه سيكون إلى جوار السلطان عندما يدخل المدينة؛ أي أنَّه يرى صورةً معيَّنةً واضحةً لأمر الفتح، يعلم فيها مكان السلطان، ومكان مَنْ يقف إلى جواره، ويُكْمِل الرواية بأنَّه عندما دخل السلطان القلعة نظر إلى جانبه فإذا الوزير أحمد باشا إلى جواره، فقال الوزير: هذا ما أخبر به الشيخ! ففرح السلطان فرحًا شديدًا وقال: «ما فرحت بهذا الفتح وإنَّما فرحي من وجود مثل هذا الرجل في زماني»!
كان هذا سلوك الفاتح في كلِّ حياته:
في آخر حملاته العسكريَّة، في عام 1478م في ألبانيا، وبعد خمسٍ وعشرين سنة من الموقف الأوَّل، يقول الفاتح عندما وصله نبأ فتح ليزهي Lezhe: «هذا نصرٌ أعطاه الله لي»!
وكان الجنود يُردِّدون في حملة ألبانيا عام 1478م، وهم يُحاصرون قلعة شقودرة: «الله.. الله»، وكان هذا هو ترديدهم كذلك عند حصارهم لقلعة درشت Drisht في الحملة نفسها.
وانظر إلى طريقة تعبير قادة الجيش عن النصر، فقد ذكر المؤرِّخ التركي كيڤامي، وهو معاصرٌ للفاتح، أنَّ الجنود فتحوا قلعة درشت ولم يكن الفاتح موجودًا فأرسلوا له رسالةً تُخبره بالنصر قالوا فيها: «قضى الله العليُّ العظيم أن تُؤخذ هذه القلعة»!
مشكلة قارون الكبرى أنه كان مفتونًا بقدراته الاقتصادية العظيمة:
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]
المنهج الرباني:
· {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
· {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
· {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]
التطبيق العملي:
تواضع لله
واعلم أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
لو كنت طبيبًا، أو تاجرًا، أو طالبًا، أو طبَّاخًا، اعلم أن الموفِّق هو الله.
[1] Crowley, 2005, p. 191. لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: محمد الفاتح والتواضع لله
التعليقات
إرسال تعليقك