التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ما هو مفتاح شخصية عثمان بن عفان؟
لماذا تستحي الملائكة من عثمان بن عفان؟
تقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أبو بكر رضي الله عنه فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ رضي الله عنه، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ -قَالَ مُحَمَّدٌ[1]: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ- فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ رضي الله عنه فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ، فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»[2]! قال ابن الملقِّن: "فلما كان الغالب عليه الحياء، جوزي عليه من جنس فعله".
وهناك موقف آخر بالمعنى نفسه يؤكِّد كلام محمد بن أبي حرملة أن هذا أمر متكرر: (مضطجع في مرط عائشة): ".. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ، إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ»[3].
ينبغي أن نلاحظ أن نبي الله يفعل هذا مع عثمان الذي هو زوج ابنته، وفي المعتاد التبسُّط مع الأقربين، فكونه يهتمُّ بهذه الصورة فهذا يعني توقيرًا ما بعده توقير!
عَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه... وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه...»[4].
هذه صفة فطرية في عثمان قبل الإسلام، وازدادت بهاءً مع الإسلام:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: «وَايْمُ اللهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَمَا ازْدَدْتُ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا حَيَاءً»[5]. ذكر الْحَسَنُ عُثْمَانَ، وَشِدَّةَ حَيَائِهِ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فَمَا يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ»[6].
هذه الصفة أحد مفاتيح شخصيته:
عن عَطَاء بْنِ فَرُّوخَ، مَوْلَى الْقُرَشِيِّينَ، أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنْ قَبْضِ مَالِكَ، قَالَ: إِنَّكَ غَبَنْتَنِي فَمَا أَلْقَى مِنَ النَّاسِ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يَلُومُنِي، قَالَ: أَوَ ذَلِكَ يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاخْتَرْ بَيْنَ أَرْضِكَ وَمَالِكَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا»[7].
وتكرَّر الموقف:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي حسين قال أَنَّ عُثْمَانَ بن عفان رَضِيَ الله عَنْه ابْتَاعَ حَائِطًا مِنْ رَجُلٍ فَسَاوَمَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى الثَّمَنِ ثُمَّ قَالَ أَعْطِنِي يدك قال وَكَانُوا لَا يَسْتَوْجِبُونَ إِلَّا بِصْفَقَةٍ فلما رأى ذلك الْبَائِعَ قَالَ لَا وَاللَّهِ لَا أَبِيعُهُ حَتَّى تَزِيدَنِي عَشْرَةَ آلَافٍ فَالْتَفَتَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف رَضِيَ الله عَنْهما فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَمْحًا بَائِعًا وَمُبْتَاعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا ثُمَّ قَالَ دُونَكَ الْعَشَرَةُ آلَافِ لِأَسْتَوْجِبَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ [8].
مكانته كبيرة عند الناس لحيائه، ولم يكن حياء الرسول منه أمرًا خاصًّا به:
قال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "سَمِعت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ كُنْتُ أَشْتَرِي التَّمْرَ مِنْ سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ أَجْلُبُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُفَرِّغُهُ لَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمِكْيَلَةِ فَيُعْطُونِي مَا رَضِيتُ بِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَيَأْخُذُونَهُ بِخَبَرِي وَلا يَكِيلُونَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا عُثْمَانُ إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ[9].
وقال المناوي: "مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده، ويعظم قدره مع نقصٍ يجده من النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فعلت رتبة عثمان لذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه".
آخر ما أقوله إن كثيرًا من الناس يرون هذا الحياء ضعفًا:
البخاري ومسلم عَنْ أَبِي السَّوَّارِ العَدَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» (أو الحياء كله خير) فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ (تابعي ثقة): "مَكْتُوبٌ فِي الحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الحَيَاءِ سَكِينَةً" (وفي رواية ضعفًا) فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ (غضب حتى احمرَّت عيناه): «أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ».
والحياء في الواقع قوة، فالذي يقدر على السيطرة على نفسه إلى درجة أن يترك حقًّا من حقوقه، وهو قادر على أخذه، لا لشيء إلا لحيائه، رجل شديد حقًّا، وصدق النبي إذ قال -فيما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[10]..
[1] هو مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، وهو من الرواة الثقات الذين يروون عن التَّابعين.
[2] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه، (2401).
[3] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه، (2402).
[4] الترمذي: كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، (3790)، وقال: حديث حسن. والنسائي: السنن الكبرى (8242)، وأحمد (14022)
[5] أبو نعيم: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 1/ 60. وقال عاطف عبد الوهاب حماد: الأثر مقارب للحسن.
[6] أحمد (543)، وقال شعيب الأرناءوط: الإسناد حسن والله أعلم. وقال الهيثمي: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/ 82.
[7] أحمد (410)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره.
[8] ابن حجر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، 7/ 181، وقال: هذا مرسل حسن يُؤَيِّدُهُ الَّذِي بَعْدَهُ.
[9] ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب، ص263، وقال ابن حجر بعد أن ذكر طرق الحديث: وبمجموع هَذِه الطّرق يعرف أَن للْحَدِيث أصلا وَالله أعلم، تغليق التعليق، 3/ 240.
[10] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك