ملخص المقال
من أعمال العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف، والاعتكاف من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله، فما أحكام الاعتكاف؟ وما أهمية الاعتكاف؟
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، يثيب بمنه وفضله على القليل كثيرًا، والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن موسم رمضان موسم عظيم لمن أراد النجاة وسعى إلى فكاك رقبته من النار؛ ففي هذا الشهر تتنوع العبادات، وتتضاعف الحسنات، وتتنزل الرحمات، ومن خصائص هذا الشهر العشر الأواخر منه التي كان النبي r يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها؛ فعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي r كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره"[1]. وفي الصحيحين عنها قالت: "كان النبي r إذا دخل العشرُ شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله". وفي مسند أحمد عنها قالت: "كان النبي r يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر المئزر".
ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر: الاعتكاف..
والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السُّنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله r، قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي r يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده"[2].
والاعتكاف من السنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس، قال الإمام الزهري رحمه الله: "عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن النبي r ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة، وحث الناس عليها والترغيب فيها. وابدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها ولا يفوتك هذا الخير العظيم، واجعل لك أيامًا يسيرة تتفرغ فيها من المشاغل والأعمال، وتتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين.
أخي المسلم، الاعتكاف يكون في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه.
واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس والإزعاج، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحدًا، ولا يعرفك فيها أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وأفرغ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم. وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين، وافسح لهم المجال لأداء الصلوات، ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له! وبعض المعتكفين لا يصلي أحيانًا التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها.
والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتدئ الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان داخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد، وهذا وقت انتهائه المستحب.
وهي فرصة عظيمة، وساعات قليلة؛ ليستفيد المسلم من هذا الانقطاع والبعد عن الناس، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده؛ طلبًا لفضله وثوابه، وإدراك ليلة القدر.. من قبل أن تطوي الصحف، وتوضع الموازين.
أخي المعتكف، احرص على الذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وتجنب ما لا يعينك من حديث الدنيا، ولا بأس أن تتحدث بحديث مباح مع أهلك أو غيرهم لمصلحة؛ لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "كان النبي r معتكفًا فأتيتُه أزوره ليلاً فحدثته ثم قمتُ لأنقلب (أي لأنصرف إلى بيتي)، فقام النبي r معي..."[3].
ويباح لك أن تخرج من المسجد لحاجاتك الضرورية كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائط، أو للإتيان بطعام وشراب إن لم يكن هناك من يحضره لك، ومثله التداوي إن إصابك المرض وأنت معتكف، وكذلك إسعاف مريض من أهلك تجب عليك رعايته ولا تجد من يتولى أمره غيرك.
ومن محظورات الاعتكاف: الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف، كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله، ومباشرتهم، ونحو ذلك.
أخي المعتكف، إن كان معك رفقة، فاختر الرفقة التي تعينك على الطاعة وتشد أزرك وتحرص على الخير واستغلال الأوقات وعمارتها بالعبادة، وتجنب الذين تضيع أوقاتهم في حديث وكلام. وبعض المعتكفين إذا كانوا جماعة يظهر عليهم الجد في أول الأيام، ثم يتراخون ويتكاسلون، وتراهم كثيرًا ما تضيع أوقاتهم في أحاديث لا فائدة من ورائها، وقد ينجرُّ الحديث إلى أمور محرمة من غيبة أو غيرها.
أخي المسلم، الاعتكاف سنة، والمحافظة على بيتك وأبنائك من الواجبات، فاحذر أن تضيِّع الأهم وتفرط في أمر الرعاية، بل اجمع بين الأمرين، واحرص على ابتعادهم عن مواطن الفتن، ولا يكن اعتكافك فيه ضياع لحقوق واجبة. وإن تيسر أن يصحبك أبناؤك في الاعتكاف، فإن في ذلك طريق تربية، وراحة نفسية لك، وأُلفة بينكم، وتعويدًا لهم على العبادة. وإن صعب الأمر عليهم، فلا أقل من ليلة يعتكفون فيها معك، وأجزل لهم العطية وشجعهم على ذلك.
أخي المسلم، مواسم الطاعات محطات يتزود فيها المسافر إلى جنة عرضها السموات والأرض، فكن من العقلاء الفطناء الذين لا تفوتهم هذه الفرص وهذه المحطات إلا وقد نالوا من نفحات الرب وجزيل الأجر وعظيم المثوبة.
فاحرص على الاعتكاف بنية صادقة، وابتعد عن المباهاة والرياء، وحب المدح والثناء، وإياك والعجب بأعمالك، واحرص علي أن تكون أعمالك خالصة لله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. وفي الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..."[4]. ومما يُعينك على ذلك اختيار المسجد الذي لا تعرف فيه أحدًا ولا يعرفك أحد، ولا حاجة لك أن تعلن اعتكافك على الملأ في يوم العيد أو بعده.
أقرَّ الله عينك بالعبادة، وجعلك من الفائزين المقبولين، وغفر لنا ولوالدينا ولجمع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: موقع صيد الفوائد.
روابط ذات صلة:
التعليقات
إرسال تعليقك