التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
هدم مدينة عسقلان صفحة من صفحات التاريخ طبق فيها قادة المسلمين نموذجا عمليا لفقه الواقع والموازنة بين المصالح والمفاسد.. كيف ذلك؟ ولماذا هدم صلاح الدين
لا شك أن فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد لهو من آكد أولويات العمل الإسلامي الدعوي في أي زمان ومكان، خاصة في أيامنا هذه الزاخرة بكثير من الأحداث والمتغيرات والمستجدات على الساحة، والتي تضطرم فيها المصالح والمفاسد وتتشابك فيها الآراء بين إفراط وتفريط وبين مقبل ومدبر، وأصبح الناس منقسمين إلى فريقين: فريق يبالغ في واقعيته وينظر للمسألة من وجهة مادية بحتة قحة مقطعة المدد السماوي، وفريق يبالغ في أحلامه فلا يرى في الوجود ما يسمى بفقه الواقع والموازنة بين المصلحة والمفسدة اتكالاً على الله -عز وجل- وحده بزعمهم.
والحق أحق أن يتبع، والهدي النبوي ونصوص الشرع حُجّة على الفريقين، ولسنا بصدد عرض أدلة الشرع في فقه الموازنة ومراعاة الواقع مع الاعتماد والاتكال على الله عز وجل وحده؛ لأن هذا له مقام آخر، ولكننا بصدد عرض صفحة من صفحات التاريخ طبّق فيها قادة المسلمين نموذجًا عمليًّا لفقه الواقع والموازنة بين المصالح والمفاسد.
سقطت مدينة عكا في أيدي الصليبيين في 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ بعد ملحمة رائعة من الصمود والتحدي استمرت ثلاثة سنوات متصلة، واجه المسلمون فيها أعنف الحملات الصليبية على الإطلاق وهي الحملة الثالثة على بلاد المسلمين. وكان لسقوط عكا صدى كبير في أنحاء أوربا الصليبية، وقويت عزائم عُبّاد الصليب وتواثقوا فيما بينهم على أخذ بلاد الشام كلها، فقاموا بإصلاح مدينة عكا ورمموا ما انهدم منها أثناء حصارهم الطويل لها، ثم توجّهوا بعدها نحو مدينة حيفا ليأخذوها، وكان السلطان الناصر صلاح الدين قد أعاد ترتيب جيوشه لينازل جيوش الصليبيين أثناء سيرهم في الساحل، وقام المسلمون بغارات كثيرة على أطراف جيوش الصليبيين، فأخذوا وغنموا منهم الكثير.
أسرع ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وكان مقيمًا بعكا وانضم للصليبيين لحمايتهم من غارات المسلمين المتتالية، فاشتد ساعدهم ووصلوا إلى مدينة حيفا وأخذوها، وعسكر المسلمون أمامهم. وأحضر الصليبيون من عكا عوض مَن قُتل منهم، والناصر صلاح الدين والمسلمون يسايرونهم ويأسرونهم، وكلما أُسر منهم أحد قتله الناصر مباشرة؛ لأنه قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن كان بعكا(1)، ودار القتال عدة مرات بين الفريقين، وفي معظم الأحيان كانت الصولة والدولة للمسلمين.
اجتمع قادة جيوش الصليبيين فيما بينهم وقرروا الهجوم دفعة واحدة وبقوّة على المسلمين، مستخدمين سلاح الفرسان، فانهزم كثير من المسلمين عند هجمتهم الشرسة على الصفوف المسلمة، ولكن الله سلّم عندما فر المسلمون فدخلوا غابة كثيفة الشجر، فلم يتبعهم الصليبيون ظنًّا منهم أنها حيلة لاستدراجهم، وفي هذا القتال قُتل بطل كبير من أبطال المسلمين، واسمه أياز الطويل، وفي نفس الوقت قُتل قائد من قواد الصليبيين الكبار.
وصل صلاح الدين إلى الرملة وجمع أمراءه واستشارهم فيما يفعل، والصليبيون يسايرونهم من بلد لأخرى، ولو استمر الحال هكذا لأخذ العدو سائر بلاد الساحل، فأشار عليه الأمراء بتخريب مدينة عسقلان، وكانت أكبر مدينة في هذه المنطقة وبها قلاع حصينة وأسوار منيعة، وهي شديدة التحصين لو أخذها العدو ستكون شوكة في جنب المسلمين ونقطة انطلاق لغارات الصليبيين على باقي بلاد الشام..
وقال الأمراء: "قد رأيت ما كان منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها، فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها وينزلون عليها، وحدث مثلما حدث في عكا".
وتضايق صلاح الدين الأيوبي من ذلك بشدة، وأبى أن يخربها بيده، وندب الناس للدفاع عنها والدخول فيها وحفظها، ولكن الأمراء والجند الذين عضتهم الحروب المتصلة ضد الصليبيين منذ أكثر من عشر سنوات لم يوافقوا على ذلك، وامتنعوا بشدة، واشترطوا للدخول أن يدخل صلاح الدين معهم هو وأولاده جميعًا للدفاع عنها، فقال لهم صلاح الدين: "لذهاب جميع أولادي أحبّ إليَّ من نقض حجر واحد من هذه المدينة العريقة"، وبات ليلته يفكر في القضية، ثم أصبح وقد أخذ قرارًا بتخريبها لمصلحة المسلمين(2).
أصدر الناصر صلاح الدين أمره بتخريب مدينة عسقلان في 19 شعبان سنة 584هـ، فظلت النار تعمل في المدينة حتى أتت عليها كلها في 1 رمضان سنة 587هـ، وبكى الناصر على حرقها وبكى المسلمون معه؛ لفقد مدينتهم الجميلة التي كانت دارًا لهم لمئات السنين، ولكنّ المصلحة كانت في ذلك؛ حتى لا يأخذوها العدو.
عندما علم الصليبيون ما جرى لعسقلان، أقاموا مكانهم ولم يتقدموا للأمام، وعندما علم شيطان الفرنج "ألمركيس" صاحب مدينة صور -وهذا الشيطان هو الذي ألبَّ الصليبيين على المسلمين حتى أتوا بالحملة الثالثة- بما جرى من تخريب عسقلان وتوقف الصليبيين عن التقدم، أرسل إلى ملك الإنجليز ريتشارد يشتمه ويسبه ويقول له: "مثلك لا ينبغي أن يكون ملكًا ويتقدم على الجيوش، تسمع أن صلاح الدين قد خرّب عسقلان وتقيم مكانك! يا جاهل، لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مُجِدًّا فملكت المدينة قبل خرابها؛ فإن صلاح الدين لم يخربها إلا لعلمه أنه لا يقدر على حفظها".
وكان هذا الرجل عاقلاً حكيمًا، عرف المصلحة التي ارتآها صلاح الدين الأيوبي في تخريب مدينة عسقلان(3).
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.
(1) أعداء الله لا ينفع معهم إلا الشدة والغلظة، كما قال الله عز وجل: "واغلظ عليهم"؛ حتى يرتدعوا عن عداوة المسلمين، ويعلموا أن شوكة المسلمين غليظة.
(2) الناصر صلاح الدين بذلك طبق فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد وأيضًا فقه الواقع، حيث راعى واقع جنوده المتعبين من كثرة القتال والحصار، وراعى مشورة كبار الأمراء والقادة؛ ليكسبهم في صفه حتى لا يظهر بصورة الدكتاتور الذي يلغي كل الآراء، ويكمم كل الأفواه، ولا صوت يعلو على صوته. وهكذا تكون السياسة الحكيمة التي تقود البلاد والعباد لكل خير.
(3) ليت إخواننا الذين يتسرعون في الإقدام على أعمال لا تراعى فيها المصلحة من المفسدة يقرءون تاريخ أمتنا؛ ليعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ؛ حتى لا يدفع غيرهم فاتورة أعمالهم، والمصاب أولاً وأخيرًا هو الإسلام.
التعليقات
إرسال تعليقك