الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مما يُدلل على دقَّة وتنظيم الحضارة الإسلامية لمؤسسة القضاء، أنها جعلت القضاء مختصًّا؛ تبعًا لفئة معينة
مما يُدلل على دقَّة وتنظيم الحضارة الإسلامية لمؤسسة القضاء، أنها جعلت القضاء مختصًّا؛ تبعًا لفئة معينة، أو قضايا محددة؛ فقد خصصت الخلافة العباسية للعسكر قضاة مختصُّين بهم؛ منعًا للتداخل بينهم وبين المدنيين.
وهذا يعني أن المحاكم العسكرية قد عُرفت منذ القدم في الحضارة الإسلامية، وقد كان الخليفة المهدي قبل توليته للخلافة يفصل بنفسه بين خصومات ومنازعات عساكره، كما عين الحسنُ بن سهل -وزير المأمون- سعدَ بن إبراهيم على قضاء العساكر عام (201هـ)[1].
كما اهتمت مؤسسة القضاء، بالقضايا (المستعجلة)، التي يجب البتُّ فيها بسرعة تامة؛ لمصلحة المدعي أو المدعى عليه، ومن ذلك وجوب تقديم المسافرين على من سواهم، فقد ذكر الماوردي نقلاً عن الشافعي أنه قال: "وإذا حضر مسافرون ومقيمون، فإن كان المسافرون قليلاً، فلا بأس أن يبدأ بهم، وأن يجعل لهم يومًا، بقدر ما لا يضرُّ بأهل البلد، وإن كثروا حتى ساوَوْا أهل البلد، آساهم بهم، ولكلٍّ حقٌ، ففي تأخير المسافرين - إذا كانوا مسبوقين - إضرار بهم، لتأخُّرهم عن العود إلى أوطانهم، فإن قلُّوا ولم يكثروا، قدَّمهم القاضي على المقيمين..."[2].
ولما كانت دار الإسلام تشتمل -أيضًا- على أهل الذِّمَّةِ؛ فإن الحكم الإسلامي اهتمَّ بتنظيم القضاء لهم، ففي العصر الإسلامي الأول كان رجال الدين منهم يتولُّون القضاء لهم، ولا يتدخَّل فيه قضاة المسلمين؛ إذ أجاز الفقهاء تقليدَ الذمِّيَ القضاء لأهل الذِّمَّة، وقد أورد القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى) تقاليدَ لقضاة الذِّمَّة؛ ممَّا يدلُّ على أن سلطتهم كانت بإذن من الخليفة.
وفي الأندلس -لكثرة ما فيها من أهل الذِّمَّة- خَصَّص المسلمون لهم قاضيًا منهم يُعْرَفُ باسم: قاضي النصارى، أو قاضي العجم، ولكن إذا حدث نزاع بين مسلم وذِمِّيٍّ؛ فإن قضاة المسلمين هم الذين يحكمون بينهم، كذلك كان القضاة يَقْبَلُون شهادة النصارى على النصارى، واليهود على اليهود، ولا يقبلونها منهم على المسلم[3].
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك