د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
الوجل.. الدرجة الثالثة من هرم الخشوع، وهي نظرية للدكتور راغب السرجاني تُبَيِّن لنا درجات الخشوع في الصلاة بشكل مبتكر وواضح، فما معنى الوجل؟ وكيف يحصله
المتابع معنا الحديث عن هرم الخشوع سيجد أن قاعدته الكبرى، (الوعي.. الدرجة الأولى من هرم الخشوع) قد تتسع لأناس كثيرين، بينما إذا ارتقينا إلى الدرجة الثانية (الطمع.. الدرجة الثانية من هرم الخشوع) سنجد العدد يقل، وسيقل أكثر في الدرجة الثالثة، التي سنتحدث عنها في هذا المقال وهي:
◄◄الوجل:
هذه حالة قلبية يضطرب فيها القلب ويقلق! ويشعر فيها بخوف يقوده إلى عدم استقرار؛ بل إلى حالة من الألم! وقد يستغرب القارئ من وصول المُصَلِّي إلى هذه الحالة غير المستقرَّة؛ بينما نحن نتحدَّث عن درجة عالية في الهرم! فالمُصَلِّي في الدرجة الأولى أو الثانية لا يجد في قلبه هذا الوجل أو الألم، وكنا نتصوَّر أن المُصَلِّي كلَّما ارتقى ازداد اطمئنانًا؛ لكن واقع الأمر أن هذا الوجل الذي يشعر به المُصَلِّي في هذه الدرجة مردُّه إلى أمرين اثنين..
أمَّا الأمر الأول فهو استشعار المُصَلِّي أنه يقف بين يدي ربِّ العالمين، وهو شعور يدفع إلى الرهبة لا محالة، وهو لا يصل إلى هذا الشعور إلَّا إذا مرَّ بالدرجتين السابقتين من الهرم؛ لأنه إذا كان لاهيًا عن فهم معاني الآيات والأذكار، أو كان غير طامع فيما عند الله سبحانه، ولا راغبًا في نعيمه، ولا خائفًا من بطشه، فإنه لا شَكَّ غير مُقَدِّر لمقامه بين يدي الجليل الذي يملك السموات والأرض، ويملك الدنيا والآخرة. ومن هنا فالقراءة الواعية للقرآن، والمتفاعلة معه، تقود تلقائيًّا إلى هذه الدرجة من «الوجل»، وكلَّما ازداد المصلِّي فهمًا وتفاعلًا زادت درجة الوجل، وهذا علامة على الإيمان، وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2].
وأمَّا الأمر الثاني الذي يدفع إلى الوجل هو شعور المُصَلِّي أن أعماله لا ترقى إلى أعمال المؤمنين الذين يقرأ عنهم في القرآن الكريم؛ فإخلاصه ليس كإخلاصهم، وإيمانه ليس كإيمانهم، وإنفاقه ليس كإنفاقهم، وهكذا.. إنه يَتَّهم نفسه دومًا، ويشعر أن ما قدَّمه قليلًا وزهيدًا، وأن هذا القليل لن يُنجيه؛ بل قد لا يُقْبَل أصلًا من الله تعالى! وهذه الحالة النفسية تُصيبه بالوجل والاضطراب والقلق، وهي ما جاءت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60]. ولقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى عندما سألته أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن معنى هذه الآية، فقد قالت: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. قالت عائشة: أَهُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ»[1]. فهي درجة -وإن كانت مؤلمة- فإنها محمودة.
والخشوع في هذه الدرجة خشوع «قهري» لا يملك المُصَلِّي أن يدفعه، ولا يستطيع في صلاته أن ينصرف بذهنه بعيدًا عن الصلاة حتى لو أراد! وهذه حالة مختلفة -لا شَكَّ- عن حالة المُصَلَّي في الدرجتين السابقتين من هرم الخشوع؛ فالمُصَلِّي في درجة «الوعي» يُجاهد نفسه ليظلَّ مربوطًا بحبل القرآن، «واعيًا» لما يقرأ، وهو في درجة «الطمع» يتمسَّك بالخشوع «طمعًا» في أجرٍ أكبر، وثوابٍ أعظم، وحاله -كما مرَّ بنا- شبيه بحال العامل الذي يعمل في مزرعة، وهو يأخذ أجرًا على عمله، وكلَّما أتقن عملَه زاد أجره؛ ومن ثَمَّ فهو حريصٌ على زيادة الإتقان؛ أي زيادة الخشوع، ليزيد أجره، أمَّا هنا في درجة «الوجل» فالمُصَلِّي حاله مختلف تمامًا، فحاله كحال المتَّهم الذي يقف في قضية كبرى أمام قاضٍ عظيم! فهو يشعر بموقفه الخطير، خاصَّة إن كان يُدرك أنه مخطئ فعلًا، وأنه مستحقٌّ للعقاب، ولكن من المحتمل أن يُقَدِّر القاضي موقفَه ويعذره، وبالتالي قد يُخَفِّف الحكم الصادر عليه، أو قد يعفو عنه بالكلية! فالمتهم هنا متعلِّقٌ تمام التعلُّق بالقاضي، ولا يستطيع ذهنه أن ينصرف عنه، وهو لا يشعر بالناس حوله، ولا بالحوادث والعوارض.. إنه مشغول تمام الانشغال بمسألته الخطيرة، ومستقبلُه يعتمد على هذه الدقائق القادمة، فكيف يشرد بذهنه؟! وكذلك المُصَلِّي في هذه الدرجة يتعلَّق قلبه تمام التعلُّق بربِّه -عز وجل- الذي سيحكم في قضيته الخطيرة جدًّا، والعفو هنا يعني جنة، والعقاب يعني نارًا، فكيف يلتفت أو يشرد؟! إنه وَجِلٌ تمام الوجل، ومضطربٌ تمام الاضطراب.. وأمنيته القصوى هنا ليست رفع الدرجات، أو تكثير الحسنات، إنما هي باختصار العفو والقبول!
وقد ذكرنا في درجة «الطمع» أن المُصَلِّي يُغَلِّب صفات الله الرحيمة على صفاته الشديدة؛ ومن ثَمَّ قد يدخل في دائرة «عدم الاكتراث» بالتقصير أو النقص في العبادة؛ لكنه إذا استمرَّ في درجة «الطمع» ثابتًا، ولم يتراجع عنها، فإنه يتعرَّف على الله بشكل أكبر، خاصَّة مع دوام الخشوع والتركيز؛ ومن ثَمَّ يبدأ في الالتفات إلى صفاته الأخرى المُخَوِّفة؛ كالبطش والأخذ والقهر، وهنا يبدأ رحلة التوازن المحمودة.. لقد كان سابقًا يقرأ فقط قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر: 49]، «فيطمع» في عفو الله تعالى ومغفرته حتى مع التقصير الكبير للعبد، ولا يلتفت المُصَلِّي في درجة «الطمع» إلى الآية التالية لهذه الآية المُرَجِّية في الله؛ لكنه الآن في درجة «الوجل» يلتفت -وبقوة- إلى الآية الثانية بعد الآية السابقة، فيجد فيها: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر: 50]، فهنا يحدث له الوجل والاضطراب؛ لأنه لا يدري ما يُفعل به، فإن كان الله -عز وجل- سيُبرِز صفات رحمته مع فريق من البشر، فإنه في الوقت نفسه سيُبرِز صفات بطشه مع فريق آخر، وإلَّا فلا معنى لوجود النار.
فإذا فَقِهنا هذه الحقيقة انتبهنا إلى أن القرآن الكريم يحوي الكثير من الآيات التي تجمع في سياقها بين الرحمة والعذاب، وبين الثواب والعقاب؛ وذلك مثل: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}[فصلت: 43]، ومثل: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ}[غافر: 3]، ومثل: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[آل عمران: 129]، [المائدة: 18]، [الفتح: 14]، ومثل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}[الرعد: 6]، وهكذا.. كما أنه مُلِئ كذلك بالتحذير المباشر من الله -عز وجل-، فنجد فيه مثلًا: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ}[آل عمران: 28]، ونجد: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}[البروج: 12]، ونجد: {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}[الزمر: 37]، ونجد: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة: 235]، وغير ذلك مما يصعب حصره؛ بل عندها سنلتفت إلى ملاحظات مهمَّة في القرآن الكريم؛ منها على سبيل المثال ما يقوله بعض الصحابة والعلماء[2] من أن أرجى آية في القرآن هي آية سورة الزمر، التي فتح فيها الله تعالى الباب على مصراعيه لكلِّ التائبين من أي ذنب كان؛ فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر: 53]، وهو هنا لم يُحَدِّد نوع الإسراف؛ فشمل ذلك الصغائر والكبائر، وشمل ذلك القديم والحديث، بل شمل ذلك الشرك بالله إذا تاب العبد منه، ورجع إلى الله بعقيدة سليمة.. فهذه أرجى آية في القرآن الكريم، بمعنى أنها أكثر آية حفَّزت البشر على الرجاء في الله الرحيم سبحانه، وكنا في درجة «الطمع» ننظر إلى هذه الآية وكأنها نزلت بمفردها ليس معها آيات تُوازِنها! أمَّا الآن ونحن في درجة «الوجل» فإننا ننظر إلى الصورة كاملة، فننتبه إلى الآيات التالية التي تُوَضِّح معنًى إضافيًّا مهمًّا للغاية! إننا فوجئنا أن أرجى آية في القرآن الكريم متبوعة بسبع آيات كلها تُحَذِّر من عواقب قراءة آية المغفرة والرجاء منفصلةً عن السياق القرآني المتوازن! إننا وجدنا سبع آيات من الآيات القوارع التي تُزلزل كيان أيِّ متهاونٍ في حقِّ الله -عز وجل-.. قال تعالى بعد أرجى آية: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر: 54-60]..
إن المُصَلِّي في درجة «الوجل» لا يثق كثيرًا في عمله، فيرى نفسه مستحقًّا لكلِّ ألوان العقاب التي قرأها في هذه الآيات القوارع، وهذا يقوده دون أن يشعر إلى النسيان النسبي لآية الرجاء، والتركيز الشديد في آيات العذاب! ومن ثَمَّ يشعر «بالوجل»! والحقُّ أنني أرى أن المُصَلِّي في هذه الدرجة الثالثة -وهي درجة «الوجل»- أكثر أمانًا، وأقرب إلى النجاة منه وهو في الدرجة الثانية، وهي درجة «الطمع»؛ لأن هذا الشعور بالقلق والخوف سيدفعه دومًا إلى العمل، وسيضطره إلى الإتقان والتحسين، وسيقوده إلى التوبة من ذنوبه باستمرار؛ لذلك جَعَلْتُ في هرم الخشوع درجةَ «الوجل» أعلى من درجة «الطمع»؛ فهي مرحلة متطوِّرة في الإيمان، يكون صاحبها قد «ارتقى» إليها بعد فترة من الزمن عاشها في درجة «الطمع».
وقد يلفت النظر أن أهل هذه الدرجة مُعَرَّضون لليأس من رحمة الله سبحانه، أو القنوط من النجاة من عذاب الله، ولكن هذا في رأيي قليل للغاية! فالإنسان مجبول على تغليب صفات الرحمة الإلهية على صفات العذاب والبطش، ونحن في غالب الأحوال نخاف على أنفسنا -وعلى الناس- من الإهمال نتيجة «الطمع» أكثر من الإحباط نتيجة «الوجل»؛ ومن ثَمَّ فإن العبد لو دخل في يأس أو إحباط فإن هذا غالبًا يكون بشكل مؤقَّت، ولا يمكث فيه المؤمن فترة طويلة.. إنني أقول هذا الكلام لأنني أرى أنه علينا أن ندفع أنفسنا بقوَّة من درجة «الطمع» الهادئة إلى درجة «الوجل» المضطربة! إن هذا الكلام قد لا يُعجب الناس! فالناس تسعى إلى الراحة، والنفس تكره ما يُؤذيها، لكن صدِّقُوني.. ليس هناك مخاض بلا ألم، وليس هناك نعيم بلا تعب، ومَنْ سعى إلى الراحة في الدنيا فقد يشقى في الآخرة! ولئن «تَوْجَل» الآن وتسعد غدًا أفضل من أن تسعد الآن وتَوْجَل غدًا! {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: 47]! وعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، قَالَ: «وَعِزَّتِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. وعليه فإنه علينا أن نبحث عن أقوى الطرق لدفعنا «مختارين» إلى درجة «الوجل»!
وأنا أرى أن أفضل وسيلة للترقِّي إلى هذا المستوى، ودخول درجة «الوجل» هي استحضار الذنوب التي ارتكبها العبد خلال سنوات عمره المختلفة؛ فعند رؤية هذه الجبال من السيئات فإن القلب «يوجل» لا محالة، ويُصبح همُّنا في الصلاة أن يَقْبَل اللهُ -عز وجل- معذرتنا، ويعفو عنا، ولو زاد على ذلك أن أدخلنا الجنة فهذا كرمٌ ما بعده كرم! وهذا الشعور مختلف بطبيعة الحال عن شعورنا في درجة «الطمع»؛ حيث كنَّا «على يقين» -وهمًا- أننا من أهل الجنة! ونحاول فقط الترقِّي والصعود في الدرجات، وهذا وهم خطير، فبعض الذنوب تطيش تمامًا بكفَّة الحسنات! إننا سنُدرك عند استحضار ذنوبنا الكثيرة قيمة الآية القرآنية التي تُحَدِّد معنى الفوز الحقيقي، الذي يمكن أن يُحَقِّقه الإنسان؛ قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران: 185]، فمجرَّدُ الزحزحةِ عن النار ودخول الجنة فَوْزٌ، دون النظر هنا إلى الدرجة في الجنة، فكلُّ أهل الجنة سعيد بلا تعاسة؛ لكن المشكلة التي لا تخطر على بال «الطامعين» أنهم قد لا يكونون -بسبب ذنوبهم- من أهل الجنة أصلًا! فالذي يُدرك ذلك «يوجل»، وأيُّ وَجَل!
فلتعقد لنفسك -أخي- جلسات محاسبة دقيقة قبل أن تُعْقَد لك! ولتتدبَّر قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتزيَّنوا ليوم العرض الأكبر»[4]. ولنراجع قصة حياتنا.. ماذا ارتكبنا في فترة شبابنا الأولى؟ إننا محاسبون منذ البلوغ.. ماذا عملنا في العام الماضي، والذي قبله، ومنذ عشر سنين؟ كيف كانت علاقتنا بآبائنا وأمهاتنا ورَحِمِنا وجيراننا وأصدقائنا، وبمَنْ نعرف ومَنْ لا نعرف؟ ماذا عملت عيوننا وآذاننا؟ ماذا أكلنا في بطوننا؟ وماذا اقترفت أيدينا؟
وهنا نقطة مهمَّة لا بُدَّ أن ننتبه إليها! هل حالنا أمام الناس كحالنا ونحن في خلواتنا؟ إن كنا لا نُدرك خطورة ذلك فلنرجع إلى تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا جميعًا حين قال -كما روى ثوبان رضي الله عنه-: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا». قال ثوبان: يا رسول الله؛ صِفْهُمْ لنا، جَلِّهِمْ لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»[5]. ولاحظ هنا أن هؤلاء الذين يصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «يَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ» كما يأخذ الصحابة! أي إنهم لا يكتفون بأداء الفرائض؛ بل يقومون الليل كذلك! وهذا ما يخلع قلوب العارفين، فيدخلون في درجة «الوجل» خشية أن يكونوا من هؤلاء، وتُصبح عندها صلاتهم وقيامهم وعبادتهم هباءً منثورًا!
وأَلْسِنَتنا! هل نذكر ما قالته ألسنتنا على مرِّ الأيام والسنوات؟! فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ»[6]. وسأل معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نَبِيَّ الله؛ وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»[7] فكم كلمة قلناها لا ندري ما فعلت بنا؟!
وأشنع من كل ذلك ما حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفًا حال أول الذين تُسَعَّر بهم جهنم! إنهم ليسوا سفكة الدماء، أو آكلي الربا، أو مرتكبي الزنا؛ بل هم علماء قارئون لكتاب الله تعالى مجاهدون متصدِّقون!! اسمع إلى الوصف الذي يشيب له الولدان! فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[8]! إننا لو تدبَّرنا في هذا الموقف ما طابت لنا حياة! ولصار «الوَجَلُ» شعار حياتنا! فمَنْ منَّا يستطيع أن يجزم أنه يعمل مخلصًا لله تمامًا، دون أن يكون للناس نصيب في عمله؟! إن النية تتقلَّب علينا كثيرًا؛ ومن ثَمَّ فقد تكون هناك أعمالُ خيرٍ كثيرة عملناها لكنها لم تكن لله سبحانه؛ إنما كانت فقط ليقول الناس عنَّا كذا أو كذا! فهذه الأعمال لم تَضِعْ فقط، ولكنها صارت من مؤهلات دخول جهنم! لأن العبد استهان بالله -عز وجل-؛ بينما اعتبر بعباده وخلقه! إن القضية خطيرة للغاية، ومراجعة ذنوبنا -أو ما «نشكُّ» في أنها ذنوب- سيقودنا -بإذن الله- إلى الدخول في درجة «الوجل»، وهي وإن كانت درجة مؤلمة فإنها مفيدة للعبد، ودافعة للخيرات، فيجب علينا أن نحرص على دخولها، بل والاستفادة القصوى منها، والله المستعان.
ولعلَّنا هنا نفهم لماذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعليمنا تذكُّر الذنوب في كل مرحلة من مراحل الصلاة، وتذكُّر الاستغفار منها، وبشكل لافت للنظر جدًّا، حتى يُصبح الأمر وكأنه هو القضية الوحيدة التي ينشغل بها المُصَلِّي في صلاته، وسنمرُّ في صفحات الكتاب المختلفة على مثل هذه الأدعية والأذكار، ولكن لنأخذ هنا عدَّة أمثلة تُقَرِّب الصورة..
في دعاء الاستفتاح -وهو أول ما نقوله بعد تكبيرة الإحرام- علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالمَاءِ وَالْبَرَدِ[9]»[10]. فهكذا من أول الصلاة ونحن نتذكَّر ذنوبنا، ونتوب منها.
وفي الرفع من الركوع كان يقول أحيانًا دعاءً مشابهًا لدعاء الاستفتاح، فيقول: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ»[11].
وكان أحيانًا يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»[12].
وكان يقول في الجلسة التي بين السجدتين: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي»[13].
ولمَّا جاءه أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه يطلب منه أن يُعَلِّمه دعاءً يدعو به في صلاته، قال له: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»[14]. ورجَّح بعض العلماء أن هذا الدعاء يُدعى به بعد التشهد[15]، ورجَّح آخرون أنه عام في السجود وبعد التشهد[16].
أمَّا السجود فميدان فسيح للدعاء، والدعاء فيه متنوِّع، ولكن يأتي في مقدمته الدعاء بالمغفرة من الذنوب.. وعلى سبيل المثال كان من أدعيته صلى الله عليه وسلم في سجوده: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ»[17].
وليس في الصلاة فقط، بل قبلها! فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد وضوئه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ»[18].
وكذلك بعد التسليمة الثانية، والخروج من الصلاة، يكون أول أعماله أن يستغفر الله سبحانه، فقد قال ثَوْبَان رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا..»[19].
وكان يبدأ صلاة الليل بدعاء طويل، ثم يختم هذا الدعاء بالاستغفار فيقول: «.. فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»[20].
فكما نلاحظ فالشغل الشاغل له صلى الله عليه وسلم في كل أعمال الصلاة -وكذلك قبلها وبعدها- هو الاستغفار من الذنوب، والإنابة إلى الله سبحانه، وكلُّ هذا ليُعَلِّمنا الأسلوب المؤدِّي إلى «الوجل»، وبالتالي الخشوع الحقيقي غير المتكلَّف.
وهناك ملاحظة في غاية اللطف! وهو أنه أحيانًا يقود أحدُ الذنوب الكبرى العبدَ إلى التوبة النصوح، وإلى الالتجاء الخاشع لله -عز وجل- لكي يقبل التوبة؛ ومن ثَمَّ ينتقل المُصَلِّي من صلاة غير خاشعة إلى الدرجة الثالثة مباشرة في هرم الخشوع، وهي درجة «الوجل»، ويكون السبب هنا ذنبًا أو خطيئة! ولهذا قال ابن عطاء السكندري: «معصيةٌ أورثت ذلًّا وافتقارًا خيرٌ من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا!»[21]. وهو هنا لا يقصد أن المعاصي مفيدة، وأن الطاعات مضرَّة، ولكنه يُرَغِّب العاصين في الإنابة إلى الله تعالى، ويُحَذِّر الطائعين من التكبُّر بطاعاتهم على العصاة، أو الظنِّ أنهم يدخلون الجنة بأعمالهم لا برحمة الله -عز وجل-! وكأنني أتخيَّل أنه لو كان الشيطان يعلم أن هذه هي الخاتمة للمعصية ما دفع إليها العبد! ولكن هذا تقدير اللطيف الخبير سبحانه.. ومثل هذه الاستثناءات لا تُلغي القاعدة الأصيلة؛ وهي التدرُّج في درجات الهرم، ولكن الله -عز وجل- أوجدها ليجعل الباب مفتوحًا دائمًا للعصاة كي يعودوا إليه، ويقترَّبُوا منه.
أيضًا ينبغي أن نلاحظ أن المُصَلِّي الذي يَصِل إلى هذه الحالة الشعورية الوَجِلَة بشكل عابر غير متكرِّر؛ وذلك لارتكابه ذنبًا ما -كما مرَّ بنا- جعله على وجل، أو لسماعه درسًا أو موعظة أثَّرت فيه، أو لمعايشته لحدث كبير؛ كموت صديق، أو مرض حبيب، قد يترك هذه الدرجة بسرعة، ويعود إلى مستواه الأول، فهذا الوجود العابر في هذه الدرجة لا يُعتبر بهذه الصورة وصولًا إلى الدرجة الثالثة من هرم الخشوع؛ إنما الوصول الحقيقي يعني الثبات، وهو أن تكون غالب صلاته على هذا الوصف الذي شرحناه؛ ودليل ذلك أن كثيرًا من الناس يشعر بهذا الوجل والاضطراب مرَّة أو مرَّات يذكرها، ومع ذلك فصلاته لا تتسم بالخشوع، وأعماله لا يغلب عليها المراقبة لله -عز وجل-؛ فهذا عليه أن يبدأ الصعود من أول الهرم بشكل منتظم ورصين، وإلَّا فقد يضلُّ الطريق بالكلية!
وأخيرًا -في أحيان نادرة، ولكنها موجودة- قد يصل إلى هذه الدرجة من الخشوع إنسان غيرُ مسلم أصلًا! وذلك من وَقْع الآيات القرآنية التي سمعها، وشدَّة انبهاره بها؛ خاصَّة إذا تدبَّر في معانيها، وفَقِهَ مرادها، وهذا ما حدث مثلًا مع جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل أن يُسْلِم، مع أنه كان يسمع القرآن للمرَّة الأولى تقريبًا! فقد قال: «سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطُّور، فلمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ` أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ}[الطور: 35-37]، كاد قلبي أن يطير»[22]. وفي رواية: «وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي»[23]. وهو في هذه الحالة إمَّا أن يلتقط الفرصة ويتقرَّب من الله سبحانه، ويصير عبدًا خاشعًا (مثلما فعل جبير بن مطعم رضي الله عنه)، وإمَّا أن تضيع عليه الفرصة، ويرجع إلى دركات الكفر غير عابئ بما سمع من آيات أوصلته إلى هذه الدرجة العالية من الخشوع! ولعلَّ مراجعة موقف عتبة بن ربيعة القائد القرشي المشرك عند سماعه صدر سورة «فُصِّلت» يُفَسِّر لنا هذا الموقف؛ فقد انبهر الرجل انبهارًا كاملًا، وخشع خشوعًا لا يصل إليه كثير من المؤمنين! ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُناشده أن يكفَّ عن القراءة «وَجَلًا» من نزول العذاب الذي نزل على عادٍ وثمود[24]! مما يعني أنه موقِن بصدق الآيات، لكنه ما لبث أن انتكس، ونسي خشوعه المؤقَّت، وعاد إلى حالته الكفرية الأولى، ونسأل الله العافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنون (3175)، واللفظ له، وابن ماجه (4198)، وأحمد (25302)، والحاكم (3486)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (162).
[2] من هؤلاء علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: أرجى آية في كتاب الله هذه الآية. وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. انظر: السمرقندي: بحر العلوم، 3/191. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية... وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وهذه أرجى آية في القرآن. انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 15/269.
[3] ابن حبان (640)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: التعليقات الحسان 2/95.
[4] ذكره الترمذي في سننه (2459)، وابن المبارك: الزهد ص103 (306)، وابن أبي شيبة: المصنف، 7/96 (34459)، وأحمد بن حنبل: الزهد، ص99 (633)، وابن أبي الدنيا: محاسبة النفس ص22، وابن الجوزي: صفة الصفوة، 1/286.
[5] ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، (4245)، والطبراني: المعجم الأوسط، (4632)، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، 4/246، وقال المنذري: رواه ابن ماجه ورواته ثقات. انظر: الترغيب والترهيب، 3/170، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (505).
[6] البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، (6112)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار... (2988). وفي رواية: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ». الترمذي: كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس (2314)، وقال: حديث حسن. وابن ماجه (3970)، وأحمد (7214)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد حسن. وابن حبان (5706)، والحاكم (8769)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[7] الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، (2616)، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22121)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح. والحاكم (3548)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
[8] مسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحقَّ النار، (1905)، والنسائي (4345)، وأحمد (8260)، والحاكم (364).
[9] ذكر الثلج والبرد تأكيدًا، أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقيل: عبَّر بذلك عن غاية المحو؛ فإن الثوب الذي يتكرَّر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. ويُحتمل أن يكون المراد أنَّ كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود، 2/344.
[10] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، (711) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، (598).
[11] مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، (476) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وأحمد (19141)، وابن حبان (956).
[12] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء في الركوع، (761) عن عائشة ل، ومسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (484).
[13] أبو داود: كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (874) عن حذيفة اليمان رضي الله عنه، والنسائي (656)، وابن ماجه (23423)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. وصححه الألباني، انظر: صحيح أبي داود، 4/28.
[14] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام، (799)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، (2705).
[15] قال ابن الجوزي: وَهَذَا الدُّعَاء مِمَّا يسْتَحبُّ أَن يُدْعَى بِهِ فِي الصَّلاة قبل التَّسْلِيم. انظر: ابن الجوزي: كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/13، وقال الملا الهروي: عَقِبَ التَّشَهُّدِ كَمَا قَيَّدَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2/753. وقال العيني: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة، ولكن المراد بعد التشهد الأخير قبل السلام. انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 6/119، ورجَّحه ابن دقيق العيد، انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ص208.
[16] قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يقضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله ولو فعل فيها -حيث لا يُكره الدعاء في أي الأماكن كان- لجاز ولعلَّ الأولى: أن يكون في أحد موطنين: إما السجود وإما بعد التشهد؛ فإنهما الموضعان اللذان أُمِرْنَا فيهما بالدعاء، قال عليه الصلاة والسلام: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ». وقال في التشهد: «وليَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ». ولعلَّه يترجَّح كونه فيما بعد التشهد: لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحلِّ. ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ص208، وقال الفاكهي: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين. انظر: ابن حجر: فتح الباري 2/320.
[17] مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (483) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو داود (878)، وابن حبان (1931)، والحاكم (969).
[18] الترمذي: أبواب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، (55) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والبيهقي: السنن الكبرى، (375)، والطبراني: المعجم الأوسط، (4895)، وحسنه ابن عساكر، انظر: معجم الشيوخ، 2/1048، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (6167).
[19] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفة، (591)، والترمذي (300)، وأبو داود (1513)، والنسائي (1260)، وابن ماجه (928)، وأحمد (22419)، والدارمي (1348).
[20] البخاري: أبواب التهجد، باب التهجد بالليل وقوله -عز وجل-: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، (1069) عن عبد الله بن عباس ب، والنسائي (7705)، وابن ماجه (1355)، وأحمد (3368).
[21] ابن عطاء السكندري: حكم ابن عطاء الله السكندري، ص141.
[22] البخاري: كتاب التفسير، سورة والطور، (4573).
[23] البخاري: كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، (3798).
[24] راجع القصة كاملة: ابن كثير: السيرة النبوية، 1/502، والأصبهاني: دلائل النبوة، ص221، وصححه الألباني، انظر: صحيح السيرة النبوية، ص161، وابن أبي شيبة: المصنف 14/296، وفي مسند أبي يعلى 3/349، وابن إسحاق: السيرة النبوية، 1/72.
◄◄ هذا المقال من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني
يمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك