الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الحياة الدينية والعلمية في إفريقية السوداء، كيف كانت؟ وما التحولات التي طرأت في المجتمع؟
إذا ما عبرنا منطقة الشمال الأفريقي، ودخلنا إلى افريقية السوداء؛ فسوف نجد جهودا شعبية إسلامية ناجحة، تكررت في الأمكنة والأزمنة المختلفة. وحسبنا هنا في عملية التحليل التي نقوم بها -لدحض الآراء العمومية غير العلمية - أن نرصد بعض المحاولات البارزة التي نجح أصحابها في نشر كلمة الله، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ومقاومة الجهل والبدع والانحلال.
لقد شهدت بلاد الهوسا في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري (15 للميلاد) تحولات خطيرة وحركة إصلاحية عظيمة قادها بعض السلاطين كسلطان (كانو) محمد رمفا، وسلطان (كتسينا) محمد كورو، وسلطان (زاريا) محمد رابو، الذين اعتنوا اعتناء كبيرا بإحياء الشعائر الدينية، ومحاربة الوثنية، وإضفاء الثوب الإسلامي على النظم السياسية، بالإضافة إلى توسيع قاعدة التعليم، وتشجيع العلماء لنشر العلم في بقاع البلاد المختلفة، ونخص في هذا المجال السلطان محمد رمفا؛ الذي وضع اللبنة الأساسية للبنية السياسية والاجتماعية والشرعية للدولة، والذي غير من ملامح الدولة شبه الوثنية، وأدخل نظام الدواوين الإسلامية في سلطنته[1].
ولقد تزامن عهد هذا السلطان مع زيارة أحد كبار العلماء المجاهدين من الشمال الإفريقي لبلاد السودان الأوسط والغربي، وخاصة أغذر وكاتسينا وكانوا وستفي... وذلك الشيخ هو محمد بن عبد الكريم المغيلى التلمسانى التواتي.
وتذكر بعض المصادر أن المغيلي أنشأ مدرسة إسلامية في كاتسينا، وجلس يعلم الناس شؤون دينهم... وأثمرت مجهودات محمد بن عبد الكريم المغيلي في تخريج عدد كبير من العلماء، وتأسيس مدارس علمية كثيرة[2].
وفي الربع الأخير من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) ظهرت حركة الشيخ (عثمان بن فودى) النيجيري (1166 - 1233هـ) (1752 ـ 1817م)، وكانت تقوم على نشر الإسلام وتطهيره من البدع والخرافات التي لحقت به.
وكان الشيخ (عثمان بن فودى) في بداية دعوته يحدث الناس في خمسة أمور رئيسة:
أولها: ما فرضته الشريعة من الأصول والفروع الظاهرة والباطنة.
وثانيها: ما يتعلق باتباع السنة وترك ما دونها من البدع والمنكرات.
وثالثها: في رد الأوهام والآراء الخطأ في أذهان الطلبة؛ مما تلقوه من علم الكلام، وتكفيرهم عامة الناس بلا مبرر شرعي.
ورابعها: فيدور حول إخماد البدع الشيطانية التي أحدثها الناس في دين الإسلام، ورد العوائد المخالفة للشرع.
ويختص الأمر الخامس: بتعليم العلوم الشرعية وتبسيط مشكلاتها، وتقريبها من فهم العوام.
وعندما تكاثر أتباعه، وهاجر إليه الناس من أقاصي البلاد مستمعين لوعظه، ومقتدين بسلوكه، حسده علماء زمانه، وأظهروا له العداوة والبغضاء، ووشوا به لدى الحكام لتعطيل مسار دعوته... وبالرغم من ذلك فلم يكترث الشيخ/ عثمان بن فودي بكيدهم، ومضى يحاربهم باللسان والقلم، داحضا افتراءاتهم، ومبلغا رسالته بصدق وإخلاص أذهل الناس جميعهم.
ولقد استطاع الشيخ/ عثمان بن فودي - بعد فترة وجيزة من قيام دعوته - تكوين جماعة تسمى بـ (الجماعة)، وكان قوامها تلاميذ الشيخ نفسه، الذين تلقوا العلم على يديه، والذين صقلهم فكريا، وهيأهم ذهنيا وعلميا للقيام بمسؤولياتهم في التربية والدعوة إلى دين الله[3].
وفي سبتمبر (1788م) استدعى سلطان غوبر باو علماء بلاده، وكان من بينهم الشيخ/ عثمان بن فودي للاجتماع به في مناسبة عيد الأضحى، ولما اجتمعوا به في مكان يسمى (مغمى) حاول سلطان غوبرا إرضاء الشيخ/ عثمان ابن فودى؛ بإعطائه خمسمائة مثقال من الذهب كمكرمة له... لكن الشيخ/ عثمان فين فودى - على غير عادة العلماء الآخرين الذين كانوا معه ـ رفض تلك الهدية، وطالب بدلا منها بخمسة أشياء:
أن يسمح له بالحرية في التجول في البلاد للدعوة في سبيل الله.
ألا يعترض سبيل أي شخص يريد الاستجابة لدعوة الشيخ.
أن يوقر كل عالم يلبس العمامة.
أن يطلق سراح المسجونين السياسيين.
ألا تفرض ضرائب باهظة على الرعية[4].
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السلطان غزبر (باو) قد قبل هذه الشروط مرغمًا، وكان هذا الموقف نقطة انطلاقة لدعوة الشيخ/ عثمان بن فودى، واعتبر أول انتصار سياسي على حكام بلاد الهوسا.
وهكذا قدم الشيخ/ عثمان بن فودى تجربة لحركة إسلامية شعبية إصلاحية رائعة.
________________________________________
[1] أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقية، ص: 35، ط 1، الزهراء للإعلام العربي (1407هـ) مصر.
[2] المرجع السابق.
[3] أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقية، ص: 72، 73.
[4] المرجع السابق، ص: 76.
التعليقات
إرسال تعليقك