التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت هذه الحرب واحدة من نقاط التحوُّل في تاريخ الدولة العثمانية، بل وفي تاريخ روسيا وأوروبا.
هذه واحدةٌ من نقاط التحوُّل في تاريخ الدولة العثمانية، وهي -أيضًا- نقطة تحوُّلٍ في تاريخ روسيا وأوروبا، ولذلك أفرد لها المؤرِّخون صفحاتٍ كثيرةً لتحليلها. سنُحاول قدر الإمكان اختصار الأحداث حتى لا يتشتَّت القارئ، ومن أراد الزيادة فليعد إلى المراجع الكثيرة التي فصَّلت في يوميَّات المعارك.
مع أن الدولة العثمانية أعلنت الحرب على الروس في أكتوبر من عام 1768م إلا أنها لم تأخذ «الفعل» المناسب، وتلكَّأت في الخطوات؛ حيث خرج جيشها متثاقلًا في ربيع 1769م إلى ناحية البغدان[1]. شجَّع هذا التردُّد الروسَ على اقتحام الحدود العثمانية في ثلاث جبهات؛ البغدان، والقرم، والقوقاز.
أمَّا الجبهة الأولى فقد حقَّق فيها الروس نجاحًا كبيرًا حيث حاصروا خوتين Khotyn (شمال البغدان، وهي في جنوب أوكرانيا الآن)، ثم أسقطوها في 17 سبتمبر، وبعدها احتلوا العاصمة البغدانيَّة ياسي Jassy في 7 أكتوبر، ثم اخترقوا الإفلاق، واحتلوا بوخارست في 17 نوفمبر، ومنها تشعَّبت قوَّاتهم لتحتل ولاية الإفلاق كلها[2]. هكذا في غضون شهرين سقط إقليمان كبيران مهمَّان في يد القوَّات الروسيَّة!
لم يكن نجاح الروس في الجبهتين الثانية والثالثة مماثلًا؛ إذ تعرَّضوا في الجبهة الثانية لهزيمةٍ من كريم كيراي خان القرم، الذي أَخَذَ منهم عددًا كبيرًا من الأسرى[3]، وفي الجبهة الثالثة وصلوا إلى چورچيا، ولكنهم لم يُحقِّقوا انتصارات حاسمة[4]، وعلى العموم فقد كانت الحملة إجمالًا ضربةً شديدةً للدولة العثمانية؛ فقد دخل الشتاء، وانقضى موسم الحرب، وستبقى البغدان والإفلاق في يد الروس إلى العام المقبل!
لم يكن عام 1770م بأفضل حالًا من سابقه، بل تلقَّت فيه الدولة العثمانية عدَّة صدماتٍ قوَّية! كانت الصدمة الأولى غير متوقَّعة تمامًا. لقد ظهر الأسطول الروسي في بحر إيجة[5]، بل احتلَّ ميناء كورون[6] على الساحل الجنوبي لليونان! كيف وصل الأسطول الروسي إلى هذه النقطة؟! لقد أبحر الأسطول بقيادة إنجليزيَّة من بحر البلطيق، ومنه إلى بحر الشمال، فالقنال الإنجليزي، ثم المحيط الأطلنطي، فمضيق جبل طارق، ثم البحر المتوسط كله من غربه إلى شرقه، حتى دخل بحر إيجة! إنها رحلةٌ مجنونةٌ لا تقوى عليها الأساطيل الاحترافيَّة الكبرى، ومن الواضح أن العثمانيين لم يُتابعوا التطوُّر المذهل الذي وصلت إليه البحريَّة الروسيَّة في ظلِّ حكم الإمبراطورة كاترين الثانية، وفي ظلِّ التدريب الإنجليزي المستمر.
اكتشفت البحريَّة الفرنسيَّة وجود الأسطول الروسي في البحر المتوسط وأبلغت الدولة العثمانية عن طريق سفير فرنسا في إسطنبول، لكن العثمانيين لم يُصَدِّقوا[7]؛ فهذه هي المرَّة الأولى في التاريخ التي يدخل فيها أسطولٌ روسيٌّ إلى البحر المتوسط، ولذا كانت المفاجأة قاسية! الأكثر إدهاشًا أن الأسطول الروسي وصل إلى اليونان في فبراير 1770م[8]، وهذا يعني خروجه من روسيا في ديسمبر 1769م، أو في يناير 1770، وهذا مستحيل لأن بحر البلطيق متجمدٌ في هذا التوقيت، وهذا ما جعل العثمانيين مطمئنين إلى عدم قدرة الأسطول الروسي على القدوم في هذا التوقيت، ولكن الواقع أن روسيا كانت قد أرسلت عددًا من سفنها إلى عدَّة موانئ أوروبية بدايةً من سبتمبر 1769م، وقبل الجليد، وذلك تمهيدًا لخروج هذه السفن في الشتاء لمباغتة العثمانيين الذين لن يتوقَّعوا أبدًا الهجوم في هذا التوقيت، وكانت هذه الموانئ تشمل كوبنهاجن Copenhagen في الدنمارك، وماهون Mahon في إسبانيا، وبورتسموث Portsmouth في إنجلترا، ولشبونة Lisbon في البرتغال[9]. الحقُّ أن الإعداد الروسي للحملة كان ممتازًا!
كانت الصدمة الثانية هي اكتشاف العثمانيين أن المخابرات الروسيَّة كانت قد رتَّبت اتِّفاقًا سرِّيًّا مع اليونانيين في شبه جزيرة المورة للقيام بانقلابٍ على الدولة العثمانية حال قدوم الأسطول الروسي، مع وعدٍ بإقامة دولةٍ يونانيَّةٍ أرثوذكسيَّةٍ برعاية الروس، ومِنْ ثَمَّ قامت فعلًا الثورة، التي عُرِفت بثورة أورلوڤ Orlov revolt نسبةً إلى قائد الأسطول الروسي أليكسي أورلوڤ Alexey Orlov[10].
كان نجاح الثورة جزئيًّا حيث تمكنوا من احتلال بعض القلاع، لكنهم فشلوا في السيطرة على المورة[11]، لكن كشفت هذه الثورة عن عدَّة أمورٍ سلبيَّة؛ أولًا ضعف المخابرات العثمانية التي لم تدرِ شيئًا عن مثل هذه الترتيبات، وثانيًا إدراك أن الروس سيستخدمون هذا الأسلوب الخطر في اختراق الدولة العثمانية، وهو أسلوب التواصل مع الشعوب وإغرائها بالانفصال، والتحفيز بالدين، ولا ننسى أن الروس أرثوذكس، وكذلك معظم الشعوب النصرانية التابعة للدولة العثمانية، فهذا مدخلٌ في غاية الخطورة، وثالثًا كانت الثورة دليلًا على أن الشعوب صارت غير راضيةٍ عن الحكم العثماني، وتريد الفكاك منه في أقرب فرصة، ولا شَكَّ أن فساد الإنكشارية ورجال الحكومة الذي دفع المسلمين في الأقطار المسلمة التابعة للعثمانيين إلى البحث عن الاستقلال سيدفع غير المسلمين بصورةٍ أكبر، وما رأيناه اليوم في اليونان من المتوقَّع أن نراه في أقطارٍ نصرانيَّةٍ أخرى قريبًا.
لم يكن هذا التوقيت الشتوي مناسبًا لعمليَّاتٍ عسكريَّةٍ بحريَّة، ولذلك عسكر الأسطول الروسي في كورون في انتظار الصيف، وكذلك لم يتقدَّم الأسطول العثماني لملاقاة الروس في هذا الوقت المبكر.
بينما لم يستفق العثمانيون من صدمة الأسطول الروسي تلقوا في صيف العام نفسه الصدمة الثالثة، ولكن في هذه المرَّة جاءته من الداخل! على الرغم من استقلال علي بك الكبير بمصر فإن السلطان محمود الأول أراد أن يستخدمه في قمع تمرُّدٍ في مكة، فأرسل إليه يطلب منه التوجُّه بجيشه المصري إلى هناك.
وافق ذلك رغبة علي بك الكبير في التوسُّع، وأرسل جيشًا بقيادة تابعه المملوكي محمد بك أبو الذهب لقمع التمرُّد، ثم انتهى الأمر بضمِّ الحجاز كلِّه لصالحه لا لصالح الدولة العثمانية[12]، وصارت مكة والْمَدِينَة بذلك خارج السيطرة العثمانية! كان من الواضح أن السلطان محمود الأول ضعيف الحيلة في هذا الموقف؛ فهو يطلب من رجلٍ متمرِّدٍ أصلًا أن يقمع تمرُّدًا آخر! والواقع أن الضعف الذي كانت تُعانيه الدولة العثمانية في هذا التوقيت هو الذي أدَّى إلى هذه المواقف الغامضة، ولا ننسى أن أمور الحجاز كانت تُتابَع بطاقم الحكومة العثمانية في مصر، ولا ننسى -أيضًا- أهميَّة مكة والْمَدِينَة الدينيَّة، ممَّا يجعل تمرُّدهما على الدولة العثمانية مقلِقًا لها جدًّا؛ فهذا الذي دفع السلطان إلى هذه المغامرة بإرسال علي بك الكبير إلى الحجاز، على أمل أن يطمئنَّ الرجل إلى رضا السلطان عليه، فيُقْلِع عن فكرة التمرُّد، ولكن السلطان لم يكن مصيبًا في تخمينه!
الصدمة الرابعة كانت في البحر! توجَّه الأسطول الروسي في شهر يونيو شمالًا إلى منطقة المضائق. التقى الأسطولان العثماني والروسي بالقرب من جزيرة خيوس. حقَّق العثمانيون نصرًا على الأسطول الروسي لكنه لم يكن حاسمًا، وبعدها انسحب العثمانيون إلى خليج جشمهChesme . تابع الروس الأسطولَ العثماني داخل الخليج في غفلةٍ منه! بعدها أطلق الأسطول الروسي عدَّة قذائف حارقة على الأسطول العثماني الراسي في الخليج فانفجرت بعض مخازن الوقود واحترق كامل الأسطول تقريبًا!
بعدها فكَّر الروس في العودة لاقتحام المضائق للوصول إلى إسطنبول، ولكن حالت التحصينات الموجودة على الدردنيل من دخولهم، فاكتفوا باحتلال جزيرة ليمنوس القريبة من مدخل المضيق[13][14]. لقد كان فقد الأسطول العثماني كارثةً بحريَّةً حقيقيَّةً للدولة؛ فهذه الخسارة ستُعطي الأسطول الروسي فرصة الحركة في البحر المتوسط دون وجل، خاصَّةً أن أسطول العثمانيين المتواجد في البحر الأسود لا يمكنه ترك قواعده خوفًا من تسلل الروس هناك.
الصدمة الخامسة في هذا العام كانت في البغدان؛ حيث أخرجت الدولة العثمانية جيشًا ضخمًا لاستعادة هذا الإقليم، وذلك في شهر يوليو 1770م. ضمَّ الجيش العثماني مائةً وخمسين ألف جنديٍّ تحت قيادة الصدر الأعظم عوض زادة باشا، بينما كان الجيش الروسي في المنطقة يقترب من أربعين ألفًا فقط[15]. في أول أغسطس 1770م التقى الجيشان بالقرب من نهر كاجول Kagul River جنوب مولدوڤا. كان النصر الروسي حاسمًا[16]. اختلفت التقديرات في عدد شهداء العثمانيين بين عشرين[17] وخمسين ألفًا من الجنود[18]! بعد الموقعة سقطت معظم القلاع العثمانية في المنطقة؛ وأهمها إسماعيل Izmail، وكيليا Kilia، وأكرمان Akkerman، وهذه كلُّها في أوكرانيا الآن، كما سقطت برايلا Brăila، وإيساكا Isaccea في شرق رومانيا، وأخيرًا بِندر Bender في مولدوڤا[19]. تُعتبر موقعة كاجول هي الموقعة الأساسيَّة في هذه الحرب كلِّها، وتأكَّد الجميع بعدها أن النتيجة النهائيَّة للصدام ستكون لصالح الروس.
أمَّا الصدمة السادسة والأخيرة في نوفمبر من هذا العام فكانت داخليَّةً مرَّةً أخرى! لقد أغرى صمتُ الدولة العثمانية عن انشقاق مصر وضياع الحجاز -بسبب انشغالها بحرب روسيا- الواليَ المصري على مواصلة التوسُّع. غزا جيشٌ مملوكيٌّ بقيادة محمد بك أبو الذهب فلسطين، وضمَّ غزة، والرملة، ثم اتجه شمالًا، واحتلَّ يافا، ثم بَدَأ مباحثاتِ تحالفٍ مع ظاهر العمر[20][21].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 1/623.
[2] Sicker, Martin: The Islamic World in Decline: From the Treaty of Karlowitz to the Disintegration of the Ottoman Empire, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2001 (A), p. 71.
[3] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. الصفحات 450، 451.
[4] Lang, David Marshall: A Modern History of Georgia, Weidenfeld and Nicolson, London, UK, 1962., p. 36.
[5] أوزتونا، 1988 صفحة 1/625.
[6] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 230.
[7] أوزتونا، 1988 صفحة 1/624.
[8] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010, p. lv.
[9] Anderson, R. C.: Naval Wars in the Levant 1559–1853, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 1952., pp. 281-282.
[10] Gallant, Thomas W.: The Edinburgh History of the Greeks, 1768 to 1913: The Long Nineteenth Century, Edinburgh University Press, Edinburgh, Scotland, 2015, p. 19.
[11] Pappas, Nicholas Charles: Greeks in Russian military Service in the Late Eighteen and Early Nineteenth Centuries, Stanford University, Stanford, California, USA, 1982., p. 74.
[12] الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، (دون سنة طبع). الصفحات 1/397، 398.
[13] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 336.
[14] Persen, William: The Russian occupations of Beirut, 1772–74, Journal of the Royal Central Asian Society, Vol. 42, No. 3–4, 1955., p. 276.
[15] Stone, David R.: A Military History of Russia: From Ivan the Terrible to the War in Chechnya, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2006., p. 80.
[16] Archer; Christon I., Ferris; John R., Herwig, Holger H. & Travers, Timothy H. E.: World History of Warfare, University of Nebraska Press, Lincoln, Nebraska, USA, 2002., p. 444.
[17] Stone, 2006, p. 80.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/626.
[19] Hötte, Hans H.A.: Atlas of Southeast Europe: Geopolitics and History, Brill, Leiden, Netherlands, 1699-1815, Edited by: Béla Vilmos Mihalik, 2017), vol. 2, p. 9.
[20] Philipp, Thomas: Acre: The Rise and Fall of a Palestinian City, 1730-1831, Columbia University Press, New York, USA, 2001, p. 41.
[21] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 897- 908.
التعليقات
إرسال تعليقك