التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في 10 يونيو سنة 1916م أعلن الشريف حسين أمير مكة قيام الثورة العربية، وخلع طاعة الدولة العثمانية، ونادى بنفسه ملكًا على كلِّ العرب.
لم تترك النزعات القوميَّة التي انتشرت في الدنيا في هذه الحقبة التاريخيَّة بلاد العرب! ظهرت هذه النزعة في معظم الأقطار العربيَّة؛ فمنها من أراد الاستقلال عن الدولة العثمانيَّة بمفرده كمصر، ومنها من أراد تكوين دولةٍ تجمع الدول العربيَّة الآسيويَّة، كتلك التي ظهرت في سوريا ولبنان، وامتدَّت إلى الحجاز.
كان من المتوقَّع أن تظهر هذه النزعات في ظلِّ الضعف العثماني الشديد في القرن الأخير من عمر الدولة، ولقد فكَّر محمد علي باشا قبل هذا الوقت بقرنٍ كاملٍ في جمع العرب جميعًا -في آسيا وإفريقيا- في دولةٍ واحدة، ولكن فشل مشروعه، وليت السلطان عبد المجيد الأول أعطاه حكم هذه الدول بإرادته؛ فقد كان قادرًا على الدفاع عنها، بدلًا من تقسيمها... على بريطانيا وفرنسا!
استغلَّ شريف مكة حسين بن علي الظروف الصعبة التي تمر بها الدولة العثمانيَّة في الحرب، وقرَّر التحرُّك الجدِّيَّ في سبيل تكوين مملكة عربية يكون هو على رأسها[1]. تولَّى الشريف حسين إمارة مكة منذ عام 1908[2]، وكان ابنه عبد الله في البرلمان العثماني[3]. لم يكن الانسلاخ بولايةٍ عن الدولة العثمانية المنهارة أمرًا مستغربًا في هذا الوقت، ولكن الغريب حقيقةً هو تفكير أحد الزعماء المسلمين الهاشميين، كالشريف حسين، في الاتفاق -بعد قيام الحرب العالمية الأولى المدمِّرة- مع الإنجليز النصارى ضدَّ العثمانيِّين المسلمين! لقد كان المفاوضون «الأشراف» يجلسون مع الإنجليز للتفاوض في التعاون المشترك بينما القوَّات البريطانيَّة تحصد أرواح عشرات الآلاف من المسلمين في جاليبولي!
بدأ الأمر بمراسلاتٍ عَشْرٍ بين الشريف حسين والسفير البريطاني في القاهرة السير هنري مكماهون Sir Henry McMahon، بدأت في 14 يوليو 1915 واستمرَّت إلى 10 مارس 1916[4].
في هذه المراسلات عرض الشريف حسين على بريطانيا الاعتراف بدولةٍ للعرب في مقابل قيام العرب بثورةٍ ضدَّ العثمانيِّين، واشتراك الطرفين -العربي والإنجليزي- في الحرب ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وقد وافقت الحكومة البريطانيَّة، مع التحفُّظ على بعض المناطق التي تريدها من أرض العرب؛ وهي الكويت، وعدن باليمن، وساحل سوريا! أدَّت هذه التحفُّظات الإنجليزيَّة إلى بعض الاختلافات بين الطرفين على حدود هذه الدولة المزمع تكوينها، ومع ذلك، وبعد فشل بريطانيا وفرنسا في اقتحام جاليبولي، وانسحابهم منها في يناير 1916، جاءت الموافقة الإنجليزيَّة السريعة للشريف حسين على طلباته، في مارس 1916[5]، وذلك لخوف الإنجليز من تطوُّر الموقف لصالح الدولة العثمانية، ومِنْ ثَمَّ بدأ الشريف في التجهيز للثورة العربية.
في الحقيقة أنا لست متعجِّبًا فقط من فكرة التعاون مع الإنجليز ضدَّ العثمانيِّين، ولكنِّي متعجبٌ كذلك من اطمئنان الشريف حسين لوعود الإنجليز، الذين اشتهروا بخلفهم لوعودهم السياسيَّة، ولا أدري كيف يثقون فيهم وهم واقعيًّا يحتلون مصر «العربيَّة» منذ 1882م، وقد وعدوا بالخروج منها فورًا بعد إخماد ثورة عرابي، وها هم فيها لمدَّة ثلاثٍ وثلاثين سنةً في وقت هذه المراسلات!
عمومًا، في الوقت الذي كان الإنجليز يوافقون فيه للشريف حسين على دولته المرتقبة كانوا يتفاوضون ... مع الفرنسيين واليهود على الأراضي نفسها التي وعدوا بها الشريف! قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120].
بدأ الشريف حسين في الإعداد للثورة مع ولديه عبد الله وفيصل، ويبدو أنه كان من المفترض أن تكون الثورة في أواخر 1916م، ولكن قُدِّم الموعد بسبب أحداثٍ جدَّت في سوريا. كان والي الشام العثماني جمال باشا، وهو أحد الباشوات الثلاثة الذين قاموا بانقلاب 1913م، قد وضع يده -كما يدَّعي- على وثائق تُثبت التعاون السرِّيَّ بين بعض القيادات العربيَّة في سوريا ولبنان مع بريطانيا وفرنسا.
أقام الباشا محاكماتٍ سريعةً لهؤلاء الزعماء، وصدر حكم الإعدام ضدَّ عشرين منهم[6]. مع أن مسألة الوثائق غير مؤكدةٍ فإنها محتملةٌ بشكلٍ كبير؛ لأن المثقفين العرب -والراغبين في الثورة على الحكم العثماني- كانوا لا يرون غضاضةً في ذلك الوقت في التعاون مع الإنجليز والفرنسيين من أجل الاستقلال عن العثمانيِّين، وقد رأينا التعاون الدبلوماسي بين الشريف حسين والإنجليز، وسنرى التعاون العسكري بعد قليل! ومع ذلك فأنا أرى أن قرار جمال باشا بإعدام الزعماء السوريين كان تهوُّرًا منه، لأن رفع حالة الاحتقان في الدولة ليس من المصلحة في هذا الوقت الحساس، ولكنه على الأغلب كان يرى أنه لو تهاون في العقاب فسيتكرَّر التعاون بين الزعماء العرب والأعداء. على كلِّ حال تمَّ الإعدام في 6 مايو 1916[7]، وكان على الشريف حسين أن يبدأ بسرعةٍ في ثورته مستغلًّا حالة الاحتقان التي شملت الشام.
في 5 يونيو 1916م بدأ عبد الله وفيصل ولدا الشريف حسين بعض المناوشات في المدينة المنورة، ثم بعدها بخمسة أيام -في 10 يونيو- أعلن الشريف حسين رسميًّا قيام الثورة العربية الكبرى، وخلع طاعة الدولة العثمانيَّة، ونادى بنفسه ملكًا على كلِّ العرب[8]، وكوَّن جيشًا صغيرًا في البداية، لكنَّه ما لبث أن ازداد حتى وصل إلى خمسين ألف مقاتل[9].
بدأ الشريف حسين نشاطه بقتال الحامية العثمانيَّة في جدة، وقد شارك في هذا الهجوم الأسطول الإنجليزي، الذي قصفها بضراوةٍ ممَّا أدَّى إلى سقوطها في يد الشريف في 17 يونيو[10]، وبعدها -في 28 يونيو- أرسلت بريطانيا القائد العسكري لمنطقة البحر الأحمر، الكولونيل ولسون Colonel Wilson، ومقره في بور سودان، إلى مدينة جدة، لدعم الشريف حسين، والتأكد من ولاء الثورة للإنجليز[11]! حرص الإنجليز على دوام إمداد الثوار العرب بالأسلحة، والمؤن، والذخيرة، وذلك من قواعدهم بالسودان عن طريق البحر الأحمر[12]. بعد سقوط جدة حوصرت مكة، ثم قُضي على حاميتها في 9 يوليو، وبعدها سيطر الثوَّار العرب على الطائف في 22 سبتمبر، لكنَّهم فشلوا في إسقاط حامية المدينة المنورة[13].
في أكتوبر 1916م أرسلت بريطانيا من مصر توماس لورنس Thomas Lawrence، وهو المعروف بلورنس العرب، وهو أحد الضبَّاط الإنجليز المرموقين، إلى جيش الثورة العربية لمساعدته في التكتيكات الحربيَّة وشئون المخابرات، وكان له دورٌ كبيرٌ في نجاح العمليَّات العسكريَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة[14].
حافظ الشريف حسين على حصار الْمَدِينَة واتَّجه شمالًا صوب فلسطين، فخرَّب خطَّ السكة الحديد الواصل بين دمشق والمدينة المنورة[15]! وكانت الدولة العثمانيَّة تعتمد عليه في توصيل الإمدادات العسكريَّة والمؤن من الشام إلى فلسطين ثم سيناء؛ لقتال الإنجليز، فضعف الجيش العثماني لذلك، وتمكَّن الجيش الإنجليزي من الانتصار عليه في عدَّة مواقع في سيناء، وكذلك في فلسطين! يمكن مراجعة تفاصيل هذه المعارك -المؤسفة في الواقع- في كتاب لورنس العرب للمؤرِّخ الإنجليزي چيرمي ولسون Jeremy Wilson، ففيه الكفاية وزيادة[16]!
في الواقع كانت الرؤية الصائبة غائبة عن جلِّ المسلمين في هذه الحقبة، وليس من فراغ أن يتمكن الأعداء من احتلال العالم الإسلامي من إندونيسيا شرقًا إلى المغرب غربًا!
سيستمر جيش الثورة العربية في مناصرة الإنجليز إلى آخر أيَّام الحرب، وسيُساعده في احتلال معظم البلاد العربية الآسيويَّة![17].
[1] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م، 2008 صفحة 475.
[2] Kayali, Hasan: Arabs and Young Turks: Ottomanism, Arabism, and Islamism in the Ottoman Empire, 1908-1918, University of California Press, Berkeley and Los Angeles, California, USA, 1997., p. 149.
[3] Wilson, Mary Christina: King Abdullah, Britain and the Making of Jordan, Cambridge University Press, New York, USA, 1990., pp. 18-19.
[4] عمر، عمر عبد العزيز: دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية-مصر، (دون سنة طبع) (ب). صفحة 479.
[5] Paris, Timothy J.: Britain, the Hashemites and Arab Rule, 1920-1925: The Sherifian Solution, Frank Cass, London, UK, 2003., p. 24.
[6] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 الصفحات 476، 477.
[7] علي، جمال سلامة: ذاكرة أمة: قراءة فى ملفات الصراع العربى الإسرائيلي، دار النهضة العربية، القاهرة، 2009م صفحة 223.
[8] Tauber, Eliezer: The Arab Movements in World War I, Routledge, New York, USA, 2013., pp. 80-81.
[9] Parnell, Charles L.: Lawrence of Arabia's Debt to Seapower, United States Naval Institute Proceedings, Annapolis, Maryland, USA, 1979., p. 75.
[10] Walker, Philip: Behind the Lawrence Legend: The Forgotten Few Who Shaped the Arab Revolt, Oxford University Press, Oxford, UK, 2018.. pp. 6-7.
[11] Pugh, R. J. M.: Wingate Pasha: The Life of General Sir Francis Reginald Wingate 1861-1953, Pen & Sword Books Ltd, Barnsley, South Yorkshire, UK, 2011., p. 146.
[12] Walker, 2018, p. 6.
[13] Murphy, David: The Arab Revolt 1916–18: Lawrence sets Arabia Ablaze, Osprey Publishing, London, UK, 2008., p. 34.
[14] Wilson, 1989, p. 302.
[15] Murphy, 2008, p. 39-44.
[16] Wilson, 1989, pp. 358-457.
[17] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1214- 1218.
التعليقات
إرسال تعليقك