الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تاريخ المساجد في الإسلام يضم فصولًا كثيرة من التاريخ الحضاري والاجتماعي، وما من دولة إسلامية قامت إلا أضافت إلى المسجد شيئًا أو أعادت بناءه.
تاريخ المساجد في الإسلام يضم فصولًا كثيرة من التاريخ الحضاري والاجتماعي من تاريخ دول المسلمين، فالمساجد ديوان أمم الإسلام، فمساجد الأمة تعرض جوانب كبيرة من تاريخها، فقد كان قيام مسجد الرسول من معالم قيام أمة الإسلام في المدينة، وما من دولة إسلامية قامت إلا أضافت إلى المسجد شيئًا أو أعادت بناءه، ومن هنا فإن تاريخ المساجد سجل لفصول حافلة من تاريخ معظم دول الإسلام الكبرى في الشرق العربي، بل وعواصم الإسلام الكبرى، فجامع عمرو في مصر سجل لتاريخ دول مصر، وجامع عقبة في القيروان يقص علينا فصولا كاملة من تاريخ إفريقية والمغرب عامة، ومسجد قرطبة الجامع يؤرخ لأمراء البيت الأموي الأندلسي واحدًا واحدًا.
أصالة المسجد:
عندما نتأمل الخطة الأساسية التي يقوم عليها بناء المساجد نتبين أنها تمتاز عن غيرها من أنماط دور العبادة بأصالة لا نظير لها، فدور العبادة في الدنيا كلها منشآت ضخمة ذات جدران عالية وقاعات داخلية تضاء بالشموع والقناديل، توقع في النفوس أثرًا عميقًا ولكنه مصنوع متكلف، ويقوم على خدمتها وقيادة طقوس العبادة فيها كهان ورجال دين لهم هيئات خاصة وملابس مصممة على نحو يراد منه أن يوقع في النفس أبلغ الأثر وهم يستعينون في الصلوات بالبخور والأضواء الخافتة والأناشيد والموسيقى والكلام الغريب المبهم وكل ما يضغط قلب المصلي ويعصره ويجعله خاضعًا للكهان ورجال الدين، تستوي في ذلك كنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها وبيع اليهودية، ومعابد البوذية بشتى فروعها ومعابد الديانات القديمة جميعًا عند المصريين والإغريق والرومان.
أما مساجد الإسلام فليس فيها من ذلك شيء، إنما هي مساحات من الأرض صغيرة أو كبيرة تنظف وتسوى وتطهر ويعين فيها اتجاه القبلة وتخصص للصلاة، وقد تسور هذه المساحات أو لا تسور، وقد تفرش بالحصى النظيف أو الحصر الرخيصة أو البسط الغالية، وقد تقام فوقها مبان ضخمة ذات جدران وسقوف وقباب ومآذن، وقد لا يقام من ذلك شيء، فلا يغير ذلك من الأمر شيئًا، ويظل المسجد البسيط العادي مكانًا مقدسًا واضح الشخصية لا يقل في هيبته عن أضخم المساجد لأن المسجد- قبل كل شيء- فكرة وروح، فأما الفكرة فهي التي وضعها رسول الله عندما بنى مسجده الأول، وأما الروح فهي روح الإسلام.
مسجد الرسول في المدينة أبو المساجد
أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة بوحي من الإسلام وحده لم ينظر قبل إنشائه إلى عمارة كنيسة أو بيعة، وجاء مسجده - على بساطته المتناهية – وافيًا تماما بكل ما تطلبت الجماعة منه وهذه هي الأصالة بذاتها.
شرع الرسول في إنشاء مسجده في المدينة لبضعة شهور من هجرته إليها ولم يستغرق إنشاؤه وقتًا طويلًا، فتم في نحو شهرين في العام الأول للهجرة= ٦٢٢م، ولم يكن هذا أول مسجد بناه الرسول، فقد سبقه إلى الوجود مسجد قباء الذي أنشأه سعد بن خيثمة بناء على رأي الرسول وترسيمه، وقد تم إنشاء مسجد قباء واستعمل للصلاة فعلًا بعيد انتقال الرسول من قباء إلى منازل بني عدي بن النجار في وسط المدينة وقد افتتحه الرسول وصلى فيه مع صحابته، وقد ورد ذكر هذا المسجد في القرآن الكريم في سورة التوبة.
حيث قال سبحانه وتعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108]، وليست لدينا أية فكرة عن تخطيط مسجد قباء الأول، ولكن لدينا فكرة واضحة جدًا عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فقد تحدث عنه مؤرخو السيرة حديثًا شافيًا وناقش تفاصيله الأثريون المحدثون ما بين مسلمين وغير مسلمين وتتبع المؤرخون ما أدخل عليه من أعمال التحسين والزيادة، وإعادة البناء على مر العصور، مما يمكننا من تصوره تصورًا تامًا في كل مرحلة من مراحل بنائه منذ إنشائه إلى يومنا هذا.
وعندما نتأمل خطة المسجد كما وضعها ونفذها الرسول لا يسعنا إلا أن نعجب ما تمتاز به من وضوح وأصالة وتطابق تام مع روح الإسلام. ولا شك في أن الرسول كانت لديه فكرة عن أشكال كنائس النصارى وبيع اليهود تكونت عنده خلال رحلته إلى الشام عندما خرج بمال السيدة خديجة .... ولكنه عندما فكر في بناء مسجده لم يتأثر بشيء من ذلك، وإنما استوحى الهيئة والخطة من روح الإسلام وحده، فالإسلام دين سهل واضح، وهو طريق بين العبد وخالقه.
والمسجد على هذا مجرد مكان طاهر يلتقي فيه العبد بالخالق، فهو مساحة نظيفة مستوية مطهرة يحيط بها سور وظيفته تعيين حدود ذلك ا لمكان المطهر المخصص للصلاة، ولم تكن هناك حاجة إلى تغطية هذه المساحة بسقف، فاكتفى بتسقيف جزء منها- في مقدمتها - على نحو بسيط جدا: جذوع نخل نصبت صفين بموازاة الجدار الشمالي، ثم غطى ما فوقها بعريش من خشب وسعف وغصون شجر. وفي الجهة المقابلة أقيم عريش مماثل. ولكن مساحة المسجد لم تكن صغيرة فكانت في أول الأمر٧٠ x ٦٣ ذراعًا، وكانت جذوع النخل في كل من العريشين صفين، في كل صف ستة جذوع، ثلاثة على اليمين وثلاثة على اليسار ثم وسع المسجد أيام الرسول، فأضيف إليه ١٠ أذرع في العرض و٢٠ في الطول وزيدت جذوع النخل أو الأساطين اثنين في العرض وأضيف صف ثالث منها في كل من الشمال والجنوب عند العريشين أي أن المساحة الكلية للمسجد كانت في السنوات الأخيرة ومن حياة الرسول ٥٦٧٠ ذراعًا مربعًا أي ٣٢٨٠٫٨٦ مترًا تقريبًا على اعتبار أن ذراع المدينة أيام الرسول يساوي ٥٨ سنتيمترًا في المتوسط.
وكان مسجد الرسول المسجد الجامع بالنسبة للجماعات الإسلامية الناشئة فيه تؤدى الصلوات الجامعة، وفيه يجتمع الرسول بصحابته وفيه يلقى عليه الصلاة والسلام من يشاء من أهل الجماعة ومن على منبره يبلغ الرسول جماعته ما يريد إما بشخصه أو عن طريق أحد أصحابه، أي أنه كان المركز الروحي والفكري والسياسي للجماعة ورمز وحدتها.
وفي الركن الجنوبي الشرقي لصحن المسجد ابتنى الرسول حجراته التي عاش فيها مع أزواجه من ذلك الحين، وغير بعيد من هذه الحجرات عاش أهل الصفة تحت العريش الجنوبي، وعلى مدار التاريخ مر على المسجد كثير من الإصلاحات:
١- بني المسجد في العام الأول للهجرة (٦٢٢م)، مقاييسه الأولى ٧٠ ذراعًا طولًا، في ٦٣ ذراعًا عرضًا. عريش القبلة- وهو بيت الصلاة - صفان من النخيل موازيان لجدار القبلة في كل صف ٦ جذوع نخل تقوم مقام الأساطين ٣ منها على اليمين و٣ على اليسار، عريش الجدار المقابل للقبلة (مقام أهل الصفة) مساو لعريش القبلة في الهيئة والمقاييس.
٢- زيد المسجد ١٠ أذرع في الشرق و٢٠ في الغرب، وزيدت جذوع نخله، أي أساطينه واحدًا في الشرق واثنين في الغرب.
٣- جدده أبو بكر على نفس الهيئة. استبدل بجذوع النخل القديمة جذوعًا جديدة سنة ١٢هـ= ٦٣٣م.
٤- جدده عمر بن الخطاب سنة ١٧هـ واستبدل بجذوع النخل أساطين من لبن، وسقف العريشين بجريد ثم بخشب. وأوصى البناء بألا يحمر أو يصفر حتى لا يفتن الناس، وزاد المسجد في الطول فقدم جدار القبلة ١٠ أذرع، وكذلك مده من الناحية المقابلة فأصبح طول المسجد ١٣٠ ذراعًا، ووسعه في العرض فأصبح ١٢٠ ذراعًا.
٥- جدد بناءه عثمان بن عفان تجديدًا كاملًا سنة ٢٩هـ= ٦٤٩م وزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة أي المنحوتة وطلى الجدران بالقصة أي الجبس وجعل عمده من الحجارة بدل اللبن. صارت مقاييسه:١٦٠x١٣٠ ذراعًا. وزاد في ارتفاع جدران المسجد، وفتح نوافذ في أعلى الجدار قرب السقف على اليمين والشمال في بيت الصلاة.
٦- أعاد بناءه الوليد بن عبد الملك فيما بين سنتي ٨٨ و٩١هـ= ٧٠٦ و٧٠٩م، وتم ذلك على يد واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز، وأعيد البناء على نفس هيئة المسجد التي كان عليها أيام عثمان بن عفان ولم يزد المسجد إلا في العرض، فأصبح ١٦٥ ذراعًا ولكن البناء زاد جمالا ومتانة.
٧- أعاد بناءه وزاد فيه المهدي ثالث الخلفاء العباسيين سنة ١٦٠هـ= ٧٧٨م. فزاد المسجد من ناحية الشمال نحو ٦٥ ذراعًا وزخرفت المجنبة الخلفية (المقابلة لبيت الصلاة) بالفسيفساء. وقد بقي المسجد على هذه الصورة فوق أربعة قرون.
٨- وقد احترق هذا المسجد سنة ٦٥٤هـ= ١٢٥٦م فأعاد السلطان الظاهر بيبرس بناءه على نفس هيئته السابقة.
٩- وقد رمم المسجد المكرم وأعيد بناؤه أكثر من مرة خلال العصرين الملوكي والعثماني.
١٠ - ثم أعيد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الأخيرة، وأخذ صورته الحالية في أيامنا هذه، فقد صدر قرار التوسعة الجديدة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود في شعبان سنة ١٣٦٨هـ= يونيو ١٩٤٩م وبدئ في تنفيذ المشروع الذي استقر عليه الاختيار في شوال ١٣٧٠هـ= يوليو ١٩٥١م في عهد الملك عبد العزيز آل سعود أيضًا، ووضع حجر الأساس في ربيع الأول ١٣٧٣هـ= نوفمبر ١٩٥٣م، وتم البناء في الخامس من ربيع الأول ١٣٧٥هـ/ أكتوبر ١٩٥٥م.
في عصر الملك سعود بن عبد العزيز أصبحت مساحة المسجد ١٦٣٢٦ مترًا مربعًا، أي بزيادة ٦٠٢٤ مترًا مربعا على مساحته الأصلية، وارتفاع المئذنتين في الجو ٧٠ مترًا.
المساجد الجامعة الأولى
المساجد الجامعة الأولى ونبذة عن كل منها وهي أربعة:
مسجد البصرة
اختطه عتبة بن غزوان سنة ١٤هـ= ٦٣٥م، وكان مجرد مساحة مسقفة بالقصب يقوم سقفها على عمد من جذوع نخل وخشب ولم يكن له جدار بل أحاط به خندق.
مسجد الكوفة
اختطه سعد بن أبي وقاص سنة ١٥هـ= ٦٣٦ م، أو سنة ١٧هـ= ٦٣٨م. وكان في أول أمره أيضًا مسجدًا من قصب، وقد أحاط به سور من قصب أيضًا. أعاد بناءه باللبن زياد بن أبيه سنة ٥١هـ= ٦٧٠م.
مسجد الفسطاط
اختطه عمرو بن العاص سنة ٢١هـ= ٦٤٢م، وكانت مقاييسه الأولى ٣٠x٥٠ ذراعًا، وقد قام سقف بيت صلاته على عمد من جذوع نخل مسقفة بالخشب، ولم يكن له صحن متسع. وقد وسع هذا المسجد وأعيد بناؤه ١٦ مرة، أولاها كانت سنة ٥٣هـ= ٦٧٢م على يد مسلمة ابن مخلد الأنصاري والى معاوية بن أبي سفيان على مصر، وآخرها كانت سنة ١٢١١هـ= ١٧٩٦م على يد مراد بك آخر بكوات المماليك، وقد حكم مصر (مشتركًا مع إبراهيم) تحت سيادة العثمانيين، والمبنى الحالي للمسجد حديث، بني في أوائل العشرينات من هذا القرن (سنة ١٩٢٢).
مسجد عقبة بن نافع في القيروان
وهو أبو مساجد الجناح الغربي لمملكة الإسلام، بناه عقبة بن نافع عندما اختط القيروان بين سنتي ٥٠ و٥٥هـ= ٦٧٠ و٦٧٥م، ولم يكن هذا المسجد أول الأمر إلا مساحة مسورة بسور سميك من اللبن على هيئة حصن، ولكن حسان أبن النعمان والي المغرب لعبد الملك بن مروان عندما جدد بناءه سنة 80هـ= ٦٩٤م جعل له أبراجا على أركان سوره، وقد جدد بناء هذا المسجد خمس مرات، فقد جدده حسان بن النعمان سنة٨٠هـ= ٦٩٤م، ثم بشر بن صفوان (عامل هشام بن عبد الملك) سنة ١٠٥هـ= ٧٢٣م، ثم يزيد بن حاتم سنة ١٥٥هـ= ٧٧٢ م، ثم أعاد بناءه زيادة الله بن الأغلب سنة ٢٢١هـ= ٨٣٦ م، أما الذي أعاد بناء المسجد وأعطاه صورته النهائية فكان إبراهيم بن أحمد، ثامن أمراء بني الأغلب سنة ٢٦١هـ= ٨٧٥م[1].
[1] حسين مؤنس: المساجد، عالم المعرفة، 1981م، ص41- 57.
التعليقات
إرسال تعليقك