التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعتبر وقوف عبد الحميد الثاني في وجه أطماع اليهود في فلسطين هو أشهر مواقفه على الإطلاق، حيث أجَّلت نخوة السلطان الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين.
يُعتبر وقوف السلطان عبد الحميد الثاني في وجه أطماع اليهود في فلسطين هو أشهر مواقفه على الإطلاق، ويزيد من قيمة هذا الموقف حدوثه في هذه الحقبة التاريخيَّة التي شهدت ضعفًا عثمانيًّا ظاهرًا، واحتياجًا شديدًا للدعم المالي والسياسي، ولكن نخوة السلطان منعت -أو أجَّلت- الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين.
اجتهد اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تجميع أنفسهم من الشتات العالمي بغية إقامة وطنٍ قوميٍّ لهم، وكانت أمام زعمائهم اختياراتٌ كثيرة؛ مثل الأرجنتين، وأوغندا، وقبرص، وسيناء، مع الخيار الأهمِّ مطلقًا وهو فلسطين[1]. كان البعد الديني لفلسطين مغريًا لليهود ليُقدِّموها على غيرها، بالإضافة إلى ضعف الدولة العثمانية، وغلبة الأمم الأوروبِّيَّة عليها، وكثرة ديونها، وكل هذه عوامل تجعل فرصة التسلل إلى فلسطين التابعة لها أمرًا ممكنًا.
كانت معدلات الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين محدودةً حتى عام 1881م[2]. في هذا العام اغتيل الإمبراطور الروسي ألكسندر الثاني، واتُّهمت جماعة «أحباء صهيون» بقتله، ومِنْ ثَمَّ قامت حملة تطهير عرقي كبيرة في روسيا ضدَّ اليهود، ممَّا دفع اليهود إلى الهجرة خارج روسيا بأعدادٍ كبيرة، وحيث إن الدولة العثمانية كانت دومًا ملجأً للمضطهدين دينيًّا في العالم، وخاصَّةً اليهود المكروهين في أوروبا، فقد كانت اختيارًا أوَّلًا لليهود في هذه الهجرة. أراد اليهود ضرب عصفورين بحجر؛ النجاة من الاضطهاد الروسي، وتأسيس وطنٍ في فلسطين، فطلبوا الهجرة إليها تحديدًا.
قرأ السلطان عبد الحميد الثاني المخطَّط اليهودي، وأعلن قبوله لقدوم اليهود إلى أيِّ إقليمٍ عثمانيٍّ باستثناء فلسطين، كما أصدر قرارًا بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين بتاتًا[3][4]! حاول اليهود توسيط السفراء الأوروبِّيِّين، ولكنَّ السلطات العثمانيَّة رفضت[5]. لقد كان السلطان حاسمًا في هذا الشأن بصورةٍ لم نشهدها معه في قضيَّةٍ أخرى. أقصى ما وصل إليه السفراء الأوروبِّيُّون هو أخذ موافقة السلطان في عام 1884م على دخول اليهود فلسطين لأجل الحجِّ، والمكوث في القدس لشهرٍ واحد، زِيدَ بعد ذلك في عام 1888م إلى ثلاثة شهور[6].
واقع الأمر أن هذه القرارات كانت بخصوص اليهود الأجانب، أمَّا اليهود من رعايا الدولة العثمانية فكانوا يتحايلون على النظام والقوانين، ويقومون بشراء الأراضي داخل فلسطين، وقد أدرك السلطان عبد الحميد الثاني صعوبة السيطرة على الإدارة الفاسدة، فأصدر في عام 1887م قرارًا بتحويل القدس إلى «متصرفيَّة» تتبع إسطنبول مباشرة، بدلًا من تبعيَّتها لدمشق، وهَدِفَ من وراء هذا القرار إلى جعل الرقابة على فلسطين أكبر، وذلك لمنع التحايل اليهودي لشراء الأراضي[7]. في عام 1892م أصدر السلطان قرارًا بمنع بيع الأراضي الحكوميَّة لليهود حتى لو كانوا عثمانيِّين من رعايا الدولة[8].
كان فكرة بناء وطن لليهود تسير بمعدلاتٍ بطيئةٍ إلى أن ظهر تيودور هرتزل Theodor Herzl، الذي حوَّل القضيَّة إلى قضيَّةٍ عالميَّة! كان هرتزل صحفيًّا يهوديًّا مجريًّا يعيش في ڤيينا، وقد عانى من ازدراء الأوروبِّيِّين لليهود[9]، ورأى أن الحلَّ الأمثل لهذه المشكلة المزمنة هي خروج اليهود من أوروبا إلى وطنٍ يجمع شتاتهم، وكتب في هذا الصدد كتابًا هو «دولة اليهود» The Jewish State، نُشِر في ڤيينا في فبراير 1896م، وقد انتشرت أفكار هرتزل بسرعةٍ في الأوساط اليهوديَّة[10]، ووجد دعمًا قويًّا من أثرياء اليهود في أوروبا وأميركا، بل وجد دعمًا من حكومات دولٍ أوروبِّيَّة، خاصَّةً بريطانيا[11]. كان هرتزل شابًّا في السادسة والثلاثين من عمره يوم نشر كتابه[12]، ولكنَّه كان صاحب علاقاتٍ كثيرةٍ مكَّنته من عَقْد لقاءاتٍ مع شخصيَّاتٍ عالميَّةٍ كبرى فتحت له الطريق لتحقيق بعض الإنجازات[13].
تمكَّن هرتزل من السفر إلى إسطنبول في 1896م، ونجح في لقاء عددٍ من الشخصيَّات القياديَّة في الدولة، كالصدر الأعظم وبعض الوزراء، لكنَّه فشل في لقاء السلطان. عرض هرتزل في البداية على الحكومة العثمانيَّة أن تُدْخِل بعض الإصلاحات والتعديلات على قوانين هجرة اليهود إلى فلسطين في مقابل أن يُساعد اليهودُ في العالم الدولةَ العثمانية في تجاوز أزمتها مع الأرمن، وذلك عن طريق التواصل مع زعماء الأرمن لتهدئتهم، وكذلك التواصل مع الحكومات الأوروبية لتُخَفِّف من دعمها للأرمن سياسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا، ولقد وافق السلطان متحمِّسًا على عرض هرتزل من حيث المبدأ، وأجاب بكلمةٍ واحدةٍ هي: ممتاز[14]! لم تتحدَّث المصادر عن التعديلات المقترحة في قوانين هجرة اليهود، ولكن كان من الواضح أن ضغط القضيَّة الأرمنيَّة على السلطان كبير، ولهذا رأى أن تقديم شيءٍ من التنازل في مسألة هجرة اليهود قد يُوازي المكتسب من دعمهم له أوروبِّيًّا.
لا أعتقد أن هذا القبول منه كان جيِّدًا، ولكن على العموم لم يحدث الاتفاق لأنَّ اليهود فشلوا في تحقيق نتيجة في القضيَّة الأرمنيَّة على أرض الواقع؛ لشدَّة الهجوم الإعلامي الأوروبي على الدولة العثمانية في هذا التوقيت، خاصَّةً في بريطانيا[15][16]. هذا الفشل دفع اليهود إلى سلوك طريقٍ جديدٍ لإغراء السلطان بالموافقة على هجرتهم لفلسطين، وهو طريق الدعم المالي للاقتصاد المنهار. عرض هرتزل على الدولة العثمانية المساعدة في سداد ديونها في مقابل السماح لهم بوطنٍ في فلسطين تحت التبعيَّة العثمانية لكنَّ السلطان رفض هذا العرض[17][18].
وجد هرتزل أن الأمر ليس سهلًا، ولن يأتي بصورةٍ مباشرة، فعمل على تجميع جهود اليهود في العالم للحصول على أقوى نتيجة. جمع هرتزل زعماء اليهود في العالم في مؤتمرٍ عامٍّ بمدينة بازل Basel السويسريَّة في 23 أغسطس 1897، فيما عرف بالمؤتمر الصهيوني الأول، وفيه أسَّسوا «المنظمة الصهيونية العالمية» World Zionist Organization (WZO)، واتَّفقوا على السعي لتأسيس وطنٍ لليهود في فلسطين[19].
تكرَّر انعقاد المؤتمر سنويًّا، وزادت إمكانات المنظمة الصهيونية[20]، وتمكن هرتزل في 17 مايو 1901م من تدبير لقاء مع السلطان عبد الحميد الثاني في إسطنبول، وعرض عليه أن يدفع اليهود ثلاثة ملايين جنيهًا إنجليزيًّا إلى الدولة العثمانية، في مقابل السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، وإقامة وطنٍ تابعٍ للدولة العثمانية يدفعون فيه الجزية لها، ولكن السلطان رفض بإصرار[21][22]. غادر هرتزل إسطنبول، لكنَّه لم ييأس، بل أرسل مع بعض المقرَّبين يُقدِّم عرضًا ماليًّا جديدًا[23].
هنا قال السلطان كلمته الشهيرة التي أغلق بها باب الحديث مع هرتزل والصهاينة: «انصحوا الدكتور هرتزل (مُنِح درجة الدكتوراه في القانون من جامعة ڤيينا[24] بألَّا يتَّخذ خطواتٍ جدِّيَّةً في هذا الموضوع؛ فإنِّي لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبرٍ واحدٍ من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمَّة الإسلاميَّة التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزِّقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ، فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلاميَّة، وهذا أمرٌ لا يكون. إنَّني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة»[25][26].
هذا من أعظم مواقف السلطان عبد الحميد الثاني، ومن أشدها صلابة.
لم يتوقف تيودور هرتزل عن الطموحات على الرغم من هذا الصدِّ المستمر! في مايو 1902م طلب من السلطان السماح بإنشاء جامعةٍ عبريَّةٍ في مدينة القدس، ولكن السلطان رفض، وفي 1903م حاول اليهود عقد مؤتمرهم الدولي في فلسطين، فرفض السلطان كذلك[27]. في 3 يوليو 1904م تُوفِّي تيودور هرتزل، وهو في الرابعة والأربعين من عمره[28]، دون أن يُحقِّق هدفه، لكنَّه كان قد وضع أقدام الصهاينة على الطريق، وقد أدرك أتباعه أن تحقيق هدفهم في إقامة وطنٍ في فلسطين مرهونٌ بخلع السلطان عبد الحميد الثاني، فكانت هذه خطتهم في المرحلة القادمة![29].
[1] Kanj, Jamal Krayem: Children of Catastrophe: Journey from a Palestinian Refugee Camp to America, Garnet Publishing Ltd, Southern Court, UK, 2010., p. xiv.
[2] حلاق، حسان علي: موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897 – 1909م، الدار الجامعية، بيروت، 1986م. الصفحات 78-105.
[3] شو، ستانفورد ج.: يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، ترجمة وتقديم وتعليق: الصفصافي أحمد القطوري، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، الطبعة الأولى، 1436هـ=2015م.صفحة 334.
[4] الشناوي، عبد العزيز محمد: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986م. الصفحات 2/974-976.
[5] مانويل، فرانك أ.: بين أميركا وفلسطين، تعريب: يوسف حنا، دار الثقافة والفنون–وزارة الثقافة والإعلام الأردنية، عمان-الأردن، 1967م.صفحة 25.
[6] حلاق، 1986 صفحة 96.
[7] علي، محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرد: خطط الشام، مكتبة النوري، دمشق، الطبعة الثالثة، 1403هـ=1983م. صفحة 3/228.
[8] منسي، محمود حسن صالح: تصريح بلفور، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م. صفحة 84.
[9] كوهين، إسرائيل: هذه هي الصهيونية، دار المعارف، القاهرة، (دون سنة طبع) الصفحات 40، 41.
[10] Stefon, Matt (Editor): Judaism: History, Belief, and Practice (The Britannica Guide to Religion), Britannica Educational Publishing, New York, USA, First Edition, 2012, p. 345.
[11] Ayalon, Ami: The Arabic Print Revolution: Cultural Production and Mass Readership, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2016, p. 197.
[12] Kornberg, Jacques: Theodor Herzl: From Assimilation to Zionism, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 1993., p. 13.
[13] Rose, Norman: 'A Senseless, Squalid War': Voices from Palestine; 1890s to 1948, The Bodley Head, London, UK, 2009, p. 2.
[14] Baer, Marc David: Sultanic Saviors and Tolerant Turks: Writing Ottoman Jewish History, Denying the Armenian Genocide, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2020, p. 61.
[15] الشناوي، عبد العزيز محمد: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1983م.الصفحات 3/1575، 1576.
[16] Baer, 2020, pp. 61-62.
[17] هرتزل، تيودور: يوميات هرتزل، إعداد: أنيس صايغ، تعريب: هيلدا صايغ، بيروت، 1973م، الصفحات 34-45.
[18] شو، 2015 صفحة 334.
[19] Reich, Bernard: The Founding of Modern Israel and the Arab-Israeli Conflict, In: Baskin, Judith R. & Seeskin, Kenneth: The Cambridge Guide to Jewish History, Religion, and Culture, Cambridge University Press, New York, USA, 2010., p. 260.
[20] كوهين، (دون سنة طبع)، الصفحات 47، 48.
[21] طربين، أحمد: فلسطين في خطط الصهيونية والاستعمار 1897 – 1922م، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1970م. الصفحات 56-57.
[22] الشناوي، 1986 الصفحات 2/988-990.
[23] طربين، 1970 صفحة 49.
[24] Tucker, Spencer C. (Editor): Middle East Conflicts from Ancient Egypt to the 21st Century: An Encyclopedia and Document Collection, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2019., vol. 2, p. 522.
[25] عبد الحميد الثاني: مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، دار القلم، دمشق، 1412هـ=1991م.صفحة 142.
[26] هرتزل، 1973، صفحة 35.
[27] الشناوي، 1986 الصفحات 2/991-995.
[28] Elon, Amos: Herzl, Holt, Rinehart and Winston, New York, USA, 1975., pp. 400–401.
[29] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1160- 1164.
التعليقات
إرسال تعليقك