ملخص المقال
بعد التكوين العلمي للشافعي في مدرستي الحديث لمالك، والرأي لمحمد بن الحسن، صار الشافعي علمًا في الفقه والحديث معًا.
بعد التكوين العلمي للشافعي في مدرستي الحديث لمالك والرأي لمحمد بن الحسن، صار الشافعي علمًا في الفقه والحديث معًا.
عودة الإمام الشافعي إلى مكة
عاد الإمام الشافعي إلى مكة في عام 186هـ، وكان عمره 36 سنة، وقد درس في الحرم، وكان يدرس فيه سفيان بن عيينة، واستمر في مكة 9 سنوات.
كلام أحمد بن حنبل عن الشافعي
عن مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَزَّارَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: "حَجَجْتُ مَعَ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَنَزَلْتُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مَعَهُ، أَوْ فِي دَارٍ يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ بَاكِرًا، وَخَرَجْتُ أَنَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ دُرْتُ الْمَسْجِدَ، فَجِئْتُ إِلَى مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَكُنْتُ أَدُورُ مَجْلِسًا مَجْلِسًا؛ طَلَبًا لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، حَتَّى وَجَدْتُ َأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، عِنْدَ شَابٍّ أَعْرَابِيٍّ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مَصْبُوغَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ جُمَّةٌ، فَزَاحَمْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تَرَكْتَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَزِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ، وَالتَّابِعِينَ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ؟! فَقَالَ لِي: اسْكُتْ، فَإِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ تَجِدُهُ بِنُزُولٍ، لا يَضُرُّكَ فِي دِينِكَ، وَلا فِي عَقْلِكَ أَوْ فِي فَهْمِكَ، وَإِنْ فَاتَكَ أَمْرُ هَذَا الْفَتَى، أَخَافُ أَنْ لا تَجِدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مِنْ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيِّ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ".
أحمد بن حنبل يأتي بأصحابه إلى الشافعي:
قال إسحاق بن راهويه: كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي: يا أبا يعقوب قم حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه، فقال له: يا أبا عبد الله هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحّب بي وحيّاني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم وأعجبه حفظي، قال: فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت له: يا سبحان الله أقمنا من عند رجل يقول «حدثنا الزهري» فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريبا منه، فأتيت بنا إلى هذا الشاب. فقال لي: يا أبا يعقوب اقتبس من الرجل فانه ما رأت عيناي مثله.
لم يكن الشافعي يشبه غيره في العلم، وكان كلامه فريدًا يعرفه أهل العلم ويميِّزونه:
عن الحسن بن محمد الزعفراني، قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي (من المبتدعة المناظرين، ومن الذين قالوا بخلق القرآن، وقال علماء المسلمين ببدعيته وكفَّره آخرون) وهناك نقدر على مناظرته، فمشينا إلى أحمد بن حنبل، فقلنا له: ائذن لنا في أن نحفظ «جامع الصغير» الذي لأبي حنيفة؛ نخوض معهم إذا خاضوا. فقال: اصبروا، فالآن يقدم عليكم المطلبي، الذي رأيته بمكة. قال: فقدم علينا الشافعي (عام 195 ه)، فمشينا إليه وسألناه شيئًا من كتبه، فأعطانا كتاب «اليمين مع الشاهد» فدرسته في ليلتين، ثم غدوت على بشر المَرِيسي، وتخطيت إليه. فلما رآني قال: ما جاء بك؟ لسنا بأصحاب حديث. قال: قلت: ذرني من هذا، إيش الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد. فناظرته فقطعته، فقال: ليس هذا من كلامكم، هذا كلام رجل رأيته بمكة، معه نصف عقل أهل الدنيا.
سفر الإمام الشافعي على بغداد
سافر الإمام الشافعي إلى بغداد عام 195هـ لمدة سنتين، وحينذاك كان عمره 45 سنة، ولعل هذا السفر كان من أجل لنشر العلم في العاصمة، أو بدعوة الخليفة، أو لاستكمال وضع أصول الفقه مستفيدًا من المناظرات في بغداد، وقد كَانَ كثير الذّكر للسَّفر فعوتب فِي ذَلِك فَقَالَ لمعاتبه:
تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا ... وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ، ... وَعِلمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِدِ
التدريس الإمام الشافعي في الجامع الغربي:
قال إبراهيم الحربي: قدم الشافعي بغداد وفي الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان في الجمعة لم يثبت منها إلَّا ثلاث حلق أو أربع.
تحقيق الإمام الشافعي التوازن مع أهل الحديث:
قال ابن حنبل: كانت أقضيتنا أصحاب الحديث في أيدي أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي وكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل وفى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزعفراني: كان أصحاب الحديث نيامًا حتى جاء الشافعي أيقظهم، فتيقظوا، وقال هلال بن العلاء: الشافعي: أصحاب الحديث عيال عليه، فتح لهم الأقفال.
عودة الإمام الشافعي إلى مكة:
عاد الإمام الشافعي إلى مكة في عام 197هـ، واستمر لمدة عام لزيارة البيت الحرام، ولزيارة شيوخه، وعلى رأسهم سفيان بن عيينة، ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد في عام 198هـ، حيث كانت الإقامة عدة شهور فقط، ثم انتقل إلى مصر في عام 198هـ، وكان عمره 48 سنة.
البروز السريع للإمام الشافعي في مصر:
قال هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَيْلِيُّ: ما رأيت مثل الشافعي: قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئْناه وهو يصلّي، فما رأيتُ أحسن صلاة منه، ولا أحسن وجها منه، فلما قضى صلاته تكلّم، فما رأينا أحسن كلامًا منه، فافْتَتَنَّا به.
ويقول الربيع بن سليمان: «كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر (الفقه وأصوله)، فإذا ارتفع الضحى تفرَّقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رحمه الله».
يقول ابن عبد الحكم: «ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي بعينه مثله». وقال: «ما رأينا مثل الشافعي؛ كان أصحاب الحديث يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجبون منه ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية ويجئ أصحاب الأدب فيقرؤون عليه الشعر فيفسره ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها وكان من أضبط الناس للتاريخ وكان يعينه على ذلك شيئان وفور عقل وصحة دين وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله».
لم يسلم الأمر من المضايقات للإمام الشافعي، ولكن العلماء الكبار يقدِّرونه:
قال الذهبي: وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِمَامَ لَمَّا سَكَنَ مِصْرَ، وَخَالَفَ أَقْرَانَهُ مِنَ المَالِكيَّةِ، وَوَهَّى بَعْضَ فُرُوْعِهِم بِدَلاَئِلِ السُّنَّةِ، وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي مَسَائِلَ، تَأَلَّمُوا مِنْهُ، وَنَالُوا مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُم وَحْشَةٌ، غَفَرَ اللهُ لِلْكُلِّ، وَقَدِ اعتَرَفَ الإِمَامُ سُحْنُوْنُ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الشَّافِعِيِّ بِدْعَةٌ فَصَدَقَ وَاللهِ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ، وَشَرَفِهِ، وَنُبلِهِ، وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وكان للشافعي موقف مع السيدة نفيسة بنت الحسن، حيث زارها الإمام الشافعي «الشافعي» ، وسمع عليها الحديث، ولما توفي الشافعي عام 204 أدخلت جنازته إليها تبعًا لوصيته، فصلت عليه في دارها[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك