الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
جنة العريف منتجع استجمام بجوار قصر الحمراء يبعد عنه كيلو متر واحد، وهو مكوَّن من قصور وحدائق.
مدينة غرناطة ليست من المدن القديمة في الأندلس، وهناك شكٌّ في وجودها أصلًا قبل الفتح الإسلامي، وأثناء القرون الثلاثة الأولى من حكم المسلمين للأندلس كانت مجرد قاعدة عسكرية ثم تطوَّرت إلى مدينة كبيرة في عهد ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري، وكانت تحت حكم بني زيري من البربر، ثم حُكمت بالمرابطين فالموحدين، وشملت نهضة نسبية في عهد الموحدين، ثم بلغت المجد في عهد بني نصر (بني الأحمر)، الذين حكموا من عام 629ه= 1232م، وإلى عام 897هـ=1492م، وينحدرون من قبيلة الخزرج، كان عهد بني نصر، أو مملكة غرناطة هو العهد الأخير للمسلمين في الأندلس.
وإذا ذكرنا غرناطة فنحن نذكر قصر الحمراء، ومع ذلك حديثنا في هذا المقال ليس عن هذا القصر، إنما عن ملحق له، وإن كان منفصلًا عنه تمامًا، وهو جنة العريف، وجنة العريف منتجع استجمام بجوار قصر الحمراء يبعد عنه كيلو متر واحد، وهو مكوَّن من قصور وحدائق.
الحدائق في الإسلام
على الرغم من أن القرآن الكريم نزل في بيئة صحراوية إلا أن الحديث فيه عن الجنان والحدائق كثير بشكل لافت، ولا أقصد الحديث عن جنة الآخرة فقط، ولكن لفت النظر إلى عظمة الخالق الذي أبدع الورود، والأشجار، والنخيل، وغير ذلك من المزروعات:
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141] وقال تعالى أيضًا: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
هذا التركيز على هذه النعم وجَّه المسلمين إلى الإبداع في بناء الحدائق، وأدرك ما لها من أثر جميل على النفوس، فانتشرت الحدائق في كل الحواضر الإسلامية الكبرى، ومن أوسع ذلك انتشارًا كانت الأندلس، ولم يكن هذا خاصًّا بالفئة الحاكمة فقط، ولكن كان عموم الشعب يعيشون هذه الرفاهية، ويحرصون على وجود الأزهار والثمار في بيوتهم.
يقول الكاتب الأميركي جيمس ديكي: «مع أن أغلب تلك الدور صغير إلا أن فيها جميعًا مياهًا جارية وزهورًا وورودًا عبقة وشجيراتٍ ووسائلَ راحة كاملة، تبرهن على أن هذه الأرض عندما كانت في يد الموريين (المسلمين) كانت أكثر جمالاً مما هي عليه اليوم» وقد كانت الحدائق بعدد البيوت.
مؤسِّس حديقة جنة العريف
غالب الأمر أن بداية تأسيس الحديقة كان في عهد الحاكم الثاني لمملكة غرناطة، وهو محمد الثاني (671-701ه/ 1273-1302م)، وأضاف إليها خَلَفُه محمد الثالث، ثم بلغت شأوًا عظيمًا في عهد أبي الوليد إسماعيل (713- 725ه/ 1314-1325م)، وهو من الأبطال النصريين الكبار، ومع ذلك اهتمَّ بالمعمار، وأضاف الكثير لجنة العريف.
الحديقة المقصودة: (جنـة العريف)
لا يعرف على وجه التحديد سرُّ التسمية، وقد أقيمت على سفح ربوة، وصمَّمها المسلمون على هيئة مدرَّجات لا يتعدَّى عرضُ أوسعها ثلاثة عشر مترًا، ولا يزيد عددها على ستَّة مستويات، ويلعب الماء دورًا أساسيًّا فيها؛ إذ ينهمر من أعلى الحديقة من عيون تصبُّ في قنوات تمرُّ عَبْرَ الأشجار، بما يدل دلالةً واضحة على التأثُّر بآية ﴿وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾ [الواقعة: 31]، يمكن أن يكونوا متأثرين بالمدرجات اليمنية (إب الخضراء).
كانت جنـة العريف مصيفًا أو متنزهًا لسلاطين وملوك غرناطة، كانوا يفزعون إليها كلما أرادوا الهروب من الحياة الرسمية بالقصر، ويؤمونه للاستجمام والراحة، والاستمتاع بجمال موقعه، وروعة المناظر الطبيعية التي تحيط به. ولا يوجد في بنايات جنة العريف ما يشير إلى أي زخرفة زائدة، أو أي مبالغات في الإنشاء المعماري، على العكس تماما من الحمراء، فإنه على الرغم من كونها متماسكة معماريا، فإنها بشكل عام تعتبر فقيرة وبسيطة، مما يشير إلى جو الهدوء والخلو الذي كان يبحث عنه الملوك عندما كانوا يخلدون إلى الراحة بين حدائقهم.
توجد فقط بعض عناصر الزينة التي تعتمد في جلها على الجص، ولا تتنوع كثيرا، إلا أنها رقيقة وتعكس ذوقا عاليا، وقد كتب الشاعر الوزير ابن زمرك للسلطان الغني بالله محمد الخامس (755هـ-793هـ=1354م-1391م)، يصف سكناه في قصر جنة العريف، يقول[1]:
يَا سَاكِنِي جَنَّةِ الْعَرِيفِ *** أُسْكِنْتُمْ جَنَّةَ الْخُلُودْ
كَمْ ثَمَّ مِنْ مَنْظَرٍ شَرِيفِ *** قَدْ حُفَّ بِالْيُمْنِ وَالسُّعُودْ
وقد استغرق وصف هذا القصر وجنَّته في كتاب «الفن العربي في إسبانيا وصقلية» للمؤرخ الألماني فون شاك (القرن التاسع عشر) أكثر من خمسين صفحة[2].
[1] ديوان ابن زمرك (ص: 374)، والمقري: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس (7/ 246)
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك