الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعتبر مدينة مكة المكرمة أعظم مدينة في الأرض، حيث فيها البيت الحرام أول بيت وضع للناس، كما ذُكِرَت في القرآن 17 مرة بألفاظ مختلفة.
تعتبر مدينة مكة المكرمة أعظم مدينة في الأرض، حيث فيها البيت الحرام أول بيت وضع للناس، كما ذُكِرَت في القرآن 17 مرة بألفاظ مختلفة مثل مكة، وبكة، وحرمًا آمنًا، والبلد، وأم القرى، وقرية، وقد عاش بها إسماعيل عليه السلام وبنيه وحكموها، ثم بعدهم جرهم، ثم خزاعة، ثم قريش، هي أيضًا هي مولد ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب البلاد إليه.
ومن أعظم معالم مدينة مكة الكعبة والمسجد الحرام، وكذا مواطن الحج، ولكن حديثنا في هذا المقال ليس عن هذه المشاهد الشريفة، إنما عن عمل حضاري قامت به امرأة عظيمة، وكتب الله له البقاء حتى يومنا هذا، وهذا العمل هو مشروع من مشاريع سقيا الماء، وهو عين زبيدة.
وزبيدة هي بنت جعفر ابن أَبِي جعفر المنصور، أميرة عباسية عظيمة القدر، ومن أشهر النساء في التاريخ الإسلامي، وحفيدة أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، وزوجة هارون الرشيد وأم الخليفة الأمين بن الرشيد، واسمها الحقيقي أَمَةُ العزيز، والمنصور جدُّها هو الذي لقّبها زُبيدة لنضارتها.
اشتُهرت زبيدة بالإنفاق العظيم في وجوه البرِّ والعمل الصالح؛ يقول إسماعيل بن جعفر بن سليمان: «حجت أم جعفر، فبلغ نفقتُها في ستين يومًا أربعة وخمسين ألف ألف». وكانت صالحة تحب القرآن الكريم: كان في قصرها مائة جارية كلٌّ منهنّ تحفظ القرآن، فكان يُسمع من قصرها كَدَوِيّ النَّحْلِ من القراءة.
من أعظم أعمال زبيدة الاهتمام بسقيا الماء للحجيج ومن يرعى الحجيج، وهِي الَّتِي سقت أهل مَكَّة بعد أَن كَانَت الراوية عِنْدهم بِدِينَار، وعين زبيدة من المشاريع الهندسية العجيبة، وله بقايا موجودة إلى الآن، وقد قَالَ لها وكيلها: يلزمك نَفَقَة كَبِيرَة فَقَالَت اعملها وَلَو كَانَت ضَرْبَة الفأس بِدِينَار، وقد بلغت النفقة عليه ألف ألف وسبعمائة ألف دينار[1].
يبلغ طول مسارات عين زبيدة التاريخية في محيط المناسك بمكة 26 كلم، تشتمل على جزأين: الأول منهما تحت سطح الأرض يبلغ طوله نحو 16 كيلومترا، والآخر ظاهر فوق سطح الأرض يبلغ طوله نحو 9.5 كيلومترات، وتتضمن العديد من الخزانات، ويبلغ عددها 132 خرزة، تبدأ من وادي نعمان وتتجه صوب مكة المكرمة، عبر عرفات، مرورًا ببطن وادي عرنة، فمنطقة القطانية، ثم السفوح الجنوبية والغربية لجبال المنطقة بين عرفات ومزدلفة، وتنتهي في عدة أماكن بحي العزيزية في مكة».
أمرت زبيدة أيضًا بعدد من الأوقاف الإسلامية في مكة المكرمة، من أجل ضمان استمرارية عطائها في سقي الحجاج والمعتمرين بعد وفاتها، وهذه الأوقاف لا تزال موجودة، وبلغ عدد عقارات أوقاف عين زبيدة 35 عقارًا في مكة المكرمة، و20 عقارًا في الطائف، بلغ إيرادها السنوي عام 2016 أكثر من 13 مليون ريال.
قام بإصلاحها منذ إنشائها حتى زمن سليمان القانوني العديد من الملوك والأمراء أشهرهم السلطان قايتباي وقنصوه الغوري، وفي زمن القانوني انقطعت وتهدَّمت قنواتها، وصار أهل البلاد يستقون من آبار حول مكة يُقال لها «العسيلات»، وأخرى يُقال لها «الجوخى»، وصار الماء غاليًا جدًا.
تمَّ في عهد الملك عبد العزيز آل سعود إنشاء إدارة خاصة لإدارتها عام 1346هـ= 1928م، تشرف عليها وعلى الآبار الخاصة بها وتسمى لجنة عين زبيدة، أما حديثًا تمَّ نقل اختصاصات عين زبيدة إلى الهيئة العامة للأوقاف في 2010م.
وهكذا استمرت هذه العين أكثر من 1200 عام، إلى أن شحت المياه فيها واندثرت أغلب قنواتها بسبب التطوُّر العمراني في مكة المكرمة، فاستُعيض عنها بمياه البحار الناتجة عن محطات التحلية الضخمة، ومن الجدير بالذكر أن هذا ليس هو مشروع سقيا المياه الوحيد الذي نفَّذته زبيدة رحمها الله، ولكنها اهتمَّت بحفر عدة آبار بعرفة ومنى.
وكذلك قامت بعمل درب زبيدة، أو طريق الحج الكوفي وكان عبارة عن محطَّات على الطريق من الكوفة إلى المدينة فمكة، وطوله حوالي 1400 كيلو متر، وعلَّق الرَّحَّالة الأندلسي ابْنُ جُبَيْرٍ أثناء زيارته مكَّة والمدينة على تلك الآثار بقوله: «وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكَّة هي آثار زبيدة ابنة جعفر؛ انتدبت لذلك مدَّة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعمُّ وفدَ الله تعالى كلَّ سنةٍ من لدن وفاتها إلى الآن»[2]. وذكر ابن جبيرٍ ذلك الكلام عام 580هـ؛ أي بعد أكثر من ثلاث قرونٍ ونصف من موت زُبَيْدَةَ.
وأخيرًا نقول الكثير من الأثرياء يمتلكون المال، والكثير منهم يقومون بأعمال برٍّ كبرى، ولكن فيما أرى أن الله اطَّلع على شيء في قلب زبيدة، من إخلاص له سبحانه، أو رغبة حثيثة في نفع المسلمين، أو رجاء كبير في صدقة جارية متقبلة، أو طموح زائد في الوصول لدرجة المقربين، فكتب القبول لمثل هذا العمل، حتى يبقى له آثار إلى زماننا الآن، فلله الحمد والمنة[3].
[1] حوالي 7225 كيلو ذهب (7.2 طن). حوالي 12 مليار جنيه (أكثر من 400 مليون دولار). (مارس 2023)
[2] ابن جبير: رحلة ابن جبير، ص165.
[3] لمشاهدة المقال على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك