التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
نهاية دولة بني جهور، مقال د. راغب السرجاني، يتناول وزارة أبي والوليد بن جهور في قرطبة ووزارة عبد الملك بن جهور وكيف أدت سياسته إلى سقوط دولة بني جهور
أبو الوليد محمد بن جهور
عند وفاة الوزير جهور سنة 435هـ أجمع أهل قرطبة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكما عليهم، وقد اقتفى أبو الوليد محمد بن جهور خطى والده في سياسته، وأقرَّ لأول ولايته الحُكَّام وأُولي المراتب على ما كانوا عليه أيام أبيه، وأخذ بسياسة الحزم على نحو ما كان عليه أبوه، وأقرَّ الأمن والنظام[1].
وكان من محاسن دولته أن قرَّب إليه مؤرِّخ الأندلس أبا مروان بن حيان، وجعله من خاصَّته في ديوان السلطان، وفي ذلك يقول ابن حيان: «وكنتُ ممَّن جَادَتْهُ سماءُ الرئيس الفاضل أبي الوليد الثرَّة، وكَرُم فيَّ فعلُه ابتداءً من غير مسألة، فأقْحَمَني في زمرة العصابة المُبَرِّزَة الخَصل، مع كلال الحدِّ وضعف الآلة؛ واهتدى لمكان خِلَّتي، وقد ارتشف الدهرُ بُلالتي[2]، بأن قلَّدني إملاءَ الذِّكْر في ديوان السلطان المطابق لصناعتي، اللاَّئق بتحرُّفي، براتب واسع، لولا ما أخذ عليَّ كَتْم ما أسداه لجهدتُ في وصفه، وإلى الله تعالى أفزع في إجمال المكافأة عني برحمته»[3]. ومن محاسنه كذلك أن قرَّب إليه شاعر الأندلس الكبير أبا الوليد بن زيدون، وجعله وزيره، وقَدَّمه إلى النظر على أهل الذمَّة لبعض الأمور المعترضة، وجعله لسان دولته وسفيرًا له إلى أمراء الممالك الأندلسية، وظلَّ كذلك إلى أن سخط عليه فأودعه السجن، ثم فرَّ ابن زيدون إلى دولة المعتضد بن عباد بإِشْبِيلِيَة وأصبح وزيره الأول[4].
الفتنة القاضية
بقيت الأمور على ما هي عليه من الاستقرار والأمان حينًا، ويبدو أن أبا الوليد محمد بن جهور أتعبته السياسة وأثقلت كاهله، وكان له ولدان، عبد الرحمن أكبرهما، وعبد الملك أصغرهما، ولكن عبد الملك تميَّز عن أخيه بشهامته، فلما عزم أبو الوليد على ترك السياسة وأمورها عقد الأمر لابنه عبد الملك الأصغر، وأنشد يقول: [الكامل]
وَإِذَا الْفَتَى فَقَدَ الشَّبَابَ سَمَا لَهُ *** حُبُّ الْبَنِينِ وَلا كَحُبِّ الأَصْغَرِ
عبد الملك بن جهور
مع كثرة نصائح المقربين من أبي الوليد بن جهور بتقديم عبد الرحمن، إلا أنه أصرَّ على تقديم عبد الملك، وقدَّمه للناس، وطلب منهم البيعة له، فظَلَمَ وأساء السيرة، واستبدَّ بالسلطة من دون الجماعة، واستباح أموال المسلمين، وسلَّط عليهم أهل الفساد، وأهمل الأمور الشرعية، وشرع في المعاصي والفسوق، وعمَّ الخوف محلَّ الأمان، وتعاظمت قوَّته بتجبُّره، وتسمَّى بذي السيادتين (المنصور بالله الظافر بفضل الله)، وخُطب له على المنابر، فخالف سيرة أبيه وجدِّه، وفي سنة 440هـ عَهِد عبد الملك بأمور الحُكم إلى وزير أبيه أبي الحسن إبراهيم بن يحيى المعروف بابن السقَّاء، فضبط الأمن وأعاد النظام، وساد العدل بين الناس، وكان المعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب؛ ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على قُرْطُبَة، فلما وجد ما حَلَّتْ به تحت يَدَيْ ذلك الوزير القوي ابن السقاء، ورأى أن ذلك يحُول بينه وبين حلمه في امتلاك قُرْطُبَة؛ عَمِلَ على الوقيعة بين عبد الملك بن جهور وبين وزير أبيه ابن السقاء، فدسَّ إلى عبد الملك مَنْ جَسَّره[5] على الفتك بابن السقاء، وحذره من طمعه واستئثاره بالسلطة دونه، وإلى ابن السقاء مَنْ ألقى في روعه حُبَّ المُلْكِ، وكان عبد الملك ضعيفَ العقل سيِّئ الرأي، فقتل وزيره في كمين دبَّره له سنة (455هـ= 1063م)[6].
وبعد أن قُتل الوزير ابن السقاء انفرد عبد الملك بالسلطة لنفسه، فتجبَّر وأساء، فلما وجد أخوه الأكبر عبد الرحمن ذلك طمع في السلطة، وزعم أنه أحقُّ بالولاية من أخيه، فطفقا يستميلُ كلٌّ منهما طائفةً من الجند، ويتقرَّب للرعية، وبدأت بوادر الفوضى تعمُّ قُرْطُبَة، فلما وجد أبو الوليد بن جهور ذلك خاف سوء العاقبة عليه وعلى ولديه، فعمد إلى تقسيم السلطة عليهما وذلك سنة (456هـ=1064م)؛ فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في الصكوك السلطانية المتضمِّنة للحلِّ والعقد، وجميع أبواب النفقات، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والإشراف على أعطياتهم، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم وجميع ما يخصهم، ورضيا الأخوان بذلك، إلا أن عبد الملك تغلب على أخيه فسجنه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، واستبدَّ بالأمر دونه، وأطلق العِنان وتسلَّط هو والسوقة من رعيته بين الناس بالأذى، فما كان من أهل قُرْطُبَة إلا أن انصرفوا عن بني جهور[7].
نهاية دولة بني جهور
كانت هذه السياسة -التي اتبعها عبد الملك بن جهور في قُرْطُبَة- كفيلة بإسقاط حكمه، خاصَّة وأن حاشيته عاثت في الأرض فسادًا ونهبًا وسرقة؛ مما أثار أهل قُرْطُبَة، وبدأت مظاهر الانحلال السابقة للسقوط الأزلي لدولة بني جهور في قُرْطُبَة، خاصة وأن قُرْطُبَة محلُّ أنظار الممالك المجاورة لها؛ سواء بني عباد في إِشْبِيلِيَة، أو بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، وعقب الاضطرابات التي شهدتها قُرْطُبَة عام 462هـ أغار صاحب طُلَيْطِلَة المأمون يحيى بن ذي النون على قُرْطُبَة، فاستغاث عبد الملك بن جهور بالمعتمد بن عباد[8]، وكانت تلك الاستغاثةَ الأخيرة من بني جهور، والتي أعقبها سقوط حُكمهم إلى الأبد في قُرْطُبَة على نحو ما سنذكره في موضعه، إن شاء الله.
[2] البُلالة: الإساءة والعيب. الجوهري: الصحاح، باب اللام فصل الباء 4/1640، وابن منظور: لسان العرب، مادة بلل 11/63.
[5] يُجَسِّره: يُشَجِّعه ويجعله يتطاول ويتجرَّأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الجيم 2/613، 614، وابن منظور: لسان العرب، مادة جسر 4/136، والمعجم الوسيط 1/122.
التعليقات
إرسال تعليقك