التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يعقوب المنصور المريني..جهاد دائم، مقال د. راغب السرجاني، يتناول جهاد يعقوب بن عبد الحق أو يعقوب المريني في الأندلس ونصرته لابن الأحمر بغرناطة ومعركة
يعقوب بن عبد الحق المريني
في وصف بليغ للسلطان يعقوب بن عبد الحق أو المنصور المريني يقول المؤرخون المعاصرون له: إنه كان صوَّامًا قوَّامًا، دائم الذكر، كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكرًا، وفي أكثر ليله قائمًا يصلي، مكرمًا للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعًا في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفًا في سفك الدماء، كريمًا جوَّادًا، وكان مظفرًا، منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغزُ عدوًّا إلا قهره، ولا لقي جيشًا إلا هزمه ودمَّره، ولا قصد بلدًا إلا فتحه[1].
وإنها لصفات عظيمة لهؤلاء القادة المجاهدين الفاتحين، يجب أن يقف أمامها المسلمون كثيرًا، ويتمثلونها في قرارة أنفسهم، ويجعلون منها نبراسًا يضيء حياتهم.
وفي تطبيق عملي لإحدى هذه الصفات وحين استعان محمد بن الأحمر الأول بيعقوب المنصور المريني ممثلاً في دولة بني مرين، ما كان منه إلا أن أعد العدة وأتى بالفعل، وقام بصدِّ هجوم النصارى على غرناطة.
بلاد الأندلس واستيراد النصر
لقد تعوَّدت بلاد الأندلس استيراد النصر من خارجها، كانت هذه مقولة ملموسة طيلة العهود السابقة؛ فلقد ظلت لأكثر من مائتي عام تستورد النصر من خارج أراضيها؛ فمرة من المرابطين، وأخرى من الموحدين، وثالثة كانت من بني مرين وهكذا، فلا تكاد تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها.
ومن الطبيعي ألا يستقيم الأمر لتلك البلاد التي تقوم على أكتاف غيرها أبدًا، وأبدًا لا تستكمل النصر، وأبدًا لا تستحق الحياة، لا يستقيم أبدًا أن تنفق الأموال الضخمة في بناء القصور الضخمة الفارهة في غرناطة؛ مثل قصر الحمراء الذي يُعَدُّ من أعظم قصور الأندلس ليحكم منها ابن الأحمر أو غيره، وهو في هذه المحاصرة من جيوش النصارى، ثم يأتي غيره ومن خارج الأندلس ليدافع عن هذه البلاد وتلك القصور.
وفاة محمد بن الأحمر وولاية محمد الفقيه
في سنة (671هـ= 1273م) يموت محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، وقد استخلف على الحُكم ابنه وسميَّه، بل وسميَّ معظم أمراء بني الأحمر كان اسم ابنه هذا محمدًا، فكان هو محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر، وكانوا يلقبونه بالفقيه «لانتحاله طلب العلم أيام أبيه»[2].
لما تولَّى محمد الفقيه الأمور في غرناطة نظر إلى حال البلاد فوجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لن تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة قوة النصارى، هذا بالإضافة إلى أن ألفونسو العاشر حين مات ابن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت، فما كان منه إلا أن أسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، ما كان -أيضًا- من محمد الفقيه إلا أن استعان بيعقوب المنصور المريني -رحمه الله، وكان أبوه قد وصاه عند موته بالتمسك بعروة أمير المسلمين في المغرب[3].
وعلى كلٍّ فقد أتى بنو مرين، وكان العبور الأول للمنصور المريني -رحمه الله- في صفر سنة (674هـ)، وكان قد سبق ذلك بعام إرساله خمسة آلاف جندي بقيادة ابنه للجزيرة؛ حتى يفرغ من استعداده للجواز، وكان قبل ذلك بعدة أعوام سنة (663هـ) قد أرسل حوالي ثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة بعض أقاربه إلى الأندلس في حياة الشيخ ابن الأحمر فاستقروا بالأندلس -كما ذكرنا- واستطاعوا أن يردُّوا الهجوم عن غرناطة، وحفظها الله من السقوط المدوّي[4].
معركة الدونونية
هناك وفي مكان خارج غرناطة وبالقرب من قرطبة يلتقي المسلمون مع النصارى، وعلى رأسهم واحد من أكبر قواد مملكة قشتالة يدعى دون نونيو دي لارى ( الذي سميت الموقعة باسمه، فعُرفت بموقعة الدونونيّة)[5].
ففي سنة (674هـ= 1276م) تقع موقعة الدونونية، وكان على رأس جيوش المسلمين المنصور المريني -رحمه الله-، وقد أخذ يحفز الناس بنفسه على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة في تحفيز جنده في هذه الموقعة:
ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف؛ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمَنْ مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200][6].
وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارًا باهرًا وعظيمًا، وقُتل من النصارى ستة آلاف مقاتل، وتم أسر سبعة آلاف وثمانمائة آخرين، وقُتل دون نونيو قائد قشتالة في هذه الموقعة[7]، وقد غنم المسلمون غنائم لا تحصى، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ= 1195م) كهذا النصر في الدونونية في سنة (674هـ= 1276م).
المنصور المريني وحصار إشبيلية
عاد المنصور -عقب غزوة الدونونية- إلى الجزيرة الخضراء، واستقرَّ بها خمسة وثلاثين يومًا، وزَّع خلالها الغنائم، وأرسل إلى العدوة بخبر الغزوة، وكذلك أرسل إلى ابن الأحمر، ثم عاد بعد ذلك، وقاد جيشه إلى أحواز إشبيلية، وحاصرها حصارًا شديدًا، قتل فيه وسبى، وضيق على إشبيلية تضييقًا شديدًا، ثم رحل بجيشه عنها محملاً بالغنائم إلى شريش، وحاصرها هي الأخرى فترة، ثم فضَّ الحصار وعاد إلى الجزيرة[8].
وبعد ثلاث سنوات من هذه الموقعة في سنة (677هـ= 1279م) تنتقض إشبيلية، فيذهب إليها من جديد المنصور المريني -رحمه الله، ومن جديد وبعد حصار فترة من الزمن يصالحونه على الجزية، ثم يتجه بعد ذلك إلى قرطبة ويحاصرها، فترضخ له أيضًا على الجزية[9].
كان النصارى معتصمين بمدنهم، يحتمون بأسوارها وقلاعها، أو قل: هي أسوار وقلاع بناها المسلمون من قبل. إلا أن ألفونسو العاشر لم يكن من المتخاذلين والضعفاء والجبناء الذين ابتلي بهم المسلمون في أيام السقوط فتركوا هذه المدن، أو سلموها، أو حتى عاونوا النصارى في إسقاطها.
بل حتى في هذه الفترة لم تكن ما بقي من بلاد الأندلس متوحدة تحت سلطان ابن الأحمر، بل خرج عليه بنو أشقيلولة[10]، وسيطروا على مالقة وقمارش ووادي آش، وكثيرًا ما حاربهم هو وحاربهم أبوه من قبله، بل إن ابن الأحمر لم يشترك في موقعة الدونونية لهذا النزاع مع بني أشقيلولة[11].
حاصر المسلمون إشبيلية، واستنزفوها قدر الإمكان، وكان فيها ألفونسو العاشر، وأرسل المنصور السرايا إلى مختلف النواحي لتؤدي العمل نفسه، واقتحمت سراياه عدة حصون، ثم عاد السلطان بالغنائم والسبي إلى الجزيرة، وأراح في الجزيرة بعض الوقت، ثم خرج إلى شريش فاشتد في التضييق عليها، وأرسل ولده إلى إشبيلية، فاكتسح ما استطاع من حصونها، ثم عاد إلى أبيه وعادا معًا بالجيوش وبالغنائم إلى الجزيرة، ثم دعا ابن الأحمر للغزو، فاستجاب له، وخرجا سويًّا إلى قرطبة، فضيقوا عليها قدر الإمكان، وخربوا ما استطاعوا من حصونها، وأرسلوا السرايا إلى المدن الأخرى للتضييق عليها كأرجونة وبركونة وجيان، وملك قشتالة لا يجرؤ على الخروج لهم، ثم إنه لم يجد أمامه بدًّا من مسالمتهم، وبالفعل أرسل إلى أمير المسلمين يطلب المسالمة والصلح، فترك أمير المسلمين القرار في ذلك لابن الأحمر إعلاءً لشأنه، فوافق ابن الأحمر بعد استئذان أمير المسلمين في ذلك، وعاد أمير المسلمين مع ابن الأحمر إلى غرناطة، وترك له غنائم هذه الغزوة، ثم عاد أمير المسلمين للجزيرة[12].
التعليقات
إرسال تعليقك