الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تبدأ حركة التأليف في تاريخ مصر الحديث بالمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، وذلك في: عجائب الآثار ومظهر التقديس، فما تلك الكتابات وما أهميتها؟
ارتبطت حركة التأليف التاريخي في مصر قبيل ظهور المدرسة التاريخية الحديثة بالاهتمام بذكر سير العظماء وغرائب الحوادث، أما تاريخ الشعوب والأمم، فلم يحظ بمثل هذا الاهتمام ولم تسلط الأضواء على أحوال الناس وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية.
يضاف إلى هذا أن هؤلاء المؤرخين لم يسخروا طاقاتهم لخدمة مصالح وطنهم على أسس من الحق والحكم على الوقائع بطريقة موضوعية، واستمر الحال على هذا المنوال فترة حتى برزت النهضة التاريخية الحديثة، وأخذ المؤرخون في توجيه جهودهم إلى تاريخ حياة الشعوب وأحوالها.
الجبرتي وحركة التأليف التاريخي لمصر الحديثة
وتبدأ حركة التأليف التاريخي لمصر الحديثة بعبد الرحمن الجبرتي الذي عاش عصر انتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، تلك الفترة التي اتسمت باضطراب الشديد والتغير السريع، والتي شملت أواخر العصر العثماني الأول وعصر الحملة الفرنسية ونحو عشرين سنة من حكم محمد علي، وهذه الفترة من تاريخ مصر تعد الفاصل بين عصر الركود والهدم والتخريب، وعصر النهضة والإنشاء والتجديد.
وكتابات الجبرتي في مؤلفيه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"[1] و"مظهر التقديس بذهاب الفرنسيس" [2]، أو "زوال دولة الفرنسيس" في بعض النسخ تعد بمثابة الركائز الأساسية في كتابة تاريخ مصر الحديث، خاصة وأن صاحبها ذكر الحقائق التاريخية دون محاباة أو مجاملة لحاكم أو لغيره، وعالج مشاكل الحياة والمجتمع المصري معالجة البصير بالأمور وحكم عليها حكما مقبولا.
مما جعل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي يصفه بأنه مثل ثوكيديدس اليوناني الذي وقع عليه عبء كتابة تاريخ حقبة شاذة من حياة الحضارة التي ترعرع في ربوعها، وأن في وسع مصر أن تفاخر بالجبرتي وأن تباهي به سائر المتحدثين بالعربية [3].
وجعل محمد أنيس يقول عنه إن أهم ما يميزه هو دقة المؤرخ واستقصاؤه للحوادث، وموضوعيته، هذا، فضلا عن أنه كتب عن عصور ثلاثة هي مصر العثمانية والحملة الفرنسية وظهور محمد علي، يضاف إلى ذلك أن البعض وصف ما كتبه بأنه أعظم تواريخ مصر في القرنين الثاني عشر، والثالث عشر الهجريين [4].
وأنه تاريخ ممتاز للحوادث التي وقعت في مصر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، وأنه من أعدل وأضبط المؤلفات التاريخية التي تصف أحداث زمانها بصدق.
أهمية كتابات عبد الرحمن الجبرتي التاريخية
ويمكن أن نرجع أهمية كتابات عبد الرحمن الجبرتي التاريخية إلى ما يلي:
1- يعد ما كتبه الجبرتي وثيقة تاريخية هامة وفريدة في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، خاصة وأن الجبرتي يحمل بين جنباته صورة مفصلة عن حياة المصريين الاجتماعية، ويتضمن التأثيرات الموضوعية للحملة الفرنسية على مصر، كما يتضمن فترة هامة من حكم محمد علي بما لها وما عليها.
فقد عاش الجبرتي عصر انتقال مصر من حال إلى حال، وصور ما تحمله أهلها من مشقات ودون ما رأى وما سمع وما أحس دون أن ينحاز لحاكم أو لسلطة، فعلى الرغم من تكوينه الديني، فقد كان رجل دين ودنيا أخذ من كل شيء بطرف.
فأشاد بالمظاهر الإيجابية لسياسة الفرنسيين في مصر أحيانا، وندد بأعمالهم المنافية للشرع والدين في أحيان أخرى، فامتدح رفض الفرنسيين للسخرة، وتشكيلهم الديوان، واهتمامهم بتنظيم القضاء وعنايتهم بالنظافة، ومنعهم دفن الموتى في المقابر القريبة من المساكن، وعدالتهم في الأحكام خاصة خلال محاكمتهم لسليمان الحلبي قاتل كليبر؛ حيث لم يبادروا بقتله، بل سألوه وحاكموه وناقشوه وناقشوا الشهود.
كما أبدى إعجابه بنشاطهم العلمي ورغبتهم في البحث والمعرفة وتنظيمهم لقاعة المطالعة التي خصصوها للقراء [5]، وتطلعهم الزائد إلى العلوم، فعندما شاهد التجارب العلمية التي أجراها أمامه علماء الفرنسيين، قال:
"لهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت ..، وعنده الآلات الفلكية الغربية المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن .."، كما أعرب عن دهشته مما شاهده عندما زار المجمع العلمي الفرنسي بقوله: "ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا[6].
2- وتزداد قيمة ما كتبه الجبرتي من كونه عاصر معظم الأحداث التي كتبها وشارك في بعضها أحيانا، وتابع بعضها في أحيان أخرى، وساعده في ذلك اتصاله بالجهات الرسمية يومئذ، وتعيينه عضوا في الديوان العام الذي أنشأه الفرنسيون بالقاهرة للاستعانة به على ضبط النظام.
فجاء ما كتبه سجلا حافلا التزم فيه جادة الحيدة والإنصاف، وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه بقوله: "لم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق لميل نفساني أو غرض جسماني".
3- يرجع الفضل للجبرتي في تدوين تاريخ مصر وحوادثها وتراجم رجالها في القرنين الثاني والثالث عشر الهجريين، ولولا ما كتبه، لافتقد المؤرخون العديد من حوادث تلك الحقبة. حقيقة، هناك كتاب "ذكر تملك الفرنساوية للديار المصرية" للمعلم نقولا بن يوسف الترك اللبناني، وهناك كتاب "تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين" للشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر خلال تلك الفترة [7].
ولكن هذين المصدرين العربيين يشوبهما الكثير من عوامل النقص والقصور، فالأول مال نحو الجانب الفرنسي والجاليات الأجنبية في مصر، فمدح بونابرت ورثى كليبر، وما كتبه لا يرقى إلى كتابات الجبرتي، والثاني كان أول من استقبل الأتراك العثمانيين بعد خروج الحملة الفرنسية وألف كتيبا بناء على طلبهم، ولكن ما كتبه ليس فيه عن الحملة الفرنسية سوى صفحات قليلة لا قيمة لها عند المؤرخ، اللهم إلا من جهة صدورها من رجل كان شيخا من شيوخ الأزهر.
4- كتب الجبرتي تاريخا بلا عاطفة، وكان رائده الصدق في ما كتبه، فهو يلم بالشوارد ويدون ويقيد، ولكنه لا يلون بشعور ولا يضفي بإحساسه [8]، فعندما تحدث عن الثورات التي قام بها أهل القاهرة من الفرنسيين اتهم بعض زعمائها بأنهم من الأغرار الأفاقين كما سمى القائمين بالثورة أحيانا بالذعر وأحيانا بالحشرات، مما يؤكد طبيعته البعيدة عن العنف. وعندما تطرق إلى مساوئ الحكم الفرنسي، لم يفته الإشادة بعدالتهم خلال محاكمتهم سليمان الحلبي قاتل كليبر.
5- بساطة الجبرتي وعدم انسياقه إلى التفاخر بنفسه أو بأعماله، فعلى الرغم من اشتراكه في الديوان الذي ألفه مينو، لم يردد ذلك صراحة في كتابه؛ وعندما تعرض لذكر الديوان، لم يذكر اسمه صراحة، وإنما قال: "كاتبه".
6- كتب الجبرتي مؤلفه بطريقة الحوليات واليوميات في إفاضة وتفاصيل ممتعة، وبشكل جعل تعيين الأماكن والمواقع ظاهرة واضحة في روايته، فلا يورد حدثا من حوادث الحرب أو الثورات أو المواكب والحفلات العامة، ولاسيما في القاهرة، إلا قرنه بتحديد الأماكن والمواقع من شوارع وميادين ودروب ومنازل بحيث نستطيع من خلال روايته أن نصور معالم القاهرة في عصره واضحة جلية.
7- إن كتابات الجبرتي أشبه بالتلال الأثرية، لا تكاد تحفر فيها حتى تجد تحفة أثرية نادرة، وكلما ازددت في الحفر عثرت على اللؤلؤ والجواهر. ومع ذلك، فإن هذا الحفر يحتاج إلى صبر ومثابرة وأناة حتى يمكن استخراج هذه النفائس من الأتربة العالقة بها.
ملاحظات على كتابات الجبرتي التاريخية
ومع كل ذلك، فمما يلاحظ على كتابات الجبرتي أنه كتب عن القاهرة أكثر مما كتب عن مصر كلها، فالحوادث التي تعرض لها عن الوجهين القبلي والبحري كانت على هامش كتاباته، يضاف إلى ذلك أن من يقرأ الجبرتي يرهقه كثرة استعماله للعامية والتعبيرات الشعبية المصرية، مثل: كلمة "شطح"، أي ارتفع؛ وكلمة "قشلان" بمعنى مفلس؛ وكلمة "وثارت كرشه"، أي زحام؛ وكلمة "النفخة"، بمعنى الغرور.
كما يرهقه كثرة الأغلاط وعدم الترتيب العلمي، وعدم تناسق الروايات والحوادث التي تعرض لها، وقد لا يعيب هذا الجبرتي بقدر ما يعبر عن طبيعة عصره ومعاييره، فقد تأثر الجبرتي بطابع عصره من ناحية انحطاط الأسلوب وشيوع العجمة في التراكيب والتردي في الكثير من الأخطاء النحوية واللغوية.
لذلك فالذين لا يأخذون الأمور بظواهرها، والذين يتعمقون في البحث عن حوادث تلك الأيام وأحوالها وظروفها لا يسعهم سوى الإعجاب بما كتبه الجبرتي كأثر تاريخي هام، ويوميات ذات قيمة كبيرة للمؤرخ [9]، بز بها ما كتبه علماء زمانه أمثال عبد الله الشرقاوي وإسماعيل الخشاب ونقولا ترك وغيرهم، لدرجة أن مقارنته بهؤلاء شبهها البعض بمقارنة القمح بالقشور.
[1] طبع عدة طبعات بعد أن محجوبا لفترة ليست بالقليلة، وبعد أن أذن الخديوي توفيق بطبعه، طبع لأول مرة في عام 1297هـ/1879م بالمطبعة الأميرية ببولاق، ثم تكرر طبعه؛ فطبع بالمطبعة الشرفية في عام 1323هـ/1905م في أربعة أجزاء، وقامت وزارة التربية والتعليم بتحقيقه تحت إشراف الأستاذ محمد شفيق غربال في عام 1958م؛ كما ترجم إلى الفرنسية في تسعة أجزاء.
[2] يؤرخ هذا الكتاب للحملة الفرنسية على مصر، وكان الجبرتي قد أهداه إلى يوسف باشا القائد العثماني الذي دخل القاهرة في أعقاب خروج الفرنسيين منها، وقد قامت وزارة التربية والتعليم بتحقيقه في عام 1961م. والجدير بالذكر أن الجبرتي قد أفاد في تاريخه من جهود بعض المعاصرين له، أمثال: إسماعيل الخشاب وحسن العطار، كما أفاد أيضا من جهود من سبقه من المؤرخين.
[3] أرنولد توينبي: عبد الرحمن الجبرتي وعصره، ضمن كتاب "عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث"، ص15.
[4] راجع ما كتبه ماكدونالد (Macdonald) في ترجمته للجبرتي في "دائرة المعارف الإسلامية" مادة "جبرتي"، وما كتبه إدوارد وليم لين في كتابه: "الأحوال والعادات في مصر الحديثة".
(The Manners, Customs of the Modern Egyptian, London, 1836)
[5] من المفيد الإشارة إلى أن ما كتبه الجبرتي في "مظهر التقديس" يختلف عما كتبه في "عجائب الآثار". ففي "مظهر التقديس" يخرج الجبرتي عن الموضوعية أحيانا، وينظر إلى الحوادث بعاطفته الدينية والوطنية، فيرى كل ما هو فرنسي كريه، ويكفي أن يكون الحكم غير إسلامي لينتقده، ولكنه في "عجائب الآثار" تخلى عن هاتين العاطفتين. للتفاصيل، أنظر د. محمد أنيس: الجبرتي بين مظهر التقديس وعجائب الآثار، مجلة كلية الآداب، المجلد الثامن عشر، ج1، مايو 1956م، ص59-70.
[6] الجبرتي: عجائب الآثار، القاهرة، المطبعة الأميرية، ج3، ص26، 34-35.
[7] عمل المعلم نقولا بن يوسف الترك اللبناني في خدمة الأمير بشير الشهابي، وحضر إلى مصر قبل الحملة الفرنسية بزمن قصير، والكتاب طبع في باريس مع ترجمة فرنسية له.
- وكان الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيسا للديوان أيام الفرنسيين، وقد ترجم له الجبرتي في وفيات 1227هـ. ومن المعروف أن الشيخ الشرقاوي تعاون مع الفرنسيين وانبهر بتفوقهم، لذلك كان اختياره رئيسا للديوان الأول اختيارا مقصودا من جانب بونابرت.
[8] محمد الشرقاوي: دراسات في تاريخ الجبرتي، مصر في القرن الثامن عشر، ج1، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1955م، ص29.
[9] الجدير بالذكر أنه لا صحة لما يذاع حول أن هناك جزءا خامسا من كتاب "عجائب الآثار" لم يصرح بطبعه لما فيه من الطعن على محمد علي، لأنه توجد نسخة خطية من تاريخ الجبرتي في مكتبة وزارة الحربية الفرنسية بباريس، ولو كان فيها شيء لم ينشر في الطبعة العربية، لما خفي أمره على المستشرقين والباحثين الأوربيين. انظر: أحمد حافظ عوض: فتح مصر الحديث، ص438.
التعليقات
إرسال تعليقك