التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
شهدت صقلية غي العصر الإسلامي نهضة زراعية وصناعية عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن، يحدثنا الدكتور إحسان عباس عن حضراة العرب في صقلية
شهدت صقلية الإسلامية (212 هـ / 827م - 483 هـ /1090 م)، رخصٌ في الحاجيات وكثرتها، وأيضًا نهضة زراعية كبيرة، وأساليب زراعية جديدة، واستغلال كل أرض صالحة لأن تفلح، وتهيئة الأرض لأنواع جديدة من المزروعات.
النهضة الزراعية في صقلية
ففي أيام البيزنطيين كانت صقلية تهتم بالقمح والكرمة وتعتمد في الزيتون والزيت على شمال إفريقية، ويظهر أنها ظلت تستمدها من هناك في العصر الإسلامي أيضًا، لأن صاحب كتاب الاستبصار لا يزال يقول في زيت سفاقس: "وعليه معول أهل صقلية وإيطالية وأنكبورده وقلورية" [1]. وفي أخبار الفتح نسمع عن الكروم حول طبرمين، وكلاما مبهماً عن الزروع.
أما المسلمون فإنهم أدخلوا إلى صقلية كثيراً من أنواع الزراعة، فجاءوها بالليمون والبرتقال والقصب والأرز والنخيل والقطن والبردي حتى نشأت في صقلية أساليب زراعية تلائم بيئتها، وأصبحنا نسمع في كتاب الفلاحة بما يسمى طريقة صقلية في زراعة البصل مثلًا [2]، أو عادة أهل صقلية في زراعة القطن [3]، أو طريقهم الخاصة في عمل معنب من عصير العنب الحلو [4].
وأكثر الناس من زراعة الخضروات وبعض أنواعها أدخله المسلمون إلى جزيرة صقلية. وكانت بلرم (بالرمو Palermo عاصمة صقلية) وضواحيها عامرة بالبساتين والأجنة والطواحين على وادي عباس [5]. وكانت الأراضي السبخة القريبة منها مزروعة بالقصب الفارسي وبالمقاثي الصالحة، وكان في خلال أراضيها بقاع قد غلب عليها البربير، وهو البردي المعمول منه الطوامير وأكثره يفتل حبالا للمراكب وأقله يعمل للسلطان منه طوامير لا يزيد على قدر كفايته [6].
ويذكر المقدسي كثرة الفواكه والخيرات والأعناب في بلرم وضواحيها [7]، وتتردد في الشعر بساتين المعسكر ومتنزهاته وفواراتها، ولم يغير الفتح النورماني كثيراً من عمران صقلية، ولذلك نستطيع أن نعتمد على ما كتبه الإدريسي لنتصور الحالة الزراعية بصقلية في العصر الإسلامي. وليس هنالك من بلد مذكور في نزهة المشتاق لا يقترن به ذكر البساتين والمنازه والمياه والمزارع الطيبة؟
كذلك كان الحال في بلرم وجفلوذ ومسينة وقطانية وقارونية ولنبياده وبثيرة وجرجنت وسائر القلاع والحصون، داخلية كانت أو ساحلية. وحول شنت ماركو خاصة كان يكثر البنفسج ذو الرائحة الفائحة العطرة [8].
النهضة الصناعية في صقلية
وشملت النهضة أيضاً الحياة الصناعية، وكانت هذه ذات أصول في العصر البيزنطي. وقد مر بنا أن الجلود الأرجوانية اللون والحرير اللازوردي وبعض الصوف كانت مما يحمل من صقلية إلى رافنا. ولكن الصناعة في العصر الإسلامي كثرت وتقدمت وشمل الإتقان عدة أنواع منها.
واعتمدت الصناعات على الحاصلات النباتية والحيوانية والمعدنية، فقامت صناعة السفن على الخشب من حول جفلوذ [9] وعلى الحديد من بلهرا [10]، وكان القطن الذي يزرع حول حطين [11] يصدر بكثرة إلى البلاد أفريقية [12] ومن ميلاص يتجهز بالكتان الكثير الطيب [13]، وكان الكتان الصقلي ذا شهرة واسعة.
ويذكر ابن حوقل أن ثياب الكتان فيها لا نظير لها جودة ورخصاً، ويباع مستعملها مما يقطع قطعين من الخمسين رباعياً إلى ستين رباعياً فيزيد على ما يشتري من أمثاله بمصر بالخمسين والستين ديناراً كثيراً [14].
وفي خطط المقريزي أنه وجد لعبدة بنت المعز في جملة ما وجد في خزائنها ثلاثون ألف شقة صقلية [15]. وربما دلت هذه الشهرة المبكرة في الكتان على رسوخ صناعته في العصر الأغلبي إن لم يكن قبله. ويقول المقدسي: ومن صقلية تحمل الثياب المقصورة الجيدة [16]. ويقول ناصر خسرو: ويجلبون منها كتاناً رقيقاً وثياباً منقوشة يساوي الثوب منها في مصر عشرة دنانير مغربية [17].
ولا ننسى بجانب المنسوجات صناعات أخرى قائمة على المواد الحيوانية كالجلود، لشهرة صقلية بالمواشي كما في أشعار بندار. أما تلك التي يذكرها ثيوقريطش في قصائده فهي أنواع من المعزى، وبعض المعزى الموجودة فيها اليوم من ذوات الأذن المتدلية، مما يرجح أن العرب هم الذين جلبوها [18].
وكان لخيول صقيلة في العصر البيزنطي شهرة واسعة، إذ كانت تربى بكثرة في إقطاعات البابا ويستمد الباباوات خيولهم منها. ولما دخل العرب صقلية دخلتها الخيول العربية وطمست شهرة الخيول المحلية، وكذلك جاء المسلمون بالجمل إلى صقلية ولكنه انقرض منها.
وقد مر بنا أنه كانت تصنع فيها حبال والطوامير والسكر، ويذكر ابن حوقل صناعة الخمور وتحضير القند [19]. كما كانت تعتمد صادراتها على مستخرجات الثروة المعدنية كالكبريت والشب والزفت والقطران، وعلى ثروة الغابات الخاصة من جبل إتنا الذي يؤخذ منه الجوز والقسطل وخشب الأرزن [20] أضف إلى ذلك مستخرجات البحر والأنهار كسمك التن والمرجان. أما الواردات إليها فكانت تشمل كل ما تدفع إليه الحاجة من سائر الطلبات [21].
أصحاب الحرف في صقلية
واستدعت النهضة الصناعية تعدد الحرف في أيدي الناس، وفي بلروم وحدها عدا ابن حوقل أصنافاً كثيرة منها، وذكر أن أهل حرفة سوقًا، فبين مسجد ابن سقلاب والحارة الجديدة كانت تقع أكثر الأسواق، كسوق (الزياتين بأجمعهم والدقاقين، والصيارفة، والصيادنة، والحدادين، والصياقلة، وأسواق القمح، والطرازين، والسماكين، والأبزاريين، وطائفة من القصابين، وباعة البقل، وأصحاب الفاكهة، والرياحين، والجرارين، والخبازين، والجدالين، وطائفة من العطارين، والجزارين، والأساكفة، والدباغين، والنجارين، والغضائريين، والخشابين خارج المدينة، وببلرم طائفة من القصابين، والجرارين والأساكفة، وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم، والقليل منهم برأس السماط، ويجاورهم القطانون، والحلاجون، والحذاءون" [22]. وهذه الفقرة الإحصائية غنية بالدلالة على حال السوق في بلرم أثناء العصر الإسلامي.
المصدر: إحسان عباس: العرب في صقلية - دراسة في التاريخ والأدب، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، لطبعة: الأولى، 1975م، 1/ 72- 75.
[1] الاستبصار: 7، ط فينا. والمؤلف مجهول ولكنه كان يعيش في عصر أبي يوسف أمير المؤمنين.
[2] ابن العوام، الفلاحة النبطية، المكتبة: 545.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه: 546 - 547.
[5] ابن حوقل: صورة الأرض، 1/ 123، والمكتبة:5.
[6] المصدر نفسه، 1/ 123، والمكتبة: 8 - 9.
[7] المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، 231، والمكتبة الملحق الأول: 55.
[8] نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المكتبة: 32.
[9] نزهة المشتاق، والمكتبة: 111.
[10] ابن حوقل 1/ 123 والمكتبة، ص9.
[11] المكتبة الصقلية: 110.
[12] المصدر نفسه: 159.
[13] نزهة المشتاق: 33.
[14] ابن حوقل، 1/ 131.
[15] الخطط، 2/ 164.
[16] أحسن التقاسيم: 239 المكتبة - الملحق الأول: 57.
[17] ناصر خسرو: سفر نامه، ص 45.
[18] Freman: History of sicily vol.i p.93.
[19] أراد ابن حوقل أن يقلل من قيمة صقلية في المنتجات فقال: أنها لم تختص بوجه من فضائل البلدان غير القمح والصوف والشعير والخمر وصبابة من القند إلى شيء من ثياب الكتان، 1/ 131.
[20] المكتبة:118 ، 145.
[21] ابن حوقل، 1/ 121.
[22] ابن حوقل، 1/ 119.
التعليقات
إرسال تعليقك