ملخص المقال
سلمان الفارسي، سلمان منا آل البيت، هو الباحث عن الحقيقة، فما قصة إسلام سلمان الفارسي؟ وما أهم ملامح شخصيته؟ وماهي مكانته وما فضله؟
هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان يكنى بأبي عبد الله، وهو فارسي من أصبهان، وقد أسلم رضي الله عنه بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولكن منعه الرّقّ من شهود غزوتي بدر وأحد، وأول غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي الخندق، وشهد ما بعدها، وقد ولاّه عمر رضي الله عنه المدائن.
قصة إسلام سلمان الفارسي
كان الصحابي الجليل سلمان الفارسيّ رضي الله عنه فارسيًا من أهل أَصْبَهَانَ، من أهل قريةٍ منها يقال لها جَيُّ، وكان أبوهُ دِهْقَانَهَا، كما أنّه كان أحبّ أبنائه إليه؛ ولذا حبسه في بيته كما تحبس الجارية؛ فأخذ يجتهد في المجوسية حتى صار قَاطِنَ النَّارِ الذي يُوقِدُهَا ولا يَتركها تَخْبُو ساعةً.
وذات يومٍ انشغل أبوه بإقامة جدارٍ له، فطلب منه أن يذهب إلى مزرعتهم ويُحضر له شيئاً، فمرّ بكنيسةٍ ودخل فيها، وسمع أصوات صلاتهم، فوقعت النصرانيّة في قلبه، وبقي عندهم إلى غياب الشمس، وسأل عن أصل دينهم، فأخبروه أنه بالشام. فلمَّا سمع أبوه بالخبر حبسه وقيّده، فأرسل سلمان إلى النصارى يُخبرُهم بقصّته ويسألهم أن يُعلموه إذا جاء وفدٌ منهم يريد الشام، ولَمّا حضر الوفد أخبروه، فنزع السلاسل من قدميه وذهب معهم يُريدُ النصارى في الشام، فلمّا وصل قام على خدمة أحد أساقفتهم، ولكنّه كان سيّئًا، حيث كان يأمر النصارى بالصدقة، ثُمّ يأخُذها لنفسه، فمات وأخبر سلمان الناس بسوء خلقه، فوضعوا مكانه أسقف لم يرى سلمان مثل أخلاقه من قبل، فلمَّا حضرته الوفاة قال له سلمان: بمن توصيني أن ألحق؟ فأوصاه بواحد منهم، وبقي يتنقل بين عُلماء النصارى حتى أخبره أحدهم بأنّه هُناك نبيٌ سوف يُبعث، وذكر له علاماتُ نُبوّته، وهي أنّ بين كتفيه خاتم النبوة، ويأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وأوصاه بالبحث عن النبيّ الذي سيُبعث في أرض العرب، ووصفها بأنّها أرضٌ بين حرتين؛ بينهما نخل، وأخبره أنّه سيُبعث بالحنيفية دين إبراهيم، وأنّه سيخرُج في أرض العرب، فلما مات الراهب، بقي سلمان بعده في عموريّة بعض الوقت حتى جاء نفرٌ من تُجار كَلب، وطلب منهم أن يذهب معهم إلى أرض العرب، ويُعطيهم ما معه من غنمٍ وبقر كان قد اكتسبهما من العمل، فقبلوا بذلك، ولكن عند وُصولهم إلى وادٍ بين المدينة والشام يُسمّى وادي القُرى، باعوه إلى رجلٍ من اليهود، فأخذه إلى المدينة، وعندها رأى سلمان النخل الذي وصفه له الراهب، وبقي في المدينة حتى سمع بمبعث النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- في مكة، فجاء رجُلٌ يُخبر أنّ النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- قدم إلى المدينة، وأنّه جالسٌ بين أصحابه، فلمّا سمع سلمان الفارسي هذا الكلام أصابته الْعُرَوَاءُ، يعني: رِعدةٌ من البرد والحُمّى.
ولَمّا حضر المساء جاء سلمان إلى النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- وهو في قُباء، ومعه شيءٌ من التمر، فأخبره أنّه أحضرهم لوجود بعض الفُقراء من الصحابة، فلما أخذها ولم يأكُل منها؛ كانت تلك العلامة الأولى -أنّ النبيّ لا يأكل الصدقة-، ثُمّ رجع إليه مرةً أُخرى وقال له: هذه هديةٌ لك، فأكل منها، فتحقّقت عنده العلامة الثانية التي أخبره بها راهب عمورية، ثُمّ تبعه في جنازةٍ إلى البقيع، ولَما رآه النبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلم مُراده كشف له عن خاتم النُّبوة، فلما رآه قبّله وبكى.
حث النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- سلمان على تحرير نفسه من العُبوديّة بالمُكاتبة بعد أن كان عبداً عند رجلٍ من اليهود، فذهب إلى سيده يعرض عليه المُكاتبة، فكاتبه على أن يغرس له ثلاثمائة، وقيل: خمسُمائة من صِغار النخل، مع أربعين أوقيّة من الذهب، ثُمّ ذهب إلى النبيّ محمد -عليه الصلاةُ والسلام- وأخبره بما تم الاتفاقُ عليه بينهُما، فأخبر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- الصحابة الكِرام بأن يُعينوه في مُكاتبته، فجمعوا له النخلات وحفروا معه، وكان النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- يضع النخل في الحُفر بيده، فقال سلمان: "فما ماتت واحدةٌ منهُنّ"، ثُمّ جاءه رجل معه مثل بيضة الدجاجة من ذهب، فأخذها سلمان وباعها، فكانت أربعين أوقيّة ذهباً، ثُمّ أعطاها لسيّده اليهوديّ، وحرّر بها نفسه من رق العُبوديّة.
وذكر البُخاريُّ في صحيحه أن سلمان تنقّل في عُبوديته بين بضعة عشر من الأسياد، فأثنى عليه النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- وقال كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو هريرة: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَأُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ الجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ منهمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهِمْ} قالَ: قُلتُ: مَن هُمْ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وفينَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، وضَعَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَهُ علَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قالَ: لو كانَ الإيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ -أوْ رَجُلٌ- مِن هَؤُلَاءِ)[1].
مكانة سلمان الفارسي وفضله
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة".
وعن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندق، وجعل لكل عشرة أربعين ذراعًا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قويًّا، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا. فقال رسول الله: "سلمان منا آل البيت"[2].
سلمان الفارسي يوم الخندق
في السنة الخامسة للهجرة، لما خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلِّبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد. ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجه، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون حينئذٍ بين شِقَّي رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى.
هنا تظهر عبقرية سلمان الفارسي الحربية، حيث ألقى من فوق هضبة عالية، نظرةً فاحصةً على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها، غير أن هناك فجوة واسعة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحِمَى في يسر، فأشار على النبي بحفر الخندق؛ مما جعل أحزاب الكفر تعود خائبةً إلى ديارها، بعد أن مكثت شهرًا عاجزة عن عبور الخندق.
غزارة علم سلمان الفارسي رضي الله عنه
عن أبي جحيفة قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي رضي الله عنه وأبي الدرداء رضي الله عنه، فزار سلمان الفارسي أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلَةً في هيئة رثّة فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا. قال: فلما جاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ؛ فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء صلى الله عليه وسلم ليقوم، فقال له سلمان الفارسي: نَمْ. فنام، فلما كان من آخر الليل، قال له سلمان الفارسي صلى الله عليه وسلم: قم الآن. فقاما فصليا، فقال: "إِنَّ لِرَبِّكَ عليك حَقًّا، وإِنَّ لِنَفْسِكَ عليك حَقًّا، ولأهْلِكَ عليك حَقًّا. فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال: "صدق سلمان"[3].
زهد سلمان الفارسي
عن الحسن قال: "كَانَ عَطَاءُ سَلْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى زُهَاءِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي عَبَاءَةٍ يَفْتَرِشُ بَعْضَهَا وَيَلْبَسُ بَعْضَهَا، فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَمْضَاهُ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَفِيفِ يَدَيْه"[4].
ورع وتواضع سلمان الفارسي
عن أبي ليلى الكندي قال: قال غلام سلمان لسلمان رضي الله عنه: كاتبني. قال: ألك شيء؟ قال: لا. قال: فمن أين؟ قال: أسأل الناس. قال: "تريد أن تطعمني غُسَالة الناس".
وعن عبد الله بن بريدة قال: "كان سلمان إذا أصاب الشيء اشترى به لحمًا، ثم دعا المجذومين فأكلوا معه".
وعن أبي الأحوص قال: افتخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقال سلمان: " لَكِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ، ثُمَّ أَعُودُ جِيفَةً مُنْتِنَةً، ثم يؤتى بالميزان، فإن ثقلت موازيني فأنا كريم، لكني وَإِنْ خَفَّتْ فَأَنَا لَئِيمٌ"[5].
من كلام سلمان الفارسي ومواعظه
عن حفص بن عمرو السعدي عن عمه قال: قال سلمان الفارسي رضي الله عنه لحذيفة رضي الله عنه: " إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ، وَالْعُمْرَ قَصِيرٌ، فَخُذْ مِنَ الْعِلْمِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِكَ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ فَلَا تُعَانِهِ"[6].
وعن قتادة قال: قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: "إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية؛ لكي تكون هذه بهذه".
وفاة سلمان الفارسي
لَمَّا حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "عهدٌ عهده إلينا رسول الله قال: (ليكن بلاغُ أحدكم كزاد الراكب)[7]. قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته إلا إكافًا ووطاءً ومتاعًا قُوِّمَ نَحْوًا من عشرين درهمًا. وقد كان سلمان الفارسي رضي الله عنه من المعمّرين، توفي بالمدائن في خلافة عثمان رضي الله عنه، قيل: سنة ثنتين وثلاثين.
[1] رواه البخاري، في صحيحه عن أبي هريرة (4897).
[2] أخرجه الطبراني، والحاكم في "مستدركه"، وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصَّحابة"، والبيهقي في "دلائل النبوة".
[3] رواه البخاري
[4] المعرفة والتاريخ (2/ 552).
[5] البداية والنهاية (19/ 510).
[6] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 188).
[7] سير أعلام النبلاء وصححه شعيب الأرناؤوط.
التعليقات
إرسال تعليقك