جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
يعرض المقال تاريخ الفتح الإسلامي لبلاد أفغانستان وأشهر القادة الفاتحين لأفغانستان وخراسان، وما واجهوه من مصاعب إلى أن استقر الفتح
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا" [رواه مسلم وأبو داود، والترمذي وابن ماجة]. ويقول في حديثٍ آخر: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ (يعني أمر الإسلام) مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ" [رواه أحمد في مسنده].
من هذه المبشِّرات النبوية، انطلق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفتحون المشارق والمغارب، يدفعهم في ذلك تحقيقُ بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية، وحبُّ الجهاد والاستشهاد من ناحيةٍ ثانية، والرغبةُ في نشر تعاليم ذلك الدين بين أمم الأرض جميعًا من ناحيةٍ ثالثة.
الموقع الجغرافي والتاريخ
وكان من ضمن البلدان التي سعدت بالفتح الإسلامي "أفغانستان" التي تقع في قلب آسيا في منطقةٍ بعيدةٍ عن البحار، وتمتدُّ على رقعةٍ واسعةٍ من الأرض تبلغ مساحتها (650,000) كيلو مترًا مربَّعًا، تُغطِّي المرتفعات والجبال أجزاءً كثيرةً منها.
وقد عُرفت أفغانستان في التاريخ البعيد باسم (آريان) نسبةً إلى الآريِّين، وتعني كلمة (آري) النبيل، كما كانت تُسمَّى -أيضًا- بلاد الأفغان، وتُعتبر أفغانستان مهد الآريِّين الذين هاجروا إليها من سهول تركستان الغربية قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، ولو أنَّ بعض المؤرِّخين يرجع تاريخ هجرتهم إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، كما أنَّها كانت تُعرف في عهد الساسانيِّين باسم (خراسان)، ومعنى خراسان: أرض الشمس.
وليس قصدنا هنا القص التاريخي، فذلك أمر يطول بيانه؛ وإنَّما سنتعرَّض للأيَّام الحاسمة التي سطعت فيها شمس الإسلام فوق ربوع أفغانستان، وكيف انتقل الناس من عهدٍ إلى عهد، ومن طورٍ إلى طور.
نهاوند فتح الفتوح
تُعتبر معركة نهاوند سنة (21هـ=624م) بقيادة النعمان بن مقرن المزني إحدى المعارك الحاسمة التي كانت بين المسلمين من جهة وبين الإمبراطورية الساسانية من جهةٍ أخري، وقد كان لهذه المعركة الدور البارز والحاسم في فتح أبواب فارس والمشرق الإسلامي كله ومنها أفغانستان، ولذلك أطلق المسلمون على هذه المعركة اسم: "فتح الفتوح".
ولا نستطيع أن نقول: إنَّ فتح بلاد أفغانستان كان من معركةٍ واحدةٍ أو بقيادة قائد واحد؛ وإنَّما الحقُّ الذي يُقرِّره التاريخ أنّض بلاد أفغانستان فُتحت على مراحل عدَّة على يد قادة كثيرين من قادة الفتح الإسلامي.
بدايات الفتح الإسلامي
ويُشير اللواء محمود شيت خطَّاب رحمه الله إلى أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد معركة نهاوند الشهيرة، عقد بيده سبعة ألوية لسبعة قادة، عهد إليهم بالانسياح في المناطق الخاضعة للحكم الساساني التي تحكم باسم حكام فارس، وكان من بين هذه الجيوش جيشان اتَّجها نحو المنطقة التي تُسمَّى اليوم "أفغانستان": الأول بقيادة الأحنف بن قيس التميمي وجهته خراسان، والثاني بقيادة عاصم بن عاصم التميمي ووجهته سجستان.
فتح الأحنف بن قيس التميمي
أمَّا فتح الأحنف لبلاد خراسان (تقع ضمن ثلاث دول: أفغانستان وإيران وتركستان)، فقد كان ذلك سنة (21هـ=624م)، وقد دخلها الأحنف عبر مدينة الطبسين، فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها، وسار بعدها نحو مرو الشاهجان، فما كان من يزدجرد وهو في مرو الروذ إلَّا أن كتب إلى خاقان ملك الترك، وإلى ملك الصغد، وإلى ملك الصين يستمدُّهم.
ودارت معارك طاحنة بين المسلمين من جهة والتحالف الفارسي التركي من جهةٍ أخري، وانتهى الأمر بهزيمة قوى التحالف واستتباب الأمر للمسلمين، وكتب الأحنف إلى عمر بن الخطاب يُبشِّره بالفتح، وبعث إليه الأخماس.
وعلى الرغم من فرح عمر بن الخطاب بالفتح، فإنَّه كان فرحًا مشوبًا بالحذر؛ إذ إنَّ رقعة الدولة الإسلامية اتَّسعت في بلاد المشرق حتى شملت أرض فارس كلِّها، وقد طالت خطوط المواصلات كثيرًا، وتوزَّعت قوَّات المسلمين في أرجاء الشام ومصر والعراق وفارس، وكان ممَّا قاله عمر في ذلك: "لوددت أنِّي لم أكن بعثت إلى خراسان جندًا، ولوددت أنَّه كان بيننا وبينها بحرٌ من نار".
ثم كتب إلى الأحنف ألَّا يتجاوز النهر إلى ما بعده: "أمَّا بعد فلا تجوزنَّ النهر، واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأيِّ شيءٍ دخلتم على خراسان، فداوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر، وإيَّاكم أن تعبروا فتنفضُّوا".
ثم جمع عمر الناس وخطبهم خطبةً عظيمةً قال فيها: "إنَّ الله قد أهلك ملك المجوسيَّة وفرَّق شملهم، فليسوا يملكون من بلادهم شبرًا يضرُّ بمسلم، ألا وإنَّ الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، والله بالغ أمره ومنجز وعده ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا في أمره على رجلٍ يعرف لكم بعهده، ويُؤتكم وعده، ولا تتبدَّلوا ولا تتغيَّروا، فيستبدل الله بكم غيركم، فإنِّي لا أخاف على هذه الأمة أن تُؤتى إلَّا من قبلكم!".
فتح عاصم بن عاصم التميمي
أمَّا فتح عاصم بن عاصم التميمي، فقد كانت وجهته سجستان (ولاية كبيرة تشمل اليوم منطقتي راجستان، وسيستان، ومن مدنها قندهار، وسجستان، بذلك أعظم من خراسان وأبعد فروجًا)، وعلى الرغم من ذلك استطاع عاصم أن يُحقِّق النصر، ودخل ولاية سجستان، وبثَّ جنده وسراياه، وفرض الحصار على من لم يستسلم منهم، إلى أن اضطرُّوا إلى الصلح على أن تكون مزارع سجستان حمي لا يطؤها المسلمون، وبذلك فُتحت ولاية سجستان، ودخلت ضمن البلاد الإسلامية.
استعادة فتح أفغانستان
لم ينته الأمر عند هذا الحد، ولم يستسلم أهالي تلك البلدان للفاتحين؛ وإنَّما كانت هناك مقاومات تعبويَّة انتهت باستعادة المغلوبين من أهل هذه البلدان لبلادهم، وذلك في الأوقات التي انشغل الفاتحون فيها بالاضطرابات الداخلية والفتن المحليَّة.
وحينما استطاع الفاتحون القضاء على الاضطرابات والفتن الداخلية المحلية، استعادوا البلاد المفتوحة مرَّةً أخرى، ولكن معارك الفتح هذه لم تكن سهلة التكاليف؛ بل صادف المسلمون في كثيرٍ منها مقاومةٌ شديدة، وتكبَّدوا خسائر فادحة بالأرواح، وجرى فتح بعض المناطق والمدن عنوة.
ويذكر اللواء محمود شيت خطَّاب رحمه الله أنَّ هناك مجموعةٌ من القادة المتميِّزين أسهموا بجهدٍ وافرٍ في فتح أفغانستان، ومن هؤلاء:
1- عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي: بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقض أهل خراسان وغدروا، فلمَّا استعاد عبد الله بن عامر فتح فارس غزا خراسان، وسيَّر الجيوش وبعث على مقدِّمتها الأحنف بن قيس التميمي، وفتح مدينةً تلو أخري، بعضها صلحًا، والأخرى عنوة، إلى أن تمَّ له فتح خراسان سنة (31هـ=615م).
ثم توجَّه إلى سجستان وكانت كسابقتها -غدرت ونقضت بعد مقتل عمر بن الخطاب- ففتح حصونها وصالحه أهلها، وقاتله آخرون فقاتلهم إلى أن تمَّ له الفتح، وكان ضمن المدن التي فُتحت كابل وزابلستان، وهي ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنخ، فأقام بها.
وهكذا استعاد بن عامر فتح سجستان، وفتح لأوَّل مرَّةٍ قسمًا من أفغانستان، وذلك كله عام (31هـ=615م) في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
2- الأحنف بن قيس التميمي: وكان من القادة التابعين لعبد الله بن عامر، وإليه يُنسب فتح خراسان وطخارستان، فأتى الموضع الذي يُقال له: قصر الأحنف، وهو حصن مرو الروذ، فصالح أهله بعد حصارهم على ثلاثمائة ألف درهم.
وجمع الفرس حلفاءهم من أهل طخارستان، والجوزجان، والطالقان، والفارياب، حتى بلغوا ثلاثين ألفًا، والتقوا بالمسلمين عند الجانب الشرقي من نهر جيحون، وجري قتال شديد بين الطرفين، انهزم الفرس بعده، وولُّوا هاربين، فألحق المسلمون بهم خسائر فادحة بالأرواح، وفتح الأحنف كلَّ هذه البلدان في العام نفسه 31هـ.
3- الربيع بن زياد الحارثي: وكان -أيضًا- تابعًا لجيش عبد الله بن عامر رضي الله عن الجميع فوجَّهه عبد الله إلى سجستان سنة 31هـ، ودار بينه وبين أهليها قتالٌ شديدٌ في بلدة دوشت، وناشروذ، وزرنخ، وقهستان، وفتح مدنًا أخري صلحًا مثل: زالق من نواحي سجستان، وكذلك كركويه، واستمرَّت ولاية الربيع سنتين ونصفًا وسبي في ولايته هذه أربعين ألف نسمة، وكان كاتبه الحسن البصري.
4- عبد الرحمن بن سمرة العبشمي: استعمله عبد الله بن عامر على سجستان سنة 31هـ، فسار إليها على رأس جيش حتى بلغ زرنخ فحاصرها، فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف، وسار عبد الرحمن حتى فتح بست، وكابل، وزابلستان في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه.
وفي عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه اضطرب أمر سجستان وأفغانستان؛ لأنَّ المسلمين كانوا في شغلٍ شاغلٍ عن الجهاد والفتح، وذهبت طاقاتهم بددًا في الاقتتال بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فلمَّا استقرَّ الأمر لمعاوية استعمل عبد الله بن عامر على البصرة، الذي استعمل بدوره عبد الرحمن على سجستان، فأتاها عبد الرحمن سنة 43هـ، فكان يغزو البلد قد كفر أهله فيفتحه عنوة أو يُصالح أهله، حتى بلغ كابل، فحاصرها أشهرًا، وكان يرميهم بالمنجنيق، حتى ثلم سورها ثلمةً عظيمة، وخرج أهل كابل يُقاتلون المسلمين، فقاتلهم المسلمون حتى دخلوا المدينة عنوةً بعد هزيمة أهلها، وهكذا استعاد عبد الرحمن فتح سجستان وأفغانستان، وكان قد غزا خراسان وفتح بها فتوحًا.
5- الأقرع بن حابس التميمي: ويُذكر له رحمه الله أنَّه توجَّه إلى الجوزجان، وجَّهه إليها الأحنف بن قيس سنة 32هـ فسار إليها الأقرع، فلقي العدو بالجوزجان، ودار قتالٌ شديد إلى أن تمَّ الفتح للمسلمين عنوة.
ويبدو أنَّ الجوزجان انتفضت، فسيَّره عبد الله بن عامر على رأس جيشٍ فأُصيب بالجوزجان هو والجيش، فقضي هناك شهيدًا سنة 33هـ، أو 34هـ، أو 35هـ على اختلاف الروايات.
حول الفتوحات
كان من نتائج معركة نهاوند أنَّها فتحت أبواب المشرق الإسلامي للفاتحين المسلمين، كما فتحت معركة القادسية الحاسمة أبواب العراق، وكما فتحت معركة اليرموك بلاد الشام، وبعد معركة نهاوند الحاسمة توزَّعت القوَّات الإسلاميَّة التي قاتلت موحَّدة في هذه المعركة تحت لواءٍ واحدٍ إلى سبعة ألوية، بقيادة سبعة قادة، لكلٍّ منهم هدفٌ محدَّد، ومهمَّةٌ محدَّدة.
وما ينبغي الإشارة إليه هو أنَّ تغلغل المسلمين بعيدًا عن قواعدهم، وفي بلادٍ بعيدةٍ غاية البعد عن بلادهم، وسط شعوبٍ غريبةٍ عليهم في طابعها ولغاتها وتقاليدها كان يُعتبر مغامرة من أخطر المغامرات في تاريخ الفتوحات، ومن الصعب تسويغ هذه المغامرة إلَّا بتسويغ العقيدة الإسلامية التي استسهلوا من أجلها كلَّ صعب، وتحمَّلوا في سبيلها كلَّ تضحية، وتغلَّبوا على كلِّ ما واجههم من عقباتٍ وأهوال.
أمَّا القول: إنَّ البلدان المفتوحة انهارت أمام الفاتحين المسلمين لضعف قوَّاتها الضاربة. فهو قولٌ يعوزه الدليل التاريخي، والدليل الواقعي؛ فقد فتح الإسكندر هذه البلدان من قبل، فأين هو فتحه، وماذا بقي من آثاره، وكم استمرَّ في هذه البلاد؟
لقد كان فتح الإسكندر أشبه بسحابة صيف؛ لأنَّه فتح قوَّة بطش، ولذلك لم يدم ولم يطل، أمَّا فتح المسلمين فقد ظلَّ مستديمًا حتى اليوم، وسيبقي واضح المعالم بارز الأثر ما بقي التاريخ؛ لأنَّه فتح مبادئ، والمبادئ تبقي؛ لأنَّها مستقاة من تعاليم القرآن والعقيدة الإسلامية.
وعلى الرغم من عناد البلاد المفتوحة وشدَّة بأسها، وضراوة مقاومتها للفاتحين المسلمين، فإنَّهم حينما اعتنقوا الإسلام ودخلوا في دين الله طواعية، حطَّموا الأوثان والأصنام، ومضوا ينشرون دين الله في أرجاء أفغانستان والهند وما وراء النهر، وحملوا مشاعله شرقًا وغربًا، وأصبحوا عونًا للفاتحين على أعدائهما؛ بل وأصبحوا من أخلص دعاة الإسلام.
ولعلَّ انتشار الإسلام بين أهالي هذه البلدان يُفسِّر لنا سهولة عودة الفاتحين إلى البلاد التي سبق فتحها، واستعادتها ثانيةً إلى حظيرة الدولة الإسلامية، إنَّ ما نستطيع قوله ويُؤكِّده التاريخ هو أنَّ تأثير الإسلام في الأفغان كان تأثيرًا عميقًا، فأصبحوا من المتمسِّكين بالإسلام وتعاليمه –ولا يزالون- فكانت أفغانستان من حصون الإسلام القوية في ماضيها وحاضرها، وستبقي كذلك بإذن الله.
التعليقات
إرسال تعليقك