الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
أكَّدت نظريَّة "المشترك الإنساني" أنَّ البشر جميعًا يشتركون مع بعضهم البعض في عددٍ كبيرٍ من المشتركات، ولقد وجدتُ أنَّه من الممكن أن نُقَسِّم هذه
أكَّدت نظريَّة "المشترك الإنساني" أنَّ البشر جميعًا يشتركون مع بعضهم البعض في عددٍ كبيرٍ من المشتركات، ولقد وجدتُ أنَّه من الممكن أن نُقَسِّم هذه المشتركات الإنسانيَّة إلى أربع مجموعاتٍ كبرى، لكلِّ مجموعةٍ سماتٌ خاصَّة، ولها رابطٌ واحدٌ يجمعها، ويُمكن أن نفهم علاقات معيَّنة تنبني على هذا التصنيف.. ولقد قمتُ بضمِّ بعض المشتركات إلى كلِّ مجموعةٍ بناءً على تحليلي لكلِّ مُشْتَرَك، وعلى مدى شيوعه في البشر، ومدى قوَّته في التأثير على العلاقات بين الناس، وكذلك مدى الأزمة التي يُمكن أن تحدث إذا تجاهلنا هذا المشترك أو الاعتداء عليه.
وهذه المجموعات الأربع هي:
1- مجموعة المشترك الأسمى: "العقيدة".
2- مجموعة المشتركات الإنسانية العامة: "الاحتياجات الأساسيَّة، والعقل، والأخلاق الأساسيَّة، والتملُّك، والكرامة، والحريَّة، والعلم، والعمل".
3- مجموعة المشتركات الإنسانية الخاصة: "الثقافة، والأرض، والعرق، والتاريخ المشترك، واللغة، والعادات والتقاليد، والقانون، والأخلاق السامية".
4- وأخيرًا مجموعة المشتركات الإنسانية الداعمة: "الفنون والرياضة والسياحة".
معايير الاختيار والترتيب
وقد يخطر على بال أحد سؤالٌ عن سبب ترتيب هذه المجموعات بهذه الصورة، وعن سبب ترتيب المشتركات في كلِّ مجموعة، وهنا أحبُّ أن أُشير إلى المعايير التي كنتُ أُقَدِّم بها مشتركًا وأُؤَخِّر غيره، وبالتالي خَرَجَت النظريَّة بهذا النسق.
أمَّا المعيار الأوَّل فكان "حاجة الناس إلى المشترك".. ولا شكَّ أنَّ كلَّ هذه المشتركات مهمَّةٌ للبشر، لكنَّها ليست بمستوى الأهميَّة نفسها، ولقد استفدتُ من قراءة التاريخ، وكذلك علوم النفس والاجتماع، فضلًا عن كُتب الدين والعقائد؛ لأَصِلَ إلى هذا الترتيب الذي أعتقده.
أمَّا المعيار الثاني فهو "عموميَّة المشترك"، وهل يُجْمِع عليه كلُّ البشر، أم أنَّ هناك طوائف من البشر لا تُعِرْه اهتمامًا كبيرًا؟ وهل هو في التاريخ مثلما هو في الواقع، أم تناقصت أهميَّته مع تطوُّر الدنيا؟ فالعموميَّة التي كنتُ أبحث عنها هي عموميَّةٌ في المكان والزمان، أو إن شئتَ فقُلْ: عموميَّةٌ في الجغرافيا والتاريخ!
وكان المعيار الثالث هو "قوَّة التجمُّع على هذا المشترك"؛ فالمشترك يُؤَدِّي إلى ترابط بين مجموعة أو مجموعات من البشر، فهل هذا الترابط على هذا المشترك قوي أم هشٌّ؟ دائم أم مؤقَّت؟ واسعٌ أم محدود؟ وكلَّما ازداد المشترك قوَّةً وديمومة واتِّساعًا ارتقى في سلم الأولويَّات في النظريَّة.
ويأتي المعيار الرابع والأخير وهو "قوَّة الحرب إذا تعدَّى على هذا المشترك أحدٌ"؛ فطول الحرب ودمويتها واحتلالها مساحة من فكر وجهد الشعب كانت معيارًا مهمًّا لقياس أهميَّة المشترك في حياة الشعوب.
لقد أخرج لنا كلُّ معيار من هذه المعايير ترتيبًا مُعَيَّنًا للمشتركات، ثُمَّ بجمع نتائج كلِّ معيارٍ مع النتائج الأخرى لبقيَّة المعايير وصلنا إلى هذا الترتيب الأخير، الذي جاء فيه المشترك الأسمى منفردًا على قمَّة كلِّ المشتركات؛ حيث إنَّه على مستوى العالم وفي التاريخ والواقع يُعتبر أهمَّ ما يشغل الإنسان ويهمه، وهو عامٌّ على كلِّ البشر، فلا تجد إنسانًا لا يبحث عن إجابةٍ لسؤال: هل الإله موجود أم غير موجود؟ ولو كان موجودًا، فمَنْ هو؟ وما صفاته؟ وماذا يُريد منا؟ وماذا نُريد منه؟ حتى البشر الذين يُلحدون الآن لا بُدَّ أن يُجيبوا على الأقل على التساؤل الأوَّل، وهم إذا أجابوا بالنفي، بمعنى أنَّه لا إله، فإنَّه يلزمهم أن يبحثوا عن مبرِّرَات لهذا الخَلْق البديع للكون، لكنَّ الشاهد أنَّهم لا يستطيعون أن يُهَمِّشُوا القضيَّة، فلا ينظرون فيها، ولا يُدلون برأيهم في أبعادها.
والمشترك الأسمى هو أقوى رابطة تجمع بين مجموعة من البشر، وهو في الوقت نفسه يُمَثِّل أخطر الأسباب للحروب والصدامات، وكم من البشر يموت في معارك العقيدة! وهي حروبٌ لا تنتهي ما بقيت العقيدة في قلوب أبنائها.
لهذا كلِّه جاءت العقيدة أو المشترك الأسمى على قمَّة سُلَّم الأولويَّات في النظريَّة، وأتت بعدها المشتركات الإنسانيَّة العامَّة بهذا الترتيب الذي بَيَّنْتُه عند ذِكْرِها، وكانت قناعتي بِنَاءً على المعايير التي أشرتُ إليها منذ قليل؛ أنَّ هذه المشتركات لا يستطيع إنسان أن يعيش دونها، ومع ذلك فبعضها أهمُّ من الآخر، فجاءت على القمَّة الاحتياجات الأساسيَّة من طعام وشراب وسكن وأسرة وأمن ولباس، ثُمَّ العقل، فالأخلاق الأساسيَّة؛ وهي الصدق والأمانة والعدل، ثُمَّ التملُّك، ثُمَّ الكرامة، ثُمَّ الحريَّة، ثُمَّ العلم، وأخيرًا العمل.
ثُمَّ تأتي مجموعة المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، التي يحتاجها الإنسان بقوَّة، ولكنَّه يستطيع أن يعيش دونها، وإن كانت هذه الحياة الخالية منها تكون غالبًا حياة تعيسة ذليلة لا وزن لها.
وبناء على المعايير الأربعة التي ذكرتُها جاء ترتيب المشتركات الخاصَّة كالتالي: جاءت على القمَّة الثقافة، ثُمَّ الأرض، فالعرق، فالتاريخ المشترك، ثُمَّ اللغة، والعادات والتقاليد، ثُمَّ القانون، وأخيرًا الأخلاق السامية.
ثُمَّ تُختتم المشتركات الإنسانيَّة بالمشتركات الداعمة، وقد جاءت في المؤخِّرَة لأنَّ الأمور كلَّها نسبيَّة، فهي بالنسبة إلى مَا سبقها تأتي متأخِّرة، ولكنَّها في الوقت ذاته مهمَّة جدًّا، وحاسمة في التواصل والتعارف، وقد تقوم بسببها صدامات، ولكنَّها عادةً ما تكون محدودة وغير دمويَّة.. وقد جاءت بالترتيب الذي ذكرتُه عند الحديث عنها، حيث احتلَّ الفنُّ الدرجة الأولى، ثُمَّ الرياضة، وأخيرًا السياحة.
ولا شكَّ أنَّ الترتيب الذي ذكرتُه ليس مطلقًا؛ بل لعلِّي لا أُبالغ إن قلتُ: إنَّني لو أعطيتُ هذه المشتركات العشرين (مشترك أسمى واحد، وثمانية مشتركات عامَّة، وثمانية مشتركات خاصَّة، وثلاثة مشتركات داعمة)، لو أعطيتُ عشرةً من المفكِّرين والمنظِّرين والفلاسفة هذه المشتركات ليُرتِّبوها حسب الأهميَّة لجاءت إلينا عشرة تقسيمات مختلفة! وهذا مردُّه إلى عدَّة أمور..
الأمر الأوَّل أنَّ المعايير التي وضعتُها أساسًا للترتيب تختلف من عالِمٍ إلى آخر، وقد يُضيف مفكِّر معيارًا خامسًا يقلب الترتيب رأسًا على عقب، وقد يحذف واحدًا يُؤَثِّر على الصورة، بل قد يضع معايير جديدة تمامًا..
والأمر الثاني أنَّ الروابط التي تكون بين البشر، وكذلك الحروب التي تدور بينهم لا تكون عادةً بسبب مشتركٍ واحد، فنحن نتَّحد سويًّا لاتفاقنا في الدين والأرض والعرق والتاريخ المشترك، وقد نتصادم بسبب الاحتياجات الأساسيَّة والكرامة واللُّغة، وهكذا تكون كلُّ التكتلات، وكذلك تكون كلُّ الحروب.. فتحديد السبب الأعلى والأهم قد يكون صعبًا للغاية، بل قد تكون الأسباب المباشرة للمعارك أسبابًا تافهة جدًّا، فإذا حلَّلْنَا الأوضاع بدقَّة وجدنا أنَّ السبب الرئيس كان وجود حالة احتقان مزمنة بين شعبين، ثُمَّ جاء السبب الأخير التافه ليُثير الرماد ويُظهر نيران الحروب، ومن هنا فقد تقوم حربٌ بسبب مباراة رياضيَّة، فينبغي على مفكرٍ أو محلِّلٍ ألَّا يظنَّ أنَّ الأمر يرجع إلى المباراة فقط، أو يظنَّ أنَّ الرياضة عند هذا الشعب أهمُّ من كلِّ المشتركات الأخرى، ولكن واقع الأمر أنَّ أسباب الصدام كانت كثيرة قبل المباراة، ولكنَّها كانت كامنة، فلمَّا جاءت مشكلة تافهة في المباراة حرَّكت الأسباب الكامنة فكان الصدام المروِّع، ولقد قامت حربٌ كبيرةٌ بين قبيلتين عربيَّتين هما قبيلة عبس وقبيلة ذبيان، بسبب سباق كان بين فرسين، عُرفت في التاريخ بحرب داحس والغبراء، كادت القبيلتان أن تفنيا في هذه المعارك المتتالية، وقد استمرَّت عدَّة عقود متتالية، فإذا حلَّلنا الأمر بدقَّة وجدنا أنَّ السبب الرئيس للحرب ليس المباراة، وإنَّما أمورٌ أخرى يأتي في مقدِّمتها سببان: الأوَّل هو الكرامة، وهي أحد المشتركات الإنسانيَّة العامَّة والمهمَّة؛ حيث اعتبر الطرف الخاسر أنَّ هذه إهانةٌ لكرامته، والسبب الثاني هو القبليَّة، التي أدخلناها في المشتركات الخاصَّة تحت عنوان العرق، فانتصار عرق على عرق في هذه البيئة العربيَّة القديمة يعني كارثة قد تسيل فيها أنهار الدماء، ومن هنا جاء الصدام، فتَعَدُّد الأسباب للترابط، وتعدُّد الأسباب للحروب يجعل الحكم على أهمِّ الأسباب شيئًا صعبًا، وأحيانًا يكون مستحيلًا!
أمَّا الأمر الثالث الذي من أجله يختلف المفكِّرون في ترتيب مثل هذه المشتركات هو أنَّ الواقع يقول: إنَّ البشر تبعًا لظروفهم التربويَّة والبيئيَّة يُرَتِّبون أولويَّاتهم بشكلٍ مختلف، فمع قناعتنا أنَّ كلَّ هذه المشتركات مهمَّة إلَّا أنَّ ما يهم الرومان أكثر قد يأتي في ذيل الاهتمامات بالنسبة إلى الفرس، وما يموت من أجله المسلمون قد يُمَثِّل شيئًا هامشيًّا لغيرهم من الأمم.. وهكذا، فهذا الاختلاف الفكري بين الطوائف البشريَّة المتعدِّدَة يزيد من صعوبة الترتيب.
والأمر الرابع هو أمرٌ مؤسف، وهو ما أُسمِّيه "بانتكاسة الفطرة"! فنتيجة عوامل كثيرة حدثت في العالم في قرونه الأخيرة، ونتيجة طغيان الماديَّة على حياة الناس، حدثت انتكاسات كثيرة للفطرة الإنسانيَّة، فضاعت قيمٌ ومُثُلٌ كانت في صدارة الاهتمامات الإنسانيَّة، وهذا أدَّى إلى التباس كبير في الفهم عند كثير من المفكرين والفلاسفة، وما أكثر البشر الآن الذين يبيعون عقيدتهم "وهي المشترك الأسمى" من أجل دراهم معدودة أو وجبة طعام! وما أكثر البشر الذين يُقَدِّمون لهوهم ومتعتهم على أخصِّ خصائصهم! بل قد يُقَدِّمونها على طعامهم وشرابهم وعلمهم وعملهم، فتجد مَنْ يختار البطالة بإرادته، ومَنْ يشغل وقته بالجلوس في ساحات اللهو واللعب، بينما لا يجد ما يسدُّ رمقه ورمق أولاده، وما أكثر البشر الذين لا يكترثون بتكوين أسرة، ولا بحمايتها والزود عنها إن تكوَّنت! فهذا انتكاسٌ جديدٌ للفطرة، وأنَّى لرجلٍ لا يبحث عن مشتركٍ بينه وبين أسرةٍ صغيرةٍ أن يُفَكِّر في مشتركٍ مع شعبٍ آخر؟! هذه الانتكاسات الفطريَّة تُحَيِّر الفلاسفة والمفكِّرين؛ ومن ثَمَّ يأتي ترتيبُهم للأولويَّات متأثِّرًا بهذه الظواهر السلبيَّة.
وأمرٌ خامس يُؤَثِّر على طريقة الترتيب وهو اعتماد المفكِّر أو الفيلسوف على تحليل مرحلةٍ معيَّنةٍ من مراحل التاريخ دون النظر إلى غيرها من المراحل، أو الاعتماد على التاريخ بشكلٍ عامٍّ وإهمال الواقع، أو الاعتماد على تحليل الأحداث في بقعةٍ جغرافيَّةٍ معيَّنةٍ كأوربَّا أو الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط، وإهمال بقيَّة أرجاء العالم، أو البحث في الحضارات الكبرى، وعدم النظر في شئون القبائل البسيطة، والشعوب الكثيرة المنتشرة في أطراف العالم.. كلُّ هذا يُؤَدِّي إلى نتائج مغايرة، وإحصائيَّات مختلفة.
والأمر السادس هو الافتقار إلى المعلومة؛ فكثيرٌ من أحداث التاريخ لم تُدَوَّن بشكلٍ كافٍ؛ ممَّا يجعل أسباب الترابط والتعارف، أو أسباب الصدام والتقاتل غير واضحة بشكلٍ دقيق، وهنا تتدخَّل غلبة الظنِّ، وقوَّة الحدس للترجيح، وهذا لا شَكَّ يختلف من عالِمٍ إلى آخر.
وأمَّا الأمر السابع فأُسمِّيه "تدليس المؤرِّخين والحكَّام والإعلاميِّين"! وهو يحدث لأنَّ كثيرًا من هؤلاء يُسَجِّلون التاريخ لتحقيق أغراض معيَّنة خاصَّةً لهم أو لأممهم، وهم قد يُبرزون أسبابًا غير واقعيَّة، ويرفعون من شأن أمورٍ وهميَّة، ويُغفلون تمامًا الأسباب الحقيقيَّة للصدامات، بل قد يُعطون صورةً ورديَّةً لصدام ويُصوِّرونه على أنَّه انتصارٌ كبيرٌ للعدالة، وتحقيقٌ أكيدٌ للإنسانيَّة، بينما الأمر على خلاف هذا تمامًا، ونتيجة هذه "التدليسات" تخرج لنا المعلومات مشوَّهة، ويأتي الخبر كاذبًا، وتكون النتيجة اختلافات بَيِّنَة في التحليل بين مفكِّرٍ وآخر.
أمَّا السبب الثامن والأخير لاختلاف المفكِّرين في ترتيب مثل هذه المشتركات فهو اختلاف التجارب الشخصيَّة لكلِّ واحدٍ من هؤلاء المفكِّرين، فكلُّ واحدٍ منهم عاش في بيئةٍ مختلفة، واحتكَّ بعشرات ومئات بل وآلاف الأشخاص والنفسيَّات، والتقى وجموعٍ كبيرة من العلماء والفلاسفة، وشاهد تجارِب ناجحةً وأخرى فاشلة، وكوَّن رؤًى خاصَّة بِنَاءً على هذه التجارِب وغيرها؛ ومن ثَمَّ أصبح كلُّ مفكِّرٍ أو عالِمٍ عبارةً عن وحدةٍ مستقلَّةٍ لا تُشبه غيرها، حتى لو كان انتماء المفكِّر إلى مدرسةٍ كبيرةٍ تضمُّ عشرات المفكِّرين، وهذا في واقع الأمر شيءٌ رائعٌ وبديع، ودليلٌ على ثراء النفس الإنسانيَّة، وإبداع خَلقها.
لكلِّ هذه الأسباب ولغيرها أنا مقتنعٌ أنَّ الترتيب الذي اخترته في هذه النظريَّة ليس الترتيب الذي سيتَّفق عليه عامَّة المحلِّلين لهذه المشتركات، بل إنَّني أُعلن صراحةً أنَّني قد أُغيِّر من هذا الترتيب بعد حوارٍ أو مناظرةٍ مع أحد المفكِّرين الناقدين للنظريَّة، بل أسعد بتضافر الجهود للخروج بالشكل الأمثل للنظريَّة، وأفتح المجال لكلِّ المتجرِّدين لقضيَّة التعارف والتقارب بين الشعوب أن يُدلوا بدلوهم، ويُسهموا بفكرهم في تعديل المسار، وخدمة القضيَّة.
ولكن يبقى السؤال بعد كلِّ هذا التحليل: لماذا الترتيب أصلًا؟! ولماذا الحرص على وضع عنصرٍ قبل عنصر؟!
إنَّها محاولةٌ لإعادة تنسيق أفكار الشعوب، ولفت أنظارهم إلى الأهم فالمهم، وليس المقصود هدفًا تربويًّا فقط، إنَّما المقصود الأساسي هو ما صيغت النظريَّة من أجله؛ وهو التعارف والتواصل، فكثيرًا ما تغفل الشعوب عن أهمِّ الأسباب التي من الممكن أن تلتقي عليها، وتضيع بذلك عليها فرصة ترابط قوي، والتحام وثيق، ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما يرتبط بالأُمَّة الإسلاميَّة، فشعوبها المتعدِّدة كثيرًا ما تتوحَّد على أساس الأرض، أو على أساس العرق فيما يُطْلَق عليه القوميَّة العربيَّة، أو القوميَّة التركيَّة، أو غيرها من القوميَّات، أو يتجمَّعون على أساس التاريخ المشترك، أو يتجمَّعون على خلاف هذه الأمور، وتجمُّعُهم هذا -ولا شكَّ- أمرٌ طيِّب؛ لكنَّهم قد يُغفلون التجمُّع على آصرة العقيدة، وهي المشترك الأسمى الأعلى من الجميع، والأقوى من كلِّ المشتركات، والأوثق في الترابط، والأدوم في العلاقة، وهذا أحسبه غياب رؤية، وضعف بصيرة.
وقد تتصادم الشعوب بسبب الاختلاف على مشتركاتٍ هي أقلُّ في الأهميَّة من مشتركاتٍ أقوى يتَّفقون فيها، وهذا -أيضًا- غياب رؤية، وضعف بصيرة، وما أبلغ مِثَالِ مباراةِ مصر والجزائر في تصفيَّات كأس العالم سنة 2010م في هذا الصدد، فشعبان اختلفا على مسألةٍ هي في المشتركات الداعمة، نسيا في لحظات المشتركات الكثيرة التي تجمعهم، وعلى قمَّتها المشترك الأسمى، ثُمَّ المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، وكثيرًا من المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، ولو قام عقلاء كلِّ بلدٍ ليُخاطبوه بما في هذه النظريَّة من بنود لوجد الشعب أنَّ هذا الصدام قام لأسبابٍ تافهةٍ إذا ما قُورنت بأسباب التعارف والتواصل الموجودة بين الشعبين.
إذًا تهدف النظريَّة إلى مخاطبة عقلاء كلِّ شعبٍ ومفكِّريه وإعلاميِّيه أن يلفتوا أنظار شعوبهم إلى سُلَّم الأولويَّات هذا، ويُشجِّعوهم على الارتباط مع الشعوب التي تتوافق معهم في أعلى سلَّم الأولويَّات، كما يُحذِّرونهم من الصدام على المشتركات العليا في سُلَّم الأولويَّات؛ لأنَّ قوَّة الحرب ودمويَّتها تكون أشدَّ في هذه الحالة من الصدامات الناتجة عن الاختلاف في المشتركات الأدنى.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك