التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ظلت حضارة الأندلس ما بعد سقوط غرناطة ذات أثر كبير على إسبانيا، حتى بعد محاكم التفتيش والتنكيل بالمسلمين، وكان للموريسكيين موقف هام من آلة القمع
الكثلكة .. ما بعد سقوط غرناطة عام (897هـ=1492م)
لم يكن الانتقال من مرحلة الاقتباس من الحضارة الإسلامية إلى إعلان الحرب عليها قرارًا إسبانيًّا داخليًّا؛ بل كان بوحي وتخطيط وإشراف من البابوية، التي خرجت منتصرة من حروبها الصليبيَّة ضدَّ هراطقة ألمانيا وفرنسا، فتفرَّغت للشأن الإسباني، وبعثت إلى ملوك النصارى دعاةً لتحريضهم على القيام بحربٍ صليبيَّةٍ ضدَّ المسلمين في الأندلس، وأنشأت البابوية محاكم للتفتيش من أجل تعقُّب الخارجين عن الكاثوليكيَّة ومنهم المسلمون، وقد قاومت أراغون محكمة التفتيش بشجاعة وأغلقت أبوابها، غير أنَّ البابا جريجوري التاسع (1227-1241م) بادر -فور تنصيبه- بإرسال محقِّقين ومفتِّشين إلى إسبانيا يبحثون عن "الضالِّين"، وهم -في مصطلح البابوية- المسلمون، وزاد نشاط البابوية في مضمار ملاحقة المسلمين في إسبانيا، خاصَّةً أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، فأسَّست "مجلس محكمة التفتيش العليا العامَّة"، وعيَّن البابا سكستوس الرابع -(1471-1484م)- عام 1483م، راهبًا دومنيكيًّا مفتِّشًا عامًّا لإسبانيا.
ووجد المشروع البابوي التنصيري أداةً تنفيذيَّةً تمثَّلت باتِّحاد مملكتي أراغون وقشتالة عام (884هـ=1479م)، وذلك بزواج فرناندو الثاني (1479-1516م) بإيزابيلا ملكة قشتالة (1474-1504م)، التي كانت واقعة تحت تأثير رئيس ديوان التفتيش القسِّ الدومينيكي توماس دي تركويمادا (1443-1481م) الذي كان يُحرِّضها على المسلمين، فأقنعت زوجها بضرورة مطاردة المسلمين، فاستصدر أمرًا من البابا سكتوس الرابع بإنشاء ديوان تحقيق في قشتالة سنة 1478م، وآخر في إشبيلية عام 1480م، وقد نُسب إلى تركويمادا حرق سبعة عشر ألف مسلم أحياء.
ونجح المشروع الصليبي الإسباني بدخول الملكين فرناندو وإيزابيلا غرناطة في 2 يناير 1492م، وذلك بموجب معاهدة تسليم وقعت بينهما وبين ملك غرناطة أبي عبد الله محمد "الصغير"، بتاريخ (25 نوفمبر 1491م= 21 المحرم 897هـ)، وقد بلغت بنودها 56 بندًا، نختار منها ما يتعلَّق باعتراف الملكين بالهويَّة الإسلامية للأندلس:
البند (4): يتعهَّد جلالتهما وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يُترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة والوزراء والعلماء والفرسان وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألَّا يؤمروا بترك شيءٍ من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هي، وأن يُقضى بينهم وِفْقَ شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم.
البند (8): ألا يُرغم أحدٌ من المسلمين أو أعقابهم -الآن أو فيما بعد- على تقلُّد شارةٍ خاصَّةٍ بهم.
البند (12): وأنَّه لا يُسمح لنصراني أن يدخل مكانًا لعبادة المسلمين دون ترخيص، ويُعاقب من يفعل ذلك.
البند (13): ألَّا يُولَّى على المسلمين مباشر يهودي، أو يُمنح سلطة أو ولاية عليهم.
البند (14): أن يُعامل الملك أبو عبد الله المذكور وسائر السكان المسلمين، برفقٍ وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يُؤدَّى للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقًا للقواعد المرعيَّة.
البند (15): أنَّه إذا قام نزاع بين المسلمين فُصِلَ فيه وفقًا لأحكام شريعتهم، وتولَّاه قضاتهم.
البند (17): أنَّه إذا دخل نصرانيٌّ منزلَ مسلمٍ قهرًا عنه، عُوقِبَ على فعله.
البند (18): أنَّه فيما يتعلَّق بشئون الميراث؛ يحتفظ المسلمون بنظمهم، ويحتكمون إلى فقهائهم وفقًا لسنن المسلمين.
البند (20): أنَّه يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينيَّة أو أيَّة أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس، متروكًا لِنظر الفقهاء، وألَّا يتدخل جلالتهما بأيَّة صورة في شأن هذه الصدقات أو يَأْمُرَا بأخذها في أيِّ وقت.
البند (31)، (33): نصَّت هذه البنود على حرية العبادة، وبقاء المسلمين على دينهم، وعدم إجبارهم على النصرانية، بل وعدم إجبار النصارى الذين أسلموا أو أولاد الروميَّات على ترك الإسلام.
البند (35): أن يكون المأمورون القضائيون الذين يُعيَّنون لمحاكم المسلمين مسلمين الآن وإلى الأبد.
البند (54): أن يكون المتولُّون لوظائف الحسبة الخاصَّة بالمسلمين مسلمين –أيضًا- وألا يتولَّاها نصرانيٌّ الآن وفي أيِّ وقت.
ومن يُمعن النظر في بنود هذه المعاهدة يجد أنَّ نصارى إسبانيا -ممثَّلين بالملكين- يعترفون بحقِّ المسلمين في البقاء، وحريَّة العبادة، والاستقلال القضائي، ويتعهَّدون للمسلمين بأن تُطبَّق بينهم الشريعة الإسلاميَّة، وتحفظ مساجدهم ومدارسهم وأوقافهم ومواردهم، ويُعاملون باحترام دون تمييز، ولا يُجبر من أسلم من النصارى على ترك الإسلام، وقد نصَّت المعاهدة على أنَّها واجبة التنفيذ في عهد الملكين، وخلفائهما "إلى الأبد".
ولكن بعد أن تسلَّم الملكان فرناندو وإيزابيلا غرناطة، نَكَثَا بالميثاق، وأمرا بإحراق الكتب العربية، ونفذ ذلك وتابعه الكاردينال خمينيث ثيسنيروس فأحرق آلاف المخطوطات في ميدان باب الرملة في غرناطة.
يقول أحد النُّقَّاد الغربيِّين: "لو نُفِّذت هذه العهود بولاء لتَغيَّر مستقبل إسبانيا كلَّ التغيير، ولجمع الامتزاج الرقيق بين الأجناس، ولغاض الإسلام مع الزمن، ولتفوَّقت المملكة الإسبانيَّة في فنون الحرب والسلم، وتوطَّدت قوَّتها ورخاؤها، ولكن ذلك كان غريبًا على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصُّب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتاليَّة بالمغلوبين ذلَّةً مروعة، فاتَّسعت الهوَّة بين الأجناس على مرِّ الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدَّى إلى علاجٍ كان من جرائمه أن تحطَّم رخاء إسبانيا".
موقف المفكرين الإسبان من محاكم التفتيش
وقد تفاوت موقف المفكرين الإسبان من هذا العمل الهمجي، وجُلُّهم ضدَّه، وهناك من يلتمس العذر للكاردينال مثل سيمونيت (Francisco Simonet) (1829–1897م)، الذي أنكر أن يكون الكاردينال قد أتلف ملايين المخطوطات كما يُقدِّرها البعض، وقال:
"من المستحيل تقريبًا أن تكون إسبانيا الإسلاميَّة قد عرفت هذا القدر من المخطوطات موضع النزاع؛ لأنَّ القول: إنَّهم يملكون هذه الملايين من المخطوطات يُوجِب علينا أن نفترض أنَّ المسلمين أكثر شعوب العالم كلِّه ثقافةً واستنارة، ولكنَّ الحقيقة غير هذا؛ فلا الوثائق التي وصلتنا تُبرهن على ذلك. كلاَّ! ولا حضارتهم المتخلِّفة الخشنة، وهي -كما هو عليه الحال في أيِّ بلدٍ إسلامي- لا تتجاوز حدود الهمجيَّة أبدًا؛ إنَّ ثقافة أولئك المسلمين تنطوي على كثيرٍ من الخرافات والأساطير والتعصُّب".
وردَّ عليه خوليان ريبيرا إي طراكو (Julian Ribera y Tarrago) (1858–1934م) بأنَّ مسلمي إسبانيا كانوا يمتلكون مليونين من المخطوطات، ولا يهمُّ عدد المخطوطات؛ ولكنَّ الأهم أنَّ عملية الحرق هي -بحدِّ ذاتها- أسلوبٌ همجي، موجَّهٌ ضدَّ التحضُّر والإبداع.
ولم يكن كلُّ نصارى إسبانيا راضين عن تصرُّف الملكين ورجال الكنيسة ضدَّ المسلمين، بل سارع مستعربو طليطلة إلى محاولة الوساطة بين مسلمي غرناطة والنصارى المتغلِّبين؛ ففي عام 1499م بعث فرناندو دي تلابيرا -رئيس أساقفة طليطلة- المستعرب الإسباني بدرو دي ألكالا (Pedro de Alcala) الذي كان يُتقن العربية ويخطب بها، وكان يرى أنَّ التقريب بين الطائفتين لا يتأتَّى إلَّا عبر اللغة، فألَّف عام 1495م معجمًا (عربيًّا – قشتاليًّا) حوى 22 ألف كلمة، مع مقدِّمة في اللهجة العربيَّة العامِّيَّة بغرناطة نُشرت على حدة سنة 1505م.
الموريسكيون
لكنَّ المشروع التنصيري فرض على من بقي من المسلمين الكاثوليكية، وعُرِف من أُجبر على ذلك بالموريسكيِّين، والموريكسي (El Morisco) تصغير للفظة مورو (El Moro)؛ أي المسلم، فالموريسكي هو المسلم الصغير الذليل، ولم يكتفِ النصارى المتغلِّبون بتنصير الموريسكيِّين؛ بل راقبوهم عن كثب، وتدخَّلوا في أمورهم الخاصَّة، واقتحموا منازلهم، وفي عام 1511م أمرت الملكة خوانا (1504-1555م) الموريسكيِّين بتسليم ما في حوزتهم من كتبٍ في الطبِّ والفلسفة والتاريخ لفحصها وردِّها عليهم.
أمَّا الكتب الشرعيَّة فصادرتها محاكم التفتيش وأحرقتها، ومع ذلك فقد ترك الموريسكيُّون بعد طردهم كتبًا كثيرةً ومصاحف نفيسة في منازلهم، ويرجع ريبيرا عمليَّات الحرق إلى أنَّها تأتي استجابةً من الملوك لشعبٍ منتصرٍ يُؤلِّبه رجال الكنيسة، وقد نصَّت المراسيم على إحراق الكتب الضارَّة واستبقاء الكتب النافعة، وهذا التمييز -كما يقول ريبيرا- يحتاج إلى مهارة المنفِّذين، وهذا كان مستحيلًا، والتمس روم لاندو العذر لقادة الاسترداد عن الأعمال العدائيَّة التي قاموا بها، وقال: إنَّهم كانوا يُنفِّذون إرادة "الكنيسة المستبدَّة".
موقف الإسبان من الحضارة الإسلامية الأندلسية
ويبدو أنَّ مصالح الملوك النصارى كانت تُحتِّم عليهم الرضوخ لرجال الكنيسة ومجاملتهم في تصرفاتهم. إلا أن بعض هؤلاء الملوك فرقوا بين المسلمين "الضحية" والحضارة الإسلامية "الراقية" التي لم يجدوا بدًّا من الإفادة منها. فقد كان الملوك والأعيان يتخذون ثيابهم من الأقمشة الأندلسية الإسلامية وتركوا معامل نسيج الحرير الإسلامية تنتج المنسوجات الغرناطية، ومنها الخمر ذات الألوان التي كانت النساء المسلمات يتحجبن بها، واستخدموا البنائين المسلمين في تشييد قصورهم على الطراز العَرَبِيّ اعتبارًا من القرن الخامس عشر الميلادي: من ذلك قصر لانفانتادو (L’Infantado) في وادي الحجارة، وكازا دل كردون (Casa del Cordon) في برغش الذي بناه مهندسٌ عربيٌّ اسمه محمد من شقوبية، وقصر بيلانوس وهو قصر لأحد أفراد أسرة الدوق بدرو، ويغلب عليه الطابع العربي، وجدرانه مزينة بنقوش عربية. وقام معماريٌّ مسلمٌ يُدعى "الرامي" سنة 1498م بإنشاء رواقٍ نحاسيٍّ على النمط العربيِّ في الكنيسة التي بُنيت على أنقاض جامع سرقسطة.
وأُرغم الملوك النصارى على مجاراة القساوسة في سياستهم التدميريَّة لكلِّ ما هو مسلم؛ ففي سنة 1523م هدم أنييجو مانريكي أسقف قرطبة جزءًا كبيرًا من زيادة الأمير الأموي عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الأوسط) (206-238هـ= 822-857م) والمنصور بن أبي عامر لبناء كاتدرائية قوطية الطراز في قلب مسجد قرطبة، فعارض المجلس البلدي بقرطبة وبعض الأعيان هذا المشروع، وعرضوا الأمر على الإمبراطور كارلوس الخامس (Carlos V) ["شارلكان" (1516-1556م)] فوافق على مضض، وعندما مرَّ بقرطبة عام 1524م تألَّم من فقدان أثرٍ جميلٍ، وخاطب الأسقف وأعضاء المجلس الكنسي: "لقد بنيتم هنا ما كان يُمكن بناؤه في أيِّ مكانٍ آخر، وقضيتم بذلك على ما كان أثرًا وحيدًا في العالم". وعلى الرغم من الروح الكاثوليكيَّة المتعصِّبة ضدَّ ما هو مسلم، فإنَّ الملوك النصارى أدركوا قيمة التراث الإسلامي، وضرورة حفظه؛ ففي القرن السابع عشر بدأت مفاوضات بين ملوك إسبانيا وسلاطين المغرب من أجل استرجاع مكتبة السلطان زيدان بن مولاي أحمد المنصور الذهبي (1578-1602م)، التي كانت محمولة في سفينة استولى عليها نصارى إسبانيا، فاقترح رجال الكنيسة على الملك بحرقها، لكنه قرَّر الاحتفاظ بها في قصره.
المورسكيون والقمع النصراني
وقد اندمج الموريسكيون –كرهًا- في مجتمع إسبانيا النصرانية، وقامت بعض أسرهم بدورٍ في الحياة العامَّة مثل أسرة بني عامر، التي اشتهرت بثرائها في القرن السادس عشر، وكانت تُزاول أعمالًا تجاريَّة، وعلى الرغم من هذا الاندماج، فإنَّ جذوة الانتماء لم تنطفئ؛ إذ ظلَّ شعراؤهم ينظمون بالفصحى، ففي مستهلِّ القرن السابع عشر نظم الموريسكي الونسوديل كاستيو قصيدةً يصف فيها غرناطة:
غِرْنَاطَةُ هِيَ بَلَدُ الْحُسَّادِ
وَمِظَنَّةُ الْأَضْغَانِ وَالْأَحْقَادِ
مَا إِنْ تَرَى فِيهَا سِوَى مُتَكَبِّرٍ
أَوْ حَاسِدٍ أَوْ عَايِبٍ نَقَّادِ
نَارُ التَّبَغُّضِ وَالتَّحَسُّدِ بَيْنَهُمْ
قَدْ أَوْقَدُوهَا أَيُّمَا إِيقَادِ
ابتكار ألخميادو
وعلى الرغم من ظروف الموريسكيين، فقد حافظوا على هويَّتهم الإسلاميَّة، ومارسوا شعائرهم في مشاعرهم، واستطاع بعضهم التسلُّل إلى مكَّة وأداء فريضة الحج خفية على الرغم من قسوة الظروف، وتركوا وصفًا لرحلاتهم في مخطوطات دون أن يُفصحوا عن أسمائهم خوفًا من محاكم التفتيش، ولم ينتج عن القمع الكاثوليكي والتنصير الجبري إلَّا زيادة كراهية الموريسكيين للعقيدة الكاثوليكية، ولجأوا إلى التقيَّة، فأظهروا النصرانية وأبطنوا الإسلام، وابتكروا نمطًا كتابيًّا عُرِفَ باسم "العجمية ألخميادو" (Aljamiado)؛ وهي مزيجٌ من المعاني الإسبانيَّة بأحرفٍ عربيَّة، وحوت مخطوطاتهم التي عُثِرَ عليها تساؤلات عقديَّة، كان أبناؤهم يُثيرونها مع أترابهم النصارى، أراد كاتبوها تحصين الأسرة الموريسكيَّة من تغلغل النصرانيَّة في نفوسهم، ويبدو أنَّ اختيار الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة جاء على حذرٍ من سطوة الكنيسة أو خوفًا من مواجهة بينهم وبين أتباعها، فركَّز أصحاب المخطوطات على التوحيد والصبر والدعاء بالنصر وتسامح الإسلام، وكان الموريسكيُّ يُعلِّم ولده الإسلامَ سرًّا ويُوصيه بأن يكتم ذلك عن أقرب الناس كأمِّه وأخيه وعمِّه، وظلَّت بقايا المسلمين في قرى طليطلة ينحرون في عيد الأضحى باعتبارها عادةً موروثة.
وثَمَّة أمثلة على مسلمين عاشوا وضعين مختلفين: فقد عوملوا مدجَّنين عندما سقطت قريتهم هورناتشوس -التي تقع على بعد 50 كم2 من مريدا (Merida) على نهر (Matachel)- بأيدي الإسبان سنة 1234م، وظلُّوا محتفظين بشعائرهم الإسلامية ونظامهم الداخلي مقابل دفع ضريبة للملك، ثم عاشوا التجربة الموريسكية بعد سقوط غرناطة، وقُدِّر عددهم في القرن السابع عشر بأكثر من خمسة آلاف نسمة، وحصلوا من الملك فيليب الثاني (1556-1598م) على حقِّ حمل السلاح مقابل مبلغ 30 ألف دوقيَّة، فاشتغلوا بصنع الأسلحة، وظلُّوا يُقيمون شعائر الإسلام كاملةً من المهد إلى اللحد، ولا يعرفون إلَّا العربية، وعندما صدر قرار الطرد عام 1609م، انتقل موريسكيو هورناتشوس إلى المغرب عام 1610م.
وانتقد المؤرِّخ الإسباني دون لولانتي -مؤرخ ديوان التحقيق- الوسائل التي استخدمها النصارى لكثلكة المسلمين بالإكراه، واعتبر طرد أكثر من مليون مسلم من إسبانيا "خسارةً فادحةً لإسبانيا تُضاف إلى خسائرها الفادحة؛ ففي مائة وتسع وثلاثين سنة انتزع ديوان التحقيق من إسبانيا ثلاثة ملايين، ما بين يهودٍ ومسلمين وموريسكيِّين".
وترتَّب على طرد الموريسكيِّين تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد. يقول المؤرخ مودستو لافونتي:
وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ مراسيم فيليب الثالث (1598-1621م) الشهيرة ضدَّ الموريسكيِّين قد جالدت إسبانيا -وقد كانت يومئذٍ جدُّ مقفرة من السكَّان بسبب الإدارة السيِّئة والحروب المستمرَّة- من طائفةً كبيرةً من السكان؛ أو بعبارةٍ أخرى، من السكَّان الزراعيِّين والتجاريِّين والصناعيِّين، من السكان المنتجين، أولئك الذين يُسهمون بأكبر قسطٍ في الضرائب، وكان أقلُّ ما في ذلك تسرُّب الملايين من الدوقيَّات التي حملتها الطائفة المنفيَّة معها -في الوقت الذي كانت فيه المملكة تُعاني من قلَّة النقد- فكان نقص الذهب الفجائي على هذا النحو أشدَّ وطأةً عليها، وكذلك وقع ضررٌ أفدح بذيوع النقد الزائف أو المنقوص، الذي روَّجه المنفيُّون بسوء قصدٍ قبل رحيلهم، وأسوأ ما في ذلك كلِّه هو أنَّه فقد برحيلهم العنصر العامل الذكي المتمرِّس في الفنون النَّافعة.
والسؤال هنا: كم خسرت إسبانيا بعد التخلُّص من السواعد والعقول الإسلامية؟ وهل ربح المنتصرون معركتهم؟ أما أدركوا بعد نشوة النصر أنَّهم هدموا حضارةً بمعاول الجهل والثأر والتخلُّف؟
يقول المؤرِّخ دي مارليس: "وهكذا اختفى من الأرض الإسبانيَّة إلى الأبد ذلك الشعب الباسل الذكي المستنير، الذي أحيا بهمَّته وجِدِّه تلك الأراضي التي أسلمتها الكبرياء الخاملة إلى الجدب، فدرَّ عليها الرخاء والفيض، واحتفر لها عديد القنوات، ذلك الشعب الذي أحاطت شجاعته الفيَّاضة -في السعود والشدائد معًا- عرش الخلفاء بسياجٍ من البأس، وأقامت عبقريَّته بالمران والتقدُّم والدرس في مدنه صرحًا خالدًا من الأنوار التي كان ضوؤها المنبعث يُنير أوربَّا، ويبثُّ فيها العلم والعرفان، وكان روحه الشهم يطبع أعماله بطابعٍ لا نظير له من العظمة والنبل، ويُسبغ عليه في نظر الخلف لونًا غامضًا من العظمة الخارقة، ودهانًا سحريًّا من البطولة، يُذكِّرنا بعصور هومير السحريَّة، ويُقدِّم لنا فيهم أنصاف آلهة اليونان، ولكنَّ شيئًا لا يدوم في هذا العالم؛ فإنَّ هذا الشعب قاهر القوط، الذي كان يبدو أنَّه صائر خلال القرون إلى أقصى الأجيال قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثًا يُسائل اليوم السائح الفريد قفر الأندلس المحزنة التي كان يعمرها من قبل شعبٌ غنيٌّ مُنعَّم، ظهر العرب فجأة في إسبانيا كالقبس الذي يشقُّ عباب الهواء بضوئه وينشر لهبه في جنبات الأفق ثم يغيض سريعًا في عالم العدم، ظهروا في إسبانيا فملأوها فجأةً بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلَّها كوكبٌ من المجد شملها من البرانس إلى صخرة طارق ومن المحيط إلى شواطئ برشلونة، ولكن هوى يضطرم إلى الحريَّة والاستقلال وخلقًا متقلِّبًا يميل إلى الخفَّة والمرح ونسيان الفضائل القديمة، وميل نكد إلى التمرُّد والثورة يُثيره دائمًا خيالٌ ملتهبٌ وشهواتٌ وأطماعٌ عنيفة، ونزعةٌ إلى التغلُّب وغيرها من عوامل الاضمحلال قد عملت شيئًا فشيئًا على هدم ذلك الصرح العتيد، الذي شاده رجلٌ كطارق وعبد الرحمن الناصر ومحمد بن الأحمر، وأفضت بالعرب إلى خلافاتٍ داخليَّةٍ فلت من بأسهم وحملتهم إلى هاوية الفناء، خرج ملايين العرب من إسبانيا حاملين أموالهم وفنونهم وثروات الدولة، فماذا أنشأ الإسبان مكانهم؟ لا نستطيع أن نُجيب بشيءٍ إلَّا أنَّ حزنًا خالدًا يغمر هذه الأرض التي كانت من قبل تتنفَّس فيها أبهج الطبائع، إنَّ ثَمَّة بعض الآثار المشوَّهة مازالت تقوم في هذه البقاع الموحشة، ولكنَّ صرخةً حقيقيَّةً تدوي من أعماق هذه الأطلال الدارسة؛ الشرف والمجد للعربي المغلوب، والانحلال والبؤس للإسباني الظافر".
ويقول الأستاذ لاين بول (Lane Poole): "لبثت إسبانيًا في يد المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها الزاهرة يُبهر أوربَّا، وازدهرت بقاعها الخصبة بمجهود الفاتحين، وأنشئت المدائن العظيمة في سهول الوادي الكبير، فلم يبق ثَمَّة ما يُذكِّرنا بماضيها المجيد سوى الأسماء والأسماء فقط، وتقدَّمت بها الآداب والعلوم والفنون دون سائر الأمم الأوربِّيَّة، ولم تُثمر وتكتمل زهرة العلوم الرياضيَّة والفلكيَّة والنباتيَّة والتاريخ والفلسفة والتشريع، إلَّا في إسبانيا المسلمة؛ فكلُّ ما يدعو إلى عظمة أمَّةٍ وسعادتها، وكلُّ ما يُؤدِّي إلى رقيٍّ باهرٍ وحضارةٍ ساميةٍ، فاز به مسلمو إسبانيا.
ثم ذوت عظمة إسبانيا بسقوط غرناطة، وقد سطعت لمدًى قصيرٍ أشعَّةٌ من ضوء الحضارة العربيَّة فوق الأرض التي كان ينعشها بحرارته، ثم تضاءلت عظمة عصور فرناندو وإيزابيلا، وشارل الخامس، وفيليب الثاني، وكلومبوس، وكورتيس، وبيثارو؛ لتموت بموتها دولةٌ عظيمة.
ثم خفقت أعلام الخراب بسيادة ديوان التحقيق، وسادت إسبانيا بعد ذلك ظلمةٌ حالكة؛ فأصبح لا يعرف الأطباء بأرضٍ كانت علومها منيرةً إلَّا بالجهل والقصور ...، وقُضِي على فنون إشبيليَّة وطليطلة وألمرية وعفت صناعاتها، وسحقت المعاهد العامَّة حتى تزول بزوالها آثار الإسلام، وخربت المدائن الكبيرة، وذوت نضرة الوديان الخصبة، فحلَّ البؤساء والدهماء واللصوص مكان الطلَّاب والتجَّار والفرسان، ذلك مبلغ انحطاط إسبانيا بعد إقصائها للعرب، وهكذا يبدو البون شاسعًا بين أدوار تاريخها".
وبفقد العنصر المتقدِّم، أقفرت مراكز العلم والثقافة، وتخلَّفت إسبانيا عن جاراتها الأوربِّيَّات مثل إيطاليا التي واصلت عطاءها الحضاري وكذلك فرنسا، واقتصرت الجامعات الإسبانيَّة على الطلاب الإسبان ولم يعد لها صفة العالميَّة، ولم يبرز منها كُتَّاب بمستوى كُتَّاب فرنسا وإيطاليا، ولم تأخذ اللغة الإسبانية مكانها بين اللغات الأوربِّيَّة في مجال طباعة الكتب وانتشارها.
ولكن التساؤل المثار: هل مُحيت الهُوِيَّة الإسلاميَّة من حضارة إسبانيا الوسطى والحديثة والمستقبليَّة؟ كلُّ شيءٍ يدلُّ عليها، ولا يستطيع المرء أن يتجاهل الهويَّة الإسلاميَّة لإسبانيا، وبخاصَّةٍ في الأسماء العربية للمدن والقلاع والجبال والأودية والأنهار التي بقيت إلى اليوم، مثل: الجزيرة الخضراء (Algeciras)، ومرفإ جنوب إسبانيا على مصبِّ نهرٍ صغيرٍ كان العرب يُسمُّونه "وادي العسل" وترجم الإسبان اسمه حرفيًّا (Rio de la miel)، ومازالت بعض المدن تفتخر بالشخصيَّات الإسلامية ذات التأثير في حضارتهم؛ فقد نصبت بلديَّة المنكب (Almanecar) -أحد مرافئ غرناطة- تمثالًا لعبد الرحمن بن معاوية الداخل وهو على صهوة جواده تخليدًا للحظة دخوله الأندلس من هذا المكان سنة (138هـ=756م)، بل إنَّ العاصمة الإسبانية مدريد تدين بالفضل لمؤسِّسها الأمير محمد بن عبد الرحمن (238-273هـ= 852-886م)، وقد اتَّخذها الإسبان في عهد الملك فيليب الثاني عام 1562م عاصمة، ومازالت عاصمة إسبانيا.
وإلى جانب أسماء المدن، ظلَّ الإسبان يُردِّدون مصطلحات عربيَّة مثل: القصر (Alcacer)، المدوَّر (الحصن الدائري) (Almdovar)، والسهلة (Alsailla)، الزاوية (Azoya)، والبحيرة (Albuhera)، والخندق (Alhantega)، والضيعة (Aldaya)، والقلعة (Alcala)، والقليعة (Alcolea)، والبرج (Alborge)، و"جبل" مثل Gibraltar (جبل طارق)، والكدية (Alcudia)؛ وهي التل المرتفع. وهناك أكثر من عشرة مواضع ومدن واقعة على مرتفعات، وهناك 464 موقعٍ تبدأ بلفظ "وادي" (Guada)، أو ابن (Aben أو Ben)، أو بني (Beni).
كما بقي أسماء بعض الفاتحين أعلامًا على مواقع مثل Tarifa في جنوب إسبانيا، نسبةً إلى القائد طريف بن مالك أحد قادة موسى بن نصير، وأسماء لقبائل عربية مثل Alcaicia (القيسية) في بلنسية نسبةً إلى القيسيين، وAlmoradi، نسبةً إلى بني مراد القبيلة اليمنيَّة، وفي المرية Benitagla (بني تغلب)، Bencais (بني قيس)، Benihumaya (بني أميَّة)، وفي قادس Celemin، نسبةً إلى بني سليم، كما تنتشر في أسماء المواضع الإسبانية ألفاظ: "العين" و"البير" و"الجب" و"الساقية" و"الناعورة" و"القناة" و"القنطرة".
هل انقرض العنصر الإسلامي من إسبانيا؟!
لم تؤدِّ الحرب الشاملة ضدَّ الوجود الإسلاميِّ في إسبانيا إلى انقراض العنصر الإسلامي منها؛ فقد بقي فيها عددٌ كبيرٌ من العرب والبربر، اندمجوا في الأهالي في جميع المقاطعات ودانوا بالنصرانيَّة؛ ولا يوجد في إسبانيا مكانٌ يخلو منهم حتى القشتاليُّون الذين هم أقل أهل إسبانيا اختلاطًا بالعناصر الشرقيَّة، والذين يدَّعون أنَّهم من السلالة الإيبيريَّة القديمة- لا يخلو عنصرهم من سمةٍ عربيَّةٍ أو بربريَّة.
وقد انبرى المستعرب الإسباني ريبيرا لإثبات حقيقة الجينات الوراثيَّة العربيَّة والبربريَّة التي توارثتها الأجيال الإسبانية إلى اليوم، معتمدًا على دور النساء الإسبانيَّات -اللاتي تزوجن مسلمين خلال مراحل الوجود الإسلامي- في أسبنة الجيل الثالث وما بعده.
_______________
الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي: الهوية الإسلامية للحضارة الإسبانية وموقف المؤرخين الإسبان منها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض - المملكة العربية السعودية.
التعليقات
إرسال تعليقك