التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1402م دارت معركة أنقرة العنيفة التي تحققت فيها أكبر هزيمة في التاريخ العثماني كلِّه، وحدثت إحدى أكبر الكوارث على الدولة العثمانية.
دفع نصر معركة نيكوبوليس بايزيد الأول إلى الغرور، وعدم تقدير الأمور بقدرها فصعَّد من خلافاته مع الأمراء الأتراك في الأناضول، ودارت بينه وبينهم عدَّة معارك في عامي 1397م و1398م، وألحق إمارة قرمان بشكلٍ كاملٍ في داخل.. الدولة العثمانية[1] (انظر خريطة رقم 3) ، ممَّا أوغر صدورهم بشكلٍ كبيرٍ تجاهه، وكذلك حدث مع بقيَّة الأمراء الأتراك، والذين صاروا يتربَّصون الفرصة للخروج من قبضة بايزيد الأول.
زاد الطين بِلَّة أن تعدَّى بايزيد الأول على مدينة ملطية التابعة لدولة المماليك في جنوب الأناضول، ممَّا أدَّى إلى توتُّر العلاقة جدًّا بين العثمانيين والمماليك، وقضى على إمكانيَّة التعاون المشترك بين الدولتين، ولم يكتفِ بايزيد بذلك، إنما احتلَّ كذلك عدَّة مدنٍ مملوكيَّةٍ أخرى مثل حصن منصور، والبستان؛ وذلك في عام 1399م[2]؛ ومع أن الوحدة الأناضوليَّة تحت الزعامة العثمانيَّة قد تحقَّقت إلا أنَّ ذلك كان على حساب علاقات متوتِّرة ومضطربة بين الإمارات المختلفة، ممَّا يُنذر بتفكُّكٍ كبيرٍ في الدولة إذا واجهت خطرًا كبيرًا في هذه الظروف، والواقع أن الخطر الكبير سرعان ما جاء، وكان هذا الخطر في صورة زحف عسكري خطر على الأناضول من القائد العسكري الشهير تيمور لنك Tamerlane؛ وذلك في عام 1400م!
كان تيمور لنك فاتحًا عسكريًّا شجاعًا قديرًا من أصول تركيَّة أوزبكستانيَّة، وقد استطاع أن يُكوِّن مملكةً واسعة الأرجاء في غضون سنواتٍ قليلة (خريطة رقم 9)؛ حيث شملت دولته بلادًا آسيويَّة كثيرة كأوزبكستان، وأفغانستان، وإيران، وأذربيچان، وأرمينيا، وچورچيا، والهند، وامتدَّ ملكه إلى العراق والشام، وصارت دولته بذلك مجاورةً لدولة المماليك في مصر والشام، ودولة الجلائريين في العراق، وكذلك الدولة العثمانية في الأناضول. كان تيمور لنك من أعنف القادة العسكريِّين، وتصل بعض التقديرات بعدد القتلى في معاركه إلى 17 مليون قتيل[3]! وهو عدد مهول بالقياس إلى عدد سكان الأرض آنذاك، واختلف المؤرخون في طبيعة انتمائه الديني والمذهبي، فبعضهم يذكر أنه مسلمٌ سني[4]، وبعضهم يُؤكِّد أنه من غلاة الشيعة[5]؛ بينما يذهب فريقٌ ثالثٌ إلى كونه غير مسلمٍ أصلًا[6]، نظرًا إلى حربه الشديدة ضدَّ المسلمين، وأرى أنه مسلمٌ منحرفٌ كانت شروره في العالم أكثر بكثيرٍ من خيراته.
لم يكن من المتوقَّع أن يقبل قائدان كبيران كتيمور لنك وبايزيد الأول بالتجاور السلمي دون قتال، خاصَّةً مع الغرور الكبير الذي صاحب القائدين نتيجة الانتصارات المتتالية التي حقَّقها كلاهما في .الأعوام السابقة، ومِنْ ثَمَّ فبمجرَّد تقارب الحدود بين الدولتين نشبت الخلافات وتصاعدت حتى وصلت إلى الصدام العسكري
كان الصدام الأول بين الفريقين في عام 1400م، وكان صدامًا سريعًا استطاع فيه تيمور لنك أن يأخذ ملطية وسيواس من يد بايزيد الأول، ثم انسحب بعد ذلك إلى قفقاسيا (القوقاز) Caucasus غرب آسيا[7] ثم تكرَّر الصدام من جديد في عام 1402م؛ ولكنَّه في هذه المرَّة كان صدامًا مروِّعًا؛ بل يُعدُّ أحد أكبر الصدامات العسكريَّة التي تمَّت في القرون الوسطى، وهو الذي حدث على أرض أنقرة في وسط الأناضول في صيف هذا العام.
تبادل القائدان الكبيران عدَّة رسائل قبل الصدام العسكري، وكانت نبرة الاستعلاء والغرور واضحةً في لغة كلٍّ منهما، وكان التوافق الدبلوماسي صعبًا في ظلِّ هذه الأجواء، وسرعان ما أخذ تيمور لنك القرار بغزو الدولة العثمانية، وتوغَّلت قوَّاته بشكلٍ حاسمٍ وسريعٍ في الأناضول، حتى وصلت بسهولة، ودون مقاومةٍ تُذكر، إلى أنقرة.
اختلف المؤرخون حول تعداد الجيشين، والأقرب أن الجيش المصاحب لتيمور لنك كان يصل إلى مائةٍ وأربعين ألف مقاتل، على درجةٍ عاليةٍ من التنظيم والقوَّة؛ بينما لم يستطع بايزيد الأول أن يُجمِّع أكثر من خمسة وثمانين ألف مقاتل[8].
لم تكن الأزمة في فَرْقِ الأعداد والتسليح فقط؛ بل تمثَّلت الأزمة بشكلٍ أكبر في أمرين؛ أمَّا الأول فهو اضطراب المخابرات العثمانية، وعدم درايتها بتحرُّكات الجيش المعادي، ممَّا أدَّى إلى مفاجأة الجيش العثماني، فاضطرَّ إلى القتال بعد أن سار ثمانية أيَّامٍ كاملة في الصحراء القاحلة المؤدِّية إلى أنقرة[9]، وعندما وصل إلى هناك وجد أن جيش تيمور لنك قد سيطر على آبار المياه[10]، فاضطرَّ الجيش العثماني إلى القتال وهم في حالةٍ من الضعف الشديد[11] نتيجة العطش وطول المسافة التي قطعوها إلى أرض المعركة.
وأمَّا السبب الثاني للأزمة، وهو السبب الأهم والأعظم، فهو أن ولاء الجيش العثماني لم يكن خالصًا لبايزيد الأول؛ فقد انحازت كلُّ الفرق التركية غير العثمانية لتيمور لنك بمجرَّد أن بدأ القتال[12]؛ وذلك لسوء العلاقة بينهم وبين بايزيد الأول؛ حيث كان قد نزعهم من إماراتهم قبل ذلك بالقوَّة، وكان من نتيجة ذلك أن تواصلوا سرًّا مع تيمور لنك، الذي وعدهم بإعادتهم إلى قيادة إماراتهم في حال هزيمة بايزيد الأول، وهكذا بمجرَّد بداية القتال تحرَّكت هذه الفصائل التركية إلى صفِّ تيمور لنك، ممَّا أدَّى إلى اضطرابٍ كبيرٍ في الجيش العثماني.
دارت المعركة العنيفة في الثامن والعشرين من شهر يوليو 1402م[13]، وفيها تحقَّقت أكبر هزيمة في التاريخ العثماني كلِّه، وحدثت إحدى أكبر الكوارث على الدولة العثمانية؛ حيث كانت النتائج أكبر بكثيرٍ من كلِّ توقُّع!
لم تكن الكارثة فقط بسبب انضمام القبائل التركيَّة إلى تيمور لنك؛ بل إن الكارثة تضاعفت لاختلال القيادة العسكريَّة العثمانيَّة؛ حيث كانت هناك خلافات في الرؤية الاستراتيجيَّة والتخطيط بين مختلف القادة العسكريِّين، ولم يبدُ واضحًا أن قيادة بايزيد الأول قادرةٌ على تجميع كلِّ الآراء في اتِّجاهٍ واحد؛ لذلك حدث تخبُّط كبير، وأصابت الضربات التيموريَّة جيش العثمانيِّين في أكثر من موضع، ممَّا دفع سليمان -وهو الابن الأكبر لبايزيد الأول- إلى الانسحاب بفرقته دون الرجوع إلى أبيه في هذا الأمر[14]، فزاد الأمر صعوبة، ومرَّ اليوم طويلًا على العثمانيِّين، وفي نهايته كانت الهزيمة المرَّة التي لم يتوقَّعها أحد! قُتل من الجيش العثماني حوالي أربعون ألف جندي، وهو رقمٌ مماثلٌ لقتلى الجيش التيموري[15]؛ ومع ذلك فالكارثة كانت أفجع للعثمانيين؛ لأن عدد الجيش أقل جدًّا من جيش تيمور لنك، بالإضافة إلى أن الكثير من جنود الجيش العثماني فرُّوا إلى جانب تيمور لنك؛ كما ذكرنا، ممَّا أفقد الجيش العثماني كيانه تقريبًا.
أمَّا الكارثة الأكبر فكانت أَسْرَ السلطان بايزيد الأول في نهاية اليوم[16]، وهي المرَّة الوحيدة في التاريخ العثماني كلِّه التي يُؤسر فيها السلطان، وكان هذا الأَسْرُ يعني أن إمكانيَّة النهوض من الكارثة صارت مستحيلة، فضاعت فرصة أيِّ مقاومةٍ للجيش التيموري القادر.
انطلق الجيش التيموري يتتبَّع الفارِّين من الجيش العثماني، وكان سليمان بن بايزيد الأول قد وصل إلى مدينة بورصا في فراره، واستطاع أن يأخذ خزانة الدولة وحريم العائلة العثمانية وينطلق بكلِّ شيءٍ عابرًا البوسفور إلى أوروبا[17][18]، ولم تُدركه جيوش تيمور لنك، فعادت الجيوش إلى بورصا وأحرقتها[19] كما عاثت في الأناضول فسادًا في أكثر من موضع.
انهارت الدولة العثمانية بعد هذه الكارثة؛ إذ إن بايزيد الأول ترك خلفه عدَّة أبناء متصارعين يبغي كلٌّ منهم أن يتولى الحكم، ومِنْ ثَمَّ تعقَّدت الأمور بشكلٍ أكبر، ولم يعد هناك كيانٌ واضحٌ يجمع الشتات الذي نجم عن كارثة أنقرة، ومِنْ ثَمَّ دخلت الدولة العثمانية في فترةٍ حرجةٍ جدًّا في تاريخها ليس لها فيها قائدٌ محدَّد، ولهذا تُعرف هذه المرحلة «بدور الفترة»؛ أي الفترة التي عاشتها الدولة بلا قيادة، واستمرَّت هذه الفترة إحدى عشرة سنةً كاملة؛ أي من سنة 1402م إلى سنة 1413م، وجديرٌ بالذكر أن بايزيد الأول -السلطان المأسور- مات في أسره بعد سبعة شهور فقط من المعركة الأليمة، وتحديدًا في 3 مارس عام 1403م[20].
ومع أن المصادر تتضارب في طريقة معاملة تيمور لنك لأسيره العظيم السلطان العثماني؛ حيث تذكر بعض المصادر أنه كان يُهينه بشكلٍ دائمٍ ومتكرِّر[21]؛ بينما تُسهب مصادر أخرى في إظهار احترام تيمور لنك للأسير العثماني الكبير[22]، إلا أنه في كلِّ الأحوال نحن على يقينٍ من أن حالة الحزن والاكتئاب التي عاشها السلطان الكبير كانت أكبر من تحمُّل البشر؛ لذلك لم تطل عليه الأيام في الأسر؛ بل مات ليترك وراءه تركةً مثقلةً بالأحزان والهموم.
إن الكارثة الكبرى تحتاج منَّا إلى وقفةٍ وتحليل؛ وذلك قبل أن نخوض في شرح دور الفترة الذي أعقب كارثة أنقرة، فإن مثل هذه الأحداث لا تتكرَّر بهذه الصورة الفجَّة كثيرًا في التاريخ، ولهذا نحتاج أن نأخذ منها العبرة بعناية.
ما سرُّ هذا الانهيار الكبير للدولة؟ وكيف لمعركة يومٍ واحدٍ أن تُقوِّض أركان كيانٍ كبيرٍ ككيان الدولة العثمانية؟ ولقد وصلت الدولة العثمانية في آخر عهد بايزيد الأول، وقبيل موقعة أنقرة مباشرة، إلى مساحةٍ تقترب من مليون كيلو متر مربع[23] (خريطة رقم 10)، فكيف حدث التفكُّك لهذا الكيان الضخم؟ ولماذا حقَّق الجيش العثماني النصر العظيم في موقعة نيكوبوليس على جيوش أوروبا مجتمعةً قبل هذه الموقعة بستِّ سنواتٍ فقط، ثم انهار بهذه الطريقة الدراماتيكيَّة أمام جيوش تيمور لنك؟.
إن افتراض أن السبب هو فارق الأعداد بين الفريقين في موقعة أنقرة ليس افتراضًا مقنعًا لتبرير الهزيمة؛ لأن الجيش العثماني الذي انتصر في نيكوبوليس كان أقلَّ كذلك من الجيوش الصليبية آنذاك؛ فالجيوش الصليبيَّة كانت تقريبًا ضعف الجيش العثماني، وهكذا كانت النسبة -أيضًا- في معركة أنقرة، وأكثر قليلًا، ويؤخذ في الاعتبار -أيضًا- أن جيوش أوروبا في موقعة نيكوبوليس كانت قريبةً من امداداتها بالمجر؛ بينما كانت جيوش تيمور لنك بعيدةً تمامًا عن مواقع إمدادها، وهذا يعني أن جيوش تيمور لنك كانت تُعاني هي الأخرى من توغُّلها في أراضي الأناضول؛ ومع ذلك حقَّقت هذا الانتصار الكبير.
ما السر إذن في هذه النهاية الكارثية للمعركة؟
السرُّ عندي يكمن في خمسة أمور:
أمَّا الأول فهذه الفرقة الشديدة في الصف العثماني، وإن كان يبدو في الظاهر واحدًا متماسكًا، ولكنَّه في الواقع تماسكٌ هشٌّ لا يصمد أمام العواصف، والسبب هو سعي بايزيد الأول إلى توسيع رقعة بلاده عن طريق حربه مع المسلمين هنا وهناك، فتوحيد الأناضول تحت رايته كانت غاية تساقطت أمامها غايات الوحدة والألفة والمحبَّة التي يفترض أن تكون بين المسلمين، فقام التنازع بينه وأمراء الأتراك في الأناضول، فحدث الإكراه على الوحدة، والوحدة لا تأتي بالإكراه، إنما ينبغي أن تكون عن قناعةٍ وقبول؛ لأنَّه سيتبعها تضحيَّاتٌ وتنازلات، ولن يقوم بذلك إلا المقتنع حقيقةً بما يفعل، وقد امتدَّ تنازع بايزيد الأول مع المسلمين إلى خارج الأناضول، فكانت علاقاته مضطربة مع العراق؛ بل تنازع عسكريًّا مع دولة المماليك، والتي كانت تعاني هي الأخرى من ضربات تيمور لنك، وكان من الممكن أن تضع يدها في يد العثمانيين لمقاومة العدوِّ المشترك تيمور لنك؛ لكن العداوة التي بدأها بايزيد الأول قضت على فرصة التعاون بين المسلمين، فكان الفشل الذي حذَّر منه ربُّ العالمين بقوله:﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، فحدث الفشل، وذهبت الريح، وانتصر تيمور لنك بعد أن انفرد بكلِّ قُطرٍ على حدة.
والسبب الثاني في سقوط الدولة العثمانية في أنقرة هو الغرور الذي أصاب بايزيد الأول بعد انتصاراته المتكرِّرة، وخاصَّةً في نيكوبوليس؛ فهذا الغرور أعماه عن رؤية الحقائق، فلم يُقدِّر قوة جيش تيمور لنك بشكلٍ دقيق، وكان الصواب أن يتجنَّب أصلًا قتال هذا الجيش الضخم في ميدان مفتوح؛ بل كان عليه خوض حرب العصابات ضدَّه، وخاصَّةً أن تيمور لنك بعيد عن قاعدته الرئيسة في سمرقند في وسط آسيا، فلن يتمكن من الصبر طويلًا في أرض الأناضول لو تعرَّض لضربات متفرِّقة؛ لكن الغرور دفع بايزيد الأول إلى صدامٍ شامل، وهو ما كان يبحث عنه تيمور لنك، كما أن الغرور جعل بايزيد لا يقدِّر إمكانات أمراء الأناضول الأتراك، ووجدهم أتباعًا لا وزن لهم، فلما تركوه وانحازوا إلى صفِّ تيمور لنك حدثت الكارثة العسكرية التي شهدناها، وكان من الأولى لبايزيد أن يُعطيهم قدرهم أثناء ولايته، ويُقدِّر تاريخهم وقيمة أسرهم الحاكمة، فإنَّ هذا كان أنفع في استقرار الدولة. والغرور مهلكٌ لا محالة، وفي الحديث ذكر رسولُ الله ﷺ ثلاثًا من المهلكات فقال: «فَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»[24]. فهذا الإعجاب بالنفس يعمي البصر والبصيرة، فتكون الهلكة؛ كما رأينا.
والسبب الثالث هو شيوع الفواحش في الدولة؛ فليس من المقبول لدولة إسلاميَّة مثل الدولة العثمانية أن يَقبل سلطانها وأمراؤها بشيوع الزنا وشرب الخمر، والشرب في أواني الذهب والفضة، فالذنوب مهلكة، وما أكثر ما ورد التحذير من الإهلاك بالذنوب في القرآن الكريم؛ وذلك مثل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام: 6]، وهكذا فبعد أن عمَّ الرخاء البلاد، وكثرت الخيرات، حدثت الهلكة، والسبب -كما قال تعالى- «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ»، خاصَّةً إذا كانت هناك مجاهرةٌ بهذه الذنوب، والرسول ﷺ يقول: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ»[25].
أمَّا السبب الرابع فهو الفتنة في الدنيا؛ فالمساحات الشاسعة التي وصلت إليها الدولة، والأملاك العظيمة التي حازتها، وكنوز الذهب والفضة التي امتلكتها جعل الجميع يتنافس من أجل امتلاك شيء من هذه الدنيا، ودليل توغُّل الدنيا في قلوب الناس في هذه الفترة ما حدث من صراع عسكري حقيقي بين الأخوة أبناء بايزيد الأول بعد أسره ثم موته، ولقد ضيَّع هذا الصراع على المسلمين خيرات كثيرة، وكان سببًا مباشرًا في الهلكة، وصدق رَسُولُ اللهِ ﷺ حين قال: «فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ»[26].
ويأتي السبب الخامس والأخير في رأيي، في وحدة القيادة في جيش تيمور لنك؛ فكلُّ جنوده وفرق جيشه كانت تسمع له وتطيع، وتتحرَّك بأمره حسبما رأى، وهذا الانتظام كان كفيلًا بتحقيق النجاح خاصَّةً إذا كان الصف المقابل لهم متفرِّقًا ومشتَّتًا، وهذا هو وجه الاختلاف الرئيس بين جيش تيمور لنك وجيوش الصليبيين في موقعة نيكوبوليس؛ حيث كانت جيوشهم بلا قيادةٍ موحَّدة؛ بل كانوا متفرِّقين كذلك ممَّا أتاح لبايزيد الأول أن ينتصر عليهم انتصاره التاريخي المعروف، وقد آثرتُ أن أجعل هذا هو السبب الخامس والأخير لأنه لو كان العثمانيون قد أخذوا بالأسباب كاملة، وتجنَّبوا الوقوع في الأخطاء الأربعة التي ذكرناها قبل هذا السبب الخامس ما كان لجيش تيمور لنك -مهما كان منظَّمًا وموحَّدًا- أن يُحقِّق الغلبة عليهم؛ ولكن هكذا تسير الأمور.
إنَّنا بعد هذا التحليل لقصَّة بايزيد الأول أدركنا أنَّه أحد الأشخاص المحيِّرين في تاريخ الدولة العثمانيَّة؛ فالجانب المضيء عنده بارزٌ وواضح؛ فالسخاوي يقول عنه: «وكان ملكًا عادلًا، عاقلًا، شفوقًا على الرعية، كثير الغزو، واتَّسعت مملكته، وأمن الناس في بلاده، وخفَّف عنهم المكس»[27]، ويقول عنه ابن حجر العسقلاني: «كان بايزيد بن عثمان من خيار ملوك الأرض»[28]. ومع ذلك فقد رأينا الانكسار الشنيع يحدث لدولته في نهاية الأمر، والسرُّ في هذا التفاوت هو انقسام حياة بايزيد الأول إلى قسمين متباينين؛ كان القسم الأول شاملًا أول ثماني سنوات في حكمه، من عام 1389 وإلى عام 1397، وكان فيها مؤثِرًا للجهاد، معظِّمًا للشريعة، منتهجًا نهج آبائه وأسلافه في العمل لله عز وجل، ثم كان القسم الثاني من حياته ويشمل السنوات الخمسة الأخيرة، من سنة 1397 إلى سنة 1402، وفيها حدث التبديل والتغيير فكانت الكوارث والنكبات! إنه ممَّن ينطبق عليهم قول ربنا عز وجل: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: 102]، فنسأل الله أن يعفو عنه، وأن يُعوِّضه بجهاده ونشره للإسلام عن سقطاته في آخر حياته[29].
--------------------------
[1] سعد الدين، محمد حسن جان بن محمد التبريزي خواجه: تاج التواريخ في تاريخ آل عثمان، إستانبول، 1862-1863م. الصفحات 131، 132.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/106.
[3] Saunders, John Joseph: The history of the Mongol conquests, Routledge & Kegan Paul Ltd, 1971., p. 174.
[4] Manz, Beatrice Forbes: The Rise and Rule of Tamerlane, Cambridge University Press, New York, USA, 1999., p. 17.
[5] الغزي، كامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي الحلبي: نهر الذهب في تاريخ حلب، دار القلم، حلب، الطبعة الثانية، 1419هـ=1998م.صفحة 3/164.
[6] ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: حسن حبشي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية-لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، 1969م. صفحة 2/303.
[7] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 12.
[8] Nicolle, David: Armies of the Ottoman Turks 1300-1774, Osprey Publishing, London, 1983., p. 29.
[9] المقريزي، أحمد بن علي بن عبد القادر: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م. صفحة 6/81.
[10] ابن عربشاه، أبو محمد أحمد بن محمد: عجائب المقدور في أخبار تيمور، كلكتا، الهند، 1817م. الصفحات 268، 269.
[11] ابن حجر العسقلاني، 1969 صفحة 2/225.
[12] ابن عربشاه، 1817 صفحة 270.
[13] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017, vol. 1, p. 5.
[14] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 12.
[15] Tucker, Spencer C.: Battles that Changed History: An Encyclopedia of World Conflict, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011., p. 141.
[16] Kia, 2017, vol. 1, p. 5.
[17] خليفة، حاجي: فذلكة أقوال الأخيار في علم التاريخ والأخبار (تاريخ ملوك آل عثمان)، حققه وقدمه له وترجم حواشيه: سيد محمد السيد، كلية الآداب–جامعة جنوب الوادي، سوهاج-مصر، (دون سنة طبع). صفحة 167.
[18] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م. صفحة 3/20.
[19] Petersen, Andrew: Dictionary of Islamic Architecture, Routledge, 2002., p. 41.
[20] Ágoston, Gábor: Bayezid I (Yıldırım, or Thunderbolt) (b. 1354–d.1403) (r. 1389–1402), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (C), p. 82.
[21] ابن عربشاه، 1817 صفحة 279.
[22] مروذي، جاستن: تيمورلنك - قاهر الملوك والسلاطين وغازي العالم، مراجعة: هاني تابري، ترجمة: مايا إرسلان، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م، الصفحات 338-341.
[23] أوزتونا، 1988 صفحة 1/111.
[24] الطبراني في الأوسط (5754) عن ابن عمر ب، وحسنه الألباني، انظر: صحيح الجامع (3045).
[25] البخاري: كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (5721) واللفظ له، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (2990).
[26] البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6061) واللفظ له، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (2961).
[27] السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار الجيل، بيروت، 1412هـ=1992م. صفحة 11/148.
[28] ابن حجر العسقلاني، 1969 صفحة 2/226.
[29] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 154- 163، لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك