التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
هناك أمور يسَّرها الله عز وجل للجيش العثماني جعلت فتح القسطنطينية أمرًا ممكنًا، وهذه الأمور منح ربانية أُعطيت في الوقت الذي يريده رب العالمين.
يُفْرِط كثيرٌ من المؤرِّخين في نسبة النصر بكامله في عمليَّة فتح القسطنطينية إلى إبداع السلطان العظيم محمد الفاتح وعقليَّته ومهارته، والواقع أنَّني لا أختلف مع أحدٍ في روعة وعظمة محمد الفاتح، ولكنَّني أعتقد أنَّ هذا الفتح ينبغي ألَّا يُنسَب فقط إلى الأمير الرائع؛ بل علينا أن ننظر إلى أربعة اعتباراتٍ مهمَّةٍ إلى جواره، وهذا النظر الشامل يُفسِّر لنا بعمق نجاح عمليَّة الفتح:
الاعتبار الأوَّل: هو التيسيرات الربَّانيَّة المذهلة لعمليَّة الفتح؛ فهناك من الأمور التي يسَّرَها الله عز وجل للجيش العثماني جعلت الفتح أمرًا ممكنًا، وهذه الأمور لا دخل للفاتح فيها، وليس للجيش العثماني أو للدولة أيُّ ارتباطٍ بها؛ إنَّما هي مِنَحٌ ربَّانيَّةٌ أُعطيت في الوقت الذي يُريده ربُّ العالمين؛ منها على سبيل المثال: تعنُّت البابا وشروطه المجحفة التي وضعها على القسطنطينيَّة نظير موافقته على مساعدتها، ولو ترفَّق البابا بالإمبراطور البيزنطي وساعده، ولو من وجهة نظرٍ سياسيَّةٍ بحتةٍ، تجنُّبًا لنموِّ الدولة العثمانيَّة نموًّا يُهدِّد أوروبَّا كلَّها، لو فعل ذلك وأرسل جيوشًا أو أساطيل لحماية القسطنطينيَّة، أو إذا لم تتكاسل البندقيَّة أو المجر أو النمسا عن إرسال النجدات للقسطنطينيَّة، لو حدث ذلك لَمَا تمكَّن الفاتح من فتح المدينة؛ لأنَّه بمشقَّةٍ فَتَحَهَا وهي تُدافع عن نفسها بسبعة آلاف مقاتل، فكيف لو كان المدافعون مائة ألفٍ مثلًا أو أكثر؟! ولقد تمكَّنت السفن الچنويَّة الأربعة من دخول القرن الذهبي على الرغم من محاولات البحريَّة العثمانيَّة لمنعها، فكيف لو جاءت أساطيل فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وغيرها؟! فهذا التعنُّت الباباوي، وهذا التهاون الأوروبِّي، كانا من التيسيرات الرَّبَّانيَّة لا دخل للفاتح فيه.
ومن التيسيرات كذلك استطاعة المهندسين النصارى الذين استقدمهم الفاتح، ومنهم أوربان المجري، صناعة المدافع العملاقة التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في تحطيم أسوار القسطنطينية، فلو فشل هؤلاء في تصنيع مثل هذه المدافع، كما فشلوا في ذلك على مدار السنين السابقة، لَمَا أمكن فتح الثغرات التي دخلت منها الجيوش الفاتحة، فهذا التوقيت المثالي اختاره الله عز وجل ويسَّر به الفتح.
ومن التيسيرات كذلك ما حدث من صراعاتٍ واختلافٍ على الحكم في المجر في عام 1452م؛ أي قبل فتح القسطنطينيَّة بعام، وقد أدَّى ذلك إلى انشغال المجر بنفسها؛ ممَّا جعلها غير منتبهةٍ لِمَا يجري في البلقان من أحداث، ويرى كثيرٌ من المؤرِّخين أنَّ المجر كانت الدولة الوحيدة في المنطقة القادرة على منع الجيش العثماني من الانفراد بالسيطرة على البلقان[1]؛ ولكنَّ هذه الصراعات المتزامنة مع فتح القسطنطينيَّة أعطت الفاتح فرصةً لا تتكرَّر في التاريخ كثيرًا؛ فهذه أمورٌ لا دخل للفاتح بها كذلك.
ومن التيسيرات كذلك الأفكار الرائعة التي أعطاها الله عز وجل للجيش العثماني وكان لها أثرٌ مباشرٌ في عمليَّة الفتح، ومن أهمِّ هذه الأفكار نقل السفن من بحر مرمرة إلى القرن الذهبي عن طريق البرِّ! فهذه فكرةٌ لم تواتِ جيشًا من الجيوش الغازية للقسطنطينيَّة على مدار القرون، وليس هذا لعبقريَّةٍ عسكريَّةٍ لم تتوفَّر في القادة العسكريِّين السابقين للفاتح؛ بل هو إلهامٌ ربانيٌّ كان من الممكن أن يحدث مع غيره، وكان من الممكن ألَّا يحدث معه؛ بل إنَّنا لا نعرف على وجه التحقيق مَنْ هو الشخص الذي واتته هذه الفكرة العبقريَّة، وهل هو الفاتح نفسه، أو قائدٌ من قادته، أو جنديٌّ عاديٌّ لا يعرف اسمَه أحد؟ لكنَّ المهمَّ أنَّ الفكرة أتت في وقتٍ مناسبٍ للغاية، ولو تأخَّرت الفكرة عدَّة أسابيع لم يكن للفاتح أن ينجح في فتح القسطنطينيَّة.
ومن التيسيرات -أيضًا- تَرْكُ الجنود البيزنطيِّين لأحد أبواب السور مفتوحًا، فسمح للجنود العثمانيِّين بالتسلُّل منه إلى الداخل، ومِنْ ثَمَّ رفع الراية الإسلاميَّة على الأبراج، مع كلِّ التداعيَّات التي حدثت، ولو أغلق الجنود هذا الباب ما تيسَّر أمر الفتح!
وأيضًا من التيسيرات الكبرى إصابة القائد الچنوي چوستينياني في توقيتٍ حرجٍ للغاية، ولو ظلَّ في حالته الصحيَّة السليمة لَمَا انسحبت الفرقة الچنويَّة، وقد رأينا أنَّ انسحابها كان له أكبر الأثر في نصر المسلمين، والواقع أنَّ أحدًا من الجيش العثماني لم يُخطِّط لإصابة هذا القائد المهم؛ إنَّما حدثت إصابته بشكلٍ يبدو عشوائيًّا، ولكن ليست هناك «صدفة»! إنَّما كلُّ شيءٍ يجري بالأقدار الربَّانيَّة، وقد أَذِن اللهُ سبحانه بإصابة هذا القائد لتكتمل هزيمة البيزنطيِّين، ولينجح المسلمون في فتح المدينة، ولو تأخَّرت إصابته، أو لو لم تحدث، لكان مصير عمليَّة الحصار كمثيلاتها من المحاولات السابقة، ولتأجَّل فتح القسطنطينيَّة إلى وقتٍ لا يعلمه إلَّا الله!
ولست أُريد في هذه السطور أن أحصي التيسيرات الربَّانيَّة في فتح القسطنطينيَّة؛ فهذا مستحيلٌ على وجه الحقيقة، فالتوفيق الإلهي بارزٌ في كلِّ خطوة؛ إنَّما فقط ذَكَرْتُ بعض الأمثلة لتوضيح المعنى المقصود.
إنَّني أقول بأمانة: إنَّ البيزنطيِّين وأعوانهم من البنادقة والچنويِّين، كانوا قريبين جدًّا من صدِّ الجيش العثماني وسلطانه عن أسوار المدينة! يقول المؤرِّخ الإنجليزي روچر كراولي: «لمدَّة ثلاثةٍ وخمسين يومًا واجهت القوَّة البيزنطيَّة الصغيرة قوَّة الجيش العثماني. لقد واجهوا أشدَّ قصفٍ عُرِفَ في القرون الوسطى من أكبر المدافع التي بُنِيَت حتى هذه اللحظة، فيما يُقَدَّر بخمسة آلاف طلقة، وخمسةٍ وخمسين ألف باوند من البارود.
لقد قاوموا ثلاث هجماتٍ واسعة النطاق وعشرات من المناوشات، وقتلوا آلافًا غير معروفةٍ من الجنود العثمانيِّين، ودمَّروا أنفاقًا تحت الأرض وأبراج حصار، وخاضوا معارك بحريَّة، وأجروا عدَّة غارات ومفاوضات سلام، وعملوا بلا توقُّف على تقويض معنويَّات العدو. لقد كانوا قريبين جدًّا إلى النجاح أكثر ممَّا يُدركون»[2]!
إنَّ كلمات كراولي ليست في الحقيقة بعيدة عن الصواب! إنَّ النصر كان قريبًا جدًّا من البيزنطيِّين، لولا أنَّ الله «أراد» أن يكون هذا النصر لصالح المسلمين، فيسَّر ما أراد، ولا رادَّ لحكمه! يقول تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160]، ويقول: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]. هكذا يأتي النصر!
إنَّنا لا نقول هذا الكلام للتقليل من شأن الفاتح رحمه الله فهو قائدٌ عظيمٌ بلا جدال، ولا نقوله من أجل تهوين الجهد البشري الضخم الذي بذله السلطان وجيشه، ولكنَّنا لا نُريد أن نغفل مثل هذه التيسيرات الربانيَّة الواضحة حتى نعرف الأسباب الحقيقيَّة لنصر جيشٍ أو هزيمته، ولتحقيق الفتح أو الفشل فيه.
الاعتبار الثاني: إلى جوار عظمة الفاتح لا بُدَّ أن ننظر إلى عظمة الجيش العثماني الفاتح للمدينة، خاصَّةً أن رَسُولَ اللهِ ﷺ لم يكتفِ في تبشيره بفتح القسطنطينيَّة بمدح الأمير الفاتح؛ إنَّما مَدَحَ الجيشَ المرافِق له؛ فعن بِشْرٍ الْخَثْعَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»[3].
فالجيش الفاتح للقسطنطينيَّة عاملٌ مؤثِّرٌ في غاية التأثير، ولو وُجِد السلطان محمد الفاتح في زمنٍ ليس فيه هذا الجيش لَمَا تمكَّن قط من الفتح، خاصَّةً أنَّ عمليَّة الفتح تمَّت بعد سنتين فقط من ولاية محمد الفاتح؛ أي أنَّه ليس له دخلٌ كبيرٌ في إعداد هذا الجيش العملاق؛ بل الذي أعدَّه حقيقةً هو والده مراد الثاني، وقد يكون محمدًا الأوَّل جدَّ محمد الفاتح، وقد رأينا في تاريخ الدولة العثمانيَّة، وفي تاريخ المسلمين، وكذلك في تاريخ غير المسلمين، قادةً رائعين لم يُرافقهم جيشٌ متمكِّن، فلم يستطيعوا تحقيق نجاحٍ يُذْكَر؛ لأنَّ المنظومة غير متكاملة، وهذا الجيش العظيم الذي فتح القسطنطينيَّة أبرز كلَّ علامات التفوُّق المطلوبة من الجيوش لتحقيق النجاح؛ فهو جيشٌ احترافيٌّ يُقاتِل بأحدث طرق القتال، ومنضبطٌ غاية الانضباط، وهو جيشٌ مترابطٌ لا يسمح للفتن الداخليَّة أن تتفشَّى فيه، فلم نشهد فيه صراعاتٍ ولا خلافات، حتى عندما كانت تحدث بعض الاختلافات في الرؤى كانوا يتعاملون معها بشكلٍ احترافيٍّ حكيم، يسمح للشورى أن تأخذ مكانها، ويُخْرِج بالتالي أفضل ما لدى قادته وجنوده، وهو جيشٌ أمينٌ لا يَغلُّ من الغنيمة، ولا يعمل لحسابه الخاص، وفوق ذلك وقبله هو جيشٌ مُقْبِلٌ على الموت، مستهينٌ بالحياة، راغبٌ في الشهادة، طالبٌ للجنَّة! إنَّه جيشٌ متكاملٌ حقَّق أسباب النصر المعنويَّة والمادِّيَّة، وهو نِعْمَ الجيوش كما وصف رَسُولُ اللهِ ﷺ.
الاعتبار الثالث: لا بُدَّ من النظر كذلك إلى الشَّعْبِ الذي أخرج المدرِّسين والعلماء والمشايخ الذين قاموا بإعداد هذا الجيش، وهذا الشعب هو الذي أخرج الأمَّهات والزوجات اللاتي ساعدن أولادهنَّ وأزواجهنَّ على الوصول إلى هذا المستوى، وهنَّ اللاتي قَبِلْنَ بالتضحيَّات العظيمة من أجل تحقيق النصر، وهذا الشعب هو الذي قَبِلَ بالضغط الاقتصادي والأمني الذي صَاحَبَ عمليَّة الحرب الطويلة اللَّازمة لتحقيق النصر، وهذا الشعب هو الذي تكاتف معًا في كلِّ المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والطبِّيَّة والزراعيَّة وغيرها، لتُصبح الدولة دولةً قويَّةً قادرةً على الوقوف في وجه البيزنطيِّين وغيرهم من الأعداء..
إنَّ شعبًا أخرج أكثر من مائة ألف مقاتلٍ بمستوى الجيش العثماني الفاتح للقسطنطينيَّة لَشَعْبٌ جديرٌ بالاحترام؛ بل يُمكن الجزم بأنَّ هذا الجيش العظيم لا يخرج إلَّا من شعبٍ عظيم، وهذا اعتبارٌ لا بُدَّ أن يُنظر إليه عند تقويم عمليَّة الفتح.
الاعتبار الرابع والأخير: هو اعتبارٌ في غاية الأهميَّة، وينبغي ألَّا يُغفَلَ عنه لكي يُعْطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، وهو اعتبار التاريخ الطويل الذي سبق فتح القسطنطينيَّة؛ فالسلطان الفاتح لم «يبدأ» محاولة فتح القسطنطينيَّة؛ إنَّما هو «أتمَّ» ما بدأه الآخرون؛ بل لعلَّ عمله -على صعوبته ومهارته- كان أيسر من عمل السابقين له؛ فكيف يتمُّ فتح القسطنطينيَّة دون تحويل الأناضول إلى قاعدةٍ مسلِمَةٍ قويَّةٍ ينطلق منها الفاتحون للقسطنطينيَّة؟ ومَن الذي أسْلَم الأناضول؟! إنَّهم السلاجقة، وهؤلاء سبقوا بأعمالهم العظيمة الفاتحَ بعدَّة قرون، ولو لم يفعل السلاجقة ذلك لكانت محاولة فتح القسطنطينيَّة ضربًا من المستحيل، وكيف تُفتح القسطنطينيَّة دون إحاطتها من الغرب بولاياتٍ عثمانيَّةٍ أوروبِّيَّةٍ كبيرةٍ عَزَلَتها عن كلِّ الدول النصرانيَّة المناوئة للعثمانيِّين، ممَّا أعطى الفاتحين فرصة الحصار بأريحيَّةٍ واطمئنان؟ ومَن الذي فتح البلقان وجعله إسلاميًّا ممَّا مكَّن الجيش العثماني من الوقوف في هذه المناطق دون وَجَل؟! إنَّهم السلاطين العثمانيُّون الكبار الذين سبقوا الفاتح بقرون! إنَّهم أورخان، ومراد الأول، وبايزيد الصاعقة، ومحمد الأول، ثم مراد الثاني. إنَّ جهود هؤلاء أعطت السلطان محمدًا الفاتح الفرصة لكي يقطف الثمرة التي اجتهد في زراعتها كلُّ هؤلاء!
ثم كيف للدولة أن تقوم أصلًا دون جهد عثمان المؤسِّس وأبيه أرطغرل؟ وكيف يُمكن لقلعة روملي حصار أن تُحْكِم السيطرة على مضيق البوسفور دون قلعة أناضولو حصار التي بناها بايزيد الصاعقة قبل ذلك بقرنٍ من الزمان؟ وكيف للعثمانيِّين أن يُحاصروا القسطنطينيَّة من البحر دون الأسطول الذي أسَّسه أورخان قبل فتح القسطنطينيَّة بمائةٍ وثلاثين عامًا؟ أو دون الإنكشاريَّة الذين كوَّنهم السلطان نفسه؟ ودون التطويرات التي حدثت في الأسطول والجيش على مدار العقود المختلفة؟!
إنَّ هذا الموروث التاريخي من الجهد والكفاح والجدِّيَّة هو الذي أعطى الفرصة الجيِّدة للسلطان محمد الفاتح وجيشه «لإتمام» ما بدأه السابقون من المجاهدين والفاتحين.
ليس معنى كلِّ ما ذكرناه أنَّ الجهد الذي بذله محمد الفاتح وجيشه يسيرٌ وسهل، أو عملٌ قليل؛ بل هو جهدٌ كبير، وعملٌ جليلٌ قدير، وفي اعتقادي أنَّه لولا أنَّ الله عز وجل اطَّلع على قلوب الفاتح وجيشه وأعمالهم فرأى فيها الخير، والنصح للأمَّة، والعزيمة الصادقة على إتمام الفتح، والتجرُّد الكامل له سبحانه، لَمَا أتمَّ لهم عمليَّة الفتح، ويسَّر لهم كلَّ هذا التيسير.
إنَّني فقط بهذه النظرة الشاملة إلى كلِّ الاعتبارات أنصح للمسلمين بعدم تعليق النجاح فقط على وجود شخصٍ مُلْهَمٍ عبقري، مع أهميَّة وجوده؛ إنَّما النجاح منظومةٌ كبيرةٌ لا بُدَّ أن تتكامل أطرافها حتى تتحقَّق المهمَّة، وقد رأينا في التاريخ أنَّ أحد عمالقة القيادة في الدنيا كلِّها، وهو النبيُّ موسى عليه السلام، لم يستطع أن يدخل فلسطين للضعف الظَّاهر في جيشه وشعبه، فمع تكامل صفاته وطريقة قيادته عليه السلام فإنَّ منظومته لم تكن متكاملة، فلم يتحقَّق له ما يُريد، وهذه هي الطريقة المثلى لتحليل الحدث، وفقه الملابسات الكاملة التي يُمكن لجيشٍ أو قائدٍ أن يُحقِّق معها النصر[4].
[1] بيتر شوجر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804م، المترجمون عاصم الدسوقي. - القاهرة : دار الثقافة الجديدة، 1998م صفحة 85.
[2] Crowley Roger 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West [Book]. - New York : Hyperion , 2005., p. 202.
[3] رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، سبق تخريجه انظر ص PAGEREF نعم_الأمير \h 17.
[4] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441ه= 2019م، 1/ 323- 328.
التعليقات
إرسال تعليقك