ملخص المقال
لم يكن الأمام مالك مجرد عالم، إنما شهد له العلماء الكبار بتفوُّقه على غيره.
لم يكن الأمام مالك مجرد عالم، إنما شهد له العلماء الكبار بتفوُّقه على غيره: قال الشافعي: مالك معلمي وأستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وما أحد أمنُّ عليَّ من مالك، وجعلت مالكًا حجَّة فيما بيني وبين الله تعالى، وقال الذهبي: "حَدَّثَ عَنْهُ مِنْ شُيُوْخِهِ: عَمُّهُ؛ أَبُو سُهَيْلٍ، وَيَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ، وَيَزِيْدُ بنُ الهَادِ، وَزَيْدُ بنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَعُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُم"، وأيضًا قال يحيى بن سعيد القطان: التقى مالك والثوري، فكان الثوري يسأل مالكًا، فقال معن: رأيت الثوري يزاحمنا على باب مالك، وقيل لسفيان بن عيينة: أيما أثبت في الزهري؛ أنت أو مالك؟ فقال: واعجبًا ممن تسألني عن هذا! والله ما مثلي ومثل مالك إلا كما قال جرير بن الخطفي:
وابن اللبون[1] إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولةَ البُزْل القناعيس
وقال نعيم بن حماد: لو اختلف مالك والثوري في حديث كان مالك عندنا أثبت، وعن عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة، سفيان بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة، وقال: الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومالك إمام فيهما.
أسباب التفوُّق بين الإمام مالك وعامة العلماء:
لن نذكر الأسباب القلبية من الإخلاص، والصبر على العلم، وحب الخير للناس، وما إلى ذلك لاتَّفاق كل العلماء الكبار في ذلك، ولكن نلتقط أمورًا فريدة في حياة الإمام أرى أنها كانت سببًا وراء تميُّزه اللافت.
أولًا: لا يحدِّث بكل ما يعرف:
قال أحمد بن صالح: "نظرت في أصول مالك فوجدتها شبيهًا باثني عشر ألف حديث"، قال بعضهم وهو حديث أهل المدينة في ذلك الوقت فلم يحدث مالك إلا بثلثها، وعن الشافعي: قِيلَ لَمالك: عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ عِنْدَكَ. فَقَالَ: "أَنَا أُحَدِّثُ الناس بكل ما سمعت؟! إني إذن أَحْمَقُ!"، وَفِي رِوَايَةٍ: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُضِلَّهُمْ إذن! وَلَقَدْ خَرَجَتْ مِنِّي أَحَادِيثُ لَوَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا سَوْطًا وَلَمْ أُحَدِّثْ بِهَا"، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»[2]، يمكن أن يكون حديثًا غير صحيح، أو منسوخًا، أو لا ينبغي أن يحدِّث الناس به لمصلحة معينة، فليس كل ما يُعْرَف يُقال.
ثانيًا: لا يحدِّث عن كل الأمناء:
أدركت بهذه البلدة أقوامًا لو استسقى بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيرًا، ما حدثت عن أحد منهم شيئًا لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن -يعني الحديث والفتيا- يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم.
ثالثًا: لا يأخذ بالشَّكِّ:
قال الشافعي: "كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله".
رابعًا: لا يفترض المسائل، فلا يقع في الخطأ:
سَأَلَهُ رَجُلٌ عِرَاقِيٌّ عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ دَجَاجَةً مَيِّتَةً فَخَرَجَتْ مِنْهَا بَيْضَةٌ، فَأَفْقَسَتِ الْبَيْضَةُ عِنْدَهُ عَنْ فَرْخٍ: أَيَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: سَلْ عَمَّا يَكُونُ، وَدَعْ مَا لَا يَكُونُ. وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ نَحْوِ هَذَا فَلَمْ يُجِبْهُ؛ فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تُجِيبُنِي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَ عَمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ أَجَبْتُكَ".
وقال أسد بن الفرات: كان ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون: قل له: فإن كان كذا؟ فأقول له؛ فضاق عليَّ يومًا، فقال لي: هذه سليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق.
خامسًا: لا يتعجَّل الإجابة:
قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن.
سادسًا: يكثر من قوله: لا أدري، ويعلن شكَّه إذا كان شاكًّا:
عن ابن القاسم، عن مالك، أنه كان يكثر أن يقول: "{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الْجَاثِيَةِ: 32]". قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَمِعْتُ قَطُّ أَكْثَرَ قَوْلًا مِنْ مَالِكٍ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، وَلَوْ نَشَاءُ أَنْ نَنْصَرِفَ بِأَلْوَاحِنَا مَمْلُوءَةً بِقَوْلِهِ: "لَا أَدْرِي {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الْجَاثِيَةِ: 32]"؛ لَفَعَلْنَا.
سابعًا: لا يستصغر مسألة:
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: "لَا أَدْرِي، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَ بِهَا الْأَمِيرَ، وَكَانَ السَّائِلُ ذَا قَدر؛ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَقَالَ: مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ! لَيْسَ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ خَفِيفٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 5]؛ فَالْعِلْمُ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَبِخَاصَّةٍ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ثامنًا: رُزِق الحياة بالمدينة:
قال في رسالته لليث بن سعد: ".. فَإِنَّمَا النَّاس تبع لأهل الْمَدِينَة إِلَيْهَا كَانَت الْهِجْرَة وَبهَا نزل الْقُرْآن وَأُحِلَّ الْحَلَال، وَحُرِّم الْحَرَام..".
تاسعًا: كان عالمـًا بالفتاوى الأخرى في زمانه:
قال حماد بن أبي حنيفة: أتيت مالكًا فرأيته جالسًا في صدر بيته وأصحابه بجنبتي الباب، له واحد منهما له مجلس (كذا) فقمت على باب البيت قال من أنت؟ قلت فلان أسأله عن مسألة، قال ادن حتى أقعدني بين يدي فرشه، فلما رأى ذلك أصحابه قاموا جميعًا من مجالسهم فخرجوا من البيت، فقال لي ما كان أبوك يقول في كذا؟ فأخبرته فقال وما كانت حجته؟ فأعلمته، وجعل يسألني عن أشياء من مذهب أبي حنيفة وعن حجته. ثم قال: سل. فسألته، فأجابني. فلما خرجت عاد أصحابه إلى مجالسهم[3].
[1] ابن اللبون: ولد الناقة أتمّ عامين وبدأ في الثالث، إذا ما لُزَّ: إذا ما شُدّ في حبل فاقترن بغيره، واللزُّ أن يُقرنَ شيءٌ بشيءٍ، والقَرَنُ: الحبل تقرب به بَعِيرَيْن، والصَّوْلة: الحملة، والبُزْل جمع بازل: وهو البعير أتمّ ثمانية أعوام ودخل في عامه التاسع، والقناعيس جمع قِنْعَاس: وهو البعير الضخم القوي، والمعنى أن البعير الصغير لا يقوى بحال على مضارعة الكبير، بل هو مربوط في ركابه، وقال سفيان بعدها: إنما كنا نتبع آثاره، وننظر إلى الشيخ لو كان كتب عنه ثقة وإلا تركناه.
[2] مسلم: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (5)
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك